الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، فبى يسمع، وبى يبصر، وبى يبطش، وبى يمشى، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه، وما ترددت فى شىء أنا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته» «1» .
ويستفاد من قوله: (وما تقرب إلى عبدى بشىء أحب إلى..) أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله تعالى.
[إشكال]
وعلى هذا فقد استشكل كون النوافل تنتج المحبة ولا تنتجها الفرائض؟.
وأجيب:
بأن المراد من النوافل إذا كانت مع الفرائض، مشتملة عليها ومكملة لها، ويؤيده: أن فى رواية أبى أمامة «ابن آدم، إنك لا تدرك ما عندى إلا بأداء ما افترضته عليك» ، أو يجاب: بأن الإتيان بالنوافل لمحض المحبة لا لخوف العقاب على الترك، بخلاف الفرائض، وقال الفاكهانى: معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض، وداوم على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى ذلك إلى محبة الله تعالى.
[إشكال]
وقد استشكل أيضا: كيف يكون البارى جل وعلا «سمع العبد وبصره» إلخ.
وأجيب بأجوبة:
منها: أنه ورد على سبيل التمثيل
،
والمعنى: كنت كسمعه وبصره فى إيثاره أمرى، فهو يحب طاعتى ويؤثر خدمتى كما يحب هذه الجوارح.
ومنها: أن المعنى
أن كليته مشغولة بى
،
فلا يصغى بسمعه إلا إلى ما يرضينى، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به.
ومنها: أن المعنى،
كنت له فى النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله فى المعاونة على عدوه.
ومنها: أنه على حذف مضاف
،
أى: كنت حافظ سمعه الذى يسمع به، فلا يسمع إلا ما يحل سماعه، وحافظ بصره كذلك إلخ. قال الفاكهانى.
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6502) فى الرقاق، باب: التواضع.
قال: ويحتمل معنى آخر أدق من الذى قبله: وهو: أن يكون بمعنى مسموعه، لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول، مثل: فلان أملى، بمعنى:
مأمولى، والمعنى: أنه لا يسمع إلا ذكرى ولا يلتذ إلا بتلاوة كتابى ولا يأنس إلا بمناجاتى، ولا ينظر إلا فى عجائب ملكوتى، ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاى، ورجله كذلك.
وقال غيره: اتفق العلماء- ممن يعتد بقولهم- على أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه تنزل عنده منزلة الآلات التى يستعين بها، ولهذا وقع فى رواية:«فبى يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى» . قال: والاتحادية زعموا أنه على حقيقته، وأن الحق عين العبد، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوّا كبيرا.
وقال الخطابى: عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء، والنجح فى الطلب، وذلك أن مساعى الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة.
وعن أبى عثمان الجيزى- أحد أئمة الطريق- قال: معناه كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه فى الإسماع وعينه فى النظر، ويده فى اللمس ورجله فى المشى. كذا أسنده عنه البيهقى فى «الزهد» «1» .
وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه، من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدورات، أنه يصير فى معنى الحق، تعالى الله عن ذلك، وأنه يفنى عن نفسه جملة، حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه، والموحد لنفسه، والمحب لنفسه، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدما صرفا. وعلى هذه الأوجه كلها فلا متمسك فيه للاتحادية ولا القائلين بالوحدة المطلقة، لقوله فى بقية الحديث (ولئن سألنى) ، زاد فى رواية عبد الواحد (عبدى) . انتهى ملخصا.
قال العلامة ابن القيم: بتضمن هذا الحديث الشريف الإلهى- الذى حرام على غليظ الطبع كثيف القلب فهم معناه والمراد به- حصر أسباب
(1)(ص 273) .
محبته فى أمرين، أداء فرائضه، والتقرب إليه بالنوافل، وأن المحب لا يزال يكثر من النوافل حتى يصير محبوبا لله، فإذا صار محبوبا لله أوجبت محبة الله له محبة أخرى منه لله فوق المحبة الأولى، فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه، وملك عليه روحه، ولم يبق فيه سعة لغير محبوبه ألبتة، فصار ذكر محبوبه وحبه مثله الأعلى مالكا لزمام قلبه، مستوليا على روحه استيلاء المحبوب على محبه الصادق فى محبته التى قد اجتمعت قوى محبه كلها له، ولا ريب أن هذا المحب إن سمع سمع بمحبوبه وإن أبصر أبصر به، وإن مشى مشى به، فهو فى قلبه ونفسه، وأنيسه وصاحبه. والباء- هنا- باء المصاحبة، وهى مصاحبة لا نظير لها، ولا تدرك بمجرد الإخبار عنها والعلم بها، فالمسألة حالية «1» لا علمية محضة.
