المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌9 - كتاب الدعوات - المفاتيح في شرح المصابيح - جـ ٣

[مظهر الدين الزيداني]

فهرس الكتاب

- ‌7 - كِتابُ الصَّومِ

- ‌1 - باب

- ‌2 - باب رؤية الهِلال

- ‌فصل

- ‌3 - باب تَنْزيه الصَّوم

- ‌4 - باب صَوْم المُسافِر

- ‌5 - باب القَضَاء

- ‌6 - باب صِيَام التَّطوُّع

- ‌فصل

- ‌7 - باب لَيْلَةِ القَدْر

- ‌8 - باب الاعتِكاف

- ‌8 - كِتَابُ فَضَائِلِ القُرْآنِ

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌9 - كِتابُ الدَّعَوَاتِ

- ‌2 - باب ذِكْرِ الله عز وجل والتَّقرُّبِ إليهِ

- ‌3 - باب أَسْماءِ الله تعالى

- ‌4 - باب ثواب التَسبيح والتَحميد والتَهليل

- ‌5 - باب الاستِغفار والتَّوبة

- ‌فصل

- ‌6 - باب ما يقُول عند الصَّباح والمَسَاء والمَنام

- ‌7 - باب الدَّعَوَاتِ في الأَوْقاتِ

- ‌8 - باب الاستِعاذَة

- ‌9 - باب جامع الدُّعاءِ

- ‌10 - كِتَابُ المَنَاسِكِ

- ‌2 - باب الإِحْرام والتَّلْبية

- ‌3 - قِصَّةُ حجة الوداع

- ‌4 - باب دُخُول مَكَّةَ والطَّواف

- ‌5 - باب الوُقُوفِ بِعَرَفةَ

- ‌6 - باب الدَّفْع من عَرَفَةَ والمُزْدَلِفَة

- ‌7 - باب رَمْيِ الجِمَار

- ‌8 - باب الهَدْي

- ‌9 - باب الحلق

- ‌فصل

- ‌10 - باب الخُطْبة يومَ النَّحر، ورَمْي أَيَّام التَّشريق والتَّوديع

- ‌11 - باب ما يجتنبه المحرم

- ‌12 - باب المُحرِم يَجتنِب الصَّيد

- ‌13 - باب الإِحْصَار وفَوْت الحَجِّ

- ‌14 - باب حرَم مكَّة حرَسَها الله

- ‌15 - باب حرَم المَدينة على ساكنها الصلاةُ والسلام

- ‌11 - كِتابُ البُيُوعِ

- ‌1 - باب الكَسْب وطلَب الحَلال

- ‌2 - باب المُساهلةِ في المُعاملةِ

- ‌3 - باب الخِيَارِ

- ‌4 - باب الرِّبا

- ‌5 - باب المنهيِّ عنها من البيوع

- ‌فصل

- ‌6 - باب السَّلَمِ والرَّهنِ

- ‌7 - باب الاحتِكارِ

- ‌8 - باب الإفلاسِ والإنظارِ

- ‌9 - باب الشَّركةِ والوَكالةِ

- ‌10 - باب الغَصْبِ والعاريَةِ

- ‌11 - باب الشُّفْعَةِ

- ‌12 - باب المُساقاةِ والمُزارعةِ

- ‌13 - باب الإجارة

- ‌14 - باب إحياء المَوَاتِ والشّرْبِ

- ‌15 - باب العطايا

- ‌فصل

- ‌16 - باب اللُّقَطَة

- ‌17 - باب الفرائضِ

- ‌18 - باب الوصايا

الفصل: ‌9 - كتاب الدعوات

‌9 - كِتابُ الدَّعَوَاتِ

ص: 115

[9]

كِتابُ الدَّعَوَاتِ

(كِتَابُ الدَّعَوَاتِ)

قوله: "الدعوات" بفتح العين: جمع دعوة، وكلُّ (فَعْلة) إذا جُمِعَتْ على (فَعَلات) تكون عينها مفتوحة في الجمع إن كانت اسمًا، وإن كانت صفةً نحو: ضخمة، أو اسمًا ولكن عينها واوًا نحو: جوزة، أو ياء نحو: بيضة، أو مدغمة نحو: سَلَّة، فجمعها على (فَعْلات) ساكنة العين.

مِنَ الصِّحَاحِ:

1589 -

قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ نبَيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فتعجَّلَ كُلُّ نَبيٍّ دَعْوَتَهُ، وإنَّي اختَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأمَّتي يومَ القيامَةِ، فهيَ نائلةٌ - إنْ شاءَ الله - مَنْ ماتَ مِنْ أُمَّتي لا يُشْرِكُ بالله شيئًا".

