الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القرآن، ومن تتبع الكتاب والسنة رأى من ذلك العجب العجاب، ولما ساوى الله سبحانه وتعالى بين الناس فى حرص رسوله- صلى الله عليه وسلم على إسلامهم، خص المؤمنين برأفته ورحمته لهم.
وقال تعالى: مِنْ أَنْفُسِكُمْ «1» ولم يقل: من أرواحكم، فقيل يحتمل أن يكون مراده: أنه منا بجسده المنفس، لا بروحه المقدس، ويرحم الله القائل:
إذا رمت مدح المصطفى شغفا به
…
تبلد ذهنى هيبة لمقامه
فأقطع ليلى ساهر الجفن مطرقا
…
هوى فيه أحلى من لذيذ منامه
إذا قال فيه الله جل جلاله
…
رؤوف رحيم فى سياق كلامه
فمن ذا يجارى الوحى والوحى معجز
…
بمختلفيه نثره ونظامه
تنبيه:
أما قول القاضى عياض بعد ذكره الآية:
«ثم وصفه بعد بأوصاف حميدة، وأثنى عليه بمحامد كثيرة، من حرصه على هدايتهم، ورشدهم وإسلامهم، وشدة ما يعنتهم ويضربهم فى دنياهم وأخراهم، وعزته على
…
» . فهو وإن كان المقصد صحيحا، ففى ظاهره شىء، لأنه يوهم أن قوله «وشدة ما يعنتهم» معطوف على متعلق المصدر الذى هو «الحرص» فيكون مخفوضا به.
ومما يقوى هذا التوهم قوة إعطاء الكلام، أن الضمير الأول من قوله «وعزته عليه» عائد على النبى- صلى الله عليه وسلم، والضمير الثانى عائد على الله عز وجل، فلا تبقى «الشدة» إلا أن تكون معطوفة على متعلق المصدر. ولا يخفى ما فى هذا.
وقد تأوله بعض العلماء على حذف مضاف أى: وكراهة شدة ما يعنتهم، أو نحو ذلك من المضافات. والأولى- أو الصواب، إن شاء الله تعالى- أن تكون «الشدة» معطوفة على نفس المصدر الذى هو «الحرص»
(1) سورة التوبة: 128.
ويكون قوله «وعزته» معطوفا على «وشدة» والضمير فيه راجع إلى الموصول وهو «ما» فى قوله «ما يعنتهم» والهاء الثانية فى «عليه» عائدة على النبى- صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» . يجوز أن يكون «رحمة» مفعولا له، أى لأجل الرحمة، ويجوز أن ينتصب على الحال مبالغة فى أن جعله نفس الرحمة، وإما على حذف مضاف أى: ذا رحمة، أو بمعنى: راحم. قاله السمين «2» .
وقال أبو بكر بن طاهر- فيما ذكره القاضى عياض-: زين الله تعالى محمدا- صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق، فمن أصابه شىء من رحمته فهو الناجى فى الدارين من كل مكروه، والواصل فيهما إلى كل محبوب، انتهى.
وقال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر، لأن كل نبى إذا كذب أهلك الله من كذبه. ومحمد أخّر من كذبه إلى الموت أو إلى القيامة. وأما من صدقه فله الرحمة فى الدنيا والآخرة. وقال السمرقندى: رحمة للعالمين يعنى: الجن والإنس. وقيل: لجميع الخلق للمؤمن رحمة بالهداية، ورحمة للمنافق بالأمان من القتل، ورحمة للكافر بتأخير العذاب. فذاته- صلى الله عليه وسلم كما قيل- رحمة تعم المؤمن والكافر، قال الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «3» ، وقال- صلى الله عليه وسلم:«إنما أنا رحمة مهداة» «4» رواه الدارمى والبيهقى فى «الشعب» من حديث أبى هريرة. وقال بعض العارفين: الأنبياء خلقوا كلهم من الرحمة، ونبينا- صلى الله عليه وسلم عين الرحمة، ولقد أحسن القائل:
غنيمة عمر الكون بهجة عيشه
…
سرور حياة الدهر فائدة الدهر
هو النعمة العظمى هو الرحمة التى
…
تجلى بها الرحمن فى السر والجهر
(1) سورة الأنبياء: 107.
(2)
هو: أحمد بن يوسف بن عبد الدائم الحلبى، أبو العباس شهاب الدين المعروف بالسمين، توفى سنة (756 هـ) .
(3)
سورة الأنفال: 33.
(4)
تقدم.
فبيانه- صلى الله عليه وسلم ونصحه رحمة، ودعاؤه واستغفاره رحمة، فرزق ذلك من قبله، وحرمه من رده. فإن قلت: كيف كان رحمة، وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال؟ فالجواب: من وجهين:
أحدهما: أنه إنما جاء بالسيف، لمن استكبر وعاند، ولم يتفكر ولم يتدبر، ومن أوصاف الله تعالى: الرحمن الرحيم، ثم هو منتقم من العصاة، وقد قال تعالى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً «1» ثم قد يكون سببا للفساد.