قال: ولما حصلت الموافقة من العبد لربه فى محابه، حصلت موافقة الرب لعبده فى حوائجه ومطالبه فقال:«ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه» أى كما وافقنى فى مرادى بامتثال أوامرى، والتقرب إلى بمحابى، فأنا أوافقه فى رغبته ورهبته فيما يسألنى أن أفعله به، وفيما يستعذ بى أن يناله. وقوى أمر هذه الموافقة من الجانبين حتى اقتضى تردد الرب سبحانه فى إماتة عبده لأنه يكره الموت، والرب تعالى يكره ما يكره عبده، ويكره مساءته فمن هذه الجهة يقتضى أن لا يميته ولكن مصلحته فى إماتته، فإنه ما أماته إلا ليحييه، ولا أمرضه إلا ليصحه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا منعه إلا ليعطيه، ولم يخرجه من الجنة فى صلب أبيه آدم إلا ليعاد إليها على أحسن أحواله، فهذا هو الحبيب على الحقيقة لا سواه، انتهى.
وقال الخطابى: التردد فى حق الله غير جائز، والبداء عليه فى الأمور غير سائغ، ولكن له تأويلان:
أحدهما: أن العبد قد يشرف على الهلاك فى أيام عمره من داء يصيبه، أو فاقة تنزل به، فيدعو الله فيشفيه منها، ويدفع عنه مكروهها، فيكون ذلك
(1) حالية: نسبة إلى حال النفس.
من فعله كتردد من يريد أمرا ثم يبدو له فيه فيتركه ويعرض عنه، ولابد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله، لأن الله تعالى قد كتب الفناء على خلقه، واستأثر بالبقاء لنفسه.
والثانى: أن يكون معناه: ما رددت رسلى فى شىء أنا فاعله كترديدى إياهم فى قبض نفس عبدى المؤمن، كما روى فى قصة موسى- عليه الصلاة والسلام، وما كان من لطمه عين ملك الموت، وتردده إليه مرة بعد أخرى «1» . قال: وحقيقة المعنى- على الوجهين- عطف الله على العبد، ولطفه به، وشفقته عليه.؟ وقال الكلاباذى ما حاصله: أنه عبر عن صفة الفعل بصفة الذات، يعنى باعتبار متعلقها، أى عن الترديد بالتردد، وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعف ونصب إلى أن تنتقل محبته فى الحياة إلى محبته للموت، فيقبض على ذلك.
قال: وقد يحدث الله تعالى فى قلب عبده من الرغبة فيما عنده والشوق إليه والمحبة للقائه ما يشتاق معه إلى الموت، فضلا عن إزالة الكراهة عنه، انتهى.
وبالجملة: فلا حياة للقلب إلا بمحبة الله ومحبة رسوله، ولا عيش إلا عيش المحبين الذين قرت أعينهم بحبيبهم وسكنت نفوسهم إليه واطمأنت قلوبهم به، واستأنسوا بقربه وتنعموا بمحبته، ففى القلب طاقة لا يسدها إلا محبة الله ورسوله ومن لم يظفر بذلك فحياته كلها هموم وغموم وآلام وحسرات.
قال صاحب المدارج: ولن يصل العبد إلى هذه المنزلة العلية والمرتبة السنية حتى يعرف الله ويهتدى إليه بطرق توصله إليه، ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة، فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب إليها بكليته،
(1) هذه القصة أخرجها البخارى (1339) فى الجنائز، باب: من أحب الدفن فى الأرض المقدسة، ومسلم (2372) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- صلى الله عليه وسلم، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
ويزهد فى التعلقات الفانية، ويدأب فى تصحيح التوبة، والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة، ثم يقوم حارسا على قلبه فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله تعالى، ولا بخطرة فضول لا تنفعه، فيصفو لذلك قلبه بذكر ربه ومحبته والإنابة إليه، ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه، إلى فضاء الخلوة بربه وذكره، كما قال:
وأخرج من بين البيوت لعلنى
…
أحدث عنك النفس فى السر خاليا
فحينئذ يجتمع قلبه وخواطره وحديث نفسه على إرادة ربه وطلبه والشوق إليه، فإذا صدق فى ذلك رزق محبة الرسول، واستولت روحانيته على قلبه، فجعله إمامه وأستاذه ومعلمه وشيخه وقدوته، كما جعله الله نبيه ورسوله وهاديه، فيطالع سيرته ومبادى أموره، وكيفية نزول الوحى عليه، ويعرف صفاته وأخلاقه وآدابه وحركاته وسكونه، ويقظته ومنامه، وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه، إلى غير ذلك مما منحه الله تعالى، مما ذكرت بعضه، حتى يصير كأنه معه من بعض أصحابه، فإذا رسخ فى قلبه ذلك فتح عليه من ربه بحيث إذا قرأ السورة شاهد قلبه ماذا أنزلت فيه، وماذا أريد بها، وحظه المختص به منها، من الصفات والأخلاق والأفعال المذمومة، فيجهد فى التخلص منها، كما يجتهد فى تحصيل الشفاء من المرض المخوف.