قوله: "لكلِّ نبيًّ دعوةٌ مستجابةٌ، فتعجَّلَ كلُّ نبيًّ دَعوتَهُ"، اعلم أن جميعَ دعوات الأنبياء مستجابةٌ، والمراد بهذا الحديث: أن كلَّ نبي دعا على أمته بالإهلاك كما أن نوحًا عليه السلام دعا على أمته حتى غرقوا بالطوفان، وصالحًا دعا على أمته حتى هلكوا بالصيحة؛ يعني: صاح عليهم جبريل حتى ماتوا، وكذلك شعيب وموسى وغيرهم.

وأما نبينا - عليه وعليهم السلام - لم يدعُ على أعدائه بالإهلاك، بل قال:

ص: 117

"اللهمَّ اهدِ قومي؛ فإنَّهمْ لا يَعلمونَ"، فأُعطِي قبول الشفاعة يوم القيامة عوضًا عمَّا لم يدع على أمته، وصبر على أذاهم، ويعني بالأمة فيما ذكرنا: أمة الدعوة، لا أمة الإجابة، فإن أَحَدًا من الأنبياء لم يدعُ على مَنْ أجابه من أمته، بل دعا على من كفر به.

قوله: "وإني اختبأت"؛ أي: سترت. (الاختباء): الستر؛ يعني: أخَّرت دعوتي إلى يوم القيامة لأشفعَ لأمتي.

"فهي نائلةٌ"؛ أي: شفاعتي واصلة وواجدة كلَّ مَنْ مات من أمتي غير كافر.

(نال ينال نيلاً) على وزن (علم يعلم): إذا وجد ووصل.

روى هذا الحديث أبو هريرةَ.

* * *

1590 -

وقال: "اللهمَّ إنَّي أتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لنْ تُخْلِفَنيهِ، فإنَّما أنا بشرٌ، فأيُّ المُؤمِنينَ آذَيْتُهُ شَتَمْتُهُ لَعَنْتُهُ جَلَدْتُهُ فاجْعَلْهَا لهُ صلاةً، وزكاةً، وقُرْبةً تُقَرِّبُهُ بها إليكَ يومَ القيامَةِ".

قوله: "إنِّي أتَّخِذُ عندكَ عهدًا"؛ أي: أطلب منك.

"لن تُخْلِفَنيهِ"؛ أي: أرجو أن لا تردني فيما أطلبُ منك، ويحتمل أن يكون معناه: أُوقِنُ أنك لن تردنيه، فإن دعاء الأنبياء لا يرد. "فإنما أنا بشر"؛ يعني: أنا بشرٌ يصدرُ مني ما يصدر من البشر من الشتم والضرب وغير ذلك ممَّا يصدرُ من الإنسان عند الغضب.

"فأيُّ المؤمنين آذيتُهُ

" إلى آخره. معنى: "جلدته"؛ أي: ضربته.

"فاجعلها"؛ أي: فاجعلْ تلك الأذيةَ والشتمةَ واللعنةَ والجلدةَ.

ص: 118

"له"؛ أي: لمن لعنته وشتمته.

"صلاةً"؛ أي: دعاء خير.

"وزكاةً"؛ أي: تطهيرًا له من الذنوب.

يعني: اجعل إيذائي سببًا لتطهيرِهِ من الذنوبِ، وسببَ أن تعطيه قربة إليك، رُوِي أنه عليه السلام خرج من حجرته إلى الصلاة، فتعلَّقت عائشةُ بذيله، وطلبت منه شيئًا، وألحت في ذلك الطلب، وتجذبُ ذيلَهُ، فقال عليه السلام:"قطع الله يدك"، فخلَّته عائشةُ، وجلست في حجرتها مغضبةَ ضيقةَ الصدر لقوله عليه السلام:"قطع الله يدك"، فلمَّا رجعَ عليه السلام إلى عائشة فرآها ضيقةَ الصدر، فعلم سبب ضيق صدرها، فقال: "اللهمَّ إنِّي أتخذُ عندك عهدًا

" إلى آخر الحديث؛ ليطيب قلبها بما دعا لها بالخير، والسنة لمن دعا على أحد بالشر أن يدعو له بالخير؛ ليجبرَ دعاءُ الخير دعاءَ الشر، وتبرأَ ذمتُهُ بما دعا له بالخير عمَّا دعا له بالشر.

