المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المقصد الخامس الإسراء والمعراج - المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ٢

[القسطلاني]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌[المقصد الثالث]

- ‌الفصل الأول فى كمال خلقته وجمال صورته صلى الله عليه وسلم وشرفه وكرمه

- ‌الفصل الثانى فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكية وشرفه به من الأوصاف المرضية

- ‌الفصل الثالث فيما تدعو ضرورته إليه صلى الله عليه وسلم من غذائه وملبسه ومنكحه وما يلحق بذلك

- ‌النوع الأول فى عيشه صلى الله عليه وسلم فى المأكل والمشرب

- ‌النوع الثانى فى لباسه صلى الله عليه وسلم وفراشه

- ‌النوع الثالث فى سيرته صلى الله عليه وسلم فى نكاحه

- ‌النوع الرابع فى نومه صلى الله عليه وسلم

- ‌المقصد الرابع وفيه فصلان:

- ‌الفصل الأول فى معجزاته ص

- ‌تعريف المعجزة بالدليل:

- ‌[شروط المعجزة]

- ‌ أحدها: أن تكون خارقة للعادة

- ‌ الثانى: أن تكون مقرونة بالتحدى

- ‌ والشرط الثالث من شروط المعجزة:

- ‌[وجوه بطلان دعوى اشتراط التحدي بالمعجزة]

- ‌أحدها: أن اشتراط التحدى قول لا دليل عليه

- ‌الثانى: أن أكثر آياته- صلى الله عليه وسلم وأعمها وأبلغها كانت بلا تحد

- ‌والوجه الثالث:

- ‌الرابع من شروط المعجزة: أن تقع على وفق دعوى المتحدى بها

- ‌[وجوه إعجاز القرآن الكريم]

- ‌ أحدها: أن وجه إعجازه هو الإيجاز والبلاغة

- ‌ والثانى: أن إعجازه هو الوصف الذى صار به خارجا عن جنس كلام العرب

- ‌ والثالث: أن وجه إعجازه هو أن قارئه لا يمله

- ‌ والرابع: أن وجه إعجازه هو ما فيه من الإخبار بما كان

- ‌ والخامس: أن وجه إعجازه هو ما فيه من علم الغيب

- ‌ السادس: أن وجه إعجازه هو كونه جامعا لعلوم كثيرة، لم تتعاط العرب فيها الكلام

- ‌[أقسام معجزاته ص]

- ‌[القسم الأول ما كان قبل ظهوره]

- ‌وأما القسم الثانى ما وقع بعد وفاته- ص:

- ‌وأما القسم الثالث: وهو ما كان معه من حين ولادته إلى وفاته

- ‌حديث القصعة

- ‌الفصل الثانى فيما خصّه الله تعالى به من المعجزات وشرفه به على سائر الأنبياء من الكرامات والآيات البيّنات

- ‌[خصائص النبي ص من الفضائل والكرامات]

- ‌القسم الأول: ما اختص به- صلى الله عليه وسلم من الواجبات والحكمة

- ‌ فاختص- صلى الله عليه وسلم بوجوب الضحى على المذهب

- ‌ ومنها الوتر وركعتا الفجر

- ‌ ومنها صلاة الليل

- ‌ ومنها السواك

- ‌ ومنها الأضحية

- ‌ ومنها المشاورة

- ‌ ومنها مصابرة العدو

- ‌ ومنها تغيير المنكر إذا رآه

- ‌ ومنها قضاء دين من مات مسلما معسرا

- ‌ ومنها تخيير نسائه- صلى الله عليه وسلم فى فراقه

- ‌الثانى:

- ‌[سبب تخييره ص نساءه]

- ‌أحدها: أن الله تعالى خيره بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة على الدنيا، فاختار الآخرة

- ‌والثالث: لأن أزواجه طالبنه وكان غير مستطيع

- ‌والرابع: أن أزواجه- صلى الله عليه وسلم اجتمعن يوما فقلن: نريد ما تريد النساء من الحلى

- ‌ ومنها: إتمام كل تطوع شرع فيه

- ‌ ومنها: أنه كان يلزمه- صلى الله عليه وسلم أداء فرض الصلاة بلا خلل

- ‌ وقال بعضهم: كان يجب عليه- صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يعجبه أن يقول: «لبيك إن العيش عيش الآخرة»

- ‌ ومنها: أنه- صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ عن الدنيا حالة الوحى

- ‌ ومنها: أنه كان- صلى الله عليه وسلم يغان على قلبه فيستغفر الله سبعين مرة

- ‌القسم الثانى: ما اختص به- صلى الله عليه وسلم مما حرم عليه:

- ‌ فمنها: تحريم الزكاة عليه

- ‌ ومنها: تحريم الزكاة على آله- صلى الله عليه وسلم

- ‌ ومنها: أنه يحرم عليه- صلى الله عليه وسلم أكل ما له رائحة كريهة

- ‌ ومنها: تحريم الكتابة والشعر

- ‌ ومنها: نزع لأمته إذا لبسها، حتى يقاتل

- ‌ ومنها: المن ليستكثر

- ‌ ومنها: مد العين إلى ما متع به الناس

- ‌ ومنها: خائنة الأعين

- ‌ ومنها: نكاح من لم تهاجر

- ‌ ومنها: تحريم إمساك من كرهته

- ‌ ومنها: نكاح الكتابية

- ‌ ومنها: نكاح الأمة المسلمة

- ‌ ومنها: تحريم الإغارة

- ‌القسم الثالث: فيما اختص به- صلى الله عليه وسلم من المباحات

- ‌ اختص- صلى الله عليه وسلم بإباحة المكث فى المسجد جنبا

- ‌ ومما اختص به أيضا أنه لا ينتقض وضوؤه بالنوم مضطجعا

- ‌ واختص أيضا بإباحة الصلاة بعد العصر

- ‌ وبالقبلة فى الصوم

- ‌ واختص أيضا بإباحة الوصال فى الصوم:

- ‌ وأن يأخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج

- ‌وبإباحة النظر إلى الأجنبيات لعصمته

- ‌ ومنها نكاح أكثر من أربع نسوة

- ‌ وكذا يجوز له- صلى الله عليه وسلم النكاح بلا مهر

- ‌ وكذا يجوز له النكاح فى حال الإحرام

- ‌ وكذا يجوز له- صلى الله عليه وسلم النكاح بغير رضى المرأة

- ‌ وكذا يجوز له- صلى الله عليه وسلم النكاح بلا ولى وبلا شهود

- ‌ وأعتق أمته صفية وجعل عتقها صداقها

- ‌ واختلف فى انحصار طلاقه- صلى الله عليه وسلم فى الثلاث

- ‌ وفى وجوب نفقة زوجاته

- ‌ وكان له- صلى الله عليه وسلم أن يصطفى ما شاء من المغنم قبل القسمة

- ‌ وأبيح له القتال بمكة والقتل بها

- ‌ ومن خصائصه- صلى الله عليه وسلم أنه كان يقضى بعلمه من غير خلاف

- ‌ وكان له أن يدعو لمن شاء بلفظ الصلاة

- ‌ وكان له أن يقتل بعد الأمان

- ‌ وجعل الله شتمه ولعنه قربة للمشتوم والملعون

- ‌ وكان يقطع الأراضى قبل فتحها

- ‌القسم الرابع: فيما اختص به- صلى الله عليه وسلم من الفضائل والكرامات

- ‌ منها: أنه أول النبيين خلقا

- ‌ ومنها: أنه أول من أخذ عليه الميثاق

- ‌ ومنها: أنه أول من قال: «بلى» يوم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ

- ‌ ومنها: أن آدم وجميع المخلوقات خلقوا لأجله

- ‌ ومنها: أن الله كتب اسمه الشريف على العرش

- ‌ ومنها: أن الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين، آدم فمن بعده، أن يؤمنوا به وينصروه

- ‌ ومنها: أنه وقع التبشير به فى الكتب السالفة

- ‌ ومنها: أنه لم يقع فى نسبه من لدن آدم سفاح

- ‌ ومنها: أنه نكست الأصنام لمولده

- ‌ ومنها: أنه ولد مختونا مقطوع السرة

- ‌ ومنها: أنه خرج نظيفا

- ‌ ومنها: أنه وقع إلى الأرض ساجدا رافعا أصبعيه كالمتضرع المبتهل

- ‌ ومنها: شق صدره الشريف

- ‌ وغطه جبريل عند ابتداء الوحى ثلاث غطات

- ‌ ومنها: أن الله تعالى ذكره فى القرآن عضوا عضوا

- ‌ ومنها أنه- صلى الله عليه وسلم كان يبيت جائعا، ويصبح طاعما

- ‌ وكان يرى من خلفه كما يرى أمامه

- ‌ وكانت ريقه يعذب الماء الملح

- ‌ ومنها: أنه- صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى فى الصخر غاصت قدماه فيه

- ‌ وكان إبطه- صلى الله عليه وسلم لا شعر عليه

- ‌ وكان- صلى الله عليه وسلم يبلغ صوته وسمعه

- ‌ وكان تنام عينه ولا ينام قلبه

- ‌ وما تثاءب قط

- ‌ وما احتلم قط

- ‌وإذا مشى مع الطويل طاله

- ‌وكان- صلى الله عليه وسلم لا يقع على ثيابه ذباب قط

- ‌ومنها: انقطاع الكهنة عند مبعثه

- ‌ومنها أنه أتى بالبراق ليلة الإسراء مسرجا ملجما

- ‌ومنها أنه أسرى به- صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

- ‌ومنها: أنه رأى الله تعالى بعينيه

- ‌ومنها أن الملائكة تسير معه حيث سار

- ‌ومنها: أنه يجب علينا أن نصلى ونسلم عليه

- ‌ومنها: أنه أوتى الكتاب العزيز، وهو أمى

- ‌ومنها: حفظ كتابه هذا من التبديل والتحريف

- ‌ومنها: أنه أنزل على سبعة أحرف

- ‌ومنها: أنه تعالى تكفل بحفظه

- ‌ومنها: أنه- صلى الله عليه وسلم خص باية الكرسى

- ‌ومنها: أنه أعطى مفاتيح الخزائن

- ‌ومنها: أنه أوتى جوامع الكلم

- ‌ومنها: أنه بعث إلى الناس كافة

- ‌ومنها: نصره- صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر

- ‌ومنها: إحلال الغنائم ولم تحل لأحد قبله

- ‌ومنها: جعل الأرض له ولأمته مسجدا وطهورا

- ‌ومنها: أن معجزته- صلى الله عليه وسلم مستمرة إلى يوم القيامة

- ‌ومنها: أنه أكثر الأنبياء معجزة

- ‌ومنها: أنه خاتم الأنبياء والمرسلين

- ‌ومنها: أن شرعه مؤبد إلى يوم الدين

- ‌ومنها: أنه لو أدركه الأنبياء لوجب عليهم اتباعه

- ‌ومنها: أنه أرسل إلى الجن اتفاقا

- ‌ومنها: أنه أرسل الملائكة

- ‌ومنها: أنه أرسل رحمة للعالمين

- ‌ ومنها: أن الله تعالى خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم فى القرآن

- ‌ ومنها: أنه حرم على الأمة نداءه باسمه

- ‌ ومنها: أنه يحرم الجهر له بالقول

- ‌ ومنها: أنه يحرم نداؤه من وراء الحجرات

- ‌ ومنها: أنه حبيب الله، وجمع له بين المحبة والخلة

- ‌ ومنها: أنه تعالى أقسم على رسالته وبحياته وببلده وعصره

- ‌ ومنها: أنه كلم بجميع أصناف الوحى

- ‌ ومنها: أن إسرافيل هبط عليه، ولم يهبط على نبى قبله

- ‌ ومنها: أنه سيد ولد آدم

- ‌ ومنها: أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر

- ‌ ومنها: أنه أكرم الخلق على الله

- ‌ ومنها: إسلام قرينه

- ‌ ومنها: أنه لا يجوز عليه الخطأ

- ‌ ومنها: أن الميت يسأل عنه- ص فى قبره

- ‌ ومنها: أنه حرم نكاح أزواجه من بعده

- ‌ ومنها: ما عده ابن عبد السلام أنه يجوز أن يقسم على الله به

- ‌ ومنها: أنه يحرم رؤية أشخاص أزواجه فى الأزر

- ‌ ومنها: أن أولاد بناته ينسبون إليه

- ‌ ومنها: أن كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلا سببه ونسبه

- ‌ ومنها: أنه لا يتزوج على بناته

- ‌ومنها: أن من رآه فى المنام فقد رآه حقّا

- ‌وبالجملة:

- ‌ومنها: أنه يكره لقارئ حديثه أن يقوم لأحد

- ‌ومنها أن قراء حديثه لا تزال وجوههم نضرة

- ‌ومنها: أنه تثبت الصحبة لمن اجتمع به- صلى الله عليه وسلم لحظة

- ‌ومنها: أن أصحابه كلهم عدول

- ‌ومنها أن المصلى يخاطبه بقوله: السلام عليك أيها النبى

- ‌ومنها أنه كان يجب على من دعاه وهو فى الصلاة أن يجيبه

- ‌ومنها: أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره

- ‌ومنها أنه معصوم من الذنوب كبيرها وصغيرها

- ‌ومنها أنه لا يجوز عليه الجنون

- ‌ ومن خصائصه- صلى الله عليه وسلم أنه كان- صلى الله عليه وسلم يخص من شاء بما شاء من الأحكام

- ‌ ومنها أنه كان يوعك كما يوعك رجلان

- ‌ ومنها أن جبريل أرسل إليه ثلاثا فى مرضه

- ‌ ومنها: أنه صلى عليه الناس أفواجا أفواجا بغير إمام

- ‌ ومنها: أنه لا يبلى جسده

- ‌ ومنها: أنه لا يورث

- ‌ ومنها: أنه حى فى قبره

- ‌ ومنها: أنه وكل بقبره ملك يبلغه صلاة المصلين عليه

- ‌ ومنها: أن منبره- صلى الله عليه وسلم على حوضه

- ‌ ومنها أن ما بين منبره وقبره روضة من رياض الجنة

- ‌ ومنها: أنه- صلى الله عليه وسلم أول من ينشق عنه القبر

- ‌ ومنها: أنه يعطى المقام المحمود

- ‌ ومنها أنه يعطى الشفاعة العظمى

- ‌ ومنها: أنه صاحب لواء الحمد

- ‌ ومنها أنه- صلى الله عليه وسلم أول من يدخل الجنة

- ‌ ومن خصائصه- صلى الله عليه وسلم الكوثر

- ‌[خصائص أمة النبي ص]

- ‌ ومن خصائص هذه الأمة الوضوء

- ‌ ومنها مجموع الصلوات الخمس

- ‌ ومنها الأذان والإقامة

- ‌ ومنها البسملة

- ‌ ومنها التأمين

- ‌ ومنها الاختصاص بالركوع

- ‌ ومنها الصفوف فى الصلاة

- ‌ ومنها تحية الإسلام

- ‌ ومنها الجمعة

- ‌ ومنها ساعة الإجابة التى فى الجمعة

- ‌ ومنها: أنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إليهم

- ‌ ومنها السحور

- ‌ ومنها: ليلة القدر

- ‌ ومنها أن لهم الاسترجاع عند المصيبة

- ‌ ومنها: أن الله تعالى رفع عنهم الأصرار

- ‌ ومنها أن الله تعالى أحل لهم كثيرا مما شدد على من قبلهم

- ‌ ومنها: أن الله رفع عنهم المؤاخذة بالخطأ والنسيان

- ‌ ومنها أن الإسلام وصف خاص بهم

- ‌ ومنها: أن شريعتهم أكمل من جميع شرائع الأمم المتقدمة

- ‌ وكذلك تحريم ما حرم على هذه الأمة صيانة وحمية

- ‌ ومنها: أنهم لا يجتمعون على ضلالة

- ‌ ومنها: أن إجماعهم حجة وأن اختلافهم رحمة

- ‌ ومنها: أنهم إذا شهد اثنان منهم لعبد بخير وجبت له الجنة

- ‌ ومنها أنهم أقل الأمم عملا، وأكثرهم أجرا

- ‌ ومنها: أنهم أوتوا الإسناد

- ‌ ومنها: أنهم أوتوا الأنساب والاعراب

- ‌ ومنها: أنهم أوتوا تصنيف الكتب

- ‌ ومنها: أن فيهم أقطابا وأوتادا ونجباء وأبدالا

- ‌ ومنها أنهم يدخلون قبورهم بذنوبهم، ويخرجون منها بلا ذنوب

- ‌ ومنها أنهم اختصوا فى الآخرة بأنهم أول من تنشق عنهم الأرض من الأمم

- ‌ ومنها: أنهم يدعون يوم القيامة غرّا محجلين من آثار الوضوء

- ‌ ومنها أنهم يكونون فى الموقف على مكان عال

- ‌ ومنها: أن سيماهم فى وجوههم من أثر السجود

- ‌ ومنها أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم

- ‌ ومنها أن نورهم يسعى بين أيديهم

- ‌ ومنها: أن لهم ما سعوا، وما يسعى لهم

- ‌ ومن خصائص هذه الأمة أنهم يدخلون الجنة قبل سائر الأمم

- ‌ ومنها: أنه يدخل منهم الجنة سبعون ألفا بغير حساب

- ‌المقصد الخامس الإسراء والمعراج

- ‌المقصد السادس فيما ورد فى آى التنزيل من تعظيم قدره صلى الله عليه وسلم

- ‌النوع الأول فى آيات تتضمن تعظيم قدره ورفعة ذكره وجليل رتبته وعلو درجته على الأنبياء وتشريف منزلته

- ‌النوع الثانى فى أخذ الله الميثاق له على النبيين فضلا ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنه

- ‌النوع الثالث فى وصفه له ص بالشهادة وشهادته له بالرسالة

- ‌تنبيه:

- ‌النوع الرابع فى التنويه به ص فى الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل بأنه صاحب الرسالة والتبجيل

- ‌فصل

- ‌النوع الخامس فى آيات تتضمن إقسامه تعالى على تحقيق رسالته وثبوت ما أوحى إليه من آياته وعلو رتبته الشريفة ومكانته

- ‌الفصل الأول فى قسمه تعالى على ما خصه به من الخلق العظيم وحباه من الفضل العميم

- ‌الفصل الثانى فى قسمه تعالى على ما أنعم به عليه وأظهره من قدره العلى لديه

- ‌الفصل الثالث فى قسمه تعالى على تصديقه ص فيما أتى به من وحيه وكتابه وتنزيهه عن الهوى فى خطابه

- ‌الفصل الرابع: فى قسمه تعالى على تحقيق رسالته

- ‌الفصل الخامس فى قسمه تعالى بمدة حياته صلى الله عليه وسلم وعصره وبلده

- ‌النوع السادس فى وصفه تعالى له ص بالنور والسراج المنير

- ‌النوع السابع فى آيات تتضمن وجوب طاعته واتباع سنته

- ‌النوع الثامن فيما يتضمن الأدب معه ص

- ‌النوع التاسع فى آيات تتضمن رده تعالى بنفسه المقدسة على عدوه ص ترفيعا لشأنه

- ‌النوع العاشر فى إزالة الشبهات عن آيات وردت فى حقه ص متشابهات

- ‌[وجوه تفسير آية وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى]

- ‌أحدها: وجدك ضالا عن معالم النبوة

- ‌الثانى: من معنى قوله: (ضالا)

- ‌الثالث: يقال: ضل الماء فى اللبن إذا صار مغمورا، فمعنى الآية:

- ‌الرابع: أن العرب تسمى الشجرة الفريدة فى الفلاة ضالة

- ‌الخامس: قد يخاطب السيد، والمراد قومه

- ‌السادس: أى محبّا لمعرفتى

- ‌السابع: أى وجدك ناسيا فذكرك

- ‌الثامن: أى وجدك بين أهل ضلال فعصمك من ذلك

- ‌التاسع: أى وجدك متحيرا فى بيان ما أنزل إليك

- ‌العاشر: عن على أنه- صلى الله عليه وسلم قال:

- ‌المقصد السابع فى وجوب محبته واتباع سنته والاهتداء بهديه

- ‌الفصل الأول فى وجوب محبته واتباع سنته والاقتداء بهديه وسيرته ص

- ‌[حدود قيلت فى المحبة]

- ‌فمنها: موافقة الحبيب فى المشهد والمغيب

- ‌ومنها: استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من حبيبك

- ‌ومنها: استكثار القليل من جنايتك، واستقلال الكثير من طاعتك

- ‌ومنها: أن تهب كلك لمن أحببت

- ‌ومنها: أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب

- ‌ومنها: أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك

- ‌ومنها: ميلك إلى الشىء بكليتك ثم إيثارك له على نفسك

- ‌ومنها: سفر القلب فى طلب المحبوب، ولهج اللسان بذكره على الدوام

- ‌ومنها: الميل إلى ما يوافق الإنسان

- ‌[أقسام محبة الله تبارك وتعالى]

- ‌فالفرض: المحبة التى تبعث على امتثال الأوامر والانتهاء عن المعاصى

- ‌والندب: أن يواظب على النوافل ويجتنب الوقوع فى الشبهات

- ‌‌‌[إشكال]

- ‌[إشكال]

- ‌وأجيب:

- ‌وأجيب بأجوبة:

- ‌منها: أنه ورد على سبيل التمثيل

- ‌‌‌ومنها: أن المعنىأن كليته مشغولة بى

- ‌ومنها: أن المعنى

- ‌ومنها: أنه على حذف مضاف

- ‌[فروق بين المحبة والخلة]

- ‌منها:

- ‌‌‌‌‌ومنها:

- ‌‌‌ومنها:

- ‌ومنها:

- ‌[مناقشة المؤلف للفروق بين المحبة والخلة]

- ‌تنبيه:

- ‌الفصل الثانى فى حكم الصلاة عليه والتسليم فريضة وسنة وفضيلة وصفة ومحلّا

- ‌[سؤال]

- ‌فالجواب

- ‌[حكم الصلاة على النبي ص]

- ‌أحدها: أنها تجب فى الجملة

- ‌الثانى: يجب الإكثار منها، من غير تقييد بعدد

- ‌الثالث: تجب كل ما ذكر

- ‌الرابع: فى كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره مرارا

- ‌الخامس: فى كل دعاء

- ‌السادس: أنها من المستحبات

- ‌السابع: تجب فى العمر مرة

- ‌الثامن: تجب فى الصلاة من غير تعيين المحل

- ‌التاسع: تجب فى التشهد

- ‌العاشر: تجب فى القعود آخر الصلاة، بين قول التشهد وسلام التحلل

- ‌[استدلال الشافعي على وجوب الصلاة على النبي ص]

- ‌[تعقيب هذا الاستدلال]

- ‌أحدها: ضعف إبراهيم بن محمد بن أبى يحيى

- ‌الثانى: على تقدير صحته فقوله فى الأول: يعنى فى الصلاة

- ‌الثالث: قوله فى الثانى: «أنه كان يقول فى الصلاة»

- ‌الرابع: ليس فى الحديث ما يدل على تعيين ذلك فى التشهد

- ‌[إشكال]

- ‌[الجواب]

- ‌منها: أنه- صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم أنه أفضل من إبراهيم

- ‌ومنها: أنه قال ذلك تواضعا

- ‌ومنها: أن التشبيه إنما هو لأصل الصلاة بأصل الصلاة، لا للقدر بالقدر

- ‌ومنها: أن قوله: (اللهم صل على محمد) مقطوع عن التشبيه

- ‌ومنها: رفع المقدمة المذكورة أولا

- ‌[مواطن الصلاة على النبي ص]

- ‌فمنها: التشهد الأخير

- ‌ومنها: خطبة الجمعة

- ‌ومنها: عقب إجابة المؤذن

- ‌تنبيه:

- ‌ومنها: أول الدعاء وأوسطه وآخره

- ‌ومنها: وهو من آكدها، عقب دعاء القنوت

- ‌ومنها: أثناء تكبيرات العيدين

- ‌ومنها: عند دخول المسجد والخروج منه

- ‌ومنها: فى صلاة الجنازة

- ‌ومنها: عند التلبية

- ‌ومنها: عند الصفا والمروة

- ‌ومنها: عند الإجماع والتفرق

- ‌ومنها: عند الصباح والمساء

- ‌ومنها: عند الوضوء

- ‌ومنها: عند طنين الأذن

- ‌ومنها: عند نسيان الشىء

- ‌ومنها: بعد العطاس

- ‌ومنها: عند زيارة قبره الشريف

- ‌[الإكثار من الصلاة عليه ليلة الجمعة]

- ‌[فضيلة الصلاة على النبي ص]

- ‌الفصل الثالث فى ذكر محبة أصحابه ص وقرابته وأهل بيته وذريته

- ‌[فى ذكر محبة آله ص وقرابته وأهل بيته وذريته]

- ‌فى محبة الصحابة:

- ‌[طبقات الصحابة]

- ‌الطبقة الأولى: قوم أسلموا بمكة أول البعث

- ‌الطبقة الثانية: أصحاب دار الندوة

- ‌الطبقة الثالثة: الذين هاجروا إلى الحبشة فرارا بدينهم

- ‌الطبقة الرابعة: أصحاب العقبة الأولى

- ‌الطبقة الخامسة: أصحاب العقبة الثالثة

- ‌الطبقة السادسة: المهاجرون

- ‌الطبقة السابعة: أهل بدر الكبرى

- ‌الطبقة الثامنة: الذين هاجروا بين بدر والحديبية

- ‌الطبقة التاسعة: أهل بيعة الرضوان

- ‌الطبقة العاشرة: الذين هاجروا بعد الحديبية

- ‌الطبقة الحادية عشر: الذين أسلموا يوم الفتح

- ‌الطبقة الثانية عشر: صبيان أدركوا النبى- صلى الله عليه وسلم ورأوه عام الفتح وبعده

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌المقصد الخامس الإسراء والمعراج

‌المقصد الخامس الإسراء والمعراج

المقصد الخامس: فى تخصيصه- صلى الله عليه وسلم بخصائص المعراج والإسراء، وتعميمه بلطائف التكريم فى حضرة التقريب بالمكالمة والمشاهدة والآيات الكبرى.

