الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أُسعِّر؛ كيلا يكونَ لأحدٍ عليَّ مظلمةٌ.
* * *
8 - باب الإفلاسِ والإنظارِ
(باب الإفلاس والإنظار)
مِنَ الصِّحَاحِ:
2127 -
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيُّما رجُلٍ ماتَ أو أفْلَسَ، فأدْرَكَ رجُلٌ مالَهُ بعَيْنهِ فهوَ أَحَقُّ بهِ مِنْ غَيْرِهِ".
قوله: "أيُّما رجلٍ أفلسَ، فأدركَ رجلٌ مالَه بعينه فهو أحقُّ من غيره"؛ يعني: إذا باعَ رجلٌ متاعًا من أحدٍ، فأفلسَ المشتري وحَجَرَ عليه القاضي، ولم يصل ثمنُ ذلك المتاع إلى البائع يجوز للبائع أن يفسخَ البيعَ، ويأخذَ مَبيعَه، وليس لأحدٍ من غُرماء المُفلِس أن يمنعَ البائعَ من الفسخ، وذلك إذا بقي المَبيعُ في مُلك المُفلِس، ولم يَزُلْ عن مُلكه ببيعٍ أو هبةٍ، ولم يَرْهَنْه، وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز له الفَسخُ، بل هو كسائر الغُرماء.
* * *
2128 -
وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه قال: أُصِيبَ رجُلٌ في عَهْدِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في ثِمارٍ ابْتاعَها، فكثُرَ دَيْنُهُ. فقالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"تَصَدَّقُوا عليهِ". فتصدَّقَ النَّاسُ عليهَ فلمْ يبلُغْ ذلكَ وفاءَ دَيْنِهِ، فقالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لغُرمائِهِ:"خُذُوا ما وَجَدْتُمْ وليسَ لكُمْ إلَاّ ذلكَ".
قوله: "أُصيب رجلٌ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في ثمارٍ ابتاعَها، فكَثُرَ دَينُه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدَّقوا عليه، فتصدَّق الناسُ عليه، فلم يبلغ ذلك وفاءَ دَينِه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغُرمائه: خُذُوا ما وجدتُم، وليس لكم إلا ذلك"، (أُصيب)؛ أي: أُلحق إليه خسرانٌ بأن أصابت جائحةٌ ثمرةَ اشتراها لغرمائه، ولم يقضِ ثمنَ ذلك الثمرة، فطالَبَه بائعُ الثمرة بثمنها، ولم يكن له مالٌ يؤدِّيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"تصدَّقوا على هذا الرجل"، فتصدقوا عليه، فلم يجتمع مِن تصدُّقِهم ما يقضي به دَينَه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه:"خذوا ما وجدتُم، وليس لكم إلا ذلك".
معنى هذا الكلام: أنه ليس لكم زجرُه وحبسُه؛ لأنه ظهرَ إفلاسُه، وإذا ثبت إفلاسُ الرجلِ لا يجوز حبسُه بالدَّين، بل يُخلَّى ويُمهَل إلى أن يحصلَ له مالٌ، فيأخذ الغُرماءُ بعد ما حصل له مالٌ ديونَهم.
وليس معنى قوله: "وليس لكم إلا ذلك": أنه ليس لكم إلا ما وجدتُم، وبطل ما بقي لكم من ديونكم، بل بقي ما بقي من ديونكم تأخذونها بعد الإنظارِ وحصولِ المال للمُفلِس.
* * *
2130 -
وقال: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يُنْجيَهُ الله تعالى مِنْ كُرَبِ يومِ القيامَةِ فَليُنفِّسْ عنْ مُعْسِرٍ أو يضَعْ عنهُ".
قوله: "فَلْيُنفِّس عن مُعسر"، (التنفيس): إذهاب الغَمِّ؛ يعني: فَلْيُمهِلْ مُعسِرًا إلى مدةٍ يجد مالًا.
قوله: "أو يضع عنه": أو يُبرئه عن دَينه.