روى هذا الحديث أبو هريرة.

* * *

1591 -

وقال: "إذا دَعَا أحدُكُمْ فلا يَقُلْ: اللَّهمَّ اغْفِرْ لي إنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِي إنْ شِئْتَ، ولْيَعْزِمْ مسأَلَتَهُ، إنَّهُ يفعلُ ما يشاءُ، لا مُكْرِهَ لَهُ".

وفي روايةٍ: "ولكن لِيَعْزِمْ، ولْيُعَظِّمْ الرَّغْبَةَ، فإن الله لا يَتَعاظمُهُ شيءٌ أَعْطاهُ".

قوله: "إذا دعا أحدُكُم فلا يقلْ: اللهمَّ اغفرْ لي إنْ شئتَ

" إلى آخره، نهى عن قول:(إن شئت) في الدعاء؛ لأن هذا شكٌّ في قبول الدعاء، ولأن لفظ

ص: 119

(إن شئت) إذا قلته لأحد معناه: إني جعلت الخيرة إليك؛ يعني: لم يكن قبلَ قولك: (إن شئت) مختارًا، بل لو لم تقلْ:(إن شئت) كان يلزمُ عليه قَبولُ الدعاء؛ شاء أو لم يشأ، فإذا قلت:(إن شئت) جعلته مخيرًا، وهذا لا يجوز في حقَّ الله تعالى، فإنه لا حكمَ لأحد عليه، وليس لأحد أن يكرهه، بل هو فعَّال لما يريد، فكيف يجوزُ أن يقال:(إن شئت)، بل يعزم السائل مسألته، وليسألْ من غير شكًّ وتردد، بل ليكن مُستيقِنًا في قبول الدعاء، فإن الله تعالى كريم لا بخلَ عنده، وقدير لا يعجزُ عن شيء.

قوله: "لا مكره"؛ يعني: لا يقدر أحدٌ أن يكرهه على أمرٍ، ولا حكمَ لأحد عليه، بل يفعلُ ما يشاء، فإذا لم يكن له مُكرِهٌ، ولم يكن لأحد عليه حكمٌ، فلا يجوزُ أن يقال له: اغفر لي إن شئت.

قوله: "لا يتعاظمُهُ شيءٌ أعطاهُ": الضمير في (أعطاه) يرجع إلى (شيء)؛ يعني: لا يَعظُم عليه إعطاءُ شيء، بل جميع الموجودات والمعدومات في أمره يسير، يقال: تعاظمَ زيدًا هذا الأمرُ؛ أي: كبر عليه وعسر عليه.

روى هذا الحديث أبو هريرة.

* * *

1592 -

وقال: "يُسْتَجابُ للعبدِ ما لمْ يَدْعُ بإثْمٍ أو قَطِيعَةِ رَحِمٍ، ما لمْ يَسْتَعْجِلْ"، قيلَ: يا رسُولَ الله، ما الاسْتِعْجَالُ؟، قال:"يقولُ: قَدْ دَعَوْتُ، وقدْ دَعَوتُ، فلم أَرَ يُسْتَجَابُ لي، فيَسْتَحْسِرُ عندَ ذَلِكَ، ويَدع الدُّعَاءَ".

قوله: "ما لم يدعُ بإثمٍ"؛ يعني: ما لم يقل: اللهمَّ انصرني على قتلِ فلانٍ، وهو مسلمٌ، وليس مستوجبًا للقتل، أو: اللهمَّ ارزقني الخمر أو الفلانة، وهي محرمة عليه، وهو يريد زناها.

ص: 120

قوله: "أو قطيعة رحم"؛ يعني: أو يدعو بالقطع بينه وبين أقاربه مثل أن يقول: اللهمَّ أبعدْ بيني وبين أبي أو أمي أو أخي، وما أشبه ذلك.

فإن هاتين الدعوتين - أعني: الدعاء بالإثم وقطيعة الرحم - لا تقبل.

قوله: "ما لم يستعجل"؛ يعني: يُقبَل دعاؤه بشرط أن لا يستعجلَ.

قوله: "يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أرَ أن يستجاب لي"؛ يعني: يقول الداعي: دعوت مرة ومرتين وأكثر، ولم أر قَبولَ دعائي، فيملُّ من الدعاء، ويتركُ الدعاء، فمن كان له ملالةٌ من الدعاء لا يقبل دعاؤه؛ لأنَّ الدعاءَ عبادةٌ؛ حصلت الإجابة، أو لم تحصل، فلا ينبغي للمؤمن أن يملَّ من العبادة.

وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأتِ وقته، فإن لكلِّ شيءٍ وقتًا مقدَّرًا في الأزل، فما لم يأتِ وقته لا يكون ذلك الشيء موجودًا، وإما لأنه لم يُقدَّر في الأزل قبول دعائه، وإذا لم يقبل دعاؤه يعطيه الله في الآخرة من الثواب عوضه، وإما يؤخَّر قبول دعائه؛ ليلحَّ ويبالغ في الدعاء، فإنه تعالى يحبُّ الإلحاحَ في الدعاء، فإذا كان تأخيرُ إجابة الدعاء لأحد هذه الأشياء، فلا ينبغي للمؤمنِ أن يتركَ الدعاء.

قوله: "فيستحسر"؛ أي: فيمل، (الاستحسار): الفتور والتعب.

قوله: "ويَدَعُ الدعاءَ"؛ أي: ويترك الدعاء.

روى هذا الحديث أبو هريرة.

* * *

1593 -

وقال: "دَعوةُ المَرءِ المُسلمِ لأخِيهِ بظهْرِ الغَيْبِ مُسْتجَابَةٌ، عندَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، كُلَّمَا دَعَا لأخِيهِ بخَيْرٍ قالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ به: آمينَ، ولكَ بمِثْلهِ".

ص: 121

قوله: "دعوةُ المرءِ المسلم لأخيهِ بظهرِ الغيبِ مستجابةٌ"؛ يعني: إذا دعا مسلمٌ لمسلم بخيرٍ في غيبته يستجابُ دعاؤه؛ لأن هذا الدعاءَ خالصٌ لله تعالى، وليس لرياءٍ ولطمعِ عوضٍ، وما كان لله يكون مقبولًا.

قوله: "ولك بمثله"؛ يعني: يقول له الملك: لك مثلُ ما دعوتَ لأخيك.

روى هذا الحديث أبو الدَّرداءِ.

* * *

1594 -

وقال: "اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإنَّه لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الله حِجابٌ".

قوله: "اتَّقِ دعوةَ المظلومِ؛ فإنهُ ليسَ بينهُ وبينَ الله حجابٌ"؛ يعني: احذرْ دعوةَ المظلومِ؛ يعني: لا تظلم أحدًا حتى لا يدعوَ عليك، فإن المظلومَ إذا دعا على الظالم يقبلُ الله دعاؤه؛ لأنَّ قَبولَ دعائه نصرةُ المظلومِ، والله تعالى وعدَ بنصرةِ المظلوم.

روى هذا الحديث ابن عباس.

في (كتاب الزكاة) في حديث: أن رسول الله عليه السلام لمَّا بعث معاذًا إلى اليمن قال له حديثًا طويلًا، وهذا الحديثُ بعضُ ذلك الحديث.

* * *

1595 -

وقال: "لا تَدْعُوا على أنفُسِكُمْ، ولا تَدعُوا على أولادِكُمْ، ولا تَدعُوا على أموالِكُمْ، لا تُوافِقُوا مِنَ الله ساعةً يُسألُ فيها عَطاءٌ فَيُسْتَجابُ لكُمْ".

قوله: "لا تدعوا على أنفسِكم"؛ يعني: لا تدعوا دعاءَ سُوءٍ على أنفسكم، ولا على أولادكم، ولا على أموالكم؛ مخافةَ أن توافق دعوتُكم ساعةَ إجابةٍ، فيُستجاب دعاؤكم السوء، ثم تندموا على ما دعوتم، ولا تنفعكم الندامةُ؛ يعني: لا تدعوا بسوء، بل ادعوا بخير.

ص: 122

قوله: "يُسأل فيها عطاء"، (العطاء): ما يعطى من خير أو شر، وأكثرُ استعمال (عطاء) يكون في الخير، والمعنى هنا: يُسألُ فيها مسألةً.

روى هذا الحديث جابر.

* * *

مِنَ الحِسَان:

1596 -

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ".

قوله: "الدعاء هو العبادة"، (هو) في (هو العبادة) للحصر، ظاهرُهُ يدلُّ على أن لا عبادةَ إلا الدعاء، ولكن معناه: الدعاءُ معظمُ العبادة، كما قال عليه السلام:"الحجُّ هو العرفة"؛ أي: معظم أركان الحج العرفة.