اعلم- منحنى الله وإياك الترقى فى معارج السعادات، وأوصلنا به إليه فى حظائر الكرامات- أن قصة الإسراء والمعراج من أشهر المعجزات، وأظهر البراهين البينات، وأقوى الحجج المحكمات، وأصدق الأنباء، وأعظم الآيات، وأتم الدلالات الدالة على تخصيصه- صلى الله عليه وسلم بعموم الكرامات.

وقد اختلف العلماء فى الإسراء هل هو إسراء واحد فى ليلة واحدة؟

يقظة أو مناما؟ أو إسراآن كل واحد فى ليلة، مرة بروحه وبدنه يقظة، ومرة مناما، أو يقظة بروحه وجسده؟ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم مناما من المسجد الأقصى إلى العرش، أو هى أربع إسراآت؟

* احتج القائلون بأنه رؤيا منام- مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء وحى- بقوله تعالى وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ «1» ، لأن الرؤيا مصدر الحلميّة، وأما البصرية: فالرؤية بالتاء، وقد أنكر ابن مالك والحريرى وغيرهما- كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشى- ورود «الرؤيا» للبصرية، ولحنوا المتنبى فى قوله:

ورؤياك أحلى فى العيون من الغمض

وأجيب: بأنه إنما قال «الرؤيا» لوقوع ذلك فى الليل، وسرعة تقضيه

(1) سورة الإسراء: 60.

ص: 426

كأنه منام، وبأن «الرؤيا» و «الرؤية» واحدة كقربى وقربة، ويشهد له قول ابن عباس فى الآية- كما عند البخارى-: هى رؤيا عين أريها- صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به «1» . وزاد سعيد بن منصور عن سفيان فى آخر الحديث: وليس رؤيا منام ولم يصرح فى رواية البخارى بالمرئى.

وعند سعيد بن منصور أيضا من طريق أبى مالك قال: هو ما أرى فى طريقه إلى بيت المقدس وهذا مما يستدل به على إطلاق لفظ «الرؤيا» على ما يرى بالعين فى اليقظة. وهو يرد على من خطأ المتنبى. على أنه اختلف المفسرون فى هذه الآية، فقيل: أى الرؤيا التى أريناك ليلة المعراج. قال البيضاوى ففسر الرؤيا بالرؤية. وقيل: رؤيا عام الحديبية، حين رأى أنه دخل مكة فصده المشركون وافتتن بذلك ناس. وقيل: رؤيا وقعة بدر. وسأل ابن النقيب شيخه أبا العباس القرطبى عن الآية فقال: الصحيح أنها رؤية عين يقظة، أراه جبريل مصارع القوم ببدر، فأرى النبى- صلى الله عليه وسلم الناس مصارعهم التى أراه جبريل، فتسامعت به قريش واستسخروا منه. انتهى.

* واحتج القائلون بأنه رؤيا منام أيضا بقول عائشة: «ما فقدت جسده الشريف» «2» .

وأجيب: بأن عائشة لم تحدث به عن مشاهدة، لأنها لم تكن إذ ذاك زوجا، ولا فى سن من يضبط، أو لم تكن ولدت بعد على الخلاف فى الإسراء متى كان. وقال التفتازانى: أى ما فقد جسده عن الروح، بل كان مع روحه، وكان المعراج للجسد والروح جميعا. انتهى.

* واحتج القائلون بأنه بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، بقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى «3» ، فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذى وقع التعجب

(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3888) فى فضائل الصحابة، باب: المعراج.

(2)

لم أقف عليه.

(3)

سورة الإسراء: 1.

ص: 427

به بعظيم القدرة، والتمدح بتشريف النبى- صلى الله عليه وسلم به، وإظهار الكرامة له بالإسراء. قالوا: ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ بالمدح.

وأجيب: بأن حكمة التخصيص بالمسجد الأقصى سؤال قريش له عنه على سبيل الامتحان عما شاهدوه وعرفوه من صفة بيت المقدس، وقد علموا أنه لم يسافر إليه، فيجيبهم بما عاين ويوافق ما يعلمونه، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك وقع، ولهذا لم يسألوه عما رأى فى السماء، إذ لا عهد لهم بذلك.

وقال النووى فى فتاويه: وكان الإسراء به- صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة فى المنام، ومرة فى اليقظة.

وذكر السهيلى تصحيح هذا المذهب عن شيخه القاضى أبى بكر بن العربى، وأن مرة النوم توطئة له وتيسير عليه، كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة ليسهل عليه أمر النبوة، فإنه أمر عظيم تضعف عنه القوى البشرية، وكذلك الإسراء قد سهله الله عليه بالرؤيا، لأن هوله عظيم، فجاء فى اليقظة على توطئة وتقدمة، رفقا من الله بعبده وتسهيلا عليه.

وقد جوز بعض قائلى ذلك أن تكون قصة المنام قبل المبعث، لأجل قول شريك فى رواية:«وذلك قبل أن يوحى إليه» «1» . واستشهدوا له بقول عائشة- رضى الله عنها-: أول ما بدئ به رسول الله- صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلى جاءت كفلق الصبح «2» وسيأتى البحث فى ذلك- إن شاء الله تعالى-.

* واحتج القائلون بأنه أربع إسراآت يقظة بتعدد الروايات فى الإسراء،

(1) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث عند البخارى (3570) فى المناقب، باب: كان النبى- صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه، ومسلم (162) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (3) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم، ومسلم (160) فى الإيمان، باب: بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم.

ص: 428

واختلاف ما يذكر فيها، فبعضهم يذكر شيئا لم يذكره الآخر، وبعضهم يسقط شيئا ذكره الآخر.

وأجيب: بأنه لا يدل على التعدد، لأن بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه. وقال الحافظ ابن كثير: من جعل كل رواية خالفت الآخرى مرة على حدة فأثبت إسراآت متعددة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب، ولم يحصل على مطلب. ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف.

ولو تعدد هذا التعدد لأخبر- صلى الله عليه وسلم به أمته، ولنقله الناس على التعدد والتكرار. انتهى.

وقد وقع فى رواية عبثر بن القاسم- بموحدة ثم مثلاثة بوزن جعفر- فى رواية عن حصين بن عبد الرحمن، عند الترمذى والنسائى: لما أسرى برسول الله- صلى الله عليه وسلم جعل يمر بالنبى ومعه الواحد، الحديث. فإن كان ذلك محفوظا كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأن الذى وقع بالمدينة أيضا غير الذى وقع بمكة.

قال فى فتح البارى: والذى يتحرر فى هذه المسألة أن الإسراء الذى وقع بالمدينة ليس فيه ما وقع بمكة، من استفتاح أبواب السماء بابا بابا، ومن التقاء الأنبياء كل واحد فى سماء، ولا المراجعة معهم، ولا المراجعة مع موسى فيما يتعلق بفرض الصلاة، ولا فى طلب تخفيفها وسائر ما يتعلق بذلك. وإنما تكررت قضايا كثيرة سوى ذلك رآها- صلى الله عليه وسلم فمنها بمكة البعض، ومنها بالمدينة بعد الهجرة البعض، ومعظمها فى المنام والله أعلم. انتهى.

وقال بعض العارفين: إن له- صلى الله عليه وسلم أربعة وثلاثين مرة، الذى أسرى به منها إسراء واحد بجسمه، والباقى بروحه رؤيا رآها. انتهى. فالحق: أنه إسراء واحد، بروحه وجسده يقظة، فى القصة كلها. إلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغى العدول عن ذلك، إذ ليس فى العقل ما يحيله. قال الرازى: قال أهل التحقيق: الذى يدل على أنه تعالى أسرى بروح محمد- صلى الله عليه وسلم وجسده

ص: 429

من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر: أما القرآن فهو قوله تعالى:

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا «1» ، وتقرير الدليل: أن «العبد» اسم للجسد والروح، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا بجميع الجسد والروح، ويدل عليه قوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى «2» ولا شك أن المراد هنا مجموع الروح والجسد، وأيضا: قال سبحانه وتعالى فى سورة الجن:

وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ «3» ، والمراد: مجموع الروح والجسد وكذا هاهنا، انتهى.

واحتجوا أيضا: بظاهر قوله- صلى الله عليه وسلم: «أسرى بى» لأن الأصل فى الأفعال أن تحمل على اليقظة حتى يدل دليل على خلافه. وبأن ذلك لو كان مناما لما كان فيه فتنة للضعفاء، ولا استبعده الأغبياء. وبأن الدواب لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجسام، وقد تواترت الأخبار بأنه أسرى به على البراق.

فإن قلت: ما الحكمة فى كونه تعالى جعل الإسراء ليلا؟

أجيب: بأنه إنما جعله ليلا تمكينا للتخصيص بمقام المحبة، لأنه تعالى اتخذه- صلى الله عليه وسلم حبيبا وخليلا، والليل أخص زمان للمحبين لجمعهما فيه، والخلوة بالحبيب متحققة بالليل «4» . قال ابن المنير: ولعل تخصيص الإسراء بالليل ليزداد الذين آمنوا إيمانا بالغيب وليفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم.

إذ الليل أخفى حالا من النهار، قال: ولعله لو عرج به نهارا لفات المؤمن فضيلة الإيمان بالغيب، ولم يحصل ما وقع من الفتنة على من شقى وجحد، انتهى.

وفى ذلك حكمة أخرى على طريقة أهل الإشارات، ذكرها العلامة ابن مرزوق، وهى: أنه قيل لأن الله تعالى لما محا آية الليل وجعل آية النهار

(1) سورة الإسراء: 1.

(2)

سورة الجن: 9، 10.

(3)

سورة الجن: 19.

(4)

قلت: أرى أن علة ابن المنير، أولى بالترجيح.

ص: 430

النهار على الليل بالشمس فقيل له: لا تفتخر، إن كانت شمس الدنيا تشرق فيك فسيعرج شمس الوجود فى الليل إلى السماء. وقيل: لأنه- صلى الله عليه وسلم سراج، والسراج إنما يوقد بالليل، وأنشد:

قلت يا سيدى تؤثر اللي

ل على بهجة النهار المنير

قال لا أستطيع تغيير رسمى

هكذا الرسم فى طلوع البدور

إنما زرت فى الظلام لكيما

يشرق الليل من أشعة نورى

فإن قلت: أيما أفضل، ليلة الإسراء أو ليلة القدر؟ فالجواب: - كما قاله الشيخ أبو أمامة بن النقاش- أن ليلة الإسراء أفضل فى حق النبى- صلى الله عليه وسلم، وليلة القدر أفضل فى حق الأمة، لأنها لهم خير من عمل فى ثمانين سنة لمن قبلهم، وأما ليلة الإسراء فلم يأت فى أرجحية العمل فيها حديث صحيح ولا ضعيف. ولذلك لم يعينها النبى- صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ولا عينها أحد من الصحابة بإسناد صحيح، ولا صح إلى الآن ولا إلى أن تقوم الساعة فيها شىء، ومن قال فيها شيئا فإنما قاله من كيسه لمرجح ظهر له استأنس به، ولهذا تصادمت الأقوال فيها وتباينت، ولم يثبت الأمر فيها على شىء، ولو تعلق بها نفع للأمة- ولو بذرة- لبينه لهم نبيهم- صلى الله عليه وسلم، انتهى.

فإن قلت: هل وقع الإسراء لغيره- صلى الله عليه وسلم من الأنبياء؟ أجاب العارف عبد العزيز المهدوى: بأن مرتبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات العلية لم تكن لأحد من الأنبياء، إلا لنبينا- صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وإنما قال تعالى: أَسْرى بِعَبْدِهِ «1» إشارة إلى أنه تعالى هو المسافر به، ليعلم أن الإسراء من عنده عز وجل هبة إلهية، وعناية ربانية، سبقت له- صلى الله عليه وسلم مما لم يخطر بسره، ولا اختلج فى ضميره.

وأدخل «باء» المصاحبة فى قوله تعالى: بِعَبْدِهِ «2» ليفيد أنه تعالى

(1) سورة الإسراء: 1.

(2)

سورة الإسراء: 1.

ص: 431

صحبه فى مسراه، صحبة بالألطاف والعناية والإسعاف والرعاية، ويشهد له قوله- صلى الله عليه وسلم:«اللهم أنت الصاحب فى السفر» «1» .

وتأمل قوله تعالى: يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ «2» ، وقوله أَسْرى بِعَبْدِهِ «3» يلح لك خصوصية مصاحبة الرسول- صلى الله عليه وسلم للحق دون عموم الخلق.

وقرن سبحانه وتعالى «التسبيح» بهذا المسرى، لينفى بذلك عن قلب صاحب الوهم ومن يحكم عليه خياله من أهل التشبيه والتجسيم ما يتخيله فى حق الحق تعالى من الجهة والحد والمكان، ولذا قال: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا «4» يعنى ما رأى فى تلك الليلة من عجائب الآيات، كأنه تعالى يقول: ما أسريت به إلا لنريه الآيات، لا «إلى» فإنه لا يحدنى مكان، ونسبة الأمكنة إلى نسبة واحدة، فكيف أسرى به إلى، وأنا عنده، وأنا معه أينما كان. ولله در القائل:

سبحان من أسرى إليه بعبده

ليرى الذى أخفاه من آياته

كحضوره فى غيبه وكسكره

فى صحوه والمحو فى إثباته

ويرى الذى عنه تكون سره

فى صنعه إن شاءه وهباته

ويريه ما أبدى له من جوده

بوجوده والفقد من هيئاته

سبحانه من سيد ومهيمن

فى ذاته وسماته وصفاته

وأكده تعالى بقوله: لَيْلًا «5» مع أن الإسراء لا يكون فى اللسان العربى إلا ليلا، لا نهارا، ليرتفع الإشكال حتى لا يتخيل أنه أسرى بروحه فقط، ويزيل من خاطر من يعتقد أن الإسراء ربما يكون نهارا، فإن القرآن

(1) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث أخرجه مسلم (1342) فى الحج، باب: ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره.

(2)

سورة يونس: 22.

(3)

سورة الإسراء: 1.

(4)

سورة الإسراء: 1.

(5)

سورة الإسراء: 1.

ص: 432

- وإن كان نزل بلغة العرب- فإنه خاطب به الناس أجمعين، أصحاب اللسان وغيرهم.

وقال البيضاوى تبعا لصاحب الكشاف: وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء، ولذلك قرئ «من الليل» أى بعضه: كقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ «1» وتعقبه القطب فى حاشيته على الكشاف كما نبهت عليه فى حاشية الشفاء.

والمعاريج ليلة الإسراء عشرة، سبع إلى السماوات، والثامن إلى سدرة المنتهى. والتاسع إلى المستوى الذى سمع فيه صريف الأقلام فى تصاريف الأقدار، والعاشر إلى العرش والرفرف والرؤية وسماع الخطاب بالمكافحة والكشف الحقيقى.

وقد وقع له- صلى الله عليه وسلم فى سنى الهجرة العشرة ما كان فيه مناسبات لطيفة لهذه المعاريج العشرة، ولهذا ختمت سنى الهجرة بالوفاة، وهى لقاء الحق جل جلاله، والانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، والعروج بالروح الكريمة إلى المقعد الصدق، وإلى الموعد الحق وإلى الوسيلة، وهى المنزلة الرفيعة. كما ختمت معاريج الإسراء باللقاء والحضور بحظيرة القدس.

وقد أفاد الإمام الذهبى أن الحافظ عبد الغنى جمع أحاديث الإسراء فى جزأين، ولم يتيسر لى الوقوف عليهما بعد الفحص. وقد صنف الشيخ أبو إسحاق النعمانى- رحمه الله فى الإسراء والمعراج كتابا جامعا للأطناب بزيادة الرقائق والإشحان بفواضل الحقائق، ولم أقف عليه حالة كتابتى هذا المقصد الشريف.

ويرحم الله تعالى شيخ الإسلام والحافظ الشهاب ابن حجر العسقلانى، فإنه قد جمع فى كتابه «الفتح» كثيرا مما تشتت من طرق حديث الإسراء وغيره من الأحاديث، مع تدقيق مباحث فقهية، والكشف عن أسرار معانى كلمه وبدائع ألفاظه وحكمه. وكل من صنف فى شىء من المنح النبوية، والمناقب

(1) سورة الإسراء: 79.

ص: 433

المحمدية لا يستغنى عن استجناء معارف اللطائف من رياض «عياض» «1» والاستشفاء من أدواء المشكلات بدواء «شفائه» المبرئ لمعضل الأمراض. فالله تعالى يفيض عليه وعلى سائر علماء هذه الأمة سجال رحمته ورضوانه ويسكننا معهم فى بحبوحة جناته.

وقد وردت أحاديث الإسراء من حديث أنس، وأبى بن كعب، وجابر ابن عبد الله، وبريدة، وسمرة بن جندب، وابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عمرو، وحذيفة بن اليمان، وشداد بن أوس، وصهيب، وعلى ابن أبى طالب، وعمر بن الخطاب، ومالك بن صعصعة، وأبى أمامة، وأبى أيوب، وأبى حبة، وأبى ذر، وأبى سعيد الخدرى، وأبى سفيان بن حرب، وأبى هريرة، وعائشة، وأسماء بنت أبى بكر، وأم هانئ، وأم سلمة، وغيرهم- رضى الله تعالى عنهم أجمعين-.

وفى تفسير الحافظ ابن كثير من ذلك ما يكفى ويشفى. وبالجملة:

فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة الملحدون، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ «2» .

وقد روى البخارى، عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن نبى الله- صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسرى به [قال] :

(بينما أنا نائم فى الحطيم- وربما قال: فى الحجر- مضطجعا، إذ أتانى آت فقدّ- قال: سمعته يقول: فشق- ما بين هذه إلى هذه. قال: فقلت للجارود وهو إلى جنبى: ما يعنى به؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته.

فاستخرج قلبى، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبى، ثم حشى ثم أعيد.

ثم أتيت بدابة، دون البغل وفوق الحمار أبيض- فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم- يضع خطوه عند أقصى طرفه،

(1) يقصد القاضى عياض، صاحب كتاب «الشفا فى حقوق المصطفى» .

(2)

سورة الصف: 8.

ص: 434

فحملت عليه، فانطلق بى جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح، قيل:

من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا بك فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح.

ثم صعد بى حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال:

جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجىء جاء ففتح لنا، فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت فردا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح.

ثم صعد بى إلى السماء الثالثة، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال:

جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح.

ثم صعد بى حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال:

جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصت إذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح.

ثم صعد بى حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال:

جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح.

ثم صعد بى حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال:

ص: 435

جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ والنبى الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكى لأن غلاما بعث بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتى.

ثم صعد بى إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟

قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال:

نعم، قال: مرحبا به فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام، فقال: مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح.

ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران فى الجنة، وأما الظاهران: فالنيل والفرات.

ثم رفع إلى البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فاخترت اللبن، فقال: هى الفطرة التى أنت عليها وأمتك.

ثم فرضت على الصلاة، خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بم أمرت؟ قال: فقلت أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال:

إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإنى والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عنى عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عنى عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمس

ص: 436

صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإنى قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال: سألت ربى حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم. قال: فلما جاوزت نادانى مناد: أمضيت فريضتى وخففت عن عبادى) «1» .

وفى رواية له: (ففرج صدرى ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه فى صدرى ثم أطبقه)«2» .

وفى رواية شريك: (فحشا به صدره ولغاديده)«3» وهى بلام مفتوحة وغين معجمة، أى عروق حلقه، وفى النهاية: جمع لغدوده: وهى لحمة مشرفة عند اللهاة.

والشك فى قوله: «ربما قال فى الحجر» من قتادة، كما بينه أحمد عن عفان، ولفظه:(بينما أنا فى الحطيم، وربما قال قتادة: فى الحجر) . والمراد بالحطيم هنا: الحجر.

ووقع عند البخارى فى أول بدء الخلق بلفظ (بينما أنا عند البيت)«4» وهو أعم. وفى رواية الزهرى عن أنس عن أبى ذر (فرج سقف بيتى وأنا بمكة)«5» . وفى رواية الواقدى بأسانيده: أنه أسرى به من شعب أبى طالب.

(1) صحيح: أخرجه البخارى (3887) فى المناقب، باب: المعراج، ومسلم (164) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلاة.

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (349) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات فى الإسراء، ومسلم (163) فيما سبق، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.

(3)

صحيح: أخرجه البخارى (7517) فى التوحيد، باب: قوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً من حديث أنس- رضى الله عنه-.

(4)

صحيح: أخرجه البخارى (3207) فى بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، من حديث مالك ابن صعصعة- رضى الله عنه-.

(5)

صحيح: وهى رواية أبى ذر المتقدمة قبل حديثين.

ص: 437

وفى حديث أم هانئ- عند الطبرانى- أنه بات فى بيتها، قالت: ففقدته من الليل، فقال:«إن جبريل أتانى» «1» .

والجمع بين هذه الأقوال- كما فى فتح البارى «2» - أنه بات فى بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبى طالب، ففرج سقف بيته، وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه، فنزل منه الملك فأخرجه من البيت إلى المسجد، فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس، ثم أخذه الملك فأخرجه من المسجد، فأركبه البراق. قال: وقد وقع فى مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع.

فإن قيل: لم فرج سقف بيته- صلى الله عليه وسلم ونزل منه الملك، ولم لم يدخل عليه من الباب، مع قوله تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها «3» .

أجيب: بأن الحكمة من ذلك أن الملك انصب من السماء انصبابة واحدة، ولم يعرج على شىء سواه، مبالغة فى المفاجأة، وتنبيها له على أن الطالب وقع على غير ميعاد، كرامة له- صلى الله عليه وسلم.

وهذا بخلاف موسى- عليه الصلاة والسلام، فكانت كرامته بالمناجاة عن ميعاد واستعداد بخلاف نبينا- صلى الله عليه وسلم فإنه حمل عنه ألم الانتظار، كما حمل عنه ألم الاعتذار. ويؤخذ من هذا: أن مقام نبينا- صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى مقام موسى- عليه السلام مقام المراد بالنسبة إلى مقام المريد. ويحتمل أن يكون توطئة وتمهيدا لكونه فرج عن صدره، فأراه الملك بإفراجه عن السقف ثم التأم السقف على الفور كيفية ما يصنع به، وقرب له الأمر فى نفسه بالمثال المشاهد فى بيته، لطفا فى حقه- صلى الله عليه وسلم وتثبيتا لصبره، والله أعلم.