روى هذا الحديثَ والحديثَين بعدَه أبو قتادة.
* * *
2131 -
وقال: "مَنْ أنْظَرَ مُعْسِرًا أو وَضَعَ عنهُ أنجاهُ الله مِنْ كُرَبِ يومِ القِيامَةِ".
2132 -
وقال: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أو وضعَ عنهُ أظلَّهُ الله في ظِلِّه".
قوله: "أظلَّه الله في ظلِّه"؛ يعني: نظرَ الله إليه يومَ القيامة بنظر الرحمة، ووقاه من حَرِّ يوم القيامة بأن وقَّفه في ظل العرش.
روى هذا الحديثَ أبو هريرة.
* * *
2133 -
عن أبي رافعٍ رضي الله عنه قال: اسْتَسْلَفَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَكْرًا، فجاءَتْهُ إبلٌ مِنَ الصَّدَقَةِ. قال أبو رافِع: فأمَرني أنْ أقضيَ الرجُلَ بَكْرَهُ، فقلتُ: لا أَجِدُ إلا جَمَلًا خِيارًا رَبَاعيًّا، قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أعْطِهِ إيَّاهُ، فإنَّ خيرَ النَّاسِ أحسَنُهُمْ قضاءً".
قوله: "استسلف"؛ أي: استَقرضَ.
"بَكْرًا"؛ أي جملًا شابًا.
"الرَّبَاعي": ما له سبعُ سنين.
* * *
2134 -
ورُوي: أنَّ رجُلًا تقاضَى علَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فاغْلظَ لهُ، فهَمَّ بهِ أصحابُهُ، فقال:"دعُوهُ فإنَّ لصاحبِ الحقِّ مقالًا".
قوله: "أن رجلاً تَقَاضَى على النبي صلى الله عليه وسلم، فأغلَظَ له، فهمَّ أصحابُه به، فقال: دعوه؛ فإن لصاحبِ الحقِّ مقالًا"، (تقاضى)؛ أي: طلبَ قضاء الدَّين.
(فأغلظ له)؛ يعني: فقال له في وجهه كلامًا شديدًا مؤذيًا.
(فهمَّ أصحابُه)؛ أي: قصدَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أن يضربوا ويؤذوا ذلك الرجلَ، من أجل أنه غلَّظ الكلامَ على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:(دعوه)؛ أي: اتركوه؛ (فإن لصاحبِ الحقِّ مقالًا)؛ يعني: يجوز له أن يُغلظ الكلامَ.
هذا بيانُ جواز إيذاء مَن عليه حقٌّ، ولم يُؤذِه مع القدرة، ويأتي باقي بحثه في حسان هذا الباب.
روى هذا الحديثَ أبو هريرة.
* * *
2135 -
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَطْلُ الغَنيِّ ظُلْمٌ، فإذا أُتْبعَ أحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فلْيَتْبَعْ".
قوله: "مَطْلُ الغني ظلمٌ، فإذا أُتبع أحدُكم على مليء فَلْيَتَبَعْ"، (المَطْل): تأخير أداء الحق من يومٍ إلى يومٍ.
"أُتبع" بضم الهمز وكسر الباء: إذا أُحيل.
"المَلِيء": الغَنِيُّ.
"فَلْيَتبَعْ" بفتح الياء والتاء وتشديدها وكسر الباء: إذا مشى خلفَ أحدٍ واقتدى به، والمراد ها هنا: قَبول الحوالة؛ يعني: إذا كان لك حقٌّ على أحدٍ، فتطلبه وهو غنيُّ، ويؤخِّر أداءَ حقِّك من يومٍ إلى يومٍ؛ فهو ظالمٌ بهذا التأخير، فإذا أحالك إلى غنيٍّ فاقبَلْ تلك الحوالةَ؛ ليصلَ إليك حقُّك من المُحَالِ عليه، وتَبْرَأَ ذِمَّةُ المُحِيل ويخرجَ عن إثم المَطْل.
