الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثانى: قوله- صلى الله عليه وسلم: «كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد» «1» ، كنا نظن أنه بالعلم، فبان أنه زائد على ذلك، وإنما يفترق الحال بين ما بعد وجود جسده- صلى الله عليه وسلم وبلوغه الأربعين، وما قبل ذلك بالنسبة إلى المبعوث إليهم وتأهلهم لسماع كلامه لا بالنسبة إليه ولا إليهم، لو تأهلوا قبل ذلك، وتعليق الأحكام على الشروط قد يكون بحسب المحل القابل، وقد يكون بحسب الفاعل المتصرف فها هنا التعليق إنما هو بحسب المحل القابل، وهو المبعوث إليهم وقبولهم سماع الخطاب والجسد الشريف الذى يخاطبهم بلسانه.
وهذا كما يوكل الأب رجلا فى تزويج ابنته إذا وجدت كفأ، فالتوكيل صحيح وذلك الرجل أهل للوكالة، ووكالته ثابتة، وقد يحصل توقف التصرف على وجود الكفء، ولا يوجد إلا بعد مدة، وذلك لا يقدح فى صحة الوكالة وأهلية الوكيل، انتهى.
النوع الثالث فى وصفه له ص بالشهادة وشهادته له بالرسالة
قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل- عليهما الصلاة والسلام- عند بناء البيت الحرام رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «2» . فاستجاب الله دعاءهما، وبعث فى أهل مكة رسولا منهم بهذه الصفة من ولد إسماعيل الذى دعا مع أبيه إبراهيم- عليهما السلام بهذا الدعاء. فإن قلت: من أين علم أن الرسول هنا المراد به محمد- صلى الله عليه وسلم؟
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2)
سورة البقرة: 127- 129.
فالجواب من وجوه:
أحدها: إجماع المفسرين وهو حجة.
والثانى: قوله- صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى» «1»
قالوا: وأراد بالدعوة هذه الآية، وبشارة عيسى هى ما ذكر فى سورة الصف فى قوله: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ «2» .
الثالث: إن إبراهيم إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين كانوا بها وبما حولها، ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة إلا محمدا- صلى الله عليه وسلم. وقد امتن الله تعالى على المؤمنين يبعث هذا النبى منهم على هذه الصفة فقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ «3» الآية، فليس لله منة على المؤمنين أعظم من إرساله محمدا- صلى الله عليه وسلم يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وإنما كانت النعمة على هذه الأمة بإرساله أعظم النعم، لأن النعمة به- صلى الله عليه وسلم تمت بها مصالح الدنيا والآخرة، وكمل بسببها دين الله الذى رضيه لعباده.
وقوله: مِنْ أَنْفُسِهِمْ «4» يعنى أنه بشر مثلهم، وإنما امتاز عليهم بالوحى. وقرئ فى الشواذ (من أنفسهم) - بفتح الفاء- يعنى من أشرفهم، لأنه من بنى هاشم، وبنو هاشم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل من غيرهم. ثم قيل: لفظ (المؤمنين) عام، ومعناه خاص فى العرب، لأنه ليس حى من أحياء العرب إلا وقد ولده، وخص المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون به أكثر، فالمنة عليهم أعظم.
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 223) عن العرباض بن سارية، وقال: رواه أحمد بأسانيد والبزار والطبرانى بنحوه، وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن سويد، وقد وثقه ابن حبان.
(2)
سورة الصف: 6.
(3)
سورة آل عمران: 164.
(4)
سورة آل عمران: 164.
فإن قلت: هل العلم بكونه- صلى الله عليه وسلم بشرا، ومن العرب، شرط فى صحة الإيمان، أو هو من فروض الكفاية.