* وقوله: (مضطجعا) زاد فى بدء الخلق (بين النائم واليقظان) وهو

(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 75، 76) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير، وفيه عبد الأعلى بن أبى المساور، متروك كذاب.

(2)

(7/ 204) .

(3)

سورة البقرة: 189.

ص: 438

محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج به إلى باب المسجد فأركبه البراق، استمر فى يقظته.

* وأما ما وقع فى رواية شريك عنده أيضا (فلما استيقظت) فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال، وإلا حمل على أن المراد استيقظت: أفقت، يعنى أنه أفاق مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة الملكوت ورجع إلى العالم الدنيوى، فالمراد: الإفاقة البشرية من الغمرة الملكية.

* وقوله: (إذ أتانى آت) هو جبريل- عليه السلام، وفى رواية شريك (أنه جاءه ثلاثة نفر، قبل أن يوحى إليه، وهو نائم فى المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ قال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم وكانت تلك الليلة- أى كانت القصة الواقعة تلك الليلة ما ذكر هنا- فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه

) «1» .

وقد أنكر الخطابى قوله: (قبل أن يوحى إليه) وكذا القاضى عياض والنووى، وعبارة النووى: وقع فى رواية شريك- يعنى هذه- أوهام أنكرها العلماء، أحدها قوله:(قبل أن يوحى إليه) وهو غلط فلم يوافق عليه.

وأجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون قبل الوحى. انتهى. فقد صرح هؤلاء بأن شريكا تفرد بذلك.

لكن قال الحافظ ابن حجر: فى دعوى التفرد نظر، فقد وافقه كثير بن خنيس- بالمعجمة ونون مصغرا- عن أنس، كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموى فى كتاب المغازى له من طريقه. قال: ولم يقع التعيين بين المجيئين، فيحمل على أن المجىء الثانى كان بعد الوحى، وحينئذ وقع الإسراء والمعراج. وإذا كان بين المجيئين مدة فلا فرق بين أن تكون تلك المدة ليلة واحدة أو ليالى أو عدد سنين وبهذا يرتفع الإشكال من رواية شريك، ويحصل به الوفاق أن الإسراء كان فى اليقظة بعد البعثة وقبل الهجرة وسقط

(1) صحيح: وقد تقدمت رواية شريك أكثر من مرة.

ص: 439

تشنيع الخطابى وغيره بأن شريكا خالف الإجماع فى دعواه أن المعراج كان قبل البعثة، وأقوى ما يستدل به على أن المعراج كان بعد البعثة، قوله فى هذا الحديث نفسه: أن جبريل قال لبواب السماء إذ قال له: أبعث؟ قال: نعم، فإنه ظاهر فى أن المعراج كان بعد البعثة.

* ووقع فى رواية ميمون بن سياه- عند الطبرانى-: فأتاه جبريل وميكائيل، فقالا: أيهم؟ وكانت قريش تنام حول الكعبة، فقال: أمرنا بسيدهم، ثم ذهبا، ثم جاؤوه وهم ثلاثة. وفى رواية مسلم: سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت فانطلق بى. والمراد بالرجلين: حمزة وجعفر وكان النبى- صلى الله عليه وسلم نائما بينهما.

* وقوله: «فقد» بالقاف والدال المهملة الثقيلة. «من ثغره» بضم المثلاثة وسكون الغين المعجمة، وهو الموضع المنخفض الذى بين الترقوتين. «إلى شعرته» بكسر الشين المعجمة، أى شعر العانة الشريفة. وفى رواية مسلم: إلى أسفل بطنه. وفى رواية البخارى: إلى مراق البطن. وفى رواية شريك- عنده-: فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته- بفتح اللام وتشديد الموحدة- وهو موضع القلادة من الصدر.

وقد أنكر القاضى عياض فى «الشفاء» وقوع شق صدره الشريف ليلة الإسراء، وقال: إنما كان وهو صبى قبل الوحى فى بنى سعد. ولا إنكار فى ذلك- كما قاله الحافظ أبو الفضل العسقلانى- رحمه الله فقد تواترت الروايات به، وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم فى الدلائل، ولكل منها حكمة:

فالأول: وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس: فأخرج علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك «1» . وكان هذا فى زمن الطفولية، فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان. ولعل هذا الشق كان سببا فى

(1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (161) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم وفرض الصلوات، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

ص: 440

إسلام قرينه المروى عند البزار من حديث ابن عباس «1» . ويحتمل أن يكون إشارة إلى حظ الشيطان المباين كالعفريت الذى أراد أن يقطع عليه صلاته وأمكنه الله منه.

وأما شق الصدر عند المبعث، فلزيادة الكرامة، وليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوى على أكمل الأحوال من التطهير.

وأما شقه عند إرادة العروج إلى السماء، فللتهيؤ للترقى إلى الملأ الأعلى، والثبوت فى المقام الأسنى، والتقوى لاستجلاء الأسماء الحسنى، ولهذا لما لم يتفق لموسى- عليه الصلاة والسلام مثل هذا التهيؤ لم تتفق له الرؤية، وكيف يثبت الرجل لما لا يثبت له الجبل؟! ويحتمل أن تكون الحكمة فى هذا الغسل، لتقع المبالغة فى الإسباغ بحصول المرة الثالثة، كما تقرر فى شرعه- صلى الله عليه وسلم. ثم إن جميع ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شىء من ذلك.

قال العارف ابن أبى جمرة: فيه دليل على أن قدره الله عز وجل لا يعجزها ممكن، ولا تتوقف لعدم شىء ولا لوجوده، وليست مربوطة بالعادة إلا حيث شاءته القدرة، لأنه ما يعهد ويعرف أن البشر مهما شق بطنه كله وانجرح القلب مات ولم يعش، وهذا النبى- صلى الله عليه وسلم قد شق بطنه المكرمة، حتى أخرج القلب فغسل، وقد شق بطنه كذلك أيضا وهو صغير وشق قلبه وأخرجت منه نزغة الشيطان. ومعلوم أن القلب هما وصل له الجرح مات صاحبه، وهذا النبى- صلى الله عليه وسلم شق بطنه فى هاتين المرتين، ولم يتألم بذلك، ولم يمت لما أن أراد الله تعالى أن لا يؤثر ما أجرى به العادة، أن يؤثر موت صاحبها، فأبطل تلك العادة. وقد رمى إبراهيم- عليه الصلاة والسلام فى النار فلم تحرقه، وكانت عليه بردا وسلاما. انتهى.

(1) تقدم.

ص: 441

وقد حصل من شق صدره الكريم إكرامه- صلى الله عليه وسلم بتحقيق ما أوتى من الصبر، فهو من جنس ما أكرم به إسماعيل الذبيح بتحقيق صبره على مقدمات الذبح شدّا وكتفا وتلّا للجبين، وإهواء بالمدية إلى المنحر فقال:

سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ «1» ، ووفى بما وعد الله، فأكرمه الله بالثناء على صبره إلى الأبد.

ولا مرية أن الذى حصل من صبر نبينا- صلى الله عليه وسلم على شق الصدر أشق وأجل، لأن تلك مقدمات وهذه نتيجة، وتلك معاريض وهذه حقيقة، والمنحر مقتل وما أصابه من إسماعيل إلا صورة القتل لا فعله، وشق صدر نبينا- صلى الله عليه وسلم واستخراج قلبه ثم شقه ثم كذا ثم كذا مقاتل عديدة وقعت كلها، ولكن انخرقت العادة ببقاء الحياة، فهذا الابتلاء أعظم من ابتلاء الذبيح بما ذكر.

فإن قلت: إنما يتحقق الصبر لو كان هناك مشقة، فلعل العادة لما انخرقت فى إبقاء الحياة انخرقت فى رفع المشاق وحمل الآلام.

أجيب: بأنه ورد فى حديث شق صدره: فأقبل وهو منتقع اللون أو ممتقع اللون، بالميم بدل النون، وهو يدل على أن الصبر على مشقة المعاجلة المذكورة محقق. قال القاضى عياض: وأصل «انتقع» صار كلون النقع، والنقع الغبار، وهو شبيه بلون الأموات، وهذا يدل على غاية المشقة. وأما قول ابن الجوزى: فشقه وما شق عليه، فيحمل على أنه صبر صبر من لا يشق عليه. انتهى.

وكذلك الابتلاء أيضا من حيث السن، فإن ذلك وقع لنبينا- صلى الله عليه وسلم بعيد ما فطم، وأيضا: فإنه كان منفردا عن أمه ويتيما من أبيه، واختطف من بين الأطفال، وفعل به ما فعل من الأفعال تسهيلا لما يلقاه فى المال، وتعظيما لما يناله على الصبر من الثواب والثناء، ولهذا لما شج وجرح وكسرت رباعيته

(1) سورة الصافات: 102.

ص: 442

قال: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» «1» ، زاده الله شرفا. وقوله:«ثم أتيت بطست من ذهب» إنما أتى بالطست لأنه أشهر آلات الغسل عرفا.

فإن قلت: إن استعمال الذهب حرام فى شرعه- صلى الله عليه وسلم فكيف استعمل الطست الذهب هنا؟

أجاب العارف ابن أبى جمرة: بأن تحريم الذهب إنما هو لأجل الاستمتاع به فى هذه الدار، وأما فى الآخرة فهو للمؤمنين خالصا، لقوله- صلى الله عليه وسلم:«هو لهم فى الدنيا وهو لنا فى الآخرة» «2» قال: ثم إن الاستمتاع بهذا الطست لم يحصل منه- صلى الله عليه وسلم وإنما كان غيره هو السائق له والمتناول لما كان فيه حتى وضعه فى القلب المبارك. فسوقان الطست المبارك من هناك، وكونه كان من ذهب دال على ترفيع المقام فانتفى التعارض بدليل ما قررناه.

انتهى.

وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأنه لا يكفى أن يقال: إن المستعمل له ممن لم يحرم عليه ذلك من الملائكة، لأنه لو كان قد حرم عليه استعماله لنزه أن يستعمله غيره فى أمر يتعلق ببدنه المكرم. ويمكن أن يقال: إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع فى تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب، فيلحق بأحوال الآخرة، أو لعل ذلك قبل أن يحرم استعمال الذهب فى هذه الشريعة. ويظهر هاهنا مناسبات: منها أنه من أوانى الجنة، ومنها أنه لا تأكله النار ولا التراب، وأنه لا يلحقه الصدأ، ومنها أنه أثقل الجواهر فناسب قلبه- صلى الله عليه وسلم لأنه من أوانى أحوال الجنة، ولا تأكله النار ولا التراب، وإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولا يلحقه الصدأ، وأنه أثقل من كل قلب عدل به، وفيه مناسبة أخرى وهى ثقل الوحى فيه. انتهى.

(1) قلت: هو عند البخارى (3477) فى أحاديث الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم (1792) فى الجهاد والسير، باب: غزوة أحد، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه- قال: كأنى أنظر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم يحكى نبيّا من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:«رب اغفر لقومى، فإنهم لا يعلمون» .

(2)

صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه البخارى (5426) فى الأطعمة، باب: الأكل فى إناء مفضض، ومسلم (2067) فى اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-.

ص: 443

قلت: قوله: «ولعل ذلك قبل أن يحرم استعمال الذهب فى هذه الشريعة» . قد جزم هو فى أول الصلاة من كتابه فتح البارى: بأن تحريم الذهب إنما وقع بالمدينة. وقال السهيلى وابن دحية: إن نظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهاب الرجس عنه ولكونه عند الذهاب إلى ربه، وإن نظر إلى معناه، فلوضاءته ونقائه وصفائه. انتهى. والمراد بقوله:(ملئ حكمة وإيمانا) أن الطست جعل فيها شىء يحصل به كمال الإيمان والحكمة فسمى حكمة وإيمانا مجازا. ويحتمل أن يكون على حقيقته، وتجسد المعانى جائز، كما أن سورة البقرة تجىء يوم القيامة كأنها ظلة، والموت فى صورة كبش، وكذلك وزن الأعمال وغير ذلك. وقال البيضاوى: لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعانى قد وقع كثيرا، كما مثلت له- صلى الله عليه وسلم الجنة والنار فى عرض الحائط، وفائدته كشف المعنوى بالمحسوس.

وقال العارف ابن أبى جمرة: فيه دليل على أن الإيمان والحكمة جواهر محسوسات لا معانى، لأنه- صلى الله عليه وسلم قال عن الطست: إنه أتى به مملوآ إيمانا وحكمة، ولا يقع الخطاب إلا على ما يفهم ويعرف، والمعانى ليس لها أجسام حتى تملأ، وإنما يمتلئ الإناء بالأجسام والجواهر، وهذا نص من الشارع- صلى الله عليه وسلم بضد ما ذهب إليه المتكلمون فى قولهم: إن الإيمان والحكمة أعراض.

والجمع بين الحديث وما ذهبوا إليه، هو أن حقيقة أعيان المخلوقات التى ليس للحواس فيها إدراك، ولا من النبوة إخبار عن حقيقتها غير محققة، وإنما هى غلبة ظن، لأن للعقل- بالإجماع من أهل العقل المؤيدين بالتوفيق- حدّا يقف عنده، ولا يتسلط فيما عدا ذلك، ولا يقدر أن يصل إليه، فهذا وما أشبهه منها، لأنهم تكلموا على ما ظهر لهم من الأعراض الصادرة عن هذه الجواهر التى ذكرها الشارع- صلى الله عليه وسلم فى الحديث، ولم يكن للعقل قدرة أن يصل إلى هذه الحقيقة التى أخبر بها- صلى الله عليه وسلم. فيكون الجمع بينهما أن يقال:

ما قاله المتكلمون حق لأنه الصادر عن الجواهر وهو الذى يدرك بالعقل.

والحقيقة ما ذكره- صلى الله عليه وسلم فى الحديث.

ص: 444

ولهذا نظائر كثيرة بين المتكلمين وآثار النبوة، ويقع الجمع بينهما على الأسلوب الذى قررناه وما أشبهه. ثم مثل بمجىء الموت فى هيئة كبش أملح، ثم بالأذكار والتلاوة، ثم قال: لأن ما ظهر منها هنا معان، وتوجد يوم القيامة جواهر محسوسات لأنها توزن، ولا يوزن فى الميزان إلا الجواهر.

قال: وفى ذلك دليل لأهل الصوفية وأصحاب المعاملات والتحقيق القائلين بأنهم يرون قلوبهم وقلوب إخوانهم، وإيمانهم وإيمان إخوانهم بأعين بصائرهم جواهر محسوسات، فمنهم من يعاين إيمانه مثل المصباح، ومنهم من يعاينه مثل الشمعة، ومنهم من يعاينه مثل المشعل وهو أقواها. ويقولون: بأنه لا يكون المحقق محققا حتى يعاين قلبه بعين بصيرته، كما يعاين كفه بعين بصره فيعرف الزيادة فيه من النقصان «1» .

فإن قيل: ما الحكمة فى شق صدره الشريف ثم ملئ إيمانا وحكمة، ولم لم يوجد الله تعالى ذلك فيه من غير أن يفعل فيه ما فعل؟

أجاب العارف ابن أبى جمرة: بأنه- صلى الله عليه وسلم لما أعطى كثرة الإيمان والحكمة وقوى التصديق إذ ذاك، أعطى برؤية شق البطن والقلب عدم الخوف من جميع العادات الجارية بالهلاك، فحصلت له- صلى الله عليه وسلم قوة الإيمان من ثلاثة أوجه: بقوة التصديق، والمشاهدة، وعدم الخوف من العادات المهلكات فكمل له- صلى الله عليه وسلم بذلك ما أريد منه من قوة الإيمان بالله عز وجل، وعدم الخوف مما سواه. ولأجل ما أعطيه مما أشرنا إليه كان- صلى الله عليه وسلم فى العالمين أشجعهم وأثبتهم وأعلاهم حالا ومقالا.

ففى العلوى: كان- كما أخبر- صلى الله عليه وسلم أن جبريل لما وصل معه إلى مقامه قال: ها أنت وربك، وهذا مقامى لا أتعداه، فزج فيه- أى فى النور- زجة ولم يتوان ولم يتلفت، فكان هناك فى الحضرة كما أخبر عنه ربه عز وجل بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «2» . وأما حاله- صلى الله عليه وسلم فى هذا

(1) قلت: الإيمان عند أهل السنة والجماعة، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ويستشعر بذلك المؤمن مع نفسه.

(2)

سورة النجم: 17.

ص: 445

العالم: فكان إذا حمى الوطيس فى الحرب ركض بغلته فى نحر العدو، وهم شاكون فى سلاحهم، ويقول: أنا ابن عبد المطلب، أنا النبى لا كذب «1» . ثم إن العناية بتطهير قلبه المقدس، وإفراغ الإيمان والحكمة، فيه إشارة إلى مذهب أهل السنة فى أن محل العقل ونحوه من أسباب الإدراكات كالنظر والفكر إنما هو القلب لا الدماغ، خلافا للمعتزلة والفلاسفة.

وأما الحكمة فى غسل قلبه المقدس بماء زمزم، فقيل لأن ماء زمزم يقوى القلب ويسكن الروع. قال الحافظ الزين العراقى: ولذلك غسل به قلبه- صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ليقوى على رؤية الملكوت. واستدل شيخ الإسلام البلقينى، بغسل قلبه الشريف به على أنه أفضل من ماء الكوثر، قال: لأنه لم يكن يغسل قلبه المكرم إلا بأفضل المياه، وإليه يومئ قول العارف ابن أبى جمرة فى كتابه «بهجة النفوس» .

وأما قوله- صلى الله عليه وسلم: «فغسل صدرى» فالظاهر أن المراد به القلب، كما فى الرواية الآخرى، وقد يحتمل أن تحمل كل رواية على ظاهرها، ويقع الجمع بأن يقال: أخبر- صلى الله عليه وسلم مرة بغسل صدره الشريف ولم يتعرض لذكر قلبه، وأخبر مرة بغسل قلبه ولم يتعرض لذكر صدره، فيكون الغسل قد حصل فيهما معا مبالغة فى تنظيف المحل المقدس. ولا شك أن المحل الشريف كان طاهرا مطهرا وقابلا لجميع ما يلقى إليه من الخير، وقد غسل أولا وهو- صلى الله عليه وسلم طفل، وأخرجت من قلبه نزعة الشيطان، وإنما كان ذلك إعظاما وتأهبا لما يلقى هناك، وقد جرت الحكمة بذلك فى غير ما موضع مثل الوضوء للصلاة لمن كان متنظفا، لأن الوضوء فى حقه إنما هو إعظام وتأهب للوقوف بين يدى الله تعالى ومناجاته، فلذلك غسل جوفه الشريف هنا، وقد قال تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ «2» فكان الغسل له

(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2864) فى الجهاد والسير، باب: من قاد دابة غيره فى الحرب، ومسلم (1776) فى الجهاد والسير، باب: فى غزوة حنين، من حديث البراء ابن عازب- رضى الله عنه-.

(2)

سورة الحج: 32.

ص: 446

- صلى الله عليه وسلم من تعظيم شعائر الله، وإشارة لأمته بالفعل بتعظيم شعائر الله، كما نص لهم عليه بالقول.

وأما قوله: «ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلق بى جبريل حتى أتى السماء الدنيا» وفى رواية عنده فى الصلاة «ثم أخذ بيدى فعرج بى إلى السماء» . فظاهره:

أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء.

قال العارف ابن أبى جمرة: أفاد ذلك أنهم كانوا يمشون فى الهواء، وقد جرت العادة بأن البشر لا يمشى فى الهواء، سيما وقد كان راكبا على دابة من ذوات الأربع، لكن لما أن شاءت القدرة ذلك كان، فكما بسط الله تعالى لهم الأرض يمشون عليها، كذلك يمشون فى الهواء، كل ذلك بيد قدرته، لا ترتبط قدرته تعالى بعادة جارية. وقد سئل- صلى الله عليه وسلم حين أخبر عن الأشقياء الذين يمشون على وجوههم يوم القيامة فقال- صلى الله عليه وسلم:«الذى أمشاهم فى الدنيا على أقدامهم قادر أن يمشيهم يوم القيامة على وجوههم» «1» . انتهى.

وقد استدل بعضهم بهذا الحديث على أن المعراج كان فى ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، لكون الإسراء إليهم لم يذكر هنا. فأما المعراج ففى غير هذه الرواية من الأخبار أنه لم يكن على البراق، بل رقى فى المعراج وهو السلم، كما وقع التصريح به فى حديث عند ابن إسحاق والبيهقى فى الدلائل كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-.

ويمكن أن يقال: ما وقع هنا اختصار من الراوى، والإتيان ب «ثم» المقتضية للتراخى لا ينافى وقوع الإسراء بين الأمرين المذكورين، وهما:

الانطلاق والعروج. وحاصله: أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، وثابت البنانى قد حفظ الحديث. ففى روايته عند مسلم: أنه أتى بيت المقدس فصلى فيه ثم عرج إلى السماء كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-. وقد قيل:

إن الحكمة فى الإسراء به راكبا، مع القدرة على طى الأرض له، إشارة إلى

(1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (2806) فى صفة القيامة، باب يحشر الكافر على وجهه، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

ص: 447

أن ذلك وقع تأنيسا له بالعادة، فى مقام خرق العادة، لأن العادة جرت أن الملك إذا استدعى من يختص به بعث إليه بمركوب سنى يحمله عليه فى وفادته إليه.

وفى كلام بعض أهل الإشارات: لما كان- صلى الله عليه وسلم ثمرة شجرة الكون ودرة صدفة الوجود، وسرّ معنى كلمة «كن» ولم يكن بد من عرض هذه الثمرة بين يدى مثمرها رفعها إلى حضرة قربه، والطواف بها على ندمان حضرته، أرسل إليه أعز خدام الملك عليه، فلما ورد عليه قادما، وافاه على فراشه نائما، فقال له قم يا نائم، فقد هيئت لك الغنائم. قال: يا جبريل إلى أين؟ قال: يا محمد ارفع «الأين» من البين، إنما أنا رسول القدم أرسلت إليك لأكون من جملة الخدم، يا محمد أنت مراد الإرادة، الكل مراد لأجلك، وأنت مراد لأجله، أنت صفوة كأس المحبة، أنت درة هذه الصدفة، أنت شمس المعارف، أنت بدر اللطائف، ما مهدت الدار إلا لأجلك، ما حمى ذلك الحمى إلا لوصلك، وما روّق كأس المحبة إلا لشربك. فقال- صلى الله عليه وسلم: يا جبريل فالكريم يدعونى إليه، فما الذى يفعل بى؟ قال: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: يا جبريل هذا لى، فما لعيالى وأطفالى؟ قال: ولسوف يعطيك ربك فترضى، قال: يا جبريل الآن طاب قلبى ها أنا ذاهب إلى ربى، ثم قال جبريل: يا محمد إنما جىء بى إليك الليلة لأكون خادم دولتك، وحاجب حاشيتك، وحامل غاشيتك، وجىء بالمركوب إليك لإظهار كرامتك، لأن من عادة الملوك إذا استزاروا حبيبا أو استودعوا قريبا وأرادوا ظهور إكرامه واحترامه أرسلوا أخص خدامهم وأعز نوابهم لنقل أقدامهم، فجئناك على رسم عادة الملوك وآداب السلوك، ومن اعتقد أنه وصل إليه بالخطا فقد وقع بالخطأ، ومن ظن أنه محجوب بالغطا فقد حرم العطا.

انتهى «1» .

والحكمة فى كون البراق دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، ولم يكن على شكل الفرس، إشارة إلى أن الركوب كان فى سلم وأمن لا فى حرب

(1) قلت: ومنذ متى نأخذ ديننا من أهل الإشارات، أجهل الأمة بهذا الدين، والأولى العمل بأهل التصريحات الذين هم سلف هذه الأمة الصحابة والتابعون على هداهم إلى يوم الدين.