يعني: الدعاء هو العبادةُ، سواء استُجيبَ للداعي دعاؤُهُ أو لم يُستجَب؛ لأن الدعاءَ إظهارُ العبدِ العجزَ والاحتياجَ عن نفسه، والاعترافُ بأن الله تعالى قادرٌ على إجابة الدعاء، كريمٌ، غنيٌّ، لا بخلَ له، ولا فقرَ، ولا احتياجَ له إلى شيء حتى يحفظَه لنفسه، ويمنعَهُ عن عباده، وهذه الأشياءُ عينُ العبادةِ، بل مخُّ العبادة.

روى هذا الحديث النعمانُ بن بَشيرٍ.

* * *

1598 -

وقال: "ليسَ شيءٌ أكرمَ على الله مِنَ الدُّعاءِ"، غريبٌ.

قوله: "ليسَ شيءٌ أكرمَ على الله من الدُّعاءِ"؛ يعني: ليس عبادةٌ أكرمَ على الله من الدعاء، وعلَّته ما ذكرناه.

ص: 123

روى هذا الحديث أبو هريرة.

* * *

1599 -

وقال: "لا يَرُدُّ القَضاءَ إلَاّ الدُّعاءُ، ولا يزيدُ في العُمْرِ إلَاّ البرُّ".

قوله: "لا يردُّ القضاءَ إلا الدعاءُ"، وهذا مثل حديث التَّداوي؛ جاءت الرُّخصةُ في التداوي، ولكن لا ينفعُ دواءٌ داءً إلا ما قدَّر الله تعالى أن ينفع، فإن كلَّ داءٍ قُدِّرَ أن يزولَ بدواء، وإلا فلا، فكذلك كلُّ قضاء قُدِّر أن يندفع بدعاء يندفعُ، وكلُّ قضاءٍ لم يقدَّر أن يندفعَ لا يندفعُ.

وكذلك قوله: "لا يزيد في العمر إلا الدعاء"؛ كلُّ عمرٍ قُدِّر أن يزيد بالدعاء يزيد، وكلُّ عمر لم يقدر أن يزيد لا يزيد البتة؛ لأن ما قُدِّر في الأزل لا يتغير.

روى هذا الحديث سلمانُ الفارسي.

* * *

1600 -

وقال: "إنَّ الدُّعاءَ ينفعُ مما نزلَ، ومما لمْ ينزِلْ، فعلَيْكُمْ - عِبادَ الله - بالدُّعاءِ".

قوله: "الدعاءُ ينفعُ ممَّا نزلَ، وممَّا لم ينزلْ"؛ يعني: الدعاءُ يدفعُ البلاءَ النازلَ، ويدفعُ البلاءَ الذي يريد النزولَ.

قوله: "فعليكم عبادَ الله بالدعاءِ"، (عليكم) كلمة الإغراءِ والتَّحريضِ؛ يعني: الزموا يا عباد الله الدعاءَ.

روى هذا الحديث ابن عمرَ.

* * *

ص: 124

1601 -

وقال: "ما مِنْ أحَدٍ يَدْعُو بِدُعاءٍ إلَاّ آتَاهُ الله ما سألَ، أوْ كَفَّ عنه مِنَ السُّوءِ مِثْلَهُ، ما لمْ يَدْع بإثْمٍ، أوْ قَطِيعَةِ رَحِم".

قوله: "آتاه الله تعالى ما سألَ، أو كفَّ عنه من السُّوءِ مثلَهُ"؛ يعني: إذا سأل الله أحدٌ شيئًا؛ فإن جرى في الأزل تقديرُ إعطائه ما سأل أعطاه، وإن لم يجرِ التقدير دفعَ الله عنه البلاءَ عوضَ ما منع ممَّا سأل.

روى هذا الحديث عبادةُ بن الصَّامِتِ.

* * *

1602 -

وقال: "سَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ، فإن الله يُحِبُّ أنْ يُسأَلَ، وأفضلُ العِبادَةِ انتِظارُ الفَرَجِ"، غريب.

قوله: "سلُوا الله من فضلِهِ؛ فإنَّ الله يحبُّ أن يُسألَ"؛ يعني: اطلبوا قضاءَ حوائجكم من الله؛ لأنه كريمٌ يحبُّ أن يُسأل؛ أي: تطلبُ منه الحاجات؛ فإنه غنيٌّ قادرٌ على قضاء الحوائج، وهو كريم، والكريم يُحبُّ أن تُطلَبَ منه الحوائج.