ولمحبة الرسول- صلى الله عليه وسلم علامات: أعظمها الاقتداء به، واستعمال سنته، وسلوك طريقته، والاهتداء بهديه وسيرته، والوقوف مع ما حدّ لنا من شريعته. قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «1» فجعل تعالى متابعة الرسول- صلى الله عليه وسلم آية محبة العبد ربه، وجعل جزاء العبد على حسن متابعة الرسول محبة الله تعالى إياه، وقد قال الحكيم- وهو محمود الوراق- كما أفاده المحاسبى فى كتابه «القصد والرجوع» :
تعصى الإله وأنت تظهر حبه
…
هذا لعمرى فى القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته
…
إن المحب لمن يحب مطيع
(1) سورة آل عمران: 31.
وهذه المحبة تنشأ من مطالعة منة الله عليه من نعمه الظاهرة والباطنة، فبقدر مطالعة ذلك تكون قوة المحبة. ومن أعظم مطالعة منة الله على عبده منة تؤهله لمحبته ومعرفته ومتابعة حبيبه- صلى الله عليه وسلم، وأصل هذا نور يقذفه الله تعالى فى قلب ذلك العبد، فإذا دار ذلك النور أشرقت له ذاته، فرأى فى نفسه وما أهلت له من الكمالات والمحاسن، فعلت به همته، وقويت عزيمته، وانقشعت عنه ظلمات نفسه وطبعه، لأن النور والظلمة لا يجتمعان إلا ويطرح أحدهما الآخر، فوقعت الروح حينئذ بين الهيبة والأنس إلى الحبيب الأول.
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
…
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل فى الأرض يألفه الفتى
…
وحنينه أبدا لأول منزل
وبحسب هذا الاتباع توجب المحبة والمحبوبية معا، ولا يتم الأمر إلا بهما، فليس الشأن أن تحب الله، بل الشأن أن يحبك الله، ولا يحبك إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهرا وباطنا، وصدقته خبرا، وأطعته أمرا، وأجبته دعوة، وآثرته طوعا، وفنيت عن حكم غيره بحكمه، وعن محبة غيره من الخلق وعن طاعة غيره بطاعته، وإن لم تكن كذلك فلا تتعن، فلست على شىء.
وتأمل قوله تعالى: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «1» أى الشأن فى أن الله تعالى يحبكم، لا فى أنكم تحبونه، هذا لا ينالونه إلا باتباع الحبيب.
وقال المحاسبى فى كتاب «القصد والرجوع» : وعلامة محبة العبد لله عز وجل اتباع مرضاة الله، والتمسك بسنن رسوله- صلى الله عليه وسلم، فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان، ووجد طعمه، ظهرت ثمرة ذلك على جوارحه ولسانه، فاستحلى اللسان ذكر الله تعالى وما والاه، وأسرعت الجوارح إلى طاعة الله، فحينئذ يدخل حب الإيمان فى القلب كما يدخل حب الماء البارد الشديد برده فى اليوم الشديد الحر للظمان الشديد عطشه، فيرتفع عنه تعب الطاعة لاستلذاذه بها، بل تبقى الطاعات غذاء لقلبه وسرورا له، وقرة عين فى حقه ونعيما لروحه، يلتذ بها أعظم من اللذات الجسمانية، فلا يجد فى أوراد العبادة كلفة.
(1) سورة آل عمران: 31.
وفى الترمذى عن أنس مرفوعا: (ومن أحيا سنتى فقد أحبنى، ومن أحبنى كان معى فى الجنة)«1» . وعن ابن عطاء: من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب فى أوامره ونواهيه، وأفعاله وأخلاقه. وقال أبو إسحاق الرقى- من أقران الجنيد-:
علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه- صلى الله عليه وسلم. وعن غيره: ولا يظهر على أحد شىء من نور الإيمان إلا باتباع السنة ومجانبة البدعة. فأما من أعرض عن الكتاب والسنة، ولم يتلق العلم من مشكاة الرسول- صلى الله عليه وسلم بدعواه علما لدنيّا أوتيه فهو من لدن النفس والشيطان، وإنما يعرف كون العلم لدنيّا روحانيّا بموافقته لما جاء به الرسول عن ربه تعالى، فالعلم اللدنى نوعان:
لدنى رحمانى ولدنى شيطانى، والمحك هو الوحى، ولا وحى بعد الرسول- صلى الله عليه وسلم.
وأما قصة موسى مع الخضر فالتعلق بها فى تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدنى إلحاد وكفر، يخرج عن الإسلام، موجب لإراقة الدم، والفرق:
أن موسى- عليه السلام لم يكن معبوثا إلى الخضر، ولم يكن الخضر مأمورا بمتابعته، ولو كان مأمورا بها لوجب عليه أن يهاجر إلى موسى ويكون معه.
