الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عظيم، وسمى الدين خلقا لأن الخلق هيئة مركبة من علوم صادقة وإرادات زاكية وأعمال ظاهرة وباطنة موافقة للعدل والحكمة والمصلحة، وأقوال مطابقة للحق، تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات فتكتسب النفس بها أخلاقا هى أزكى الأخلاق وأشرفها وأفضلها. وهذه كانت أخلاقه- صلى الله عليه وسلم المقتبسة من القرآن، فكان كلامه مطابقا للقرآن تفصيلا وتبيينا، وعلومه علوم القرآن، وإراداته وأعماله ما أوجبه وندب إليه القرآن، وإعراضه وتركه لما منع منه القرآن، ورغبته فيما رغب فيه، وزهده فيما زهد فيه، وكراهته لما كرهه، ومحبته لما أحبه، وسعيه فى تنفيذ أوامره، فترجمت أم المؤمنين- لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول، وحسن تعبيرها- عن هذا كله بقولها:«كان خلقه القرآن» ، وفهم السائل عنها هذا المعنى فاكتفى به واشتفى.
ولما وصفه تعالى بأنه على خلق عظيم قال: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ «1» أى فسترى يا محمد وسيرى المشركون كيف عاقبة أمرك، فإنك تصير معظما فى القلوب، ويصيرون أذلاء مغلوبين، وتستولى عليهم بالقتل والنهب.
الفصل الثانى فى قسمه تعالى على ما أنعم به عليه وأظهره من قدره العلى لديه
قال الله تعالى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى «2» السورة. أقسم تعالى على إنعامه على رسوله- صلى الله عليه وسلم وإكرامه له وإعطائه ما يرضيه، وذلك متضمن لتصديقه له، فهو قسم على صحة نبوته، وعلى جزائه فى الآخرة، فهو قسم على النبوة والمعاد. وأقسم تعالى بايتين عظيمتين من آياته دالتين على ربوبيته ووحدانيته، وحكمته ورحمته، وهما الليل والنهار، وفسر بعضهم- كما حكاه الإمام فخر الدين- الضحى بوجهه- صلى الله عليه وسلم والليل بشعره، قال: ولا استبعاد فيه.
وتأمل مطابقة هذا القسم، وهو نور الضحى الذى يوافى بعد ظلام
(1) سورة القلم: 5، 6.
(2)
سورة الضحى: 1- 3.
الليل، للمقسم عليه وهو نور الوحى الذى وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمدا ربّه، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحى ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه.
وأيضا فإن الذى اقتضت رحمته أن لا يترك عباده فى ظلمة الليل سرمدا بل هداهم بضوء النهار إلى مصالحهم ومعايشهم لا يتركهم فى ظلمة الجهل والغى بل يهداهم بنور الوحى والنبوة إلى مصالح دنياهم وآخرتهم، فتأمل حسن ارتباط المقسم به بالمقسم عليه. وتأمل هذه الجزالة والرونق الذى على هذه الألفاظ، والجلالة التى على معانيها.
ونفى سبحانه أن يكون ودع نبيه أو قلاه، والتوديع: الترك، والقلى:
البغض، أى: ما تركك منذ اعتنى بك، ولا أبغضك منذ أحبك، وحذف «الكاف» من «قلا» اكتفاء بكاف ودعك، ولأن رؤوس الآيات بالياء فأوجب اتفاق الفواصل حذفها.
وهذا يعم كل أحواله، وإن كل حالة يرقيه إليها هى خير له مما قبلها، كما أن الدار الآخرة خير له مما قبلها، ثم وعده بما تقربه عينه وتفرح به نفسه، وينشرح له صدره، وهو أن يعطيه فيرضى. وهذا يعم ما يعطيه من القرآن والهدى والنصر والظفر بأعدائه يوم بدر وفتح مكة، ودخول الناس فى الدين أفواجا، والغلبة على بنى قريظة والنضير، وبث عساكره وسراياه فى بلاد العرب، وما فتح على خلفائه الراشدين فى أقطار الأرض من المدائن، وقذف فى قلوب أعدائه من الرعب، ونشر الدعوة، ورفع ذكره وإعلاء كلمته، وما يعطيه بعد مماته، وما يعطيه فى موقف القيامة من الشفاعة والمقام المحمود، وما يعطيه فى الجنة من الوسيلة والدرجة الرفيعة والكوثر. وقال ابن عباس:
يعطيه ألف قصر من لؤلؤ أبيض، ترابها المسك وفيها ما يليق بها.
وبالجملة: فقد دلت هذه الآية على أنه تعالى يعطيه- صلى الله عليه وسلم كل ما يرضيه. وأما ما يغتر به الجهال من أنه لا يرضى واحد من أمته فى النار، أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار، فهو من غرور الشيطان لهم ولعبه بهم، فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- يرضى بما يرضى به ربه تبارك