ص: 448

وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراع الشديد بدابة لا توصف بذلك فى العادة. وذكره بقوله: أبيض، باعتبار كونه مركوبا، أو عطفا على لفظ البراق. واختلف فى تسميته بذلك، فقيل: من البريق، وقال القاضى عياض:

لكونه ذا لونين، يقال: شاة برقاء، إذا كان فى خلال صوفها الأبيض طاقات سود، وقيل: من البرق، لأنه وصف بسرعة السير، ويحتمل أن لا يكون مشتقا.

ووصفه بأنه يضع خطوه عند أقصى طرفه- بسكون الراء وبالفاء- أى يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره. وقال ابن المنير: يقطع ما انتهى إليه بصره فى خطوة واحدة، قال: فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء فى خطوة واحدة، لأن بصر الذى فى الأرض يقع على السماء، فبلغ أعلى السماوات فى سبع خطوات. انتهى.

وفى حديث ابن مسعود عند أبى يعلى والبزار- كما أفاده فى الفتح-:

إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه وإذا هبط ارتفعت يداه. وفى رواية لابن سعد عن الواقدى بأسانيده: له جناحان. قال الحافظ ابن حجر: ولم أرها لغيره.

وعند الثعلبى- بسند ضعيف- عن ابن عباس، فى صفة البراق: له خد كخد الإنسان وعرف كعرف الفرس، وقوائم كالإبل، وأظلاف وذنب كالبقر، وكان صدره ياقوتة حمراء. وفى رواية أبى سعد فى «شرف المصطفى» فكان الذى أمسك بركابه جبريل وبزمام البراق ميكائيل.

وفى رواية معمر عن قتادة عن أنس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أتى بالبراق ليلة أسرى به مسرجا ملجما، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما حملك على هذا، ما ركبك خلق قط أكرم على الله منه، قال: فارفض عرقا «1» .

أخرجه الترمذى وقال: حسن غريب وصححه ابن حبان.

(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3131) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، وأحمد فى «المسند» (3/ 164) ، وابن حبان فى «صحيحه» (46) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

ص: 449

وذكر ابن إسحاق عن قتادة: أنه لما شمس «1» وضع جبريل- عليه السلام يده على معرفته وقال: أما تستحى وذكر نحوه، لكنه مرسل لأنه لم يذكر أنسا.

وفى رواية وثيمة عند ابن إسحاق: نعست حتى لصقت بالأرض فاستويت عليها. وفى رواية للنسائى وابن مردويه من طريق يزيد بن أبى مالك عن أنس نحوه موصولا، وزاد: وكانت تسخر للأنبياء قبله، ونحوه من حديث أبى سعيد عند ابن إسحاق.

وفيه دلالة على أن البراق كان معدّا لركوب الأنبياء، خلافا لمن نفى ذلك، كابن دحية، وأوّل قول جبريل:«فما ركبك أكرم على الله منه» أى: ما ركبك أحد قط، فكيف يركبك أكرم منه؟ فيكون مثل قول امرىء القيس:

على لاحب لا يهتدى لمناره فيفهم أن له منارا لا يهتدى له، وليس المراد: إلا أنه لا منار له البتة فكيف يهتدى به، فتأمله: وقد جزم السهيلى بأن البراق إنما استصعب عليه لبعد عهد ركوب الأنبياء قبله. وقال النووى: قال صاحب مختصر العين، وتبعه صاحب التحرير: كان الأنبياء يركبون البراق. قال: وهذا يحتاج إلى نقل صحيح، انتهى وقد تقدم النقل بذلك.

قال فى الفتح: ويؤيده ظاهر قوله: (فربطته بالحلقة التى كانت تربط بها الأنبياء) انتهى. فليتأمل فإنه ليس فيه فربطته بالحلقة التى كانت تربطه بها الأنبياء، وإنما قال: تربط بها الأنبياء وسكت عن ذكر المربوط ما هو؟ فيحتمل- كما قال ابن المنير- أن يكون غير البراق، ويحتمل أن يكون ارتباط الأنبياء أنفسهم بتلك الحلقة، أى تمسكهم بها، ويكون من جنس العروة الوثقى، انتهى.

ولكن وقع التصريح بذلك فى حديث أبى سعيد عند البيهقى ولفظه:

«فأوثقت دابتى بالحلقة التى كانت الأنبياء تربطها فيها» وقد وقع عند ابن إسحاق من رواية وثيمة فى ذكر الإسراء: فاستصعب البراق وكانت بعيدة العهد بركوبهم، لم تكن ركبت فى الفترة.

(1) شمس الفرس: منع ظهره، فهو شامس وشموس، من شمس وشمس.

ص: 450

وفى مغازى ابن عائذ، من طريق الزهرى عن سعيد بن المسيب قال:

البراق هى الدابة التى كان يزور إبراهيم عليها إسماعيل. وعلى هذا فلا يكون ركوب البراق من خصائصه- صلى الله عليه وسلم. نعم قيل: ركوبه مسرجا ملجما لم يرد لغيره من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-. فإن قلت: ما وجه استصعاب البراق عليه؟

أجيب: بأنه تنبيه على أنه لم يذلل قبل ذلك، إن قلنا إنه لم يركبه أحد قبله، أو لبعد العهد بركوبه إن قلنا إنه ركب قبله. ويحتمل أن يكون استصعابه تيها وزهوا بركوبه- صلى الله عليه وسلم، وأراد جبريل «أبمحمد تستصعب» استنطاقه بلسان الحال أنه لم يقصد الصعوبة وإنما تاه زهوا لمكان الرسول- صلى الله عليه وسلم منه، ولهذا قال: فارفض عرقا، فكأنه أجاب بلسان الحال متبرئا من الاستصعاب، وعرق من خجل العتاب، ومثل هذا رجفة الجبل به حتى قال:

«اثبت فإنما عليك نبى وصديق وشهيدان» «1» فإنها هزة الطرب لا هزة الغضب. وكذلك البراق لما قال له جبريل: اسكن فما ركبك أحد أكرم على الله منه استقر وخجل من ظاهر الاستصعاب وتوجه الخطاب فعرق حتى غرق.

ووقع فى حديث حذيفة عند الإمام أحمد قال: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم بالبراق فلم يزل على ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس. وهذا لم يسنده حذيفة عن النبى- صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنه قاله عن اجتهاد، ويحتمل أن يكون قوله:«هو وجبريل» متعلقا بمرافقته فى السير، لا فى الركوب. وقال ابن دحية معناه: وجبريل قائد أو سائق أو دليل، قال: وإنما جزمنا بذلك لأن قصة المعراج كانت كرامة للنبى- صلى الله عليه وسلم، فلا مدخل لغيره فيها.

وقد تعقب الحافظ ابن حجر التأويل المذكور: بأن فى صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود: أن جبريل حمله على البراق رديفا له، وفى رواية الحارث فى مسنده: أتى بالبراق فركبه خلف جبريل فسار بهما. فهذا صريح فى ركوبه معه، والله أعلم، انتهى.

(1) صحيح: وقد تقدم.

ص: 451

وقد وقع فى غير هذه الرواية بيان ما رآه فى ليلة الإسراء، فمن ذلك:

ما وقع فى حديث شداد بن أوس- عند البزار والطبرانى، وصححه البيهقى فى الدلائل- أنه أول ما أسرى به مرّ بأرض ذات نخل، فقال له جبريل: انزل فصل، فصلى، فقال: صليت بيثرب، ثم مر بأرض بيضاء فقال: انزل فصل، فصلى، فقال: صليت بمدين، ثم مر ببيت لحم فقال:

انزل فصل، فنزل فصلى، فقال صليت حيث ولد عيسى «1» .

وفى حديث أنس عند البيهقى فى الدلائل «2» : لما جاء جبريل بالبراق إليه- صلى الله عليه وسلم فكأنها أصرت أذنيها، فقال لها جبريل: مه يا براق، فو الله ما ركبك مثله، فسار رسول الله- صلى الله عليه وسلم فإذا هو بعجوز على جنب الطريق، فقال:«ما هذا يا جبريل؟» قال: سر يا محمد، فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا هو بشيخ يدعوه متنحيا عن الطريق يقول: هلم يا محمد، فقال له جبريل: سر، وأنه مرّ بجماعة فسلموا عليه فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال له جبريل: اردد عليهم السلام، فرد، الحديث. وفى آخره فقال له جبريل: أما العجوز التى رأيت على جانب الطريق فلم يبق من الدنيا إلا ما بقى من عمر تلك العجوز، والذى دعاك إبليس، والعجوز الدنيا، أما لو أجبتهما لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة، وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى- عليهم الصلاة والسلام-، قال الحافظ عماد الدين ابن كثير: فى ألفاظه نكارة وغرابة.

وفى حديث: أنه مر بموسى- عليه السلام، وهو يصلى فى قبره «3» . قال أنس: ذكر كلمة فقال: أشهد أنك رسول الله. ولا مانع أن الأنبياء- عليهم السلام يصلون فى قبورهم لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فهم يتعبدون بما يجدون من دواعى أنفسهم، لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر.

وستأتى الإشارة إليه فى حجة الوداع- إن شاء الله تعالى-.

(1) أخرجه الطبرانى فى الكبير (7/ 339) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (2/ 355) .

(2)

(2/ 362) .

(3)

صحيح: وقد تقدم قريبا.

ص: 452

وفى حديث أبى هريرة عند الطبرانى والبزار: أنه- صلى الله عليه وسلم مرّ على قوم يزرعون ويحصدون فى كل يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال لجبريل- عليه السلام: ما هذا؟ فقال: هؤلاء المجاهدون فى سبيل الله تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شىء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين، ثم مرّ على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شىء، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة، ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام، يأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم، فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، وما ظلمهم الله وما ربك بظلام للعبيد. ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج فى قدر، ولحم آخر نىء فى قدر خبيث، فجعلوا يأكلون النىء الخبيث، ويدعون النضيج، فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال جبريل: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتى امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتى رجلا خبيثا فتبيت عنده حتى تصبح. ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها، وهو يريد أن يحمل عليها. ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شىء، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة، قال: ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها، ثم أتى على واد فوجد فيه ريحا طيبة باردة، وريح مسك، وسمع صوتا، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا صوت الجنة، تقول: رب آتنى بما وعدتنى. فقد كثرت غرفى وإستبرقى وحريرى وسندسى وعبقريى ولؤلؤى ومرجانى وفضى وذهبى، وأكوابى وصحافى وأباريقى، ومراكبى، وعسلى ومائى ولبنى وخمرى، فائتنى بما وعدتنى، فقال: لك كل مسلم

ص: 453

ومسلمة ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بى وبرسلى وعمل صالحا، ولم يشرك بى شيئا، ولم يتخذ من دونى أندادا، ومن خشينى فهو آمن، ومن سألنى أعطيته، ومن أقرضنى أجزيته، ومن توكل على كفيته، إننى أنا الله، لا إله إلا أنا، لا أخلف الميعاد، قد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين، قالت: رضيت، ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا، ووجد ريحا منتنة فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا صوت جهنم، تقول: رب آتنى ما وعدتنى، فقد كثرت سلاسلى وأغلالى وسعيرى وحميمى وفساقى وعذابى، وقد بعد قعرى واشتد حرى، فائتنى بما وعدتنى، قال: لك كل مشرك ومشركة وكافر وكافرة، وكل جبار عنيد لا يؤمن بيوم الحساب، قالت:

رضيت. قال: فسار حتى أتى بيت المقدس.

وفى رواية أبى سعيد عند البيهقى: دعانى داع عن يمينى: انظرنى أسألك، فلم أجبه، ثم دعانى آخر عن يسارى كذلك فلم أجبه، وفيه: إذا امرأة حاسرة عن ذراعيها وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى فقالت: يا محمد انظرنى أسألك، فلم ألتفت إليها، وفيه أن جبريل قال له: أما الداعى الأول فهو داعى اليهود، ولو أجبته لتهودت أمتك. وأما الثانى فداعى النصارى، ولو أجبته لتنصرت أمتك، وأما المرأة فالدنيا. وفيه: أنه صعد إلى السماء الدنيا ورأى فيها آدم، وأنه رأى أخونه عليها لحم طيب ليس عليها أحد. وأخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون، قال جبريل: هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام، وفيه: أنه مرّ بقوم بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خرّ، وأن جبريل قال له: هم أكلة الربا، وأنه مرّ بقوم مشافرهم كالإبل، يلتقمون حجرا، فيخرج من أسافلهم، وأن جبريل قال: إن هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، وأنه مرّ بنساء تعلقن بثديهن وأنهن الزوانى، وأنه مرّ بقوم يقطع من جنوبهم اللحم فيطعمون وأنهم الغمازون «1» اللمازون «2» .

(1) الغمز: الإشارة بالعين والحاجب والجفن.

(2)

اللمز: العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها.

ص: 454

وفى حديث أبى هريرة- عند البزار والحاكم- أنه- صلى الله عليه وسلم صلى ببيت المقدس مع الملائكة، وأنه أتى هناك بأرواح الأنبياء فأثنوا على الله. وفيه قول إبراهيم: لقد فضلكم محمد.

وفى رواية عبد الرحمن بن هشام عن أنس: ثم بعث له آدم فمن دونه فأمهم تلك الليلة. وفى حديث أم هانئ عند أبى يعلى: ونشر لى رهط من الأنبياء، منهم إبراهيم وموسى وعيسى. وفى رواية أبى سلمة ثم حانت الصلاة فأممتهم «1» . أخرجه مسلم. وفى حديث أبى أمامة عند الطبرانى فى الأوسط: ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا حتى قدموا محمدا- صلى الله عليه وسلم.

* وفى رواية ثابت البنانى عن أنس عند مسلم قال: فربطته، يعنى البراق، بالحلقة- وهى بإسكان اللام على الأشهر- التى تربط به الأنبياء- بضمير المذكر، إعادة على معنى الحلقة وهو الشىء، والمراد حلقة باب مسجد بيت المقدس، قاله صاحب التحرير- قال- صلى الله عليه وسلم: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فجاءنى جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة «2» . أى اخترت اللبن الذى عليه بنيت الخلقة، وبه نبت اللحم ونشز العظم، أو اخترته لأنه الحلال الدائم فى دين الإسلام بخلاف الخمر فحرام فيما يستقر عليه الأمر.

وقال النووى: المراد بالفطرة هنا، الإسلام والاستقامة، قال: ومعناه- والله أعلم-: اخترت علامة الإسلام والاستقامة، قال: وجعل اللبن علامة لكونه سهلا طيبا طاهرا سائغا للشاربين، سليم العاقبة، أما الخمر فإنها أم الخبائث، وجالبة لأنواع الشر فى الحال والمال، انتهى. وقال القرطبى: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة لكونه أول شىء يدخل جوف المولود، ويشق أمعاءه، والسر فى ميل النبى- صلى الله عليه وسلم إليه دون غيره لكونه مألوفا له أولا،

(1) صحيح: أخرجه مسلم (172) فى الإيمان، باب: ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

(2)

صحيح: أخرجه مسلم (162) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، وفرض الصلوات.

ص: 455

انتهى. وإذا كانت الخمر مباحة- لأنها إنما حرمت بالمدينة والإسراء كان بمكة- فما وجه تعيينه- صلى الله عليه وسلم لأحد المباحين، وما وجه عد ذلك صوابا، وعد الآخر خطأ، وهما سواء فى الإباحة؟

فيحتمل أن يكون توقاها تورعا وتعريضا بأنها ستحرم، وأنه لما وافق الصواب فى علم الله تعالى قال له جبريل، أصبت الفطرة، أو أصبت أصاب الله بك، كما روى. وإذا قلنا: بأنها كانت من خمر الجنة فيكون سبب تجنبها صورتها ومضاهاة الخمر المحرمة، أى فى علم الله تعالى، وذلك أبلغ فى الورع. ويستفاد منه: أن من اتخذ من ماء الرمان أو غيره، ولو ماء قراحا، وضاهى به الخمر فى الصورة وهيأه بالهيئة التى يتعاطاها أهل الشهوات من الاجتماعات والآلات فقد أتى منكرا، وإن كان لا يحد عليها. قاله ابن المنير.

وينظر فيما يعمله كثير من فقراء اليمن وغيرهم بمكة المشرفة وجدة وغيرهما من ماء قشر البن ويسمونه بالقهوة، وهى اسم من أسماء الخمر.

وفى حديث ابن عباس- عند أحمد-: فلما أتى المسجد الأقصى قام يصلى، فلما انصرف جىء بقدحين فى أحدهما لبن، وفى الآخر عسل، فأخذ اللبن. وفى رواية البزار: بثلاثة أوانى، وأن الثالث كان خمرا، وأن ذلك وقع ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء، ولم يذكر العسل. وفى حديث شداد بن أوس: فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذنى من العطش أشد ما أخذنى، فأتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر عسل، ثم هدانى الله تعالى فأخذت اللبن. فقال شيخ بين يدى- يعنى لجبريل-: أخذ صاحبك الفطرة.

وقد كان إتيانه بالأوانى مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة. وممن صرح بأنه كان مرتين الحافظ عماد الدين بن كثير، وعلى هذا فيكون تكرار جبريل- عليه السلام للتصويب حيث اختار اللبن تأكيدا للتحذير مما سواه.

وقد أنكر حذيفة ربط البراق بالحلقة، فروى أحمد والترمذى من حديث

ص: 456

حذيفة قال: يحدثون أنه ربطه، أخاف أن يفر منه، وقد سخره له عالم الغيب والشهادة؟ وكذا أنكر حذيفة أيضا صلاته- صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس «1» .

وتعقبه البيهقى وابن كثير: بأن المثبت مقدم على النافى، يعنى من أثبت ربط البراق والصلاة فى بيت المقدس معه زيادة علم على من نفى، فهو أولى بالقبول. ووقع ذلك فى رواية بريدة عند البزار: لما كان ليلة أسرى به، فأتى جبريل الصخرة التى ببيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها، فشد بها البراق، ونحوه للترمذى. وفى حديث أبى سعيد عند البيهقى: حتى أتيت بيت المقدس، فأوثقت دابتى بالحلقة التى كانت الأنبياء تربطها فيه، فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصلى كل واحد منا ركعتين.

وفى رواية ابن مسعود نحوه، وزاد: ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد، ثم أذن فأقيمت الصلاة فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدى جبريل فقدمنى فصليت بهم. وفى حديث ابن مسعود أيضا- عند مسلم-: وحانت الصلاة فأممتهم «2» . وفى حديث ابن عباس، عند أحمد: فلما أتى- صلى الله عليه وسلم الأقصى قام يصلى، فإذا النبيون أجمعون يصلون معه «3» . وفى حديث أبى سعيد: ثم سار حتى أتى بيت المقدس فنزل، فربط فرسه إلى صخرة، ثم دخل فصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة قالوا: يا جبريل من هذا معك؟ قال: هذا محمد رسول الله خاتم النبيين، قالوا: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حياه الله من أخ وخليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة. ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم. فقال إبراهيم- عليه الصلاة والسلام: الحمد لله الذى اتخذنى خليلا، وأعطانى ملكا عظيما، وجعلنى أمة قانتا يؤتم بى، وأنقذنى من النار، وجعلها على بردا وسلاما.

(1) حسن: أخرج الحديث الترمذى (3147) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، وابن حبان فى «صحيحه» (45) ، والحديث حسن إسناده الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

(2)

صحيح: وقد تقدم قريبا.

(3)

أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 257) .

ص: 457

ثم إن موسى- عليه الصلاة والسلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذى كلمنى تكليما، واصطفانى، وأنزل على التوراة، وجعل هلاك فرعون ونجاة بنى إسرائيل على يدى، وجعل من أمتى قوما يهدون بالحق وبه يعدلون.

ثم إن داود- عليه الصلاة والسلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذى جعل لى ملكا عظيما، وعلمنى الزبور، وألان لى الحديد، وسخر لى الجبار يسبحان معى والطير وآتانى الحكمة وفصل الخطاب.

ثم إن سليمان- عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذى سخر لى الرياح، وسخر لى الشياطين، يعملون ما شئت من محاريب وتماثيل، وعلمنى منطق الطير وآتانى من كل شىء فضلا، وسخر لى جنود الشياطين والإنس والجن والطير، وآتانى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى، وجعل لى ملكا طيبا ليس على فيه حساب.

ثم إن عيسى- عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذى جعلنى كلمته، وجعلنى بمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، وعلمنى الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعلنى أخلق أى أسوى من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وجعلنى أبرئ الأكمه والأبرص، وأحيى الموتى بإذن الله، ورفعنى وطهرنى وأعاذنى وأمى من الشيطان الرجيم.

فلم يكن للشيطان علينا سبيل.

قال: وإن محمدا- صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه فقال: كلكم أثنى على ربه وأنا أثنى على ربى: الحمد لله الذى أرسلنى رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل علىّ الفرقان، فيه تبيان كل شىء، وجعل أمتى خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتى أمة وسطا، وجعل أمتى هم الأولون وهم الآخرون، وشرح لى صدرى، ووضع عنى وزرى، ورفع لى ذكرى، وجعلنى قائما وخاتما.

ص: 458

فقال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد. ثم ذكر أنه عرج به إلى السماء الدنيا، ومن سماء إلى سماء. ذكره القاضى عياض فى «الشفاء» «1» مختصرا من حديث أبى هريرة من غير عزو. ورواه البيهقى من حديث أبى سعيد الخدرى، وهذا لفظه.

وفى رواية ابن أبى حاتم فى تفسيره، عن أنس: فلما بلغ بيت المقدس، فبلغ المكان الذى يقال له: باب محمد، أتى إلى الحجر الذى به، فغمز جبريل بأصبعه فنقبه، ثم ربطها، ثم صعدا، فلما استويا فى سرحة المسجد قال جبريل: يا محمد، هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال: نعم، قال:

فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن، قال: فسلمت عليهن فرددن على السلام، فقلت لمن أنتن؟ فقلن: خيرات حسان، نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا، وأقاموا فلم يظعنوا، وخلدوا فلم يموتوا، قال: ثم انصرفت فلم ألبث إلا يسيرا، حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة، قال فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدى جبريل- عليه السلام فقدمنى فصليت بهم، فلما انصرفت قال لى جبريل: أتدرى من صلى خلفك؟ قلت: لا، قال:

صلى خلفك كل نبى بعثه الله.

قال القاضى عياض: يحتمل أن يكون- صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء جميعا فى بيت المقدس، ثم صعد منهم من ذكر أنه- صلى الله عليه وسلم رآهم فى السماوات، ويحتمل أن يكون صلى بهم بعد أن هبط من السماء، فهبطوا أيضا، والأظهر أن صلاته بهم فى بيت المقدس كان قبل العروج. انتهى. وقال ابن كثير:

صلى بهم ببيت المقدس قبل العروج وبعده، فإن فى الحديث ما يدل على ذلك، ولا مانع منه، انتهى.

وقد اختلف فى هذه الصلاة، هل هى فرض أو نفل؟ وإذا قلنا إنها فرض، فأى صلاة هى؟ قال بعضهم: الأقرب أنها الصبح، ويحتمل أن تكون

(1)(1/ 181) .

ص: 459

العشاء، وإنما يتأتى على قول من قال: إنه صلى بهم قبل عروجه إلى السماء، وأما على قول من قال: إنه صلى بهم بعد العروج فتكون الصبح.

قال ابن كثير: ومن الناس من يزعم أنه أمهم فى السماء، والذى تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه، لأنه لما مرّ بهم فى منازلهم جعل يسأل جبريل عنهم واحدا واحدا، وهو يخبره بهم، ثم قال: وهذا هو اللائق، لأنه أولا كان مطلوبا إلى الجناب العلوى، ليفرض الله عليه وعلى أمته ما يشاء، ثم لما فرغ مما أريد به اجتمع هو وإخوانه من النبيين، ثم أظهر شرفه عليهم بتقديمه فى الإمامة.