ولهذا قال له: أنت موسى نبى بنى إسرائيل؟ قال: نعم «2» ، ومحمد- صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين، فرسالته عامة للجن والإنس فى كل زمان، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه.
فمن ادعى أنه مع محمد كالخضر مع موسى، أو جوز ذلك لأحد من الأمة، فليجدد إسلامه، وليتشهد بشهادة الحق، فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلا عن أن يكون من خاصة أولياء الله تعالى. وإنما هو من أولياء الشيطان وحلفائه ونوابه.
(1) ضعيف: والحديث أخرجه الترمذى (2678) فى العلم، باب: ما جاء فى الأخذ بالسنة واجتناب البدع، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (2380) فى الفضائل، باب: من فضائل الخضر- عليه السلام، من حديث أبى بن كعب- رضى الله عنه-، بنحوه.
والعلم اللدنى الرحمانى هو ثمرة العبودية والمتابعة لهذا النبى الكريم.
- عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم-، وبه يحصل الفهم فى الكتاب والسنة بأمر يختص به صاحبه كما قال على بن أبى طالب، وقد سئل: هل خصكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم بشىء دون الناس؟ فقال: لا، إلا فهما يؤتيه الله عبدا فى كتابه. فهذا هو العلم اللدنى الحقيقى. فاتباع هذا النبى الكريم حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض النفوس، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين.
ومن علامة محبته: أن يرضى مدعيها بما شرعه، حتى لا يجد فى نفسه حرجا مما قضى. قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً «1» ، فسلب اسم الإيمان عن من وجد فى صدره حرجا من قضائه ولم يسلم له.
قال شيخ المحققين وإمام العارفين، تاج الدين بن عطاء الله الشاذلى- أذاقنا الله حلاوة مشربه-: فى هذه الآية دلالة على أن الإيمان الحقيقى لا يحصل إلا لمن حكم الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم على نفسه قولا وفعلا وأخذا وتركا، وحبّا وبغضا، ويشتمل ذلك على حكم التكليف وحكم التعريف، والتسليم والانقياد واجب على كل مؤمن فى كليهما. فأحكام التكليف: الأوامر والنواهى المتعلقة باكتساب العباد. وأحكام التعريف: هو ما أورده عليك من فهم المراد. فتبين من هذا: أنه لا يحصل لك حقيقة الإيمان إلا بأمرين: الامتثال لأمره، والاستسلام لقهره.
ثم إنه سبحانه لم يكتف بنفى الإيمان عمن لم يحكم، أو حكم ووجد الحرج فى نفسه، حتى أقسم على ذلك بالربوبية الخاصة برسوله- صلى الله عليه وسلم رأفة وعناية وتخصيصا ورعاية، لأنه لم يقل: فلا والرب، وإنما قال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ «2» ففى ذلك تأكيد بالقسم، وتأكيد
(1) سورة النساء: 65.
(2)
سورة النساء: 65.
فى القسم، علما منه سبحانه بما النفوس منطوية عليه من حب الغلبة ووجود النصرة سواء كان الحق عليها أو لها، وفى ذلك إظهار لعنايته برسوله- صلى الله عليه وسلم، إذ جعل حكمه حكمه، وقضاءه قضاءه، فأوجب على العباد الاستسلام لحكمه، والانقياد لأمره، ولم يقبل منهم الإيمان بإلهية حتى يذعنوا لأحكام رسوله- صلى الله عليه وسلم، لأنه كما وصفه به ربه وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1» ، فحكمه حكم الله، وقضاؤه قضاء الله، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «2» وأكد ذلك بقوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «3» .
وفى الآية إشارة أخرى إلى تعظيم قدره، وتفخيم أمره- صلى الله عليه وسلم وهى قوله تعالى: وَرَبِّكَ «4» فأضاف نفسه إليه، كما قال فى الآية الآخرى:
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا «5» فأضاف الحق سبحانه نفسه إلى محمد، وأضاف زكريا إليه ليعلم العباد فرق ما بين المنزلتين وتفاوت ما بين الرتبتين.
ثم إنه تعالى لم يكتف بالتحكيم الظاهر فيكونوا به مؤمنين، بل اشترط فقدان الحرج- وهو الضيق- من نفوسهم فى أحكامه- صلى الله عليه وسلم، سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفها، وإنما تضيق النفوس لفقدان الأنوار، ووجود الأغيار، فعنه يكون الحرج وهو الضيق، والمؤمنون ليسوا كذلك، إن نور الإيمان ملأ قلوبهم فاتسعت وانشرحت، فكانت واسعة بنور الواسع العليم، ممدودة بوجود فضله العظيم، مهيأة لواردات أحكامه مفوضة له فى نقضه وإبرامه. انتهى.
وقال سهل بن عبد الله: من لم ير ولاية الرسول عليه فى جميع
(1) سورة النجم: 3، 4.
(2)
سورة الفتح: 10.