* * *
2136 -
عن كَعْبِ بن مالكٍ رضي الله عنه: "أنَّهُ تقاضَى ابن أبي حَدْرَد دَيْنًا لهُ عليهِ، فارتفعَتْ أصواتُهُما، فخرجَ إلَيْهِما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونادَى كَعْبَ بن مالكٍ رضي الله عنه، فأشارَ بيَدهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ، قال: قدْ فعلتُ. فقال: "قُمْ فاقْضهِ".
قوله: "أنه تقاضى ابن أبي حَدْرَد"، (أنه)؛ أي: أن كعبًا تَقَاضَى؛ أي: طلبَ حقَّه من ابن [أبي] حَدْرَد، فارتفعت أصواتُهما في الخصومة، فأشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى كعب: أن ضَعِ الشطرَ، (الشطر): النصف؛ يعني: أبرِئه من نصف دَينك، واطلبِ النصفَ الباقي؛ فإنه مُعسِر، فقال كعب: فعلت.
"فقال": رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن [أبي] حَدْرَد: "قُمْ فاقضه"؛ يعني: فإذا تركَ نصفَ حقِّه فأدِّ نصفَ حقِّه الباقي بلا مهلةٍ، وهذا لم يكن حكمًا من النبي صلى الله عليه وسلم لكعبٍ بترك نصف حقِّه، بل أمرَه على سبيل البرِّ والمُساهَلَة.
* * *
2137 -
عن سَلَمةَ بن الأكْوَعِ: أنَّه قال: كُنَّا عِندَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ أُتيَ بجَنازةٍ فقالُوا: صَلِّ عليها، فقال:"هلْ عليهِ دَيْنٌ؟ " قالوا: لا. فصلَّى عليها. ثُمَّ أُتيَ بجَنازةٍ أُخرَى، فقال:"هلْ عليه دَيْن؟ " قِيل: نعمْ. قال: "فهلْ تركَ شيئًا؟ " قالوا: ثلاثةَ دَنانيرَ. فصلَّى عليها. ثُمَّ أُتيَ بالثالثة، فقالَ:"هلْ عليهِ دَيْن؟ " قالوا: ثلاثةُ دَنانيرَ. قال: "هلْ تركَ شيئًا؟ " قالوا: لا، قال:"صلُّوا على صاحِبكُمْ". قال أبو قَتادة: صلِّ عليهِ يا رسول الله وعليَّ دَينُهُ، فصلَّى عليهِ.
قوله: "إذ أُتي بجنازة
…
" إلى آخره.
العلَّة في أنه صلى الله عليه وسلم لم يُصلِّ على المديون: تغليظٌ للدَّين، وإظهارُ كونه شَينًا؛ لأن الناسَ إذا رَأَوا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ على مديونٍ لم يكن له تركُه علموا أن الدَّينَ قبيحٌ، فاحترزوا منه.
ويحتمل أن يكون سببُ امتناعه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المديون: أنه لو صلَّى عليه لصار مغفورًا بدعائه، وحينَئذٍ يدخل الجنةَ، ولم يكن لصاحب الدَّين التعلُّق به؛ لأنه مغفورٌ، وحينَئذٍ يضيع حقُّ صاحب الدَّين.
قول أبي قتادة: "صلِّ عليه يا رسولَ الله وعليَّ دَينُه": يدل على أن الضمانَ عن الميت جائزٌ، سواءٌ تركَ الميتُ تَرِكَةً أم لا.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز الضمانُ عن الميت الذي لم يترك مالًا يَفِي بدَينِه.
* * *
2138 -
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَخَذَ أموالَ النَّاسِ يُريدُ أداءَها أدَّى الله عنه، ومَنْ أخذَها يُريدُ إتْلافَها أتْلَفَهُ الله عز وجل".