أجاب الشيخ ولى الدين بن العراقى: بأنه شرط فى صحة الإيمان. قال:
فلو قال شخص: أومن برسالة محمد- صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق، ولكنى لا أدرى هل هو من البشر أو الملائكة، أو من الجن، أو لا أدرى أهو من العرب أو العجم، فلا شك فى كفره لتكذيبه للقرآن وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفا عن سلف، وصار معلوما بالضرورة عند الخاص والعام، ولا أعلم فى ذلك خلافا. فلو كان غبيّا لا يعرف ذلك وجب تعليمه إياه، فإن جحده بعد ذلك حكمنا بكفره. انتهى. فإن قلت: هل هو- صلى الله عليه وسلم باق على رسالته إلى الآن؟
أجاب أبو المعين النفسى: بأن الأشعرى قال: إنه- صلى الله عليه وسلم الآن فى حكم الرسالة، وحكم الشىء يقوم مقام أصل الشىء، ألا ترى أن العدة تدل على ما كان من أحكام النكاح. انتهى. وقال غيره: إن النبوة والرسالة باقية بعد موته- صلى الله عليه وسلم حقيقة، كما يبقى وصف الإيمان بعد موته، لأن المتصف بالنبوة والرسالة، والإيمان هو الروح وهى باقية لا تتغير بموت البدن. انتهى.
وتعقب: بأن الأنبياء أحياء فى قبورهم، فوصف النبوة باق للجسد والروح معا.
وقال القشيرى: كلام الله تعالى لمن اصطفاه: أرسلتك أن تبلغ عنى، وكلامه تعالى قديم، فهو- صلى الله عليه وسلم قبل أن يوجد كان رسولا. وفى حال كونه وإلى الأبد رسولا، لبقاء الكلام وقدمه، واستحالة البطلان على الإرسال الذى هو كلام الله تعالى. ونقل السبكى فى طبقاته، عن ابن فورك أنه قال:
إنه- صلى الله عليه وسلم حى فى قبره، رسول الله أبد الآباد على الحقيقة لا المجاز. انتهى.
وقال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1» .
(1) سورة الجمعة: 2.
والمراد بالأميين: العرب، تنبيها لهم على قدر هذه النعمة وعظمها حيث كانوا أميين، لا كتاب لهم، وليس عندهم شىء من آثار النبوة، كما عند أهل الكتاب، فمنّ الله تعالى عليهم بهذا الرسول وبهذا الكتاب، حتى صاروا أفضل الأمم وأعلمهم، وعرفوا ضلالة من ضل قبلهم من الأمم. وفى كونه- صلى الله عليه وسلم منهم فائدتان:
إحداهما: أن هذا الرسول كان أيضا أميّا كأميّة المبعوث إليهم، لم يقرأ كتابا قط ولم يخطه بيمينه، كما قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ «1» ، ولا خرج عن ديار قومه فأقام عند غيرهم حتى تعلم منهم، بل لم يزل أميّا بين أمة أمية لا يكتب ولا يقرأ حتى بلغ الأربعين من عمره، ثم جاء بعد ذلك بهذا الكتاب المبين، وهذه الشريعة الباهرة، وهذا الدين القيم الذى اعترف حذاق أهل الأرض ونظارها أنه لم يقرع العالم ناموس أعظم منه، وفى هذا برهان عظيم على صدقه- صلى الله عليه وسلم.
والفائدة الثانية: التنبيه على أن المبعوث منهم وهم الأميون، وخصوصا أهل مكة، يعرفون نسبه وشرفه وصدقه وأمانته وعفته، وأنه نشأ بينهم معروفا بذلك، وأنه لم يكذب قط، فكيف كان يدع الكذب على الناس ثم يفترى الكذب على الله عز وجل؟ هذا هو الباطل. ولذلك سأل هرقل عن هذه الأوصاف واستدل بها على صدقه فيما ادعاه من النبوة والرسالة.
وقد قال الله تعالى خطابا له: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ «2» . ويروى أن رجلا قال: والله يا محمد ما كذبتنا قط فنتهمك اليوم ولكنا إن نتبعك نتخطف من أرضنا، فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. وعن مقاتل: كان الحارث بن عامر يكذب النبى- صلى الله عليه وسلم فى العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب. ويروى أن المشركين كانوا إذا رأوه- صلى الله عليه وسلم قالوا: إنه لنبى. وعن على: قال أبو جهل للنبى- صلى الله عليه وسلم: إنا لا
(1) سورة العنكبوت: 48.
(2)
سورة الأنعام: 33.
نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى الآية. والمعنى: أنهم ينكرونه مع العلم بصحته. إذ الجحد هو الإنكار مع العلم.
فإن قلت: فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ «1» ؟ أجيب: بأنه على طريق الجحد، وهو يختلف باختلاف أحوالهم فى الجهل، فمنهم من وقع منه ذلك لجهله، فحيث علم آمن، ومنهم من علم وأنكر كفرا وعنادا كأبى جهل. فيكون المراد بقوله فإنهم لا يكذبونك، قوما مخصوصين منهم لا كلهم، وحينئذ فلا تعارض.