(3)
سورة الفتح: 10.
(4)
سورة النساء: 65.
(5)
سورة مريم: 1، 2.
الأحوال، ويرى نفسه فى ملكه لم يذق حلاوة سنته، لأنه- صلى الله عليه وسلم قال:«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» «1» . وروينا عن سيدنا العارف الكبير أبى عبد الله القرشى أنه قال: حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، ولا يبقى لك منك شىء. انتهى. فمن آثر هذا النبى الكريم على نفسه، كشف الله له عن حضرة قدسه، ومن كان معه بلا اختيار ظهرت له خفايا حقائق أسرار أنسه.
ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم نصر دينه بالقول والفعل، والذب عن شريعته، والتخلق بأخلاقه فى الجود والإيثار، والحلم والصبر والتواضع وغيرها، مما ذكرته فى أخلاقه العظيمة، وتقدم فى كلام العارف ابن عطاء الله مزيد لذلك قريبا. فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، ومن وجدها استلذ بالطاعات، وتحمل المشاق فى الدين، وآثر ذلك على أغراض الدنيا.
لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلى حرقة الشجى، فتنوع المدعون فى الشهود، فقيل لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «2» ، فتأخر أكثرهم وثبت أتباع الحبيب فى أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة، بتزكية يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ «3» . فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ»
، فلما عرفوا عظمة ذلك المشترى وفضل الثمن وجلالة من أجرى على يده عقد التبايع، عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنا عظيما، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2)
سورة آل عمران: 31.
(3)
سورة المائدة: 54.
(4)
سورة التوبة: 111.
بالتراضى، من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم؛ قد صارت نفوسكم وأموالكم لنا، رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعافها معها وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «1» .
ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم التسلى عن المصائب، فإن المحب يجد فى هذه المحبة ما ينسيه المصائب، ولا يجد فى مسها ما يجد غيره، حتى كأنه قد اكتسى طبيعة ثانية ليست طبيعة الخلق، بل يقوى سلطان المحبة حتى يلتذ بكثير من المصائب أعظم من التذاذ الخلى بحظوظه وشهواته، والذوق والوجود شاهد بذلك. فكرب المحبة موجود ممزوج بالحلاوة فإن فقد تلك الحلاوة اشتاق إلى ذلك الكرب كما قيل:
تشكى المحبون الصبابة ليتنى
…
نحلت بما يلقون من بينهم وحدى
فكانت لقلبى لذة الحب كلها
…
فلم يلقها قبلى محب ولا بعدى
ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم كثرة ذكره، فمن أحب شيئا أكثر من ذكره. ولبعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب، ولآخر: ذكر المحبوب على عدد الأنفاس. ولغيره: للمحب ثلاث علامات: أن يكون كلامه ذكر المحبوب، وصمته فكرا فيه، وعمله طاعة له. وقال المحاسبى: علامة المحبين كثرة الذكر للمحبوب على طريق الدوام، لا ينقطعون ولا يملون ولا يفترون، وقد أجمع الحكماء على أن من أحب شيئا أكثر من ذكره، فذكر المحبوب هو الغالب على قلوب المحبين لا يريدون به بدلا ولا يبغون عنه حولا، ولو قطعوا عن ذكر محبوبهم لفسد عيشهم، وما تلذذ المتلذذون بشىء ألذ من ذكر المحبوب. انتهى.
فالمحبون قد اشتغلت قلوبهم بلزوم ذكر المحبوب عن اللذات، وانقطعت أوهامهم عن عارض دواعى الشهوات، ورقت إلى معادن الذخائر وبغية
(1) سورة آل عمران: 169، 170.
الطلبات، وربما تزايد وجد المحب، وهاج الحنين وباح الأنين، وتحركت المواجيد، وتغير اللون، واستبسلت الجوارح، وفتر البدن واقشعر الجلد، وربما صاح، وربما بكى، وربما شهق وربما وله وربما سقط، ولسيدى محمد وفا:
إذا أباح دم المهجور هاجره
…
باح المحب بما تخفى ضمائره
أيكتم الحب صب باح مدمعه
…
لما جرى بالذى تخفى سرائره
كأنما قلبه أجفان مقلته
…
ودمعه فى أماقيه خواطره
يا جيرة الجزع هل من جيرة لفتى
…
عليه فى حكمه قد جار جائره
آه وكم لى على خطب الهوى خطب
…
من الغرام به تعلو منابره
مهفهف أبلج بدر على غصن
…
تخفى البدور إذا لاحت بوادره
مطرز الخد بالريحان فى ضرج
…
مورد آسه تزهو أزاهره
مكحل الخلق ما تحصى خصائصه
…
منضر الحسن قد قلت نظائره
وربما زاد الوجد على المحب فقتله. أول نقد أثمان المحبة بذل الروح، فما للمفلس الجبان وسومها؟! بدم المحب يباع وصلهم، تالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فينفقها بالنسيئة المعسرون، لقد أسيمت للعرض فى سوق من يزيد، فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطالون وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنا فدارت السلعة بينهم ووقعت فى يد أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «1» .