قوله: "وأفضلُ العبادةِ انتظارُ الفَرَج"؛ يعني: إذا نزلَ بأحد بلاءٌ، فترك الشكايةَ، وصبر، وانتظر الفرجَ، وهو ذهابُ البلاء والحزن، فهذا أفضلُ العبادة؛ لأن الصبرَ في البلاء والانقيادَ لقضاء الله أفضلُ العبادة.

وقوله عليه السلام: "أفضل العبادة انتظار الفرج" عقيب قوله: "يحب أن يسأل" مفهومه: أنه ادعوا الله لإذهابِ البلاء والحزن، وانتظروا الفرج، ولا تستعجلوا في طلب إجابة الدعاء، ولا تتركوا الدعاء بتأخير إجابةِ دعائِكم.

روى هذا الحديث ابن مسعودٍ.

* * *

ص: 125

1603 -

وقال: "مَنْ لمْ يَسْأَلِ الله يَغْضَبْ عليهِ".

قوله: "مَن لم يسألِ الله يَغضَبْ".

(الغضب من الله): إرادةُ إيصالِ العقوبة إلى من غضب عليه؛ يعني: الله تعالى يغضبُ على من لم يطلبْ منه حاجةً؛ لأن ترك طلبِ الحاجة منه كِبْرٌ واستغناء، ولا يجوز للعبد تركُ عرضِ حاجته على الله تعالى، بل ليعرضْ حاجته على الله، وليطلبْ منه قضاءه؛ ليكونَ هذا اعترافًا من العبد بفقره وعجزه، وبقدرة الله على قضاء الحوائجِ وبكرمه وغناه.

روى هذا الحديث أبو هريرةَ.

* * *

1604 -

وقال: "مَنْ فُتِحَ لَهُ مِنْكُمْ بابُ الدُّعاءِ فُتِحَتْ له أبوابُ الرَّحمةِ، وما سُئِلَ الله شيئًا - يعني أَحَبَّ إليهِ - مِنْ أنْ يُسألَ العَافِيةَ".

قوله: "وما سُئِلَ الله شيئًا - يعني: أحبَّ إليه - مِن أن يُسألَ العافيةَ"، (العافية) و (المعافاة) جاء في اللغة: أن معناهما دفعُ العَفاءِ، وهو الهلاكُ، والمعنى اللائق بالعافية هنا: أن يكون للرجل كفافٌ من القوت، وصحةُ البدن، واشتغالُهُ بأمر دينه، وتركُهُ ما لا ضرورةَ له فيه، ولا خيرَ له فيه.

يعني: أحب شيء سأل العبدُ ربَّه، وهو أن يسأله أن يُيسِّر له أمرَ دينه، ويعطيه الكفاف والصحة، ولا يسأل المالَ الكثيرَ والجيشَ والأتباعَ والحكمَ وغير ذلك من الفضول.

روى هذا الحديث عبد الله بن عمرَ.

* * *

ص: 126

1605 -

وقال: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يَسْتَجيبَ الله لهُ عِندَ الشَّدائِدِ فلْيُكْثِرِ الدُّعاءَ في الرَّخاءِ"، غريب.

قوله: "مَنْ سرَّه"؛ أي: من أراد أن يَقبلَ الله دعاءَهُ.

"عند الشدائد"، وهي: جمع شديد، وهي الحادثة والمشقة.

"فليكثرِ الدعاءَ في الرخاءِ"، وهو: ضد الشدة، وهذا إشارةٌ إلى أن الرجل ينبغي أن يذكرَ الله ويعبدَهُ في جميع الأوقات.

روى هذا الحديث أبو هريرةَ.

* * *

1606 -

وقال: "ادْعُوا الله وأنتُمْ مُوقِنُونَ بالإجَابَةِ، واعْلَمُوا أنَّ الله لا يَسْتَجِيبُ دُعاءً مِنْ قَلْبٍ غافِلٍ لاهٍ"، غريب.

قوله: "ادعُوا الله وأنتم مُوقِنونَ"، الواو في (وأنتم) واو الحال؛ يعني: ليكنِ الداعي ربَّه على يقين بأنه تعالى يُجيبُه؛ لأنَّ ردَّ الدعاء؛ إمَّا لعجزٍ في إجابته، أو لعدم كرمٍ في المدعو، أو لعدمِ علمِ المدعوِّ بدعاء الداعي، وهذه الأشياءُ منفيةٌ عن الله تعالى؛ فإنه جل جلاله عالمٌ كريمٌ قادرٌ، لا مانعَ له من الإجابة، فإذا علم الداعي أنه لا مانعَ لله في إجابة الدعاء، فليكن مُوقِنًا بالإجابة.

