الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثانى فيما خصّه الله تعالى به من المعجزات وشرفه به على سائر الأنبياء من الكرامات والآيات البيّنات
اعلم نور الله قلبى وقلبك، وقدس سرى وسرك، أن الله تعالى قد خص نبينا- صلى الله عليه وسلم بأشياء لم يعطها لنبى قبله، وما خص نبى بشىء إلا وكان لسيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم مثله، فإنه أوتى جوامع الكلم، وكان نبيّا وآدم بين الروح والجسد، وغيره من الأنبياء لم يكن نبيّا إلا فى حال نبوته وزمان رسالته.
ولما أعطى هذه المنزلة علمنا أنه- صلى الله عليه وسلم الممد لكل إنسان كامل مبعوث ويرحم الله الأديب شرف الدين الأبوصيرى فلقد أحسن حيث قال:
وكل آى أتى الرسل الكرام بها
…
فإنما اتصلت من نوره بهم
فإنه شمس فضل هم كواكبها
…
يظهرن أنوارها للناس فى الظلم
قال العلامة ابن مرزوق: يعنى أن كل معجزة أتى بها كل واحد من الرسل فإنما اتصلت بكل واحد منهم من نور محمد- صلى الله عليه وسلم وما أحسن قوله:
فإنما اتصلت من نوره بهم فإنه يعطى أن نوره- صلى الله عليه وسلم لم يزل قائما به ولم ينقص منه شىء، ولو قال: فإنما هى من نوره لتوهم أنه وزع عليهم وقد لا يبقى له منه شىء. وإنما كانت آيات كل واحد من نوره- صلى الله عليه وسلم لأنه شمس فضل هم كواكب تلك الشمس يظهرن- أى تلك الكواكب- أنوار تلك الشمس للناس فى الظلم. فالكواكب ليست مضيئة بالذات وإنما هى مستمدة من الشمس فهى عند غيبة الشمس تظهر نور الشمس. فكذلك الأنبياء قبل وجوده- صلى الله عليه وسلم كانوا يظهرون فضله فجميع ما ظهر على أيدى الرسل- عليهم
الصلاة والسلام- سواه من الأنوار فإنما هو من نوره الفائض ومدده الواسع من غير أن ينقص منه شىء.
وأول ما ظهر ذلك فى آدم- عليه السلام، حيث جعله الله خليفة وأمده بالأسماء كلها من مقام جوامع الكلم التى لمحمد- صلى الله عليه وسلم فظهر بعلم الأسماء كلها على الملائكة القائلين: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ «1» ، ثم توالت الخلائف فى الأرض إلى أن وصل زمان وجود صورة جسم نبينا- صلى الله عليه وسلم الشريف لإظهار حكم منزلته، فلما برز كان كالشمس اندرج فى نوره كل نور، وانطوى تحت منشور آياته كل آية لغيره من الأنبياء، ودخلت الرسالات كلها فى صلب نبوته، والنبوات كلها تحت لواء رسالته، فلم يعط أحد منهم كرامة أو فضيلة إلا وقد أعطى- صلى الله عليه وسلم مثلها.
فادم- عليه الصلاة والسلام أعطى أن الله تعالى خلقه بيده، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم شرح صدره، وتولى الله تعالى شرح صدره بنفسه، وخلق فيه الإيمان والحكمة، وهو الخلق النبوى، فتولى من آدم الخلق الوجودى ومن سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم الخلق النبوى، مع أن المقصود- كما مر- من خلق آدم خلق نبينا فى صلبه، فسيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم المقصود وآدم الوسيلة، والمقصود سابق على الوسيلة «2» .
وأما سجود الملائكة لآدم، فقال فخر الدين الرازي فى تفسيره: إن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لأجل أن نور محمد- صلى الله عليه وسلم كان فى جبهته «3» ، ولله در القائل:
(1) سورة البقرة: 30.
(2)
قلت: الحديث الوارد فى ذلك، ضعيف جدّا، ولا حجة فيه، أما غاية الخلق، فهى كما ذكرها الله حيث قال: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات: 56] .
(3)
قلت: وهذا أيضا لا حجة فيه، ولم يذكر أئمة التفاسير المسندة هذه الروايات بأسانيد صحيحة أو ضعيفة، بل هى من شطحات الصوفية التى تغالى فى شخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم الذى قال عن نفسه «لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» صحيح أخرجه مسلم.
تجليت جل الله فى وجه آدم
…
فصلى له الأملاك حين توسلوا
وعن أبى عثمان الواعظ، فيما حكاه الفاكهانى قال: سمعت الإمام سهل بن محمد يقول: هذا التشريف الذى شرف الله تعالى به محمدا بقوله:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «1» الآية، أتم وأجمع من تشريف آدم- عليه السلام بأمر الملائكة له بالسجود، لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة فى ذلك التشريف، فتشريف يصدر عنه تعالى وعن الملائكة والمؤمنين أبلغ من تشريف تختص به الملائكة، انتهى.