وفى رواية ابن إسحاق: أنه- صلى الله عليه وسلم قال: لما فرغت مما كان فى بيت المقدس، أتى بالمعراج ولم أر قط شيئا أحسن منه، وهو الذى يمد إليه الميت عينيه إذا احتضر، فأصعدنى صاحبى فيه حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء. وفى رواية كعب: فوضعت له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب حتى عرج هو وجبريل. وفى «شرف المصطفى» أنه أتى بالمعراج من جنة الفردوس، وأنه منضد عن يمينه ملائكة، وعن يساره ملائكة. وفى رواية أبى سعيد- عند البيهقى- ثم أتيت بالمعراج الذى تعرج عليه أرواح بنى آدم، فلم ير الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء، فإن ذلك عجبه بالمعراج.

وقد تقدم فى حديث البخارى بالسابق، فانطلق بى جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، قيل من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال:

محمد، قيل: وقد أرسل إليه قال: نعم. ولم يقل جبريل- عليه السلام: أنا، حيث قيل له: من هذا؟ إنما سمى نفسه فقال: جبريل، لأن لفظ «أنا» فيه إشعار بالعظمة. وفى الكلام السائر: أول من قال «أنا» إبليس، فشقى، وأيضا فقوله «أنا» مبهمة لافتقار الضمير إلى العود، فهى غير كافية فى البيان. وعلى هذا فينبغى للمستأذن إذا قيل له من أنت؟ أن لا يقول:«أنا» ، بل يقول:

فلان.

ص: 460

وفى رواية للبخارى ومسلم: فعرج، وهو بفتح العين بمعنى صعد. وفى حديث أبى سعيد عند البيهقى: حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء يقال له: باب الحفظة، وعليه ملك يقال له إسماعيل تحت يده اثنا عشر ألف ملك.

وفى رواية شريك- عند البخارى أيضا- ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فناداه أهل السماء الدنيا: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا:

مرحبا وأهلا، فيستبشر به أهل السماء «1» ، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به فى الأرض حتى يعلمهم، أى على لسان من شاء كجبريل.

ووقع فى هذه الرواية أنه رأى فى سماء الدنيا النيل والفرات عنصرهما.

وظاهره يخالف حديث مالك بن صعصعة فإن فيه بعد ذكر سدرة المنتهى: فإذا فى أصلها أربعة أنهار. ويجمع بينهما: بأن أصل نبعهما من تحت سدرة المنتهى ومقرهما فى السماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض. ووقع فى هذه الرواية أيضا: ثم مضى به فى سماء الدنيا فإذا هو بنهر آخر، عليه قصور من لؤلؤ وزبرجد، وأنه الكوثر. وهو مما استشكل من رواية شريك، فإن الكوثر من الجنة، والجنة فوق السماء بالسابعة. ويحتمل أن يكون تقديره: ثم مضى فى السماء الدنيا إلى السابعة فإذا هو بنهر.

ثم إن فى قوله فى الحديث «افتح» دلالة على أنه صادف أبواب السماء مغلقة، والحكمة فى ذلك- والله أعلم- التنويه بقدره- صلى الله عليه وسلم، وتحقيق أن السماوات لم تفتح أبوابها إلا من أجله، ولو وجدها مفتوحة لم يتحرر أنها فتحت لأجله، فلما فتحت له تحقق- صلى الله عليه وسلم أن المحل مصون، وأن فتحه له كرامة وتبجيل.

وأما قوله فى الحديث: «أرسل إليه؟» وفى رواية «بعث إليه؟» فيحتمل أن يكون استفهم عن الإرسال إليه للعروج إلى السماء، وهو الأظهر لقوله:

«إليه» لأن أصل بعثته قد اشتهر فى الملكوت الأعلى.

(1) تقدمت رواية شريك أكثر من مرة.

ص: 461

وقيل: سألوه تعجبا من نعمة الله عليه بذلك، واستبشارا به، وقد علموا أن بشرا لا يترقى هذا الترقى إلا بإذن من الله تعالى، وأن جبريل لا يصعد إلا بمن أرسل إليه.

وقد قيل: إن الله تعالى أراد إطلاع نبيه على أنه معروف عند الملأ الأعلى، لأنهم قالوا: أبعث إليه؟ أو: أرسل إليه؟ فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له، وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد مثلا؟ ولذلك أجابوا بقولهم: مرحبا به ولنعم المجىء جاء، وكلامهم بهذه الصيغة أول دليل على ما ذكرناه من معرفتهم بجلالته وتحقيق رسالته، ولأن هذا أجل ما يكون من حسن الخطاب والترفيع، على المعروف من عادة العرب.

وأما قوله: «من معك؟» فيشعر بأنهم أحسوا به- صلى الله عليه وسلم، وإلا لكان السؤال بلفظ: أمعك أحد؟ وهذا الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة، وإما بأمر معنوى كزيادة أنوار ونحوها. قاله الحافظ ابن حجر. ولعله أخذه من كلام العارف ابن أبى جمرة، حيث قال فى «بهجته» : الثانى أن يكون سؤالهم له لما رأوا حين رأوا إقباله عليهم من زيادة الأنوار وغيرها من الماثر الحسان زيادة على ما يعهدونه منه. قال: وهذا هو الأظهر، كأنهم قالوا: من الشخص الذى من أجله هذه الزيادة معك؟ فأخبرهم بما أرادوا وهو تعيين الشخص باسمه حتى عرفوه، انتهى. وقد قال بعض العلماء: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «1» أنه رأى صورة ذاته المباركة فى الملكوت فإذا هو عروس المملكة.

وأما قولهم له: «مرحبا به ولنعم المجىء جاء» فيحتمل أن يكونوا قالوه لما عاينوه من بركاته- صلى الله عليه وسلم التى سبقته للسماء مبشرة بقدومه. وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: جاء فنعم المجىء مجيئه، وإنما لم يقل الخازن: مرحبا بك، بصيغة الخطاب، بل قال بصيغة الغيبة لأنه حياه قبل أن يفتح الباب، وقبل أن يصدر من النبى- صلى الله عليه وسلم خطاب، ويحتمل أن يكون حياه بصيغة الغيبة تعظيما له، لأن «هاء» الغيبة ربما كانت أفخم من كاف الخطاب.

وأما قوله فى الحديث: (فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعن يساره

(1) سورة النجم: 18.

ص: 462

أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبا بالنبى الصالح والابن الصالح، قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه. فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التى عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى) «1» .

فالأسودة: بوزن أزمنة، هى الأشخاص. والنسم: - بالنون والسين المهملة المفتوحتين- جمع نسمة، وهى الروح. وقد قال القاضى عياض: جاء أن أرواح الكفار فى سجين، وأن أرواح المؤمنين منعمة فى الجنة، يعنى:

فكيف تكون مجتمعة فى سماء الدنيا؟ وأجاب: بأنه يحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتا، فوافق عرضها مرور النبى- صلى الله عليه وسلم، ويدل على كونهم فى النار إنما هو فى أوقات دون أوقات، قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا «2» . واعترض: بأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء، كما هو نص القرآن «3» .

والجواب: ما أبداه هو احتمال أن الجنة كانت فى جهة يمين آدم، والنار فى جهة شماله: وكان يكشف له عنهما، ولا يلزم من رؤية آدم لها- وهو فى السماء- أن تفتح لهم أبواب السماء ولا تلجها.

وفى حديث أبى هريرة عند البزار: فإذا عن يمينه باب تخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب تخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر عن يمينه استبشر، وإذا نظر عن شماله حزن. وهذا- لو صح- لكان المصير إليه أولى من جميع ما تقدم «4» ، ولكن سنده ضعيف. قاله الحافظ ابن حجر.

(1) صحيح: أخرجه البخارى (349) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.

(2)

سورة غافر: 46.

(3)

يشير إلى قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [سورة الأعراف: 40] .

(4)

ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 69) وقال: رواه البزار ورجاله موثقون إلا أن الربيع بن أنس قال عن أبى العالية أو غيره فتابعيه مجهول.

ص: 463

وأما قوله فى الحديث: (ثم صعد بى، حتى أتى السماء الثانية، فقيل من هذا؟ قال: جبريل، ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم فقيل: مرحبا به، فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصنا إذا يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت عليهما فردا، ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح. إلى قوله: ثم صعد بى إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال:

مرحبا به، فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه فرد السلام وقال مرحبا بالابن الصالح) «1» .

فهذه الرواية موافقة لرواية ثابت عن أنس عند مسلم: أن فى السماء الأولى؛ آدم، وفى الثانية يحيى وعيسى، وفى الثالثة يوسف، وفى الرابعة إدريس، وفى الخامسة هارون وفى السادسة موسى وفى السابعة إبراهيم «2» .

وخالف فى ذلك ابن شهاب الزهرى فى روايته عن أنس عن أبى ذر- كما فى أول الصلاة من البخارى أيضا- أنه لم يثبت كيف منازلهم. وقال فيه: وإبراهيم فى السماء السادسة. وفى رواية شريك عن أنس أن إدريس فى الثانية وهارون فى الرابعة، وآخر فى الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم فى السادسة وموسى فى السابعة، بتفضيل كلام الله «3» . وسياقه يدل على أنه لم يضبط منازلهم كما صرح به الزهرى.

ورواية من ضبط أولى، ولا سيما فى اتفاق قتادة وثابت، وقد وافقهما يزيد بن أبى مالك عن أنس، إلا أنه خالف فى إدريس وهارون، فقال:

هارون فى الرابعة، وإدريس فى الخامسة «4» . ووافقهم أبو سعيد إلا أن فى

(1) تقدم.

(2)

تقدم.

(3)

تقدم.

(4)

صحيح: وقد تقدم.

ص: 464

روايته: يوسف فى الثانية، وعيسى ويحيى فى الثالثة. والمشهور فى الروايات:

أن الذى فى السابعة هو إبراهيم، وأكد ذلك فى حديث مالك بن صعصعة «1» : بأنه كان مسندا ظهره إلى البيت المعمور. فمع التعدد: لا إشكال.

ومع الاتحاد فقد جمع: بأن موسى كان حالة العروج فى السادسة وإبراهيم فى السابعة على ظاهر حديث مالك بن صعصعة. وعند الهبوط:

كان موسى فى السابعة، لأنه لم يذكر فى القصة أن إبراهيم كلمه فى شىء مما يتعلق بما فرض على أمته من الصلاة، كما كلمه موسى- عليه السلام، والسماء السابعة هى أول شىء انتهى إليه حالة الهبوط، فناسب أن يكون موسى بها، لأنه هو الذى خاطبه فى ذلك، كما ثبت فى جمع الروايات.

ويحتمل أن يكون لقى موسى فى السادسة فأصعد معه إلى السابعة تفضيلا له على غيره من أجل كلام الله تعالى، وظهرت فائدة ذلك فى كلامه مع نبينا فيما يتعلق بأمر أمته فى الصلاة. قاله فى فتح البارى. وقال: إن النووى أشار إلى شىء من ذلك.

وفى رواية شريك عن أنس فى قصة موسى: (لم أظن أن أحدا يرفع على)«2» . قال ابن بطال: فهم موسى- عليه السلام من اختصاصه بكلام الله تعالى له فى الدنيا دون غيره من البشر: لقوله تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي «3» أن المراد بالناس هنا: البشر كلهم، وأنه استحق بذلك أن لا يرفع عليه أحد، فلما فضل الله تعالى محمدا- صلى الله عليه وسلم بما أعطاه من المقام المحمود وغيره، ارتفع على موسى وغيره بذلك.

وفى حديث أبى سعيد قال موسى: يزعم بنو إسرائيل أنى أكرم على الله، وهذا أكرم على الله منى. زاد الأموى فى روايته: ولو كان هذا وحده هان، ولكن معه أمته، وهم أفضل الأمم عند الله.

(1) صحيح: وقد تقدم.

(2)

صحيح: وقد تقدم.

(3)

سورة الأعراف: 146.

ص: 465

وفى حديث مالك بن صعصعة: (فلما جاوزته- يعنى موسى- بكى، فنودى: ما يبكيك؟ قال: رب، هذا غلام بعثته بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتى)«1» .

ولم يكن بكاء موسى حسدا، معاذ الله، فإن الحسد فى ذلك العالم منزوع من آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان آسفا على ما فاته من الأجر الذى يترتب عليه رفع الدرجات له بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم، المستلزمة لتنقيص أجره، لأن لكل نبى بمثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه فى العدد دون من اتبع نبينا- صلى الله عليه وسلم، مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة.

وقال العارف ابن أبى جمرة: قد جعل الله تعالى فى قلوب أنبيائه- عليهم الصلاة والسلام- الرأفة والرحمة لأمتهم، وركبهم على ذلك، وقد بكى نبينا- صلى الله عليه وسلم فقيل له: ما يبكيك؟ قال: «هذه رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» «2» ، والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- قد أخذوا من رحمة الله أوفر نصيب، فكانت الرحمة فى قلوبهم لعباد الله أكثر من غيرهم، فلأجل ما كان لموسى- عليه السلام من الرحمة واللطف بكى إذ ذاك رحمة منه لأمته، لأن هذا وقت إفضال وجود وكرم، فرجا لعل أن يكون وقت القبول والإفضال فيرحم الله أمته ببركة هذه الساعة.

فإن قال قائل: كيف يكون هذا، وأمته لا تخلو عن قسمين: قسم مات على الإيمان، وقسم مات على الكفر، فالذى مات على الإيمان لابد له من دخول الجنة، والذى مات على الكفر لا يدخل الجنة أبدا، فبكاؤه لأجل ما ذكر لا يسوغ، لأن الحكم فيهم قد مرّ ونفذ.

قيل: إن الله تعالى قدر قدره على قسمين، فقدر قدرا وقدر أن ينفذ

(1) صحيح: وقد تقدم.

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (1284) فى الجنائز، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم: «يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه» ، ومسلم (923) فى الجنائز، باب: البكاء على الميت، من حديث أسامة بن زيد- رضى الله عنهما-.

ص: 466

على كل الأحوال، وقدر قدرا وقد أن لا ينفذ، ويكون رفعه بسبب دعاء أو صدقة أو غير ذلك، فلأجل ما ركب فى موسى- عليه السلام من اللطف والرحمة بالأمة طمع لعل أن يكون ما اتفق لأمته من القدر الذى قدره الله تعالى وقدر ارتفاعه بسبب الدعاء والتضرع إليه، وهذا وقت يرجى فيه التعطف والإحسان من الله تعالى، لأنه وقت أسرى فيه بالحبيب الكريم، ليخلع عليه خلع القرب والفضل الجسيم، فطمع الكليم لعل أن يلحق لأمته من هذا الخير العظيم نصيبا. وقد قال نبينا- صلى الله عليه وسلم:«إن لله نفحات فتعرضوا لنفحات الله» «1» .

وهذه نفحة من النفحات فتعرض لها موسى، فكان أمرا قد قدر، والأسباب لا تؤثر إلا بما سبقت القدرة بأنها فيه تؤثر، وما كان قضاء نافذا لا تؤثر فيه ولا ترده الأسباب، حتم قد لزم.

وفى بكائه- عليه السلام وجه آخر، وهو البشارة لنبينا- صلى الله عليه وسلم وإدخال السرور عليه، وذلك قول موسى- عليه السلام الذى هو أكثر الأنبياء أتباعا-: إن الذين يدخلون الجنة من أمة محمد- صلى الله عليه وسلم أكثر مما يدخلها من أمتى.

وأما قول موسى- عليه السلام: (لأن غلاما) ولم يقل غير ذلك من الصيغ، فإشارة إلى صغر سنة بالنسبة إليه. وفى القاموس: الغلام: الطار الشارب، والكهل ضده. وقال الخطابى: العرب تسمى الرجل المستجمع السن غلاما، ما دامت فيه بقية من القوة.

قال فى فتح البارى: ويظهر لى أن موسى- عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا من استمرار القوة فى الكهولة إلى أن دخل فى أول سن الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعتراه فى قوته نقص، حتى إن الناس فى قدومه المدينة لما رأوه مردفا أبا بكر، أطلقوا عليه اسم الشاب وعلى أبى بكر اسم الشيخ، مع كونه فى العمر أسن من أبى بكر والله أعلم، وقد ذكر ذلك فى الهجرة من المقصد الأول.

(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 231) عن أنس وقال: رواه الطبرانى وإسناد رجاله رجال الصحيح، غير عيسى بن موسى بن أياس بن البكير، وهو ثقة.

ص: 467

وقد وقع فى حديث أبى هريرة عند الطبرانى فى ذكر إبراهيم: فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسى «1» . وفى رواية مسلم من حديث ثابت عن أنس: ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فإذا أنا بإبراهيم- عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، وفيه: فإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أعطى شطر الحسن «2» .

وفى حديث أبى سعيد عند البيهقى، وأبى هريرة عند الطبرانى: فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله: قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وهذا ظاهره أن يوسف- عليه السلام كان أحسن من جميع الناس، لكن روى الترمذى من حديث أنس:«ما بعث الله نبيّا إلا حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجها وأحسنهم صوتا» «3» .

فعلى هذا يحمل حديث المعراج على أن المراد غير النبى- صلى الله عليه وسلم. ويؤيده قول من قال: إن المتكلم لا يدخل فى عموم خطابه. وحمل ابن المنير حديث الباب على أن المراد: أن يوسف أعطى شطر الحسن الذى أوتيه نبينا- صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله فى الحديث عن إدريس: ثم قال: (مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح) فيحمل على أخوة النبوة والإسلام، لأنها تجمع الوالد والولد، وقال ابن المنير: وفى طريق شاذة: مرحبا بالابن الصالح، وهذه هى القياس، لأنه جده الأعلى. وقيل: أن إدريس الذى لقيه ليس هو الجد المشهور، ولكنه إلياس، فإن كان كذلك ارتفع الإشكال.

فإن قلت: لم كان هؤلاء الأنبياء- عليهم السلام فى السماوات دون غيرهم من الأنبياء؟ وما وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء تخصه؟ ولم كان فى السماء الثانية بخصوصها اثنان.

(1) تقدم.

(2)

تقدم.

(3)

أخرجه ابن مردويه وأبو سعيد الأعرابى فى معجمه والخرائطى فى اعتلال القلوب، من حديث على- رضى الله عنه-، كما فى «كنز العمال» (18559) .

ص: 468

أجيب: عن الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، بأنهم أمروا بملاقات نبينا- صلى الله عليه وسلم، فمنهم من أدركه فى أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحقه، ومنهم من فاته. وقيل: إشارة إلى ما سيقع له- صلى الله عليه وسلم مع قومه، من نظير ما وقع لكل منهم:

فأما آدم- عليه السلام فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض، بما سيقع لنبينا- صلى الله عليه وسلم من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة، وكراهة فراق ما ألفه من الوطن، ثم كان عاقبة كل منهما أن يرجع إلى وطنه الذى خرج منه.

وبعيسى ويحيى- عليهما السلام على ما وقع له أول الهجرة من عداوة اليهود وتماديهم على البغى عليه، وإرادتهم السوء به.

وبيوسف، بما وقع له من إخوته على ما وقع لنبينا- صلى الله عليه وسلم من قريش، من نصبهم الحرب له، وإرادتهم إهلاكه، وكانت العاقبة له، وقد أشار- صلى الله عليه وسلم إلى ذلك يوم الفتح بقوله لقريش: «أقول لكم كما قال يوسف:

لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء» «1» ، أى العتقاء.

وبإدريس على رفيع منزلته عند الله تعالى.

وبهارون على أن قومه رجعوا إلى محبته بعد أن آذوه.

وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه، وقد أشار إلى ذلك- صلى الله عليه وسلم، بقوله:«لقد أوذى موسى بأكثر من هذا فصبر» «2» .

وبإبراهيم فى استناده إلى البيت المعمور بما ختم له- صلى الله عليه وسلم فى آخر عمره من إقامة مناسك الحج، وتعظيم البيت الحرام. وأجاب العارف ابن أبى

(1) ضعيف: رواه ابن الجوزى فى الوفاء من طريق ابن أبى الدنيا وفيه ضعف، قاله العراقى فى «تخريج أحاديث الإحياء» (3/ 179) .

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (3150) فى الخمس، باب: ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم (1062) فى الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، من حديث عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه-.

ص: 469

جمرة عن وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء: بأن الحكمة فى كون آدم فى السماء الدنيا لأنه أول الأنبياء وأول الآباء، وهو الأصل، ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة. وأما عيسى فإنما كان فى السماء الثانية لأنه أقرب الأنبياء إلى النبى- صلى الله عليه وسلم، ولا انمحت شريعة عيسى- عليه السلام إلا بشريعة محمد- صلى الله عليه وسلم، ولأنه ينزل فى آخر الزمان لأمة محمد- صلى الله عليه وسلم على شريعته ويحكم بها، ولهذا قال- صلى الله عليه وسلم:«أنا أولى الناس بعيسى» «1» فكان فى الثانية لأجل هذا المعنى.

وإنما كان يحيى- عليه السلام معه هناك لأنه ابن خالته، وهما كالشىء الواحد، فلأجل التزام أحدهما بالآخر كانا هناك معا.

وإنما كان يوسف- عليه السلام فى السماء الثالثة لأن على حسنه تدخل أمة محمد- صلى الله عليه وسلم الجنة، فأرى له هناك لكى يكون ذلك بشارة له- صلى الله عليه وسلم فيسر بذلك.

وإنما كان إدريس- عليه السلام فى السماء الرابعة لأنه هناك توفى ولم تكن له تربة فى الأرض على ما ذكر «2» .

وإنما كان هارون- عليه السلام فى السماء الخامسة لأنه ملازم لموسى- عليه السلام لأجل أنه أخوه وخليفته فى قومه، فكان هناك لأجل هذا المعنى.

وإنما لم يكن مع موسى فى السماء السادسة لأن لموسى مزيه وحرمة وهى كونه كليما، واختص بأشياء لم تكن لهارون فلأجل هذا المعنى لم يكن معه فى السادسة. وإنما كان موسى- عليه السلام فى السماء السادسة لأجل ما اختص به من الفضائل، ولأنه الكليم، وهو أكثر الأنبياء أتباعا بعد نبينا- صلى الله عليه وسلم.

وإنما كان إبراهيم- عليه السلام فى السماء السابعة لأنه الخليل والأب الأخير فناسب أن يتجدد للنبى- صلى الله عليه وسلم بلقياه أنس، لتوجهه بعده إلى عالم آخر،

(1) صحيح: أخرجه البخارى (3442) فى أحاديث الأنبياء، باب: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، ومسلم (2365) فى الفضائل، باب: فضائل عيسى- عليه السلام، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

(2)

قلت: وأين ذكر ذلك؟!.

ص: 470

وهو اختراق الحجب، وأيضا لأنه الخليل، ولا أحد أفضل من الخليل إلا الحبيب، والحبيب ها هو قد علا ذلك المقام فكان الخليل فوق الكل لأجل خلته وفضله، وارتفع الحبيب فوق الكل لأجل ما اختص به بما زاد به عليهم، قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ «1» فحصل لهم الكمال والدرجة الرفيعة وهى درجة الرسالة والنبوة، ورفعوا بعضهم فوق بعض بمقتضى الحكمة ترفيعا للمرفوع دون تنقيص بالمنزول. انتهى فليتأمل.

وقد اختلف فى رؤية نبينا- صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الأنبياء- عليهم السلام، فحمله بعضهم على رؤية أرواحهم إلا عيسى، لما ثبت من رفع جسده. وقد قيل فى إدريس أيضا ذلك.

وأما الذين صلوا معه فى بيت المقدس، فيحتمل، الأرواح خاصة، ويحتمل: الأجساد بأرواحها.

وقيل: يحتمل أن يكون- صلى الله عليه وسلم عاين كل واحد منهم فى قبره فى الأرض على الصورة التى أخبر بها من الموضع الذى ذكر أنه عاينه فيه، فيكون الله عز وجل قد أعطاه من القوة فى البصر والبصيرة ما أدرك به ذلك، ويشهد له رؤيته- صلى الله عليه وسلم الجنة والنار فى عرض الحائط وهو محتمل لأن يكون- صلى الله عليه وسلم رآهما فى ذلك الموضع أو مثل له صورتهما فى عرض الحائط، والقدرة الصالحة لكليهما.