فإن قيل: قد قلتم: إن الداعيَ ليكن موقنًا بالإجابة، واليقينُ إنما يكون إذا لم يكن الخلافُ في ذلك الأمر، ونحن قد نرى بعض الدعاء يُستجابُ وبعضه لا يُستجابُ، فكيف يكون للداعي يقينٌ؟

قلنا: الداعي لا يكونُ محرومًا عن إجابة الدعاءِ البتة؛ لأنه يُعطى ما يُسأل، وإن لم تكن إجابةُ دعائه مقدرةً في الأزل لا يُستجابُ دعاؤه فيما يسأل، ولكن يُدفَعُ عنه [من] السوءِ مثل ما يسأل، كما جاء في الحديث، أو

ص: 127

يُعطى عوضَ ما سأل يومَ القيامة من الثواب والدرجة؛ لأن الدعاءَ عبادةٌ، ومن عمل عبادةً لا يُجعَل مَحرومًا من الثواب.

روى هذا الحديث أبو هريرةَ.

* * *

1607 -

وقال: "إذا سأَلْتُمُ الله فاسْأَلُوهُ بِبُطونِ أَكُفِّكُمْ، ولا تسأَلُوهُ بظُهُورِها".

قوله: "إذا سألتُمُ الله فاسألوه ببطونِ أكفِّكم، ولا تسألوهُ بظُهُورِها"، (الأكف): جمع كف، العادةُ فيمن طلب شيئًا من أحدٍ أن يبسطَ ببطن كفَّه ويمدها إليه، والداعي طالبٌ قضاءَ حاجةٍ من الله الكريم، فليبسطْ بطنَ كفه، وليرفعها إليه متواضعًا متخشعًا، ولا يرفع ظهرَ كفِّه إليه؛ لأن رفعَ ظهر الكفِّ إشارةٌ إلى الدفع، لا إلى الطلبِ، ومن أراد دفعَ بلاء فليرفعْ ظهرَ كفِّه، كما فعل رسول الله عليه السلام في الاستسقاءِ، وحين دعا بدفع الحَرْقِ والهدمِ ونزولِ العذابِ.

روى هذا الحديث ابن عباس.

* * *

1608 -

ويُروى: "فإذا فَرَغْتُمْ فامْسَحُوا بها وجُوهَكُمْ".

قوله: "فإذا فرغتُمْ فامسحُوا بها وجُوهَكم"؛ يعني: فإذا فرغتم من الدعاءِ، فامسحُوا ببطونِ أكفِّكم وجوهكم.

وعلته: أنه نزلتِ الرحمةُ على بطنِ كفِّ الداعي، فليمسحْ بها وجهه؛ لتصلَ البركةُ والرحمة إلى وجهه، وهذا شيءٌ يقبله المؤمن عن الاعتقاد تصديقًا

ص: 128

لرسول الله عليه السلام فيما قاله.

* * *

1609 -

وقال: "إنَّ ربَّكُمْ حَييٌّ كريمٌ، يَسْتحيي من عبْده إذا رفع يدَيهِ إليه أنْ يَرُدَّهُما صِفْرًا".

قوله: "إن ربكم حييٌّ كريمٌ يَستحيي من عبدِهِ إذا رفَع يديه إليه أن يردَّهما صِفرًا".

(الصِّفْر) بكسر الصاد وسكون الفاء: الخالي؛ يعني: من رفع يده إلى ربه، فقد أظهرَ غايةَ عجزه واحتياجه، وأظهرَ واعتقد كرمَ ربه، ومن فعل هذا، فقد أوجبَ الله تعالى على نفسه كرمًا قضاءَ حاجته، فإن الكريمَ لا يردُّ السائل محرومًا.

روى هذا الحديث أنسٌ وسلمانُ.

* * *

1611 -

وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَحِبُّ الجَوامِعَ مِنَ الدُّعاءِ، ويَدَعُ ما سِوَى ذلك.

قوله: "قالت عائشةُ: كانَ رسولُ الله عليه السلام يستحبُّ الجوامعَ من الدعاءِ ويَدَعُ ما سِوَى ذلك".

(يدع)؛ أي: يترك، والمراد بـ (الجوامع): ما كان لفظه قليلًا، ومعناه مجموعًا فيه خيرُ الدنيا والآخرة نحو أن يقول:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}

* * *

ص: 129

1612 -

وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أسْرَعَ الدُّعاءِ إجابةً دعوةُ غَائبٍ لغَائِبٍ".