فذكره- صلى الله عليه وسلم جلاء قلوبنا، وشفاء صدورنا، وحلاوة ألسنتنا فى جميع الحالات، على اختلاف الأوقات والساعات، يتشرّف بذكره فى جميع العبادات، وفى الجمع والجماعات، والخطب والصلوات، وسائر التقلبات والتصرفات، حتى فى المعاطاة والمبايعات، وعقود المصالحات، واستفتاح المعاقدات والمعاهدات، وخصوصا عند الأذكار والدعوات، فإن بها ولوجها فى أبواب الإجابات.
(1) سورة المائدة: 54.
ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم تعظيمه عند ذكره، وإظهار الخشوع والخضوع والانكسار مع سماع اسمه، فكل من أحب شيئا خضع له، كما كان كثير من الصحابة بعده إذا ذكروه خشعوا واقشعرت جلودهم وبكوا، وكذلك كان كثير من التابعين فمن بعدهم يفعلون ذلك محبة وشوقا وتهيبا وتوقيرا. قال أبو إبراهيم التجيبى. واجب على كل مؤمن متى ذكره، أو ذكر عنده، أن يخضع ويخشع ويتوقر ويسكن من حركته، ويأخذ فى هيبته وإجلاله، بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه ويتأدب بما أدبنا الله به.
وكان أيوب السختيانى إذا ذكر النبى- صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه. وكان جعفر بن محمد كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر النبى- صلى الله عليه وسلم اصفر لونه.
وكان عبد الرحمن بن القاسم إذا ذكر النبى- صلى الله عليه وسلم ينظر إلى لونه كأنه قد نزف منه الدم، وقد جف لسانه فى فمه هيبة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم. وكان عبد الله بن الزبير إذا ذكر عنده النبى- صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى فى عينيه دموع.
وكان الزهرى من أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذكر عنده النبى- صلى الله عليه وسلم فكأنك ما عرفته ولا عرفك. وكان صفوان بن سليم من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر عنده النبى- صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكى حتى يقوم الناس عنه ويتركوه.
وكان قتادة إذا سمع الحديث، أخذه البكاء والعويل والزويل. أشار إلى ذلك القاضى عياض. ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم كثرة الشوق إلى لقائه، إذ كل حبيب يحب لقاء حبيبه. ولبعضهم: المحبة الشوق إلى المحبوب، وعن معروف الكرخى: المحبة ارتياح الذات لمشاهدة الصفات، أو مشاهدة أسرار الصفات، فيرى بلوغ السؤل ولو بمشاهدة الرسول. ولهذا كانت الصحابة- رضى الله عنهم- إذا اشتد بهم الشوق وأزعجتهم لواعج المحبة قصدوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم واشتفوا بمشاهدته، وتلذذوا بالجلوس معه والنظر إليه والتبرك به- صلى الله عليه وسلم.
وعن عبدة بنت خالد بن معدان: ما كان خالد يأوى إلى فراش إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار
يسميهم ويقول: هم أصلى وفصلى، وإليهم يحن قلبى، طال شوقى إليهم، فعجل رب قبضى إليك حتى يغلبه النوم. ولما احتضر بلال نادت امرأته، وا كرباه فقال: وا طرباه، غدا ألقى الأحبة، محمدا وصحبه. إذا ذاق المحب طعم المحبة اشتاق وتأججت نيران الحب والطلب فى قلبه، ويجد الصبر عن محبوبه من أعظم كبائره كما قيل:
والصبر يحمد فى المواطن كلها
…
إلا عليك فإنه لا يحمد
وعن زيد بن أسلم: خرج عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- ليلة يحرس فرأى مصباحا فى بيت فإذا عجوز تنفش صوفا وتقول:
على محمد صلاة الأبرار
…
صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قواما بكاء بالأسحار
…
يا ليت شعرى والمنايا أطوار
هل تجمعنى وحبيبى الدار
تعنى النبى- صلى الله عليه وسلم، فجلس عمر يبكى، ثم قام إلى باب خيمتها فقال:
السلام عليكم، ثلاث مرات فقال لها: أعيدى على قولك، فأعادته بصوت حزين، فبكى وقال لها: وعمر لا تنسينه يرحمك الله، فقالت: وعمر فاغفر له يا غفار.
ويحكى أنه رؤيت امرأة مسرفة على نفسها، بعد موتها، فقيل لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لى، قيل: بماذا؟ قالت: بمحبتى للنبى- صلى الله عليه وسلم وشهوتى النظر إليه، فنوديت: من اشتهى النظر إلى حبيبنا فنستحى أن نذله بعتابنا، بل نجمع بينه وبين من يحبه.
ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم حب القرآن الذى أتى به، واهتدى به وتخلق به، وإذا أردت أن تعرف ما عندك وعند غيرك من محبة الله ورسوله فانظر محبة القرآن من قلبك، والتذاذك بسماعه أعظم من التذاذ أصحاب الملاهى والغناء المطرب بسماعهم، فإنه من المعلوم أن من أحب محبوبا كان كلامه وحديثه أحب شىء إليه، كما قيل:
إن كنت تزعم حبى
…
فلم هجرت كتابى
أما تأملت ما في
…
هـ من لذيذ خطابى
ويروى أن عثمان بن عفان قال: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله وكيف يشبع المحب من كلام محبوبه وهو غاية مطلوبه. قال النبى- صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: «اقرأ على» قال: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟
فقال: «إنى أحب أن أسمعه من غيرى» . فاستفتح وقرأ سورة النساء حتى بلغ فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «1» قال:
«حسبك» ، فرفع رأسه فإذا عينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم تذرفان من البكاء «2» .
رواه البخارى.
وهذا يجده من سمع الكتاب العزيز بأذن قلبه، قال الله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ «3» . قال صاحب «عوارف المعارف» - أذاقنا الله حلاوة مشربه-: هذا السماع هو السماع الحق، الذى لا يختلف فيه اثنان من أهل الإيمان، محكوم لصاحبه بالهداية، وهذا سماع ترد حرارته على برد اليقين، فتفيض العين بالدمع، لأنه تارة يثير حزنا، والحزن حار، وتارة يثير شوقا، والشوق حار، وتارة يورث ندما، والندم حار، فإذا أثار السماع هذه الصفات، من صاحب قلب مملوء ببرد اليقين بكى وأبكى، لأن الحرارة والبرودة إذا اضطربتا عصرتا ماء، فإذا ألمّ السماع بالقلب تارة يخف إلمامه فيظهر أثره فى الجسد ويقشعر منه الجلد، قال الله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ «4» ، وتارة يعظم وقعه ويتصوب أثره- أى يقصد- نحو الدماغ فتندفق منه العين بالدمع،
(1) سورة النساء: 41.
(2)
صحيح: والحديث أخرجه البخارى (4582) فى التفسير، باب: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً، ومسلم (800) فى صلاة المسافرين، باب: فضل استماع القرآن.
(3)
سورة المائدة: 83.
(4)
سورة الزمر: 23.
وتارة يتصوب أثره إلى الروح، فتموج منه الروح موجا، ويكاد يضيق عنه نطاق القالب، فيكون من ذلك الصياح والاضطراب، وهذه كلها أحوال يجدها أربابها من أصحاب الأحوال.
وقد كان ابن عمر، - رضى الله عنهما-، ربما مر باية فى ورده فتخنقه العبرة ويسقط ويلزم البيت اليوم واليومين حتى يعاد ويحسب مريضا.
وقد كان الصحابة إذا اجتمعوا وفيهم أبو موسى الأشعرى يقولون: يا أبا موسى ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يسمعون.
فلمحبى السماع القرآنى من الوجد والذوق واللذة والحلاوة والسرور أضعاف ما لمحبى السماع الشيطانى، فإذا رأيت الرجل ذوقه ووجده وطربه ونشأته فى سماع الأبيات دون سماع الآيات، وفى سماع الألحان دون سماع القرآن كما قيل: نقرأ عليك الختمة وأنت جامد كالحجر، وبيت من الشعر ينشد تميل كالنشوانى، فاعلم أن هذا من أقوى الأدلة على فراغ قلبه من محبة الله ورسوله، أدام الله لنا حلاوة محبته، ولا سلك بنا فى غير سبيل سنته، بمنه ورحمته.
ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم محبة سنته، وقراءة حديثه، فإن من دخلت حلاوة الإيمان فى قلبه إذا سمع كلمة من كلام الله تعالى، أو من حديث رسوله- صلى الله عليه وسلم تشربتها روحه وقلبه ونفسه، ويقول:
أشم منك نسيما لست أعرفه
…
أظن لمياء جرت فيك أردانا
فتعمه تلك الكلمة وتشمله، فتصير كل شعرة منه سمعا، وكل ذرة منه بصرا، فيسمع الكل بالكل ويبصر الكل بالكل ويقول:
لى حبيب خياله نصب عينى
…
سره فى ضمائرى مدفون
إن تذكرته فكلى قلوب
…
أو تأملته فكلى عيون
فحينئذ يستنير قلبه، ويشرق سره، وتتلاطم عليه أمواج التحقيق عند ظهور البراهين، ويرتوى برى عطف محبوبه، الذى لا شىء أروى لقلبه من
عطفه عليه، ولا شىء أشد للهيبه وحريقه من إعراضه عنه، ولهذا كان عذاب أهل النار باحتجاب ربهم عنهم أشد عليهم من العذاب الجسمانى، كما أن نعيم أهل الجنة برؤيته تعالى وسماع خطابه ورضاه وإقباله أعظم من النعيم الجسمانى، لا حرمنا الله ذوق حلاوة هذا المشرب.
ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم أن يلتذ محبه بذكره الشريف ويطرب عند سماع اسمه المنيف، وقد يوجب له ذلك سكرا يستغرق قلبه وروحه وسمعه.
وسبب هذا السكر اللذة القاهرة للعقل، وسبب اللذة إدراك المحبوب- صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت المحبة قوية وإدراك هذا المحبوب قويّا كانت اللذة بإدراكه تابعة لقوة هذين الأمرين. فإن كان العقل قويّا مستحكما لم يتغير لذلك، وإن كان ضعيفا حدث السكر المخرج له عن حكمه. وقد حدوا السكر بأنه: سقوط التمالك فى الطرب، كأنه يبقى فى السكران بقية يلتذ بها ويطرب، فلا يتمالك صاحبها، ولا يقدر أن يفنى معها.
وقد يكون سبب السكر قوة الفرح بإدراك المحبوب، بحيث يختلط كلامه وتتغير أفعاله، بحيث يزول عقله ويعربد أعظم من عربدة شارب الخمر. وربما قتله سكر هذا الفرح بسبب طبيعى، وهو انبساط دم القلب وهلة واحدة انبساطا غير معتاد، والدم هو حائل الحار الغريزى، فيبرد القلب بسبب انبساط الدم عنه فيحدث الموت.
ومن هذا قول سكران الفرح- بوجود راحلته فى المفازة بعد أن استشعر الموت-: اللهم أنت عبدى وأنا ربك أخطأ من شدة فرحه «1» ، وسكرة الفرح فوق سكرة الشراب فصور فى نفسك حال فقير معدم، عاشق للدنيا أشد العشق، ظفر بكنز عظيم، فاستولى عليه آمنا مطمئنا، كيف تكون سكرته؟ أو
(1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (2747) فى التوبة، باب: فى الحض على التوبة والفرح بها، من حديث أنس- رضى الله عنه-، إلا أن فى استخدام مصطلحات السكر شىء لا يستحب لارتباطه بالخمر التى حرمها الله عز وجل، والأولى استخدام ألفاظ أخرى تناسب مقام العبودية، والله الموفق إلى الصواب.
من غاب عنه غلامه بمال عظيم مدة سنين، حتى أضرّ به العدم، فقدم عليه من غير انتظار له بماله كله، وقد كسب أضعافه، كيف تكون سكرته؟
ومن أقوى أسباب ما نحن فيه سماع الأصوات المطربة بالإنشادات بالصفات النبوية المغربة المعربة إذا صادفت محلّا قابلا فلا تسأل عن سكرة السامع، وهذا السكر يحدث عندها من جهتين: إحداهما أنها فى نفسها توجب لذة قوية ينغمر منها العقل، الثانية: أنها تحرك النفس إلى نحو محبوبها وجهته، فتحصل بتلك الحركة والشوق والطلب مع التخيل للمحبوب وإحضاره فى النفس، وإدناء صورته إلى القلب واستيلائها على الفكرة لذة عظيمة تغمر القلب، فتجتمع لذة الألحان ولذة الأشجان، فتسكر الروح سكرا عجيبا أطيب وألذ من سكر الشراب، وتحصل له به نشأة ألذ من نشأة الشراب.
وقد ذكر الإمام أحمد وغيره: أن الله تعالى يقول لداود: مجدنى بذلك الصوت الذى كنت تمجدنى به فى الدنيا، فيقول: كيف وقد أذهبته فيقول: أنا أرده عليك، فيقوم عند ساق العرش ويمجده، فإذا سمع أهل الجنة صوته استفرغ نعيم أهل الجنة. وأعظم من ذلك: إذا سمعوا كلام الرب جل جلاله وخطابه لهم، فإذا انضاف إلى ذلك رؤية وجهه الكريم الذى يغنيهم لذة رؤيته عن رؤية الجنة ونعيمها، فأمر لا تدركه العبارة ولا تحيط به الإشارة، وهذه صفة لا تلج كل أذن، وصيب لا تحيا به كل أرض، وعين لا يشرب منها كل وارد، وسماع لا يطرب عليه كل سامع، ومائدة لا يجلس عليها كل طفيلى، أشار إليه فى المدارج.
فمن اتصف بهذه العلامات التى ذكرتها فهو كامل المحبة لله ورسوله، ومن خالف بعضها فهو ناقص المحبة، ولا يخرج عن اسمها بدليل قوله- صلى الله عليه وسلم للذى حده فى الخمر- لما لعنه بعضهم وقال: ما أكثر ما يؤتى به- فقال- صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» «1» ، فيخبر أنه يحب الله
(1) مرسل: أخرجه عبد الرزاق فى «مصنفه» (3552 و 17082) عن زيد بن أسلم مرسلا.