قوله: "مَن أخذَ أموالَ الناس يريد أداءَها أدَّى الله عنه"؛ يعني: مَن استقرضَ قرضًا عن احتياج، وهو يقصد أن يؤدِّيَه، ويجتهد ويُبالغ في طلب شيءٍ يؤدِّي به ذلك القرضَ أعانه الله على أدائه، وإن لم يتيسر له ما يؤدِّي ذلك الدَّينَ حتى يموتَ، المَرجوُّ من الله الكريم أن يُرضيَ خصمَه بفضله.
ومَن استقرض لا عن ضرورةٍ، ولكن ليس له قصدُ أدائه؛ لم يُعِنْه في أدائه، ولم يُوسَّع رزقُه، بل يَتلَفُ مالُه؛ لأنه قصدَ إتلافِ مالِ مسلمٍ من غيرِ قصدِ ردِّ عِوَضٍ.
روى هذا الحديثَ أبو هريرة.
* * *
2139 -
عن أبي قتادةَ رضي الله عنه قال: قالَ رجلٌ: يا رسُولَ الله! أَرَأَيْتَ إنْ
قُتِلْتُ في سبيلِ الله صابرًا مُحْتَسِبًا مُقْبلاً غيرَ مُدْبرٍ يُكفِّرُ الله عنِّي خَطايايَ؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نعمْ" فلمَّا أدْبَرَ ناداهُ، فقال:"نعمْ إلَاّ الدَّيْنَ، كذلكَ قال جِبريلُ".
قوله: "محتسبًا"؛ أي: لطمع ثواب الله لا للرِّياء.
قوله: "إلا الدَّين": هذا يدل على أن الشهيدَ يُغفَر له الذنوبُ الصغائرُ والكبائرُ، إلا الدَّينَ، والمراد بالدَّين: حقوقُ الآدميين من دمائهم وأموالهم وأعراضهم؛ أعني: تطويل اللسان في عرضهم بالغِيبة والبهتان والقذف، وغير ذلك من حقوق الآدميين، فإنه لا يُعفَى بالتوبة، بل الطريقُ الاستحلالُ منهم، أو دفعُ حسناتِ الظالم إلى المظلوم بقَدْر حقِّه، أو عناية الله في حق الظالم بأن يتوبَ ويتضرَّعَ إلى الله، ويبالغَ في الأعمال الصالحة، حتى يرضَى الله عنه وُيرضيَ خصمَه من خزانة كرمه.
* * *
2140 -
وقال: "يُغْفَرُ للشَّهيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إلَاّ الدَّيْنَ".
قوله: "يُغفَر للشهيد كلُّ ذنبٍ إلا الدَّينَ"؛ يعني: يَغفر الله ذنوبَ الشهيد صغيرةً كانت أو كبيرةً سوى حقوق الآدميين، وقد تقدَّم بحث هذا.
روى هذا الحديثَ عبد الله بن عمرو.
* * *
2141 -
وقال أبو هريرةَ رضي الله عنه: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُؤْتَي بالرَّجُلِ المُتَوفَّى عليهِ الدَّيْنُ، فيَسأَلُ:"هلْ تركَ لدَيِنهِ قَضاءً؟ " فإنْ حُدِّثَ أنَّهُ تركَ وفاءً صلَّى عليهِ، وإلَاّ قال للمُسِلمينَ:"صلُّوا على صاحبكُمْ" فلمَّا فتحَ الله عليه الفُتوحَ
قامَ فقال: "أنا أوْلَى بالمُؤمِنينَ مِنْ أنفُسِهِمْ، فمنْ تُوفِّيَ مِنَ المُؤمِنينَ فتركَ دَيْنًا فعليَّ قضاؤهُ، ومَنْ تركَ مالاً فَهوَ لِوَرَثَتِهِ".
قوله: "ومَن ترك دَينًا فعليَّ قضاؤُه": إن أراد صلى الله عليه وسلم بأني أقضي ذلك الدَّينَ من خالص مالي فهو تبرُّعٌ وإحسانٌ إلى مَن مات وعليه دَينٌ، إن أراد قضاءَه من بيت المال فهو أيضًا مستحبٌّ، وليس بواجبٍ، ولا يجوز أداءُ دَين الميت من سهم الغُرَماء من الزكاة.