وروى أن أبا جهل لقيه فصافحه فقيل له: أتصافحه؟ فقال: والله إنى لأعلم أنه نبى، ولكن متى كنا تبعا لبنى عبد مناف؟ فأنزل الله الآية، رواه أبو حاتم. والقرآن كله مملوء بالآيات الدالة على صدق هذا الرسول الكريم، وتحقيق رسالته، فكيف يليق بكمال الله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك ويؤيده، ويعلى كلمته ويرفع شأنه، ويجيب دعوته ويهلك عدوه، ويظهر على يده من الآيات والبراهين والأدلة ما يضعف عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه، مفتر ساع فى الأرض بالفساد؟؟ ومعلوم أن شهادته سبحانه وتعالى على كل شىء، وقدرته على كل شىء، وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك كل الإباء، ومن ظن ذلك به وجوزه عليه فهو من أبعد الخلق عن معرفته إن عرف منه بعض صفاته كصفة القدرة وصفة المشيئة.
والقرآن كله مملوء من هذه الطريق، وهذه طريقة الخاصة، بل خاصة الخاصة الذين يستدلون بالله على أفعاله، وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله.
وإذا تدبرت القرآن رأيته ينادى على ذلك ويبديه ويعيده لمن له فهم وقلب واع عن الله تعالى. قال الله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «2» ، أفتراه سبحانه وتعالى يخبر أن كماله وحكمه يأبى أن يقرّ من
(1) سورة الأنعام: 34.
(2)
سورة الحاقة: 44- 47.
تقول عليه بعض الأقاويل، بل لابد أن يجعله عبرة لعباده، كما جرت بذلك سننه فى المتقولين عليه.
وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ «1» هاهنا انتهى جواب الشرط. ثم أخبر خبرا جازما غير معلق بأنه يمحو الباطل ويحق الحق. وقال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ «2» ، فأخبر أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره، ولا عرفه كما ينبغى ولا عظمه كما يستحق، فكيف من ظن أن الله ينصر الكاذب المفترى عليه، ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة؟
وهذا فى القرآن كثير يستدل تعالى بكماله المقدس وأوصافه وجلاله على صدق رسوله، وعلى وعده ووعيده، ويدعو عباده إلى ذلك.
وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ «3» ، فأخبر سبحانه أن الكتاب الذى أنزله يكفى من كل آية، ففيه الحجة والدلالة على أنه من الله، وأن الله سبحانه أرسل به رسوله، وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة، وينجيه من العذاب.
ثم قال: قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «4» فإذا كان سبحانه عالما بجميع الأشياء كانت شهادته أصدق شهادة وأعدلها، فإنها شهادة بعلم تام محيد بالمشهود به، وهو سبحانه وتعالى يذكر علمه عند شهادته وقدرته، وملكه عند مجازاته، وحكمته عند خلقه، وأمره ورحمته عند ذكر إرسال رسله، وحلمه عند ذنوب عباده. فتأمل ورود أسمائه الحسنى
(1) سورة الشورى: 24.
(2)
سورة الأنعام: 91.
(3)
سورة العنكبوت: 51، 52.
(4)
سورة العنكبوت: 52.
فى كتابه، وارتباطها بالخلق والأمر والثواب والعقاب. انتهى. وقال تعالى:
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً «1» . أى شاهدا على الوحدانية، وشاهدا فى الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط، وشاهدا فى الآخرة بأحوال الدنيا، وبالطاعة والمعصية والصلاح والفساد، وشاهدا على الخلق يوم القيامة كما قال تعالى:
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «2» . كأنه تعالى يقول: يا أيها المشرّف من قبلنا، إنا أرسلناك شاهدا بوحدانيتنا ومشاهدا كمال فردانيتنا، تبشر عبادنا عنا، وتحذرهم مخالفة أمرنا، وتعلمهم مواضع الخوف منا، وداعيا الخلق إلينا، وسراجا يستضيئون بك، وشمسا تبسط شعاعك على جميع من صدقك وآمن بك، ولا يصل إلينا إلا من اتبعك وخدمك وقدمك، فبشر بفضلنا وطولنا عليهم وإحساننا إليهم.