قوله: "إنَّ أسرعَ الدعاءِ إجابةً دعوةُ غائبٍ لغائبٍ"؛ يعني: إذا دعا أحدٌ لغائب يُستجابُ دعاؤه له؛ لأنه بعيدٌ عن الرياء والطمع، بل لا يدعو غائبٌ لغائب إلا خالصًا لله، وما كان خالصًا لله يكون مقبولًا.

روى هذا الحديث عبد الله بن عمر.

* * *

1613 -

وقال عُمر بن الخَطَّاب رضي الله عنه: اسْتَأْذَنْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في العُمْرَةِ، فأذِنَ لي وقال:"أشْرِكْنَا - يا أُخَيَّ - في دُعائِكَ، ولا تَنْسَنَا"، فقالَ كلمةً ما يَسُرُّني أنَّ لي بها الدُّنيا.

قوله: "فقال كلمةً"؛ يعني: فقال لي رسولُ الله عليه السلام كلمةً.

قوله: "ما يسرُّني أن لي بها الدنيا"، (ما) للنفي، والباء في (بها) للبدل؛ يعني: لو كان لي جميعُ الدنيا بدل هذه الكلمة ما فرحت به، بل كنت بهذه الكلمة أشدَّ فرحًا من أن تكون لي الدنيا، والكلمةُ التي فرح بها عمرُ يحتمل أن تكون قوله عليه السلام لعمر:"يا أُخَيَّ"، ويحتمل أن يكون قوله عليه السلام:"أشرِكْنا في دعائك"؛ فإن طلبَ رسول الله عليه السلام من عمر أن يُشرِكَ خيرَ المخلوقات في دعائه تعظيمٌ لعمر، ومنصبٌ له.

وهذا تعليمٌ للأمة؛ فإنه عليه السلام مع علوِّ شأنه، وكونه خيرَ المخلوقات، رغبَ في دعاء عمر، فأنْ نرغبَ في الدعاءِ أولى وأليقُ.

* * *

1614 -

وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حينَ يُفْطِرُ،

ص: 130

والإِمامُ العادِلُ، ودعوةُ المَظْلومُ يَرفَعُهَا الله فوقَ الغَمامِ وَيُفْتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ، ويقولُ الرَّبُّ: وعِزَّتي لأَنْصُرَنَّكَ ولو بعدَ حينٍ".

قوله: "ثلاثةٌ لا تردُّ دعوتهم

" إلى آخره.

اعلم أن سرعة قَبولِ الدعاء إنما تكونُ لصلاح الداعي، أو لتصرُّعه في الدعاء، و"الصائمُ" يقبل دعاؤه؛ لأنه فرغَ من عبادةٍ محبوبةٍ إلى الله تعالى، وهي الصوم، كما قال رسول الله عليه السلام حكايةً عن الله تعالى: أنه قال: "الصَّومُ لي".

وأما "الإمام" فلأنَّ عدله أفضلُ العبادات؛ لأن عدلَ ساعةٍ يدركُ عبادةَ ستين سنة.

وأما "المظلوم" فلأنه لمَّا لحقته نار الظلم، واحترقت أحشاؤه، خرج منه الدعاءُ عن التضرع، وصار مُضطرًا إلى قبول الدعاء، ودفع الظلم عنه، فيقبل الله دعاءه، كما قال الله تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].

قوله: "يرفعُها الله فوقَ الغَمامِ"، الضمير في (يرفعها) يرجع إلى دعوة المظلوم، والمراد بقوله عليه السلام:(يرفعها فوق الغمام) أنه يرفعها حتى تجاوزَ الغمامَ، وهو السحاب، وتجاوزُ السماءَ حتى تصلَ إلى حضرة الله تعالى، فيقول الله:"وعزتي لأنصرنك" أيها المظلوم "ولو بعد حين".

يعني: لا أضيعُ حقك، ولا أردُّ دعاءك، ولو مضى زمانٌ طويل؛ لأني حكيمٌ، لا أعجَّل عقوبة العباد، فلعلهم يرجعون عن الظلم والذنوب إلى إرضاءِ الخصومِ والتوبةِ.

روى هذا الحديث أبو هريرة.

* * *

1615 -

وقال: "ثلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَاباتٍ لا شَكَّ فيهنَّ: دعوةُ الوالِدِ،

ص: 131