* * *
مِنَ الحِسَان:
2143 -
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نَفْسُ المُؤْمِنِ مُعَلَّقةٌ بدَيْنِهِ حتَّى يُقْضَى عنهُ".
قوله: "نفسُ المؤمنِ معلَّقةٌ بدَينه"؛ يعني: لا يدخل الجنةَ، ولا تدخل روحُه بين أرواح الصالحين، أو لا تجد روحُه لذةً ما دام عليه دَينٌ؛ حتى يُقضَى عنه.
روى هذا الحديثَ أبو هريرة.
* * *
2144 -
وقال: "صاحِبُ الدَّيْنِ مأْسُورٌ بدَيْنِهِ يَشْكُو إلى ربهِ الوَحْدَةَ يومَ القِيامَةِ".
قوله: "صاحبُ الدَّين مأسورٌ بدَينه يشكو إلى ربه الوحدةَ يومَ القيامة"، (المأسور): المحبوس.
"يشكو إلى ربه الوحدةَ"؛ يعني: يكون تَعبُه وعذابُه من الوحدة؛ يعني:
حُبسَ يومَ القيامة فردًا وحيدًا، لا يُؤذَن له في دخول الجنة ولا في مصاحبة الصالحين، بل يعذَّب حتى يخرج من عُهدة الدَّين؛ بأن يُدفَع من حسناته بقَدْر الدَّين إلى مُستحِقِّ الدَّين، أو يُوضَع من ذنوب مُستحِقَّ الدَّين عليه بقَدْر الدَّين، أو يُرضي الله خصمَه من فضله إن شاء.
روى هذا الحديثَ البراءُ بن عازب.
* * *
2145 -
ورُوي أنَّ مُعاذًا كانَ يدَّانُ، فأتَى غُرَماؤُه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فباعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مالَهُ كُلَّهُ في دَيْنِهِ حتَّى قامَ مُعاذٌ رضي الله عنه بغيرِ شيءٍ، مرسل.
قوله: "أن معاذًا كان يدَّانُ"؛ أي: يستقرضُ ويشتري في الذِّمَّة.
(أدَّانَ يدَّانُ): إذا استقرضَ وعامَلَ في الذمَّة، وأصله: اِدْيَيَنَ، فقُلبت الياءُ ألفًا، وقُلبت الياءُ دالاً وأُدغمت الدالُ الأولى فيها.
قوله: "فأتى غُرماؤُه إلى النبي صلى الله عليه وسلم"؛ يعني: أَتَوه وطلبوا منه قضاءَ ديونهم، فباع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مالَ معاذٍ، وقَضَى منه ديونَهم، ولم يبقَ لمعاذٍ شيءٌ من ماله، بل صرفَ جميعَ ماله في الديون.
يجوز للقاضي أن يَحجرَ على المُفلِس إذا طلب غُرماؤه منه الحَجَرَ، ويبيع مالَ المُفلسِ ويَقسِم بين غُرمائه على قَدْرِ ديونهم.
* * *
2146 -
عن عمرِو بن الشَّريدِ رضي الله عنه، عن أبيه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَيُّ الواجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ".
قوله: "ليُّ الواجدِ يُحِلُّ عِرضَه وعقوبتَه"، (اللَّيُّ): المَطْل، (الواجد):
الغَنِيُّ؛ يعني: إذا كان على غنيٍّ دَينٌ، ولم يُؤدِّ ذلك الدَّينَ ويدفعْ مع القدرة (يُحِلُّ عِرضَه)؛ أي: يجوز لصاحب الحق أن يُؤذيَه بالكلام، مثل أن يقول: أنتَ ظالمٌ، أنتَ سيئ القضاء، وما أشبه ذلك ما لم يكن قَذْفًا وفُحْشًا، (وعقوبته)؛ أي: يُحلُّ عقوبتَه بأن يحبسَه القاضي حتى يؤدِّيَ الدَّينَ، فإن لم يؤدِّ مع القدرة واستطابَ السجنَ جاز للقاضي أن يضربَه حتى يؤدِّيَ الدِّينَ.