ولما كان الله تعالى قد جعله- صلى الله عليه وسلم شاهدا على الوحدانية، والشاهد لا يكون مدعيا، فالله تعالى لم يجعل النبى فى مسألة الوحدانية مدعيا لها، لأن المدعى من يقول شيئا على خلاف الظاهر، والوحدانية أظهر من الشمس، والنبى- صلى الله عليه وسلم كان ادعى النبوة، فجعل الله تعالى نفسه شاهدا له فى مجازاة كونه شاهدا له تعالى فقال سبحانه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ «3» ، ومن هذا قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «4» فاستشهد على رسالته بشهادة الله له. وكذلك قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ «5» ، وقوله:
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ
(1) سورة الأحزاب: 45، 46.
(2)
سورة البقرة: 143.
(3)
سورة المنافقون: 1.
(4)
سورة الرعد: 43.
(5)
سورة الأنعام: 19.
شَهِيداً «1» وقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ «2» وقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ «3» ، فهذا كله منه تعالى شهادة لرسوله قد أظهرها وبينها، وبين صحتها غاية البيان بحيث قطع العذر بينه وبين عباده، وأقام الحجة عليهم بكونه سبحانه شاهدا لرسوله.
وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «4» . فيظهر ظهورين: ظهورا بالحجة والبيان، وظهورا بالنصر والغلبة والتأييد حتى يظهر على مخالفيه ويكون منصورا.
ومن شهادته تعالى أيضا ما أودعه فى قلوب عباده من التصديق الجازم، واليقين الثابت والطمأنينة بكلامه ووحيه، فإن الله تعالى فطر القلوب على قلوب الحق والانقياد له، والطمأنينة والسكون إليه ومحبته، وفطرها على بغض الكذب والباطل والنفور عنه وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفطرة على حالها لما آثرت على الحق سواه، ولما سكنت إلا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره. ولهذا ندب الحق سبحانه إلى تدبر القرآن، فإن كل من تدبره أوجب له علما ضروريّا ويقينا جازما أنه حق، بل أحق كل حق، وأصدق كل صدق قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «5» ، فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علما ضروريّا كسائر الأمور الوجدانية باللذة والألم أنه من عند الله، تكلم به حقّا، وبلغه رسوله جبريل إلى رسوله محمد- صلى الله عليه وسلم. فهذا الشاهد فى القلب من أعظم الشواهد. انتهى ملخصا من مدارج السالكين.
(1) سورة النساء: 166.
(2)
سورة المنافقون: 1.
(3)
سورة الفتح: 29.
(4)
سورة محمد: 24.
(5)
سورة الأعراف: 158.
وقال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «1» . ففى هذه الآية دلالة على أنه- صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كافة الثقلين. وقالت العيسوية من اليهود- وهم أتباع عيسى الأصبهانى-. إن محمدا صادق مبعوث إلى العرب، غير مبعوث إلى بنى إسرائيل.
ودليلنا على إبطال قولهم هذه الآية، لأن قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب يتناول كل الناس، ثم قال: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «2» وهذا يقتضى كونه مبعوثا إلى جميع الناس. وأيضا: فلأنا نعلم بالتواتر أنه كان يدعى أنه مبعوث إلى الثقلين. فإما أن تقول: كان رسولا حقّا، أو ما كان كذلك، فإن كان رسولا حقّا امتنع الكذب عليه، ووجب الجزم بكونه صادقا فى كل ما يدعيه، فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية أنه كان يدعى كونه مبعوثا إلى جميع الثقلين، وجب كونه صادقا، وذلك يبطل قول من يقول:
إنه كان مبعوثا إلى العرب فقط، لا إلى بنى إسرائيل. وإذا ثبت هذا فنقول:
قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «3» من الناس من يقول إنه عام دخله التخصيص، ومنهم من أنكر ذلك. أما الأولون فقالوا:
دخله التخصيص من وجهين:
الأول: أنه رسول إلى الناس إذا كانوا من جملة المكلفين، فأما إذا لم يكونوا من جملة المكلفين لم يكن رسولا إليهم، وذلك لأنه- صلى الله عليه وسلم قال:
«رفع القلم عن ثلاث: عن الصبى حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» «4» رواه ابن جرير عن ابن عباس.
(1) سورة الأعراف: 158.