وقيل: يحتمل أن يكون الله سبحانه وتعالى لما أراد بإسراء نبينا- صلى الله عليه وسلم، رفعهم من قبورهم لتلك المواضع إكراما لنبيه- صلى الله عليه وسلم وتعظيما له حتى يحصل له من قبلهم ما أشرنا إليه من الأنس والبشارة، وغير ذلك مما لم نشر إليه ولا نعلمه نحن. وكل هذه الوجوه محتمل، ولا ترجيح لأحدها على الآخر إذ القدرة صالحة لكل ذلك. انتهى.

وأما قوله فى الحديث: (ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل

(1) سورة البقرة: 253.

[ (2) تقدم.]

ص: 471

قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: وما هذا يا جبريل، قال: أما الباطنان فنهران فى الجنة، وأما الظاهران: فالنيل والفرات «2» .

وفى رواية عند البخارى أيضا: (فإذا فى أصلها- أى سدرة المنتهى- أربعة أنهار)«1» . وعند مسلم: (يخرج من أصلها)«2» وعنده أيضا من حديث أبى هريرة: (أربعة أنهار من الجنة: النيل والفرات وسيحان وجيحان)«3» فيحتمل: أن تكون سدرة المنتهى مغروسة فى الجنة، والأنهار تخرج من أصلها، فيصح أنها من الجنة. ووقع فى حديث شريك، كما عند البخارى فى التوحيد: أنه رأى فى السماء الدنيا نهرين يطردان، فقال له جبريل: هما النيل والفرات عنصرهما.

والجمع بينهما: أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهرى الجنة، ورآهما فى السماء الدنيا دون نهرى الجنة، وأراد ب «العنصر» عنصر انتشارهما بسماء الدنيا، كذا قاله ابن دحية. ووقع فى حديث شريك أيضا:

(ومضى به إلى السماء، وإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذى خبأ لك ربك)«4» .

وروى ابن أبى حاتم عن أنس أنه- صلى الله عليه وسلم بعد أن رأى إبراهيم قال: ثم انطلق بى على ظهر السماء السابعة، حتى انتهى إلى نهر عليه جام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد، وعليه طير خضر، أنعم طير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذى أعطاك ربك، فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجرى على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشد بياضا من اللبن، قال: فأخذت من آنيته فاغترفت من ذلك الماء فشربت، فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك.

وفى حديث أبى سعيد عند البيهقى: فإذا فيها عين تجرى يقال لها السلسبيل، فينشق منها نهران: أحدهما الكوثر، والآخر يقال له نهر الرحمة، وسيأتى مزيد لما ذكر هنا من الكوثر فى المقصد الأخير- إن شاء الله تعالى-.

(1) تقدم.

(2)

تقدم.

(3)

تقدم.

(4)

تقدم.

ص: 472

وقد وقع فى حديث ثابت عن أنس عند مسلم: (ثم ذهب بى إلى سدرة المنتهى، فإذا ورقها كاذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت. فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها)«1» .

وقد جاء فى حديث ابن مسعود عند مسلم أيضا بيان سبب تسميتها ب «سدرة المنتهى» ، ولفظه:(لما أسرى برسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: انتهى بى إلى سدرة المنتهى، وهى فى السماء السادسة، وإليها ينتهى ما يعرج من الأرض، فيقبض منها وإليها منتهى ما يهبط من فوقها فيقبض منها)«2» .

وهو معنى قول ابن أبى جمرة: لأن إليها تنتهى الأعمال، ومن هناك ينزل الأمر والنهى وتتلقى الأحكام، وعندها تقف الحفظة وغيرهم لا يتعدونها، فكانت منتهى، لأن إليها ينتهى ما يصعد من السفلى، وما ينزل من العالم العلوى من أمر العلى.

وقال النووى: لأن علم الملائكة ينتهى إليها. ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم. ولا يعارض قوله فى حديث ابن مسعود هذا، أنها فى السادسة، ما دل عليه بقية الأخبار أنه وصل إليها بعد أن دخل فى السماء السابعة، لأنه يحمل على أن أصلها فى السماء السادسة، وأغصانها وفروعها فى السابعة، وليس فى السادسة منها إلا أصل ساقها، قاله فى فتح البارى.

وجاء فى حديث أبى ذر عند البخارى فى الصلاة: (فغشيها ألوان لا أدرى ما هى)«3» .

وفى حديث ابن مسعود المذكور عند مسلم، (قال الله تعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى «4» قال: فراش من ذهب) «5» . وفى حديث يزيد بن أبى مالك عن أنس (جراد من ذهب) . قال البيضاوى: وذكر الفراش وقع على سبيل التمثيل، لأن من شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وجعلها من الذهب حقيقة، والقدرة صالحة لذلك.

(1) صحيح: وقد تقدم.

(2)

صحيح: وقد تقدم.

(3)

صحيح: وقد تقدم.

(4)

سورة النجم: 16.

(5)

صحيح: وقد تقدم.

ص: 473

وفى حديث أبى سعيد وابن عباس (فغشيها الملائكة) . وفى حديث على (وعلى كل ورقة منها ملك) . وفى رواية ثابت عن أنس عند مسلم (فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها)«1» . وفى رواية حميد عن أنس عند ابن مردويه: نحوه لكن قال:

تحولت ياقوتا، ونحو ذلك.

قال ابن دحية: واختيرت السدرة دون غيرها لأن فيها ثلاثة أوصاف:

ظل مديد وطعم لذيذ، ورائحة زكية، فكانت بمنزلة الإيمان الذى يجمع القول والعمل والنية، فالظل بمنزلة العمل، والطعم بمنزلة النية، والرائحة بمنزلة القول.

وقال العارف ابن أبى جمرة: وهل الشجرة مغروسة فى شىء أم لا؟

يحتمل الوجهين معا، لأن القدرة صالحة لكليهما. فكما جعل الله فى هذه الدار الأرض مقرا للشجر، كذلك يجعل الهواء لتلك مقرا، وكما رجع- صلى الله عليه وسلم يمشى فى الهواء كما كان يمشى فى الأرض، ولأن بالقدرة استقرت الأرض مع أنها على الماء، فلا مانع من أن تكون الشجرة فى الهواء، ويحتمل أن تكون مغروسة بأرض، وأن تكون من تراب الجنة، والله قادر على ما يشاء.

وأما قوله- صلى الله عليه وسلم فى الحديث: (ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال:«هى الفطرة التى أتت عليها» .

فيدل على أنه عرض عليه الآنية مرتين، مرة ببيت المقدس، ومرة عند وصوله سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة.

وأما الاختلاف فى عدد الآنية وما فيها، فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، ومجموعها أربعة أوان، فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التى رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى.

(1) صحيح: وقد تقدم.

ص: 474

ووقع فى حديث أبى هريرة عند الطبرى: سدرة المنتهى يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، ومن عسل مصفى. فلعله عرض عليه من كل نهر إناء وجاء عن كعب: أن نهر العسل نهر النيل، ونهر اللبن نهر جيحان، ونهر الخمر نهر الفرات، ونهر الماء نهر سيحان. ولنهر النيل فضائل ولطائف أفردها بالتأليف غير واحد من الأئمة. ووقع فى بعض الطرق: أنه- صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء فى السماوات.

وأما قوله- صلى الله عليه وسلم فى الحديث: (ثم رفع إلى البيت المعمور) . فمعناه أنه أرى له، وقد يحتمل أن يكون المراد الرفع والرؤية معا، لأنه قد يكون بينه وبين البيت المعمور عوالم حتى لا يقدر على إدراكه، فرفع إليه وأمد فى بصره وبصيرته حتى رآه.

وروى الطبرى من حديث ابن أبى عروبة عن قتادة قال: ذكر لنا أن النبى- صلى الله عليه وسلم قال: البيت المعمور مسجد فى السماء بحذاء الكعبة لو خرّ لخرّ عليها، يدخله سبعون ألف ملك كل يوم، إذا خرجوا منه لم يعودوا.

وفى هذا دليل عظيم على قدرة الله تعالى، وأنه لا يعجزه شىء ممكن، لأن هذا البيت المعمور يصلى فيه كل يوم هذا العدد العظيم منذ خلق الله تعالى الخلق إلى الأبد، ثم طائفة هذا اليوم لا ترجع إليه أبدا. ومع أنه قد روى أنه ليس فى السماوات ولا فى الأرض موضع شبر إلا وملك واضع جبهته هناك ساجدا، ثم البحار ما من قطرة إلا وبها ملك موكل، فإذا كانت السماوات والأرض والبحار هكذا، فهؤلاء الملائكة الذين يدخلون أين يذهبون؟ هذا من عظيم القدرة التى لا يشبهها شىء. وفى هذا دليل على أن الملائكة أكثر المخلوقات، لأنه إذا كان سبعون ألف ملك كل يوم تصلى فى البيت المعمور على ما تقدم، ثم لا يعودون، مع أن الملائكة فى السماوات والأرض والبحار.

وفى حديث أبى هريرة عند ابن مردويه وابن أبى حاتم: أن فى السماء

ص: 475

نهرا يقال له: الحيوان، يدخل جبريل كل يوم فينغمس فيه، ثم يخرج فينتفض، فيخرج منه سبعون ألف قطرة، يخلق الله من كل قطرة ملكا، فهم الذين يصلون فيه، أى فى البيت المعمور، ثم لا يعودون إليه. وإسناد ضعيف.

وذكر الإمام فخر الدين الرازى عند تفسير قوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ «1» أنه روى عن عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال: إن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة، يدخل فيه جبريل- عليه السلام كل سحر ويغتسل فيه، فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله، ثم ينتفض فيخلق الله من كل نقطة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا ثم لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة. وقد روى أن ثم ملائكة يسبحون الله تعالى، فيخلق الله بكل تسبيحة ملكا.

هذا ما عدا الملائكة التى للتعبد، وما عدا الملائكة الموكلين بالنبات والأرزاق، والحفظة، والملك الموكل بتصوير ابن آدم، والملائكة الذين ينزلون فى السحاب، والملائكة الذين يكتبون الناس يوم الجمعة، وخزنة الجنة، والملائكة الذين يتعاقبون، والذين يؤمنون على قراءة المصلى، والذين يقولون:

ربنا ولك الحمد، والذين يدعون لمنتظر الصلاة، والذين يلعنون من هجرت فراش زوجها.

وروى أن فى السماء الدنيا- وهى من ماء ودخان- ملائكة خلقوا من ماء وريح عليهم ملك يقال له الرعد، وهو ملك موكل بالسحاب والمطر، يقولون: سبحان ذى الملك والملكوت.

وأن فى الثانية ملائكة على ألوان شتى، رافعين أصواتهم يقولون:

سبحان ذى العزة والجبروت، وأن فيها ملكا نصف جسده من نار ونصف

(1) سورة النحل: 8.

ص: 476

جسده من ثلج، فلا النار تذيب الثلج، ولا الثلج يطفئ النار، وهو يقول: يا من ألف بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين.

وأن فى الثالثة- وهى من حديد- ملائكة ذوى أجنحة شتى ووجوه شتى وأصوات شتى، رافعى أصواتهم بالتسبيح يقولون: سبحانك أنت الحى الذى لا يموت، وهم صفوف قيام كأنهم بنيان مرصوص، لا يعرف أحدهم لون صاحبه من خشية الله.

وأن فى السماء الرابعة- وهى من نحاس- ملائكة يضعفون على ملائكة الثالثة، وكذلك كل سماء أكثر عددا من التى تليها، وأن ملائكة السماء الرابعة قيام وركوع وسجود على ألوان شتى من العبادة، يبعث الله الملك منهم إلى أمر من أموره، فينطلق الملك ثم ينصرف فلا يعرف صاحبه الذى إلى جنبه من شدة العبادة وهم يقولون: سبوح قدوس، ربنا الرحمن الذى لا إله إلا هو.

وأن فى الخامسة- وهى من فضة- ملائكة يزيدون على ملائكة الأربع سماوات، وهم سجود وركوع لم يرفعوا أبصارهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة قالوا: ربنا، لم نعبدك حق عبادتك.

وأن فى السماء السادسة- وهى من ذهب- جند الله الأعظم الكروبيون، لا يحصر عددهم إلا الله تعالى، وعليهم ملك له سبعون ألف ملك جنده، وكل ملك منهم جنوده سبعون ألف ملك، وهم الذين يبعثهم الله فى أموره إلى أهل الدنيا، رافعوا أصواتهم بالتسبيح والتهليل.

وأن فى السابعة- وهى ياقوتة حمراء- من الملائكة ما يزيدون على ما تقدم، وعليهم ملك مقدم على سبعمائة ألف ملك، منهم جنود مثل قطر السماء، وتراب الثرى والرمل والسهل، وعدد الحصى والورق، وعدد كل خلق فى السماوات والأرض، ويخلق الله تعالى فى كل يوم ما يشاء، وما يعلم جنود ربك إلا هو.

ص: 477

وأن حملة العرش ثمانية يتجاوبون، لكل ملك منهم وجوه شتى وأعين شتى فى جسده، لا يشبه بعضها بعضا، رافعة أصواتهم بالتهليل، ينظرون إلى العرش لا يفترون، لو أن الملك منهم نشر جناحيه لطبق الدنيا بريشة من جناحه، لا يعلم عددهم إلا الله.

وحملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت حسن رخيم، تقول أربعة منهم:

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، وتقول أربعة: سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك «1» .

وقد روى الطبرانى من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم لجبريل: «على أى شىء أنت؟» قال: على الريح والجنود، قال:«وعلى أى شىء ميكائيل؟» قال: على النبات والقطر، قال:«وعلى أى شىء ملك الموت؟» قال: على قبض الأرواح، الحديث، وفى إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى، وقد ضعف لسوء حفظه ولم يترك.

وروى الترمذى من حديث أبى سعيد مرفوعا: «وزيراى من أهل السماء: جبريل وميكائيل» الحديث. وروى النقاش أن إسرافيل أول من سجد من الملائكة، وأنه جوزى بولاية اللوح المحفوظ. وفى كتاب «العظمة» لأبى الشيخ ابن حيّان من ذلك العجب العجاب، وعندى منه الجزء الثانى. وقد وقعت فى غير رواية البخارى هنا زيادات فمنها:

ما وقع فى رواية أبى سعيد الخدرى عند البيهقى فى دلائله: ثم صعدت إلى السماء السابعة فإذا إبراهيم الخليل ساند ظهره إلى البيت المعمور، كأحسن الرجال، ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه وسلم على، وإذا بأمتى شطرين، شطر عليهم ثياب بيض كأنهم القراطيس، وشطر عليهم ثياب رمدة، قال:

فدخلت البيت المعمور ودخل معى الذين عليهم الثياب البيض، وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرمدة، فصليت أنا ومن معى فى البيت المعمور.

(1) لم أقف عليه.

ص: 478

وفى رواية الطبرانى: فإذا هو برجل أشمط جالس على باب الجنة على كرسى، وعنده قوم بيض الوجوه أمثال القراطيس، وقوم فى ألوانهم شىء، فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شىء، ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شىء، ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه وخرجوا وقد خلصت ألوانهم وصارت مثل ألوان البيض الوجوه، فقال: من هذا ومن هؤلاء الذين فى ألوانهم شىء، وما هذه الأنهار التى دخلوا فيها وقد صفت ألوانهم؟ قال: هذا أبوك إبراهيم أول من شمط على الأرض، وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، وأما هؤلاء النفر الذين فى ألوانهم شىء فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فتابوا فتاب الله عليهم، وأما الأنهار، فأولها رحمة، والثانية نعمة الله، والثالث وسقاهم ربهم شرابا طهورا.

وفى رواية البخارى فى الصلاة (ثم عرج بى حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام) الحديث «1» . والمستوى: المصعد. وصريف الأقلام: - بفتح الصاد المهملة- تصويتها حالة الكتابة.

والمراد: ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى. والقدر المكتوب قديم، وإنما الكتابة حادثة، وظاهر الأخبار أن اللوح المحفوظ فرغ من كتابته، وجف القلم بما فيه قبل خلق السماوات والأرض، وإنما هذه الكتابة فى صحف الملائكة كالفروع المنتسخة من الأصل، وفيها الإثبات والمحو على ما ذكر فى الآية. وذكر ابن القيم: أن الأقلام اثنا عشر قلما، وأنها متفاوتة فى الرتب:

فأعلاها وأجلها قدرا، قلم القدر السابق، الذى كتب الله به مقادير الخلائق، كما فى سنن أبى داود، عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله تعالى القلم، قال له: اكتب، قال:

(1) صحيح: أخرجه البخارى (349) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات فى الإسراء، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.

ص: 479

رب، وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شىء حتى تقوم الساعة» «1» فهذا أول قلم وأجلها، وقد قال غير واحد من أهل التفسير: إنه القلم الذى أقسم الله به.

والقلم الثانى: قلم الوحى.

والقلم الثالث: قلم التوقيع عن الله ورسوله.

والرابع: قلم طب الأبدان الذى تحفظ به صحتها.

والخامس: قلم التوقيع عن الملوك ونوابهم وبه تساس الممالك.

والسادس: قلم الحساب، وهو الذى تضبط به الأموال، مستخرجها ومصرفها ومقاديرها، وهو قلم الأرزاق.

والسابع: قلم الحكم الذى تثبت به الحقوق وتنفذ به القضايا.

والثامن: قلم الشهادة التى تحفظ به الحقوق.

والتاسع: قلم التعبير، وهو كاتب وحى المنام وتفسيره وتعبيره.

والعاشر: قلم تواريخ العالم ووقائعه.

والحادى عشر: قلم اللغة وتفاصيلها.

والثانى عشر: القلم الجامع، وهو قلم الرد على المبطلين، ودفع شبه المحرفين «2» .

فهذه الأقلام التى بها انتظام مصالح العالم. قال: ويكفى فى جلالة القلم أنه لم تكتب كتب الله إلا به وأنه تعالى أقسم به فى كتابه. انتهى ملخصا من كتاب «أقسام القرآن» .

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (4700) فى السنة، باب: فى القدر، والترمذى (2155) ، فى القدر، باب: رقم (16) ، و (3319) فى التفسير، باب: ومن سورة نون والقلم، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

(2)

قلت: هذا التقسيم ليس عليه دليل صحيح إلا محض الرأى.

ص: 480

وقد وقع فى رواية أبى ذر عند مسلم وغيره من الزيادة أيضا: (ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك) الحديث «1» .

والجنابذ: - بالجيم ثم النون المفتوحتين ثم ألف ثم موحدة ثم ذال معجمة- هى القباب. ويؤيده ما فى «التفسير» من البخارى من حديث قتادة عن أنس: (لما عرج به- صلى الله عليه وسلم قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ «2» .

وأما ما فى «كتاب الصلاة» من البخارى (وإذا فيها حبائل اللؤلؤ)«3» - بالمهملة والموحدة وآخره لام- فقال القاضى عياض وغيره: هو تصحيف. وفى حديث الإمام أحمد من رواية حذيفة: (فتحت لهما أبواب السماء، قال: فرأيت الجنة والنار)«4» . وفى حديث أبى سعيد: أنه عرضت عليه الجنة، وأن رمانها كأنه الدلاء، وإذا طيرها كأنه البخت، وأنه عرضت عليه النار، فإذا هى لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها. ووقع عند مسلم من طريق همام عن قتادة عن أنس:(بينا أنا أسير فى الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، وإذا طينه مسك أذفر، فقال جبريل: هذا الكوثر) .

وفى رواية أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: أن إبراهيم- عليه السلام قال للنبى- صلى الله عليه وسلم يا بنى، إنك لاق ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك فى أمتك فافعل.

ووقع فى حديث أبى سعيد الخدرى، عند البيهقى: ثم صعد بى إلى السماء السابعة، قال: ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا كل ورقة منها تغطى هذه الأمة، وإذا فيها عين تجرى يقال لها: السلسبيل، فيشق منها نهران، أحدهما الكوثر، والآخر يقال له: الرحمة، فاغتسلت فيه فغفر لى ما تقدم من ذنبى وما تأخر، ثم رفعت إلى الجنة، فاستقبلتنى جارية، فقلت: لمن أنت يا جارية؟ قالت: لزيد بن حارثة. وفيه: فإذا رمانها أنه الدلاء عظاما، ثم

(1) صحيح: أخرجه البخارى (349) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات فى الإسراء، ومسلم (163) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.

(2)

تقدم.

(3)

تقدم.

(4)

تقدم.

ص: 481

عرضت على النار، فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته، لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتها، ثم أغلقت دونى.

وفى الطبرانى من حديث عائشة: لما كان ليلة أسرى بى إلى السماء، أدخلت الجنة، فوقفت على شجرة من أشجار الجنة لم أر فى الجنة أحسن منها، ولا أبيض منها، ولا أطيب منها ثمرة، فتناولت ثمرة من ثمارها فأكلتها فصارت نطفة فى صلبى، فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة. وهو حديث ضعيف «1» . وفيه التصريح بأن الإسراء كان قبل ولادة فاطمة، وهى ولدت قبل النبوة بسبع سنين وشىء، ولا ريب أن الإسراء كان بعد النبوة.

وذكر أبو الحسن بن غالب، فيما تكلم فيه على أحاديث الحجب السبعين والسبعمائة والسبعين ألف حجاب وعزاها لأبى الربيع بن سبع فى شفاء الصدور من حديث ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال بعد أن ذكر مبدأ حديث الإسراء، كما ورد فى الأمهات:

أتانى جبريل وكان السفير بى إلى ربى، إلى أن انتهى إلى مقام ثم وقف عند ذلك، فقلت: يا جبريل، فى مثل هذا المقام يترك الخليل خليله؟ فقال:

إن تجاوزته احترقت بالنور، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، هل لك من حاجة؟ قال: يا محمد، سل الله أن أبسط جناحى على الصراط لأمتك حتى يجوزوا عليه، قال النبى- صلى الله عليه وسلم: ثم زج بى فى النور زجا، فخرق بى إلى السبعين ألف حجاب، ليس فيها حجاب يشبه حجابا، وانقطع عنى حس كل إنسى وملك، فلحقنى عند ذلك استيحاش، فعند ذلك نادانى مناد بلغة أبى بكر: قف إن ربك يصلى، فبينا أنا أتفكر فى ذلك فأقول: هل سبقنى أبو بكر؟ فإذا النداء من العلى الأعلى، ادن يا خير البرية، ادن يا محمد ادن يا محمد، ليدن الحبيب، فأدنانى ربى حتى كنت كما قال تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «2» . قال: وسألنى ربى فلم أستطع أن

(1) قلت: بل موضوع.

(2)

سورة النجم: 8، 9.

ص: 482

أجيبه، فوضع يده بين كتفى- بلا تكييف ولا تحديد- فوجدت بردها بين ثديى، فأورثنى علم الأولين والآخرين، وعلمنى علوما شتى، فعلم أخذ على كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله أحد غيرى، وعلم خيرنى فيه، وعلمنى القرآن فكان جبريل- عليه السلام يذكرنى به، وعلم أمرنى بتبليغه إلى العام والخاص من أمتى. ولقد عاجلت جبريل- عليه السلام فى آية نزل بها على، فعاتبنى ربى وأنزل على وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «1» ، ثم قلت: اللهم إنه لما لحقنى استيحاش قبل قدومى عليك سمعت مناديا ينادى بلغة تشبه لغة أبى بكر فقال لى: قف إن ربك يصلى «2» ، فعجبت من هاتين، هل سبقنى أبو بكر إلى المقام؟ وإن ربى لغنى عن أن يصلى، فقال تعالى: أنا الغنى عن أن أصلى لأحد، وإنما أقول:

سبحانى سبحانى، سبقت رحمتى غضبى، اقرأ يا محمد: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «3» ، فصلاتى رحمة لك ولأمتك، وأما أمر صاحبك يا محمد، فإن أخاك موسى كان أنسه بالعصا، فلما أردنا كلامه قلنا: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ «4» ، وشغل بذكر العصا عن عظيم الهيبة. وكذلك أنت يا محمد، لما كان أنسك بصاحبك أبى بكر وأنك خلقت أنت وهو من طينة واحدة، وهو أنيسك فى الدنيا والآخرة، خلقنا ملكا على صورته يناديك بلغته ليزول عنك الاستيحاش، فلا يلحقك من عظيم الهيبة ما يقطعك عن فهم ما يراد منك. ثم قال الله تعالى: وأين حاجة جبريل؟ فقلت: اللهم إنك أعلم، فقال: يا محمد، قد أجبته فيما سأل، ولكن فيمن أحبك وصحبك.