وثانيهما: أن كل نبى من الأنبياء قبل نبينا إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق، وقد أخر الله تعالى عذاب من كذب نبينا إلى الموت، أو إلى القيامة. لا يقال: إنه تعالى قال: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ «2» ، وقال تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ «3» ، لأنا نقول:
تخصيص العام لا يقدح فيه.
وفى «الشفاء» للقاضى عياض: وحكى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: «هل أصابك من هذه الرحمة شىء؟» قال: نعم، كنت أخشى العاقبة فأمنت، لثناء الله تعالى علىّ بقوله عز وجل: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ «4» . انتهى.
وذكره السمرقندى: فى تفسيره بلفظ. وذكر أن النبى- صلى الله عليه وسلم قال لجبريل يقول الله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «5» فهل أصابك من هذه الرحمة شىء؟ قال: نعم، أصابنى من هذه الرحمة شىء، كنت أخشى عاقبة الأمر فأمنت بك، لثناء الله تعالى علىّ فى قوله: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ «6» .
وهذا يقتضى أن محمدا- صلى الله عليه وسلم أفضل من جبريل، وهو الذى عليه
(1) سورة ق: 9.
(2)
سورة التوبة: 14.
(3)
سورة الأحزاب: 73.
(4)
سورة التكوير: 20، 21.
(5)
سورة الأنبياء: 107.
(6)
سورة التكوير: 20.
الجمهور، خلافا لمن زعم أن جبريل أفضل واستدل: بأن الله تعالى وصف جبريل بسبعة أوصاف من صفات الكمال فى قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ «1» ، ووصف محمدا- صلى الله عليه وسلم بقوله: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ «2» . ولو كان محمد- صلى الله عليه وسلم مساويا لجبريل فى صفات الفضل أو مقاربا له لكان وصف محمدا بمثل ذلك.
وأجيب: بأنا متفقون على أن لمحمد- صلى الله عليه وسلم فضائل أخرى سوى ما ذكر فى هذه الآية، وعدم ذكر الله تعالى لتلك الفضائل هنا لا يدل على عدمها بالإجمال، وإذا ثبت أن لمحمد- صلى الله عليه وسلم فضائل أخر زائدة فيكون أفضل من جبريل.
وبالجملة: فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل ألبتة على انتفاء تلك الأوصاف عن الثانى، وإذا ثبت بالدليل القرآنى أنه- صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، والملائكة من جملة العالمين، وجب أن يكون أفضل منهم، والله أعلم.
وقال تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ «3» . وهذه الآية نص فى أنه لا نبى بعده، وإذا كان لا نبى بعده فلا رسول بطريق الأولى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبى، ولا ينعكس، كما قدمنا ذلك فى أسمائه الشريفة من المقصد الثانى. وبذلك وردت الأحاديث عنه- صلى الله عليه وسلم:
فروى أحمد من حديث أبى بن كعب أن النبى- صلى الله عليه وسلم قال: «مثلى فى النبيين كمثل رجل بنى دارا، فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة فلم يضعها: فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه، ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة، فأنا فى النبيين موضع تلك اللبنة» «4» ورواه الترمذى عن بندار عن
(1) سورة التكوير: 19- 21.
(2)
سورة التكوير: 22.
(3)
سورة الأحزاب: 40.
(4)
صحيح: وقد تقدم.
أبى عامر العقدى، وقال: حديث حسن صحيح. وفى حديث أنس بن مالك مرفوعا: (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدى ولا نبى)«1» رواه الترمذى وغيره. وفى حديث جابر مرفوعا: (مثلى ومثل الأنبياء، كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، وأنا موضع هذه اللبنة، ختم بى الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-)«2» رواه أبو داود الطيالسى، وكذا البخارى ومسلم.
وفى حديث أبى سعيد الخدرى: (فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة)«3» . رواه مسلم. وفى حديث أبى هريرة عند مسلم: (وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بى النبيون)«4» .
فمن تشريف الله تعالى له- صلى الله عليه وسلم ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر الله فى كتابه، ورسوله فى السنة المتواترة عنه، أنه لا نبى بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل، ولو تحذق وتشعبذ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات «5» ، فكلها محال وضلالة عند أولى الألباب. ولا يقدح فى هذا نزول عيسى ابن مريم- عليه السلام بعده، لأنه إذا نزل كان على دين نبينا- صلى الله عليه وسلم ومنهاجه، مع أن المراد: أنه آخر من نبئ. قال أبو حيان: ومن ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو إلى أن الولى أفضل من النبى فهو زنديق يجب قتله والله أعلم.
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (2272) فى الرؤيا، باب: ذهبت النبوة وبقيت البشرات، وأحمد فى «المسند» (3/ 267) ، والحاكم فى «المستدرك» (40/ 433) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2)
صحيح: وقد تقدم.
(3)
صحيح: وقد تقدم.
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (523) فى المساجد، باب: رقم (1) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(5)
النيرنج: شىء كالسحر.