(2)
سورة الأعراف: 158.
(3)
سورة الأعراف: 158.
(4)
صحيح: أخرجه أبو داود (4399- 4403) فى الحدود، باب: فى المجنون يسرق أو يصيب حدّا، والترمذى (1423) فى الحدود، باب: ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، وابن ماجه (2042) فى الطلاق، باب: طلاق المعتوه والصغيرة والنائم، من حديث على- رضى الله عنه-، وفى الباب عن عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3512 و 3513 و 3514) .
والثانى: أنه رسول إلى من وصله خبر وجوده، وخبر معجزاته وشرائعه، حتى يمكنه عند ذلك متابعته. أما لو قدرنا حصول قوم فى طرف من أطراف الأرض لم يبلغهم خبره وخبر معجزاته وشرائعه حتى لا يمكنهم عند ذلك متابعته فلا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوته. وعن أبى هريرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم أنه قال:«والذى نفسى بيده لا يسمع بى أحد من هذه الأمة ولا يهودى ولا نصرانى ومات ولم يؤمن بالذى أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» «1» رواه مسلم. ومفهومه: أن من لم يسمع بالنبى- صلى الله عليه وسلم ولم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور، على ما تقرر فى الأصول أنه لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح. وفى هذا الحديث نسخ الملل كلها برسالة نبينا- صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «2» . خاطب تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا خاتم النبيين الذى لا نبى بعده ولا رسول. بل هو المعقب لجميعهم، ولهذا قال تعالى: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ «3» أى بعد مدة متطاولة، ما بين إرساله وعيسى ابن مريم.
وقد اختلفوا فى مقدار هذه الفترة كم هى؟ فقال النهدى وقتادة فى رواية عنه: ستمائة سنة. ورواه البخارى عن سلمان الفارسى. وعن قتادة:
خمسمائة وستون سنة، وقال الضحاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة، وعن الشعبى- فيما ذكره ابن عساكر- تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة. قال الحافظ عماد الدين بن كثير: والمشهور أنها ستمائة سنة، قال: وكانت هى الفترة بين عيسى ابن مريم، آخر أنبياء بنى إسرائيل، وبين محمد آخر النبيين من بنى آدم على الإطلاق، كما فى البخارى من حديث أبى هريرة مرفوعا: «أنا أولى
(1) صحيح: أخرجه مسلم (153) فى الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس وفسخ الملل بملة.
(2)
سورة المائدة: 19.
(3)
سورة المائدة: 19.
الناس بابن مريم ليس بينى وبينه نبى» «1» وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبى يقال له: خالد بن سنان، كما حكاه القضاعى وغيره.
والمقصود: أن الله بعث محمدا على فترة من الرسل وطموس من السبل وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم والنفع به أعم. وفى حديث عند الإمام أحمد مرفوعا:«إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من بنى إسرائيل» «2» وفى لفظ مسلم «من أهل الكتاب» . فكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم، حتى بعث الله محمدا فهدى به الخلائق، وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وتركهم على المحجة البيضاء، والشريعة الغراء، - صلوات الله وسلامه عليه-.
وقال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «3» . أى: عزيز عليه عنتكم، أى إثمكم بالشرك والمعاصى، حريص عليكم أن تهتدوا. قال الحسن: عزيز عليه أن تدخلوا النار، حريص عليكم أن تدخلوا الجنة، ومن حرصه- صلى الله عليه وسلم علينا أنه لم يخاطبنا بما يريد إبلاغه إلينا، وفهمنا إياه على قدر منزلته، بل على قدر منزلتنا، وإلى هذا أشار صاحب البردة بقوله:
لم يمتحنا بما تعيى العقول به
…
حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم
أى لم نتحير ولم نشك فيما ألقاه إلينا. وقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «4» ولا رحمة مع التكليف بما لا يفهم. ومن حرصه- صلى الله عليه وسلم على هدايتنا أنه كان كثيرا ما يضرب المثل بالمحسوس ليحصل الفهم، وهذه سنة
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2)
صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 162) ، وهو عند مسلم (2865) فى الجنة، باب: الصفات التى يعرف بها فى الدنيا أهل الجنة وأهل النار، من حديث عياض بن حمار المجاشعى.
(3)
سورة التوبة: 128.
(4)
سورة الأنبياء: 107.