(1) سورة طه: 114.

(2)

حديث باطل مكذوب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وكان أولى بالمؤلف أن يضرب عليه، ويكتفى بما ثبت فى موضوع الإسراء عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم، ففيه الغنية عن كل ضعيف وموضوع.

(3)

سورة الأحزاب: 43.

(4)

سورة طه: 17، 18.

ص: 483

وفى رواية: فتقدمت وجبريل على أثرى، حتى انتهى بى إلى حجاب فراش الذهب فحرك الحجاب، فقيل من هذا؟ قال: أنا جبريل ومعى محمد- صلى الله عليه وسلم فقال الملك: الله أكبر، فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملنى فوضعنى بين يديه فى أسرع من طرفة عين، وغلظ الحجاب مسيرة خمسمائة عام، فقال لى: تقدم يا محمد، فمضيت فانطلق بى الملك فى أسرع من طرفة عين إلى حجاب اللؤلؤ، فحرك الحجاب، فقال الملك من وراء الحجاب: من هذا؟ فقال أنا فلان صاحب حجاب الذهب، وهذا محمد- صلى الله عليه وسلم رسول رب العزة معى، فقال: الله أكبر، فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملنى حتى وضعنى بين يديه، فلم أزل كذلك من حجاب إلى حجاب، حتى جاوزت سبعين حجابا، غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام، فقال لى: تقدم يا محمد، فمضيت فانطلق بى الملك، ثم دلى لى رفرف أخضر يغلب ضوؤه ضوء الشمس، فالتمع بصرى، ووضعت على ذلك الرفرف، ثم احتملت حتى وصلت إلى العرش، فأبصرت أمرا عظيما لا تناله الألسن، ثم دلى لى قطرة من العرش، فوقعت على لسانى، فما ذاق الذائقون شيئا قط أحلى منها، فأنبأنى الله بها نبأ الأولين والآخرين، ونور قلبى، وغشى نور عرشه بصرى فلم أر شيئا فجعلت أرى بقلبى ولا أرى بعينى، ورأيت من خلفى ومن بين كتفى، كما رأيت أمامى، الحديث. رواه والذى قبله فى كتاب «شفاء الصدور» كما ذكره ابن غالب والعهدة عليه فى ذلك.

وتكثير الحجب لم يرد فى طريق صحيح، ولم يصح فى ذلك غير ما فى مسلم:(حجابه النور)«1» . والرفرف: البساط، وقيل إنه فى الأصل ما كان من الديباج وغيره رقيقا حسن الصنعة ثم اتسع فيه.

واعلم أن ما ذكر فى هذا المحل الرفيع من الحجب فهو فى حق المخلوق، لا فى حق الخالق عز وجل، والله سبحانه وتعالى منزه عما

(1) صحيح: وورد ذلك فى حديث أخرجه مسلم (179) فى الإيمان، باب: فى قوله- عليه السلام: «إن الله لا ينام» ، وفى قوله:«حجابه النور» ، من حديث أبى موسى- رضى الله عنه-.

ص: 484

يحجب، إذ الحجب إنما تحيط بمقدر محسوس، فالخلق كلهم محجوبون عنه تعالى بمعانى الأسماء والصفات والأفعال، وسائر المخلوقات من معانى الأنوار والظلمات كل له مقام من الحجب معلوم، وحظ من الإدراك والمعرفة مقسوم، وأقرب الخلق إلى الله تعالى الملائكة الحافون والكروبيون، وهم محجوبون بنور المهابة والعظمة والكبرياء والجلال والقدس والقيومية، حجب الذات بالصفات. وهم فى الحجب عنه على طبقات مختلفات، كل على مقام معلوم ودرجات.

وبالجملة، فالمخلوقات كلها ما كانت حجابا عن الخالق؟ فقوم حجبوا برؤية النعم عن المنعم، وبرؤية الأحوال عن المحول، وبرؤية الأسباب عن المسبب، وقوم حجبوا بالعلم عن المعلم وبالفهم عن المفهم، وبالعقل عن المعقل، وذلك كله من معنى حجاب النعم عن المنعم، والمواهب عن الواهب.

وقوم حجبوا بالشهوات المباحة، وقوم بالشهوات المحرمات والمعاصى والسيئات، وقوم حجبوا بالمال والبنين وزينة الحياة الدنيا. اللهم لا تحجب قلوبنا عنك فى الدنيا ولا أبصارنا عنك فى الآخرة يا كريم.

وقد ورد فى الصحيح عن أنس قال: (لما عرج بى جبريل إلى سدرة المنتهى. ودنا الجبار رب العزة جل جلاله فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى)«1» الحديث.

وهذا الدنو والتدلى المذكور فى هذا الحديث وغيره من أحاديث المعراج غير الدنو والتدلى المذكور فى قوله تعالى فى سورة النجم: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «2» . وإن اتفقا فى اللفظ. فإن الصحيح أن المراد فى الآية جبريل، لأنه الموصوف بما ذكر من أول السورة إلى قوله:

وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى «3» . هكذا فسره النبى- صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح.

(1) صحيح: أخرجه البخارى (7517) فى التوحيد، باب: قوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً.

(2)

سورة النجم: 8، 9.

(3)

سورة النجم: 13، 14.

ص: 485

قالت عائشة- رضى الله عنها-: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال:

«ذاك جبريل لم أره فى صورته التى خلق عليها إلا مرتين» «1» . ولفظ القرآن لا يدل على غير ذلك من وجوه.

أحدها: أنه قال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «2» . وهذا جبريل الذى وصفه بالقوة فى سورة التكوير.

الثانى: أنه قال: ذُو مِرَّةٍ «3» أى حسن الخلق وهو الكريم الذى فى سورة التكوير.

الثالث: أنه قال: فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى «4» وهو ناحية السماء العليا، وهذا استواء جبريل- عليه السلام، وأما استواء الرب جل جلاله فعلى عرشه.

الرابع: أنه قال: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «5» فهذا دنو جبريل وقد نزل إلى الأرض حيث كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم بها. وأما الدنو والتدلى فى حديث المعراج فرسول الله- صلى الله عليه وسلم كان فوق السماوات فهناك دنى الجبار جل جلاله منه وتدلى.

الخامس: أنه قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى «6» والذى عند سدرة المنتهى قطعا هو جبريل، وبهذا فسره النبى- صلى الله عليه وسلم فقال:

ذاك جبريل.

السادس: أن نفس الضمير فى قوله: وَلَقَدْ رَآهُ «7» وقوله: دَنا

(1) صحيح: أخرجه مسلم (177) فى الإيمان، باب: معنى قول الله عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى.

(2)

سورة النجم: 5.

(3)

سورة النجم: 6.

(4)

سورة النجم: 6، 7.

(5)

سورة النجم: 8، 9.

(6)

سورة النجم: 13، 14.

(7)

سورة النجم: 13.

ص: 486

فَتَدَلَّى «1» وقوله: فَاسْتَوى «2» وقوله: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى «3» واحد، فلا يجوز أن يخالف بين المفسرين من غير دليل.

السابع: أنه سبحانه وتعالى أخبر أن هذا الذى دنا فتدلى كان بالأفق الأعلى، وهو أفق السماء، بل تحتها فدنا من الأرض فتدلى من رسول الله- صلى الله عليه وسلم، ودنو الرب تبارك وتدليه- على ما فى حديث شريك- كان فوق العرش لا إلى الأرض.

ثم نفى سبحانه وتعالى عن نبيه- صلى الله عليه وسلم بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «4» ما يعرض للرائى الذى لا أدب له بين يدى الملوك والعظماء من التفاته يمينا وشمالا، ومجاوزة بصره لما بين يديه، وأخبر عنه بكمال الأدب فى ذلك المقام وفى تلك الحضرة إذ لم يلتفت جانبا ولم يمد بصره إلى غير ما أرى من الآيات، وما هناك من العجائب، بل قام مقام العبد الذى أوجب أدبه إطراقه وإقباله على ما أريه دون التفاته إلى غيره ودون تطلعه إلى ما لم يره مع ما فى ذلك من ثبات الجأش وسكون القلب وطمأنينته، وهذا غاية الكمال.

وقال فى «مدارج السالكين» : وفى هذه الآية أسرار عجيبة هى من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر، - صلوات الله وسلامه عليه-، تواطأ هناك بصره وبصيرته وتوافقا وتصادقا، فما شاهده بصره فالبصيرة مواطئة له، وما شاهدته بصيرته فهو أيضا حق مشهود بالبصر، فتواطأ فى حقه، أى: ما كذب الفؤاد ما رآه ببصره، ولهذا قرأها هشام وأبو جعفر ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «5» بتشديد الذال، أى لم يكذب القلب البصر بل صدقة وواطأه بصحة الفؤاد والبصر، وكون المرئى المشاهد بالبصر والبصيرة حقّا. وقرأ الجمهور ما كَذَبَ الْفُؤادُ «6» بالتخفيف، وهو متعد، و «ما رأى» مفعوله، أى: أى ما كذب قلبه ما رأت عيناه بل واطأه ووافقه.

(1) سورة النجم: 8.

(2)

سورة النجم: 6.

(3)

سورة النجم: 7.

(4)

سورة النجم: 17.

(5)

سورة النجم: 11.

(6)

سورة النجم: 11.

ص: 487

فلمواطأة قلبه لقالبه، وظاهره لباطنه، وبصره لبصيرته، لم يكذب الفؤاد البصر، ولم يتجاوز البصر حده، ولم يمل عن المرئى فيزيغ، بل اعتدل البصر على المرئى لم يتجاوزه ولا مال عنه لما اعتدل القلب فى الإقبال على الله بكليته والإعراض عما سواه، فإنه أقبل على الله بكليته وأعرض عما سواه، بكليته.

وللقلب زيغ وطغيان، كما أن للبصر زيغا وطغيانا وكلاهما منتف عن قلبه وبصره، فلم يزغ قلبه التفاتا عن الله إلى غيره ولم يطغ بمجاوزته مقامه الذى أقيم فيه، وهذا غاية الكمال والأدب مع الله تعالى الذى لا يلحقه فيه سواه، فإن عادة النفوس إذا أقيمت فى مقام عال رفيع أن تتطلع إلى ما هو أعلى منه وفوقه، ألا ترى إلى موسى- عليه السلام، لما أقيم مقام التكليم والمناجاة طلبت نفسه الرؤية، ونبينا- صلى الله عليه وسلم لما أقيم فى ذلك المقام وفاه حقه، ولم يتلفت بصره ولا قلبه إلى غير ما أقيم فيه البتة، ولأجل هذا ما عاقه عائق، ولا وقف به مراد، حتى جاوز السماوات السبع فلم تعقه إرادة منه لشىء، ولم تقف به دون كمال العبودية همة، ولهذا كان مركوبه فى مسراه يسبق خطوه الطرف، فيضع قدمه عند منتهى طرفه، مشاكلا لحال راكبه وبعد شأوه الذى يسبق به العالم أجمع فى سيره، فكان قدم البراق لا يتخلف عن موضع نظره، كما كان قدمه- صلى الله عليه وسلم لا يتخلف عن محل معرفته.

فلم يزل- صلى الله عليه وسلم فى خفارة كمال أدبه مع الله سبحانه، وتكميل مرتبة عبوديته له، حتى خرق حجب السماوات، وجاوز السبع الطباق، وجاوز سدرة المنتهى، ووصل إلى محل من القرب سبق به الأولين والآخرين، فانصبت له هناك أقسام القرب انصبابا، وانقشعت سحائب الحجب ظاهرا وباطنا حجابا حجابا، وأقيم مقاما غبطه فيه الأنبياء والمرسلون.

فإذا كان فى المعاد أقيم مقاما من القرب تاما، يغبطه فيه الأولون والآخرون، واستقام هناك على صراط مستقيم من كمال أدبه مع الله تعالى، ما زاغ البصر وما طغى، فأقامه فى هذا العالم على أقوم صراط على الحق

ص: 488

والهدى، وأقسم بكلامه القديم على ذلك فى الذكر الحكيم فقال: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «1» فإذا كان يوم المعاد أقامه على الصراط، فيسأل السلامة لأتباعه وأهل سنته، حتى يجوزوا إلى جنات النعيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

ثم إن ما ذكر هنا من القرب والدنو، المراد به تأكيد المحبة والقربة، ورفع المنزلة والرتبة، قال جعفر الصادق: لما قرب الحبيب من الحبيب غاية القرب، نالته غاية الهيبة، فلاطفه الحق تعالى بغاية اللطف، وذلك قوله جل جلاله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى

«2» أى كان ما كان وجرى ما جرى، وقال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب للحبيب: وألطف به إلطاف الحبيب بالحبيب، فخفى السر ولم يطلع عليه أحد، ما أوحى إلا الذى أوحى.

وقال غيره فى قوله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى

«3» أبهمه لعظمه، فإن الإبهام قد يقع للتعظيم، فهو مبهم لا يطلع عليه بل يتعبد بالإيمان به.

وقيل: بل هو مفسر بالأخبار الواردة، قال سعيد بن جبير: أوحى الله تعالى إليه- صلى الله عليه وسلم، ألم أجدك يتيما فاويتك، ألم أجدك ضالا فهديتك، ألم أجدك عائلا فأغنيتك، أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ «4» . وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.

ذكره الثعلبى والقشيرى. وقيل: أوحى الله إليه: خصصتك بحوض الكوثر، فكل أهل الجنة أضيافك بالماء، ولهم الخمر واللبن والعسل. ذكره القشيرى.

وذكر أيضا: أنه أوحى إليه ما أوحى إلى الرسل لقوله تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ «5» . وقيل: أوحى إليه الصلوات الخمس.

(1) سورة يس: 1- 4.

(2)

سورة النجم: 10.

(3)

سورة النجم: 10.

(4)

سورة الشرح: 1- 4.

(5)

سورة فصلت: 43.

ص: 489

وفى رواية أبى سعيد الخدرى عند البيهقى: أن الله تعالى قال له- صلوات الله وسلامه عليه-: سل، فقال: إنك اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته ملكا عظيما، وكلمات موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما، وألنت له الحديد، وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكا عظيما، وسخرت له الإنس والجن والشياطين، وسخرت له الرياح، وأعطيته ملكا لا ينبغى لأحد من بعده، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذنك، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم، فلم يكن له عليهما سبيل. فقال له ربه تعالى: قد اتخذتك حبيبا، فهو مكتوب فى التوراة: حبيب الرحمن وأرسلتك إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معى، وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس، وجعلت أمتك أمة وسطا، وجعلت أمتك هم الأولون وهم الآخرون، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدى ورسولى، وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم، وجعلتك أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا وأولهم يقضى له، وأعطيتك سبعا من المثانى لم أعطها نبيّا قبلك، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشى لم أعطها نبيّا قبلك، وأعطيتك الكوثر وأعطيتك ثمانية أسهم: الإسلام والهجرة والجهاد والصلاة والصدقة وصوم رمضان والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وجعلتك فاتحا وخاتما. وفى إسناده أبو جعفر الرازى ضعفه بعضهم، وقال أبو زرعة: إنه متهم، وقال ابن كثير: الأظهر أنه سىء الحفظ.

وذكر الفخر الرازى عن والده قال: سمعت أبا القاسم سليمان الأنصارى يقول: لما وصل محمد- صلى الله عليه وسلم إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة فى المعارج، أوحى الله تعالى إليه: يا محمد بم شرفك؟ قال: يا رب، بنسبتى إليك بالعبودية. فأنزل الله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا «1» فسماه تعالى بهذا الاسم لتحققه- صلى الله عليه وسلم بالاسم الأعظم واتصافه

(1) سورة الإسراء: 1.

ص: 490

بجميع صفاته، فلا يصلح هذا الاسم بالحقيقة إلا له- صلى الله عليه وسلم وللأقطاب من بعده بتبعيته لا بالحقيقة، وإن أطلق على غيره مجازا، ويرحم الله الأديب برهان الدين القيراطى فلقد أجاد حيث قال:

ودعتنى بالعبد يوما فقالوا

قد دعته بأشرف الأسماء

ولبعض أهل الإشارات: كأن الله تعالى قال له: يا محمد، قد أعطيتك نورا تنظر به جمالى، وسمعا تسمع به كلامى، يا محمد، إنى أعرفك بلسان الحال معنى عروجك إلى، يا محمد، أرسلتك إلى الناس شاهدا ومبشرا ونذيرا، والشاهد مطالب بحقيقة ما يشهد به، فأريك جنتى لتشاهد ما أعددت فيها لأوليائى، وأريك نارى لتشاهد ما أعددت فيها لأعدائى، ثم أشهدك جلالى، وأكشف لك جمالى لتعلم أنى منزه فى كمالى عن الشبيه والنظير، والوزير والمشير، فرآه- صلى الله عليه وسلم بالنور الذى قواه من غير إدراك ولا إحاطة فردا صمدا، لا فى شىء، ولا من شىء، ولا قائما بشىء، ولا على شىء، ولا مفتقرا إلى شىء، ليس كمثله شىء «1» ، فلما كلمه شفاها، وشاهده كفاحا، فقيل له: يا محمد لا بد لهذه الخلوة من سر لا يذاع ورمز لا يشاع، فأوحى إلى عبده ما أوحى، فكان سرّا من سر، لم يقف عليه ملك مقرب ولا نبى مرسل، وأنشد لسان الحال:

بين المحبين سر ليس يفشيه

قول ولا قلم فى الكون يحكيه

سر يمازجه أنس يقابله

نور تحير فى بحر من التيه

ولما انتهى إلى العرش تمسك العرش بأذياله، وناداه بلسان حاله: يا محمد، أنت فى صفاء وقتك من مقتك أشهدك جمال أحديته، وأطلعك على جلال صمديته، وأنا الظمان إليه اللهفان عليه المتحير فيه لا أدرى من أى وجه آتيه، جعلنى أعظم خلقه، فكنت أعظمهم منه هيبة، وأكثرهم فيه حيرة، وأشدهم منه خوفا. يا محمد، خلقنى فكنت أرعد لهيبة جلاله، فكتب على قائمتى، لا إله إلا الله فازددت لهيبة اسمه ارتعادا وارتعاشا، فكتب محمد

(1) هذا يتنافى مع خبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم أنه لم ير ربه فى الحياة الدنيا.

ص: 491

رسول الله، فسكن لذلك قلقى، وهدأ روعى، فكان اسمك لقاحا لقلبى، وطمأنينة لسرى، فهذه بركة كتابة اسمك على، فكيف إذا وقع جميل نظرك إلى، يا محمد أنت المرسل رحمة للعالمين، ولا بد لى من نصيب من هذه الرحمة، ونصيبى يا حبيبى أن تشهد لى بالبراءة مما نسبه أهل الزور إلى، وتقوله أهل الغرور على، زعموا: أنى أسع من لا مثيل له، وأحيط بمن لا كيفية له. يا محمد، من لا حدّ لذاته، ولا عدّ لصفاته كيف يكون مفتقرا إلى؟ أو محمولا على؟ إذا كان الرحمن اسمه، والاستواء صفته وصفته متصلة بذاته فكيف يتصل بى أو ينفصل عنى؟ يا محمد، وعزته، لست بالقريب منه وصلا، ولا بالبعيد عنه فصلا، ولا بالمطيق له حملا، أو جدنى رحمة منه وفضلا، ولو محقنى لكان حقّا منه، وعدلا، يا محمد، أنا محمول قدرته، ومعمول حكمته.

فأجاب لسان حال سيدى، زاده الله فضلا وشرفا لديه، ووالى صلاته وسلامه عليه: أيها العرش إليك عنى، أنا مشغول عنك، فلا تكدر على صفوتى، ولا تشوش على خلوتى، فما أعاره- صلى الله عليه وسلم منه طرفا، ولا أقرأه من مسطور ما أوحى إليه حرفا، ما زاغ البصر وما طغى.

وقد ورد فى بعض أخبار الإسراء مما ذكره العلامة ابن مرزوق فى شرحه لبردة المديح: أنه- صلى الله عليه وسلم لما كان من ربه تعالى قاب قوسين قال: اللهم إنك عذبت الأمم بعضهم بالحجارة وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالمسخ، فما أنت فاعل بأمتى؟ قال: أنزل عليهم الرحمة وأبدل سيئاتهم حسنات، ومن دعانى منهم لبيته، ومن سألنى أعطيته، ومن توكل على كفيته، وفى الدنيا أستر على العصاة، وفى الآخرة أشفعك فيهم، ولولا أن الحبيب يحب معاتبة حبيبه لما حاسبت أمتك. ولما أراد- صلى الله عليه وسلم الانصراف قال: يا رب، لكل قادم من سفره تحفة، فما تحفة أمتى؟ قال الله تعالى: أنا لهم ما عاشوا، وأنا لهم إذا ماتوا، وأنا لهم فى القبور، وأنا لهم فى النشور.

واعلم أنه قد اختلف العلماء قديما وحديثا فى رؤيته- صلى الله عليه وسلم لربه ليلة

ص: 492

الإسراء. فروى البخارى من حديث مسروق قال: (قلت لعائشة: يا أمتاه، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعرى مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدث لهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ «1» وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «2» ومن حدثك أنه يعلم ما فى غد فقد كذب، ثم قرأت وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً «3» ومن حدثك أنه كتم فقد كذب، ثم قرأت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «4» الآية، [ولكن] رأى جبريل فى صورته مرتين) .

وفى رواية مسلم (من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية)«5» .

وقولها: «قف شعرى» أى قام من الفزع، لما حصل عندها من هيبة الله، واعتقدته من تنزيهه واستحالة وقوع ذلك. قال النووى- تبعا لغيره-: لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديث مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصحابى إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقا، انتهى.

قال الحافظ أبو الفضل العسقلانى: جزمه بأن عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع، تبع فيه ابن خزيمة، وهو عجيب، فقد ثبت عنها فى صحيح مسلم- الذى شرحه الشيخ- فعنده من طريق داود بن أبى هند عن الشعبى عن مسروق، فى الطريق المذكورة، قال مسروق: وكنت متكئا فجلست، فقلت: ألم يقل الله: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى «6» .

(1) سورة الأنعام: 103.

(2)

سورة الشورى: 51.

(3)

سورة لقمان: 34.

(4)

سورة المائدة: 67.

(5)

صحيح: وقد تقدم.

(6)

سورة النجم: 13.

ص: 493

فقالت: أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم عن هذا فقلت: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال: لا، إنما رأيت جبريل منهبطا.

نعم، احتجاج عائشة- رضى الله عنها- بالآية، خالفها فيه ابن عباس. فأخرج الترمذى من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال:(رأى محمد ربه، فقلت: أليس يقول الله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «1» قال: ويحك، ذاك إذا تجلى بنوره الذى هو نوره، وقد رأى ربه مرتين)«2» . وقال القرطبى:

«الأبصار» فى الآية جمع محلى بالألف واللام، فيقبل التخصيص، وقد ثبت دليل ذلك سمعا فى قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «3» فيكون المراد: الكفار، بدليل قوله فى الآية الآخرى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «4» ، وإذا جازت فى الآخرة جازت فى الدنيا لتساوى الوقتين بالنسبة إلى المرئى، انتهى وهو استدلال جيد.

وقال القاضى عياض: رؤية الله تعالى جائزة عقلا، وليس فى العقل ما يحيلها، والدليل على جوازها: سؤال موسى- عليه السلام لها، ثم قال: وليس فى الشرع دليل قاطع على استحالتها ولا امتناعها، إذ كل موجود فرؤيته جائزة غير مستحيلة، ولا حجة لمن استدل على منعها بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «5» لاختلاف التأويلات فى الآية «6» ، انتهى.

وقد روى ابن أبى حاتم بسنده عن إسماعيل بن علية فى تأويل هذه الآية قال: هذا فى الدنيا. وقال آخرون: لا تدركه الأبصار، أى جميعها،

(1) سورة الأنعام: 103.

(2)

ضعيف: أخرجه الترمذى (3279) فى التفسير، باب: ومن سورة النجم، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .

(3)

سورة المطففين: 15.

(4)

سورة القيامة: 22، 23.

(5)

سورة الأنعام: 103.

(6)

قلت: وأين دخل العقل فى هذا الموضوع، ثم ثانيا: ما هو الدليل الذى اعتمد عليه فى هذا الفهم!.

ص: 494

وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له فى الدار الآخرة. وقال آخرون من المعتزلة، بمقتضى ما فهموا من هذه الآية: أنه لا يرى فى الدنيا ولا فى الآخرة، فخالفوا أهل السنة والجماعة فى ذلك، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم.

أما الكتاب: فقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1» وقوله: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «2» قال الإمام الشافعى- رحمه الله: فدل هذا على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى. وأما السنة: فقد تواترت الأخبار عن أبى سعيد، وأبى هريرة، وأنس وجرير، وصهيب، وبلال، وغير واحد من الصحابة عن النبى- صلى الله عليه وسلم: أن المؤمنين يرون الله تبارك وتعالى فى الدار الآخرة فى العرصات، وفى روضات الجنات، جعلنا الله منهم. وقيل: المنفى فى الآية، إدراك العقول: قال الحافظ ابن كثير: وهو غريب جدّا، وخلاف ظاهر الآية.

وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفى الإدراك، فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفى الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء فى الإدراك المنفى، ما هو؟ فقيل: معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلا هو، وإن رآه المؤمنون، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فالعظيم أولى بذلك، وله المثل الأعلى. وقال آخرون: المراد بالإدراك الإحاطة، قالوا: ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية: كما لا يلزم من عدم الرؤية عدم العلم. وفى صحيح مسلم (لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)«3» ولا يلزم من هذا عدم الثناء فكذلك هذا.

وروى ابن أبى حاتم عن أبى سعيد الخدرى عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى

(1) سورة القيامة: 22، 23.

(2)

سورة المطففين: 15.

(3)

صحيح: أخرجه مسلم (486) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

ص: 495

قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «1» فقال: لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا، صفوا صفا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا. قال ابن كثير: غريب، لا يعرف إلا من هذا الوجه ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة والله أعلم.

ومما نسب لإمام الحرمين فى «لمع الأدلة» أنه قال: من أصحابنا من قال:

إن الرب تعالى يرى ولا يدرك، لأن الإدراك يا بنى عن الإحاطة، ودرك الغاية، والرب جل جلاله تقدس عن الغاية والنهاية، ثم قال: فإن عارضوا بقوله تعالى فى جواب موسى- عليه السلام: لَنْ تَرانِي «2» وزعموا: أن «لن» تفيد النفى على التأبيد، قلنا: هذه الآية أوضح الأدلة على جواز الرؤية، فإنها لو كانت مستحيلة لكان معتقد جواز الرؤية ضالا وكافرا، وكيف يعتقد ما لا يجوز على الله تعالى من اصطفاه لرسالته واختاره لنبوته، وخصه بكرامته، وشرفه بتكليمه، وجعله أفضل أهل زمانه، وأيده ببرهانه، وكيف يجوز على الأنبياء الريب فى أمر يتعلق بعلم الغيب. فيجب حمل الآية على أن ما اعتقد موسى- عليه السلام جوازه جائز، لكن ظن أن ما اعتقد جوازه ناجز، فرجع النفى فى الجواب إلى الإنجاز، وما سأل موسى- عليه السلام ربه رؤيته فى المال، فصرف النفى إليه، والجواب يدل على قضية الخطاب، انتهى.

وقال البيضاوى: فى هذه الآية دليل على أن رؤيته تعالى جائزة فى الجملة، لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال، وخصوصا ما يقتضى الجهل بالله تعالى، ولذلك رده بقوله: لَنْ تَرانِي «3» دون: لن أرى، انتهى.

ونقل القاضى عياض عن أبى بكر الهذلى، فى الآية، أن المراد: ليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلىّ فى الدنيا، وأنه من نظر إلىّ مات. قال: وقد رأيت لبعض السلف والمتأخرين ما معناه: أن رؤيته تبارك وتعالى فى الدنيا

(1) سورة الأنعام: 103.

(2)

سورة الأعراف: 143.

(3)

سورة الأعراف: 143.

ص: 496

ممتنعة لضعف تركيب أهل الدنيا وقواهم، وكونها متغيرة، غرضا للآفات والفناء، فلم تكن لهم قوة على الرؤية، فإذا كان فى الآخرة وركبوا تركيبا آخر، ورزقوا قوى ثابتة باقية، وأتم أنوار أبصارهم وقلوبهم، قووا بها على الرؤية. قال: وقد رأيت نحو هذا لمالك بن أنس- رحمه الله قال: لم ير فى الدنيا لأنه باق، ولا يرى الباقى بالفانى. فإذا كان فى الآخرة رزقوا أبصارا باقية، رؤى الباقى بالباقى، وهذا كلام حسن مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القوة، فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم تمتنع فى حقه، انتهى.

والاستثناء فى قوله: «إلا من حيث ضعف القوة» ينبغى أن يكون منقطعا، على معنى: لكن من حيث ضعف القوة، وإلا فضعف القوة قصاراه أن يكون مانعا، أى امتنع من جهة ضعف القوة لا من جهة كونه مستحيلا، ويدل على هذا قوله:«فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم يمتنع فى حقه» . وقد وقع فى صحيح مسلم ما يؤيد هذه التفرقة فى حديث مرفوع فيه: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا)«1» .

وأخرجه ابن خزيمة أيضا من حديث أبى أمامة، ومن حديث عبادة بن الصامت.

فإن جازت الرؤية فى الدنيا عقلا فقد امتنعت شرعا، لكن من أثبتها للنبى- صلى الله عليه وسلم له أن يقول: إن المتكلم لا يدخل فى عموم كلامه. وفى كلام ابن كثير: أن فى بعض كتب الله المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى لما سأله الرؤية، يا موسى، إنه لن يرانى حى إلا مات. وقد جزم القشيرى- فى الرسالة- بأنها لا تجوز فى الدنيا على جهة الكرامة، وادعى حصول الإجماع عليه. وحكى القاضى عياض امتناعها فى الدنيا عن جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وقال القشيرى أيضا: سمعت الإمام أبا بكر بن فورك يحكى عن أبى الحسن الأشعرى فى ذلك قولين فى كتاب الرؤية الكبير:

انتهى.

(1) صحيح: انظر «صحيح الجامع» (2312 و 2459) .

ص: 497

وقد ذهبت عائشة وابن مسعود إلى أنه- صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ليلة الإسراء.

واختلف عن أبى ذر. وذهب جماعة إلى إثباتها. وحكى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن: أنه حلف أن محمدا رأى ربه. وأخرج ابن خزيمة عن عروة ابن الزبير إثباتها، وبه قال سائر أصحاب ابن عباس. وجزم به كعب الأحبار والزهرى، وصاحبه معمر وآخرون وهو قول الأشعرى وغالب أتباعه. ثم اختلفوا: هل رآه بعينيه أو بقلبه؟ وجاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة، وأخرى مقيدة، فيجب حمل مطلقها على مقيدها، فمن ذلك، ما أخرجه النسائى بإسناد صحيح، وصححه الحاكم أيضا من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد- صلى الله عليه وسلم «1» .

ومنها: ما أخرجه مسلم من طريق أبى العالية عن ابن عباس فى قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «2» وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى «3» قال: رآه بفؤاده مرتين «4» وله: من طريق عطاء عن ابن عباس قال: رآه بقلبه. وأصرح من ذلك: ما أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء عن ابن عباس قال: لم يره رسول الله- صلى الله عليه وسلم بعينيه وإنما رآه بقلبه.

وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفى عائشة، بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب. لكن روى الطبرانى فى الأوسط بإسناد رجاله رجال الصحيح، خلا جهوّر بن منصور الكوفى، وجهور بن منصور قد ذكره ابن حبان فى الثقات، عن ابن عباس أنه كان يقول: إن محمدا- صلى الله عليه وسلم رأى ربه مرتين، مرة ببصره ومرة بفؤاده.

(1) أخرجه النسائى فى «الكبير» (11539) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 133) و (2/ 309 و 509) .

(2)

سورة النجم: 11.

(3)

سورة النجم: 13.

(4)

صحيح: أخرجه مسلم (176) فى الإيمان، باب: معنى قول الله عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى.

ص: 498

ثم المراد «برؤية الفؤاد» رؤية القلب، لا مجرد حصول العلم، لأنه- صلى الله عليه وسلم كان عالما بالله على الدوام. بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التى حصلت له خلقت له فى قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شىء مخصوص عقلا، ولو جرت العادة بخلقها فى العين. وروى ابن خزيمة بإسناد قوى عن أنس قال:(رأى محمد ربه) وفى مسلم من حديث أبى ذر أنه سأل النبى- صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (نور أنى أراه) أى حجابه نور فكيف أراه، ومعناه: أن النور منعنى من الرؤية. وعند أحمد قال: (رأيت نورا) ومن المستحيل أن تكون ذات الله تعالى نورا، إذ النور من جملة الأعراض، والله تعالى يتعالى عن ذلك.

وعند ابن خزيمة عنه، قال:(رآه بقلبه ولم يره بعينه) . وبهذا يتبين مراده فى حديث أبى ذر بذكر النور، أى أن النور حال بينه وبين رؤيته له ببصره.

وجنح ابن خزيمة فى كتاب التوحيد إلى ترجيح الإثبات، وأطنب فى الاستدلال بما يطول ذكره، وحمل ما ورد عن ابن عباس على أن الرؤية وقعت مرتين: مرة بقلبه ومرة بعينه.

ومما يعزى للأستاذ عبد العزيز المهدوى: أنه- صلى الله عليه وسلم لما رجع من سفر الإسراء، أخبر العوالم من حيث فلكهم مراتبهم، وسقى كل واحد من كأسه، وعلى قدر عقله، فخاطب الكفار، وهم آخر العوالم بما رأى فى الطريق، وما كان فى المسجد الأقصى على العيان وبما يعرفون، لأنهم فى فلك الأجسام، حتى صدقوا بالإسراء، ثم ارتقى حتى حدث عن فلك السماء، وكذلك فى كل سماء، وأخبر عما شاهد ورأى فى كل فلك وما يليق أن يحدث به- أعنى الصحابة- كلا على قدر مرتبته بلا ضيق ولا مزاحم إلى السماء السابعة، ولما وصل مقام جبريل تحدث عن الأفق المبين، وعما فوق إلى الدنو وإلى التدلى إلى موضع الإيحاء عند حضرة إسقاط الصور والخلق، فأخبر بذلك أصحابه، فمنهم من قال: رأى جبريل بالأفق المبين، وبالأفق الأعلى، وصدق، ومنهم من قال برؤية الفؤاد والبصيرة وصدق،

ص: 499

وهى عائشة ومن معها، ومنهم من قال: بعينى رأسه رأى وصدق. فكل أخبر بما حدثه- صلى الله عليه وسلم من مقامه وسقاه من كأسه وما يليق به، فإذا صح هذا المعراج عرفت الأمر، ومقامات الرؤية والقائلين بذلك وقولهم الجميع الحق انتهى.

وممن أثبت الرؤية لنبينا- صلى الله عليه وسلم الإمام أحمد. فروى الخلال فى «كتاب السنن» عن المروزى: قلت لأحمد: إنهم يقولون إن عائشة قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، فبأى معنى يدفع قولها؟ قال:

بقول النبى- صلى الله عليه وسلم: «رأيت ربى» فقول النبى أكبر من قولها.

وقد أنكر صاحب «الهدى» على من زعم أن أحمد قال: رأى ربه بعينى رأسه. قال: وإنما قال مرة: رأى محمد ربه، وقال مرة: بفؤاده. وحكى عن بعض المتأخرين: رأى بعينى رأسه. وهذا من تصرف الحاكى، فإن نصوصه موجودة انتهى.

وقد رجح القرطبى فى «المفهم» قول الوقف فى هذه المسألة، وعزاه لجماعة من المحققين، وقواه: بأنه ليس فى الباب دليل قاطع، وغاية ما استدل به الطائفتان ظواهر متعارضة، قابلة للتأويل. قال: وليست المسألة من العمليات فيكتفى فيها بالأدلة الظنية، وإنما هى من المعتقدات فلا يكتفى فيها إلا بالدليل القطعى. والله أعلم.

وأما قوله فى الحديث: «ثم فرضت على الصلاة خمسين صلاة فى كل يوم» . ففى رواية ثابت البنانى عن أنس عند مسلم (ففرض الله على خمسين صلاة فى كل يوم وليلة)«1» . ونحوه فى رواية مالك بن صعصعة عند البخارى أيضا. ويحتمل أن يقال: ذكر الفرض عليه يستلزم الفرض على الأمة، وبالعكس، إلا ما استثنى من خصائصه.

وفى حديث ثابت عن أنس عند مسلم (فنزلت إلى موسى، فقال: ما

(1) صحيح: أخرجه مسلم (163) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات.

ص: 500

فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإنى قد بلوت بنى إسرائيل وخبرتهم.

قال: فرجعت إلى ربى فقلت: يا رب، خفف عن أمتى، فحط عنى خمسا، فرجعت إلى موسى فقلت: حط عنى خمسا، فقال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قال: فلم أزل أرجع بين ربى وبين موسى، حتى قال: يا محمد هن خمس صلوات فى اليوم والليلة، لكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة. ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة. قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقلت: لقد رجعت إلى ربى حتى استحييت منه) «1» .

وفى رواية النسائى عن أنس: فقال لى: إنى يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها أنت وأمتك، وذكر مراجعته مع موسى، وفيه: فإنه فرض على بنى إسرائيل صلاتان فما قاموا بهما. وقال فى آخره: فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمتك. قال:

فعرفت أنها عزمة من الله فرجعت إلى موسى فقال: ارجع، فلم أرجع.

فإن قلت: لم قال موسى- عليه السلام لنبينا- صلى الله عليه وسلم: إن أمتك لا يطيقون ذلك، ولم يقل: أنت وأمتك لا تطيقون ذلك؟

أجيب: بأن العجز مقصور على الأمة لا يتعداهم إلى النبى- صلى الله عليه وسلم، فهو لما رزقه الله تعالى من الكمال يطيق ذلك وأكثر منه، وكيف لا وقد جعلت قرة عينه فى الصلاة. قال العارف ابن أبى جمرة: والحكمة فى تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء أنه- صلى الله عليه وسلم لما عرج به ورأى فى تلك الليلة تعبد الملائكة، وأن منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله تعالى له ولأمته تلك العبادات كلها فى ركعة يصليها العبد بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص.

(1) هو ما قبله.

ص: 501

وقد وقع من موسى- عليه السلام من العناية بهذه الأمة فى أمر الصلاة ما لم يقع لغيره، ووقعت الإشارة لذلك فى حديث أبى هريرة عند الطبرانى والبزار، قال- صلى الله عليه وسلم:«كان موسى أشدهم على حين مررت، وخيرهم لى حين رجعت» . وفى حديث أبى سعيد: فأقبلت راجعا فمررت بموسى، ونعم الصاحب كان لكم، فسألنى كم فرض عليك ربك؟ الحديث.

قال السهيلى: وأما اعتناء موسى- عليه السلام بهذه الأمة، وإلحاحه على نبيها أن يشفع لها ويسأل التخفيف عنها، فكقوله- والله أعلم- حين قضى إليه الأمر بجانب الغربى، ورأى صفات أمة محمد- صلى الله عليه وسلم فى الألواح، وجعل يقول: إنى أجد فى الألواح أمة صفتهم كذا، اللهم اجعلهم أمتى، فيقال له: تلك أمة أحمد، وهو حديث مشهور وقد تقدم ذكره فى خصائص هذه الأمة. قال: فكان إشفاقه عليهم واعتناؤه بأمرهم كما يعتنى بالقوم من هو منهم لقوله اللهم اجعلنى منهم انتهى.

وقال القرطبى: الحكمة فى أمر موسى بمراجعة النبى- صلى الله عليه وسلم فى أمر الصلوات يحتمل أن تكون لكون أمة موسى- عليه السلام كلفت من الصلوات ما لم يكلف به غيرها من الأمم قبلها، فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد- صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، ويشير إليه قوله: إنى جربت الناس قبلك.

انتهى.

ووقع فى كلام بعض أهل الإشارات: لما تمكنت نار المحبة من قلب موسى أضاءت له أنوار نور الطور، فأسرع إليها ليقتبس فاحتبس، فلما نودى من النادى، اشتاق إلى المنادى، فكان يطوف فى بنى إسرائيل: من يحملنى رسالة إلى ربى، ومراده أن تطول المناجاة مع الحبيب، فلما مر علينا نبينا- صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ردده فى أمر الصلوات ليسعد برؤية حبيب الحبيب.

وقال آخر: لما سأل موسى- عليه السلام الرؤية، ولم تحصل له البغية، بقى الشوق يقلقه، والأمل يعلله، فلما تحقق أن سيدنا محمدا الحبيب منح الرؤية، وفتح له باب المزية، أكثر السؤال ليسعد برؤية من قد رأى. كما قيل:

ص: 502

واستنشق الأرواح من نحو أرضكم

لعلى أراكم أو أرى من يراكم

وأنشد من لاقيت عنكم عساكم

تجودون لى بالعطف منكم عساكم

فأنتم حياتى إن حييت وإن أمت

فيا حبذا إن مت عبد هواكم

وقال آخر:

وإنما السر فى موسى يردده

ليجتلى حسن ليلى حين يشهده

يبدو سناها على وجه الرسول فيا

لله در رسول حين أشهده

وقال آخر: لما جلس الحبيب فى مقام القرب، دارت عليه كؤوس الحب، ثم عاد، وهلال ما كذب الفؤاد ما رأى بين عينيه، وسرّ فأوحى إلى عبده ملء قلبه وأذنيه، فلما اجتاز بموسى- عليه السلام، قال لسان حاله لنبينا- صلى الله عليه وسلم:

يا واردا من أهيل الحى يخبرنى

عن جيرتى شنف الأسماع بالخبر

ناشدتك الله يا راوى حديثهم

حدث فقد ناب سمعى اليوم عن بصر

فأجاب لسان حال نبينا- صلى الله عليه وسلم يقول:

ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا

سر أرق من النسيم إذا سرى

وأباح طرفى نظرة أملتها

فغدوت معروفا وكنت منكرا

فكل قوم يلحظون مذهبهم، وقد علم كل أناس مشربهم، والله بفضله وإحسانه يوالى انسجام سحائب عفوه ورضوانه على العارف الربانى أبى عبد الرحمن السلمى، فلقد أجاد إذ أفاد بما أفرد من لطائف المعراج حسبما جمعه من كلام أهل الإشارات، بأقوم منهاج.

وقد استدل العلماء بقوله فى الحديث (فهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر فتلك خمسون) : على عدم فرضية ما زاد على الصلوات الخمس، كالوتر. وعلى دخول النسخ قبل الفعل. قال ابن بطال وغيره: ألا ترى أنه عز وجل نسخ الخمسين بالخمس قبل أن تصلى؟ ثم تفضل عليهم بأن أكمل لهم الثواب.

ص: 503

وتعقبه ابن المنير فقال: هذا ذكره طوائف من الأصوليين والشراح وغيرهم، وهو مشكل على من أثبت النسخ قبل الفعل كالأشاعرة، أو منعه كالمعتزلة. لكونهم اتفقوا جميعا على أن النسخ لا يتصور قبل البلاغ.

وحديث الإسراء وقع فيه النسخ قبل البلاغ، فهو مشكل عليهم جميعا. اه.

فإن أراد قبل البلاغ لكل أحد فممنوع، وإن أراد قبل البلاغ إلى بعض الأمة فمسلّم، لكن قد يقال: ليس هو بالنسبة إليهم نسخا، لكن هو نسخ بالنسبة إلى النبى- صلى الله عليه وسلم لأنه كلف بذلك قطعا، ثم نسخ بعد أن بلغه وقبل أن يفعله، فالمسألة صحيحة التصوير فى حقه- صلى الله عليه وسلم.

ولما رجع- صلى الله عليه وسلم من سفر الإسراء، مر فى طريقه بعير لقريش تحمل طعاما، فيها جمل يحمل غرارتين: غرارة سوداء وغرارة بيضاء، فلما حاذى العير نفرت منه واستدارت وانصرع ذلك البعير.

وفى رواية: مر بعير قد أضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان. قال- صلى الله عليه وسلم:

فسلمت عليهم فقال بعضهم: هذا صوت محمد. ثم أتى مكة قبل الصبح وأخبر قومه بما رأى، وقال لهم: إن من آية ما أقول لكم أنى مررت بعيركم فى مكان كذا وكذا، وقد أضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان، وأن مسيرهم ينزلون بمكان كذا وكذا، ويأتونكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود وغرارتان، فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حتى إذا كان قريب من نصف النهار أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذى وصفه- صلى الله عليه وسلم.

وفى رواية البيهقى: سألوه آية، أخبرهم بقدوم العير يوم الأربعاء، فلما كان ذلك اليوم لم يقدموا حتى كادت الشمس أن تغرب، فدعا الله تعالى فحبس الشمس حتى قدموا كما وصف. وعن عائشة: لما أسرى بالنبى- صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك، فارتد ناس كانوا آمنوا، وسعى رجال من المشركين إلى أبى بكر فقالوا: هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس، قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال:

لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل

ص: 504

أن يصبح فقال: نعم، إنى لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه فى خبر السماء فى غدوة أو روحة، فلذلك سمى الصديق «1» . رواه الحاكم فى المستدرك، وابن إسحاق: وزاد:

ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبى الله، أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس فى هذه الليلة؟ قال: نعم، فقال: يا نبى الله صفه لى فإنى قد جئته، قال الحسن: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: فرفع لى المسجد حتى نظرت إليه، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم يصفه لأبى بكر، فيقول أبو بكر: صدقت، أشهد أنك رسول الله، كلما وصف له منه شيئا.

وقول أبى بكر: صفه لى، لم يكن عن شك، فإنه صدقه من أول وهلة، ولكنه أراد إظهار صدقه لقومه، فإنهم كانوا يثقون بأبى بكر، فإذا طابق خبره- صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم أبو بكر وصدقه كان حجة ظاهرة عليهم.

وفى رواية البخارى (فجلا الله لى بيت المقدس) أى كشف الحجب بينى وبينه حتى رأيته. وفى رواية مسلم: (فسألونى عن أشياء لم أثبتها، فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله قط، فرفعه الله لى أنظر إليه، ما يسألونى عن شىء إلا أنبأتهم به) .

فيحتمل أن يكون حمل إلى أن وضع بحيث يراه، ثم أعيد، ففى حديث ابن عباس عند أحمد والبزار: فجىء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع عند دار عقيل فنعته وأنا أنظر إليه.

وهذا أبلغ فى المعجزة، ولا استحالة فيه، فقد أحضر عرش بلقيس فى طرفة عين.

وأما ما وقع فى حديث أم هانئ عند ابن سعد: فخيل إلى بيت المقدس، وطفقت أخبرهم عن آياته، فإن ثبت احتمل أن يكون مثل قريبا منه، كما قيل فى حديث:(رأيت الجنة والنار) ويؤول قوله: جىء بالمسجد، أى جىء بمثاله.

(1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 65 و 81) .

ص: 505

وفى حديث أم هانئ المذكور: أنهم قالوا له: كم للمسجد من باب، قال: ولم أكن عددتها قال: فجعلت أنظر إليه وأعدها بابا بابا.

وعند أبى يعلى: إن الذى سأله عن صفة بيت المقدس هو المطعم بن عدى، والد جبير بن مطعم.

وأشار ابن أبى جمرة: إلى أن الحكمة فى الإسراء إلى بيت المقدس إظهار الحق للمعاند، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلا إلى البيان والإيضاح- حيث سألوه عن جزئيات من بيت المقدس كانوا رأوها، وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل التحقيق أنه أسرى به إلى بيت المقدس. وإذا صح البعض لزم تصحيح الباقى، فكان ذلك سببا لقوة إيمان المؤمنين، وزيادة فى شقاء من عاند وجحد من الكافرين، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 506