* * *
2147 -
وعن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ رضي الله عنه قال: أُتيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بجَنازةٍ ليُصلِّيَ علَيْها، فقال:"هَلْ عَلَى صاحِبكُمْ مِنْ دَيْنُ؟ " قالوا: نعم، قال:"هَلْ تركَ وفاءً؟ " قالوا: لا، قال:"صلُّوا على صاحِبكُمْ". قالَ عليُّ بن أبي طالِبٍ رضي الله عنه: عَلَيَّ دَيْنُهُ. فتقدَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فصلَّى عليهِ. وقال: "فكَّ الله رِهانَكَ مِنَ النَّارِ كما فكَكْتَ رِهانَ أخيكَ المُسلمِ، ليسَ مِنْ عَبدٍ مُسلمٍ يَقضي عنْ أخيهِ دَيْنَهُ إلَاّ فكَّ الله رِهانَهُ يومَ القِيامَةِ".
قوله: "فكَّ الله رِهانَك"، (الرِّهان) جمع: رَهْن، وهو شدُّ شيءٍ بشيءٍ، وانغلاق عينِ مالٍ بدَينٍ، واشتغال ذِمَّة أحدٍ بحقٍّ؛ يعني: فكَّ الله اشتغالَ ذِمَّتك، وأَبْرَأَ الله ذِمَّتَك عن حقوق الآدميين وعن الآثام والأوزار.
* * *
2149 -
عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ أعظمَ الذُّنوبِ عندَ الله أنْ يلقاهُ بها عبدٌ بعدَ الكبائِرِ التي نَهَى الله عنها أنْ يَمُوتَ رَجُلٌ وعليهِ دَيْنٌ لا يدَعُ له قضاءً".
قوله: "أن يلقاه بها عبدٌ بعدَ الكبائر
…
" إلى آخره.
فاعل (يلقى): (عبد)، ومفعوله: الهاء في (يلقاه)، وهو يرجع إلى الله تعالى، والضمير في (بها) يعود إلى الدَّين.
فإن قيل: [لِمَ] جعل الكبائرَ أشدَّ من الدَّين مع أن الدَّينَ حقُّ الآدمي، وما بين العبد وبين الله كالذنوب أقربُ إلى النجاة من حق الآدمي؟
قلنا: لأن فعلَ الكبائر عصيانُ الله، وأخذَ الدَّينِ ليس بعصيانٍ، بل الاقتراضُ والتزامُ الديون بالمعاملات جائزٌ، فإذا كان التزامُ الدَّين جائزًا فلا جرمَ يكون أمرُه أسهلَ من أمر الكبائر التي هي مَنهيَّةٌ عنها، ومع أن التزامَ الدَّين جائزٌ شدَّد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الإثمَ على مَن ماتَ وعليه دَينٌ، ولم يترك من المال ما يقضي دَينَه؛ كيلا تضيعَ حقوقُ الناس بأن يقرضَ بعضُهم بعضًا، ولم يؤدِّ ديونَهم.
قوله: "لا يَدَعُ له قضاء"؛ أي: لا يترك لذلك الدَّين مالًا يُقضَى به ذلك الدَّينُ.
* * *
2150 -
عن عمرِو بن عَوْفٍ المُزَنيِّ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"الصُّلْحُ جائِزٌ بينَ المُسلمينَ إلّا صُلْحًا حرَّمَ حلالًا أَوْ أحلَّ حرامًا، والمُسلِمونَ على شُروطِهِمْ إلَاّ شَرْطًا حَرَّمَ حلالًا أو أحلَّ حرامًا".
قوله: "الصُّلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا".
* * *