الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الثانى فى أخذ الله الميثاق له على النبيين فضلا ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنه
قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ «1» الآية. أخبر تعالى أنه أخذ الميثاق على كل نبى بعثه، من لدن آدم- عليه الصلاة والسلام إلى محمد- صلى الله عليه وسلم أن يصدق بعضهم بعضا، قاله الحسن وطاووس وقتادة. وقيل معناه: أنه تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم، واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم.
وعن على بن أبى طالب وابن عباس: ما بعث الله نبيّا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد- صلى الله عليه وسلم وهو حى- ليؤمنن به ولينصرنه. وما قاله قتادة والحسن وطاووس لا يضاد ما قاله على وابن عباس، ولا ينفيه بل يستلزمه ويقتضيه.
وقيل معناه: أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد- صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وأن ينصروه، واحتج له بأن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد- صلى الله عليه وسلم عند مبعثه، وكان الأنبياء عند مبعث محمد- صلى الله عليه وسلم من جملة الأموات، والميت لا يكون مكلفا، فتعين أن يكون الميثاق مأخوذا على الأمم. وقالوا: ويؤكد هذا، أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق بأنهم لو تولوا لكانوا فاسقين، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء، وإنما يليق بالأمم.
وأجاب الفخر الرازى: بأن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا فى الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد- صلى الله عليه وسلم. ونظيره قوله تعالى لَئِنْ
(1) سورة آل عمران: 81.
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «1» ، وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط، ولكنه خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض، وقال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «2» وقال فى الملائكة: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ «3» مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ «4» وبأنهم يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ «5» ، فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير. وإذا نزلت هذه الآية على أن الله تعالى لما أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد- صلى الله عليه وسلم لو كانوا فى الأحياء، وأنهم لو تركوا ذلك لكانوا فى زمرة الفاسقين، فلأن يكون الإيمان بمحمد- صلى الله عليه وسلم واجبا على أممهم من باب أولى. فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى فى تحصيل المقصود.
وقال السبكى فى هذه الآية: إنه- صلى الله عليه وسلم على تقدير مجيئهم فى زمانه يكون مرسلا إليهم. فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق، من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله- صلى الله عليه وسلم:
«وبعثت إلى الناس كافة» لا يختص به الناس فى زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضا، وإنما أخذ له المواثيق على الأنبياء ليعلموا أنه المتقدم عليهم، وأنه نبيهم ورسولهم. وفى أخذ المواثيق- وهى فى معنى الاستحلاف، ولذلك دخلت «لام» القسم فى لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ «6» لطيفة: وهى كأنها أيمان البيعة التى تؤخذ للخلفاء، ولعل أيمان الخلفاء أخذت من هنا.
فانظر إلى هذا التعظيم العظيم للنبى- صلى الله عليه وسلم من ربه تعالى، فإذا عرف
(1) سورة الزمر: 65.
(2)
سورة الحاقة: 44- 46.
(3)
سورة الأنبياء: 29.
(4)
سورة الأنبياء: 27.
(5)
سورة النحل: 50.
(6)
سورة آل عمران: 81.
هذا فالنبى محمد- صلى الله عليه وسلم نبى الأنبياء، ولهذا ظهر ذلك فى الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه. وفى الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم، ولو اتفق مجيئه فى زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم وعلى أممهم اتباعه والإيمان به ونصرته، وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم، فنبوته عليهم ورسالته إليهم معنى حاصل لهم فى حياتهم، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه، فتأخر ذلك الأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافهم بما يقتضيه. وفرق بين توقف الفعل على قبول المحل وتوقفه على أهلية الفاعل، فها هنا لا توقف من جهة الفاعل، ولا من ذات النبى- صلى الله عليه وسلم الشريفة، وإنما هو من جهة وجود العصر المشتمل عليه، فلو وجد فى عصرهم لزمهم اتباعه بلا شك، ولهذا يأتى عيسى- عليه السلام فى آخر الزمان على شريعته، وهو نبى كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أنه يأتى واحدا من هذه الأمة، نعم هو واحد من هذه الأمة لما قلنا من اتباعه للنبى- صلى الله عليه وسلم، وإنما يحكم بشريعة نبينا- صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة، وكل ما فيهما من أمر ونهى، فهو متعلق به كما يتعلق بسائر الأمة، وهو نبى كريم على حاله لم ينقص منه شىء.
وكذلك لو بعث النبى- صلى الله عليه وسلم فى زمانه أو فى زمان موسى وإبراهيم ونوح وآدم وكانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم، والنبى- صلى الله عليه وسلم نبى عليهم ورسول إلى جميعهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم. وتتفق مع شرائعهم فى الأصول، لأنها لا تختلف، وتقدم شريعته- صلى الله عليه وسلم فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع، إما على سبيل التخصيص، وإما على سبيل النسخ، أو: لا نسخ ولا تخصيص بل تكون شريعة النبى- صلى الله عليه وسلم فى تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم، وفى هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة الشريفة، والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات، وبهذا بان لنا معنى حديثين كانا خفيا عنا:
أحدهما: قوله- صلى الله عليه وسلم: «بعثت إلى الناس كافة» «1» ، كنا نظن أنه من زمانه إلى يوم القيامة، فبان أنه إلى جميع الناس أولهم وآخرهم.
(1) صحيح: وقد تقدم.