قال بعضهم: وأما تعليم آدم أسماء كل شىء، فأخرج الديلمى فى مسند الفردوس من حديث أبى رافع قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «مثلت لى أمتى فى الماء والطين، وعلمت الأسماء كلها كما علم آدم الأسماء كلها» «2» فكما أن آدم علم أسماء العلوم كلها كذلك نبينا- صلى الله عليه وسلم، وزاد عليه- واصل الله صلاته وسلامه عليه- بعلم ذواتها. ولله در الأبوصيرى حيث قال:
لك ذات العلوم من عالم الغي
…
ب ومنها لآدم الأسماء
ولا ريب أن المسميات أعلى رتبة من الأسماء، لأن الأسماء يؤتى بها لتبين المسميات، فهى المقصودة بالذات، وإليه الإيماء بقوله:«ذات العلوم» ، والأسماء مقصودة لغيرها فهى دونها، ففضل العالم بحسب فضل معلومه.
* وأما إدريس- عليه السلام، فرفعه الله مكانا عليّا، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم المعراج، ورفع إلى مكان لم يرفع إليه غيره.
* وأما نوح- عليه السلام فنجاه الله تعالى ومن آمن معه من الغرق ونجاه من الخسف، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم أنه لم تهلك أمته بعذاب من السماء، قال الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «3» .
وأما قول الفخر الرازى فى تفسيره: «أكرم الله نوحا بأن أمسك سفينته
(1) سورة الأحزاب: 56.
(2)
ضعيف: أخرجه الديلمى، كما فى «كنز العمال» (34588) .
(3)
سورة الأنفال: 33.
على الماء وفعل بمحمد- صلى الله عليه وسلم أعظم منه. روى أنه- صلى الله عليه وسلم كان على شط ماء وقعد عكرمة بن أبى جهل فقال: إن كنت صادقا فادع ذلك الحجر الذى فى الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق، فأشار إليه- صلى الله عليه وسلم فانقلع الحجر من مكانه وسبح حتى صار بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم وشهد له بالرسالة، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم:«يكفيك هذا؟» فقال: حتى يرجع إلى مكانه» فلم أره لغيره والله أعلم بحاله.
* وأما إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام فكانت عليه نار نمروذ بردا وسلاما، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم نظير ذلك، إطفاء نار الحرب عنه- صلى الله عليه وسلم وناهيك بنار حطبها السيوف ووهجها الحتوف وموقدها الحسد ومطلبها الروح والجسد، قال الله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ «1» .
فكم أرادوا أن يطفئوا النور بالنار، وأبى الجبار إلا أن يتم نوره وأن يخمد شرورهم ويحمد لمحمد- صلى الله عليه وسلم سروره وظهوره.
ويذكر أنه- صلى الله عليه وسلم مر ليلة المعراج على بحر النار الذى دون سماء الدنيا مع سلامته منه، كما روى مما رأيته فى بعض الكتب. وروى النسائى أن محمد بن حاطب قال: كنت طفلا فانصب القدر على واحترق جلدى كله، فحملنى أبى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فتفل- صلى الله عليه وسلم فى جلدى ومسح بيده على المحترق وقال:«أذهب البأس رب الناس» ، فصرت صحيحا لا بأس بى «2» .
وأما ما أعطيه إبراهيم- عليه الصلاة والسلام من مقام الخلة فقد أعطيه نبينا- صلى الله عليه وسلم، وزاد بمقام المحبة. وقد روى فى حديث الشفاعة أن الخليل إبراهيم- عليه الصلاة والسلام إذا قيل له: اتخذك الله خليلا فاشفع لنا قال:
«إنما كنت خليلا من وراء وراء» اذهبوا إلى غيرى إلى أن تنتهى الشفاعة إلى النبى- صلى الله عليه وسلم فيقول: «أنا لها، أنا لها» «3» وهذا يدل على أن نبينا- صلى الله عليه وسلم كان
(1) سورة المائدة: 64.
(2)
لم أقف عليه.
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (195) فى الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-.
خليلا مع رفع الحجاب وكشف الغطاء ولو كان خليلا من وراء وراء لاعتذر كما اعتذر إبراهيم- عليه الصلاة والسلام. وفيه تنبيه ظاهر على أنه- صلى الله عليه وسلم فاز برؤية الحق سبحانه وكشف له الغطاء حتى رأى الحق بعينى رأسه «1» ، كما سيأتى البحث فى ذلك- إن شاء الله تعالى- فى المقصد الخامس.
والملخص من هذا: أن النبى- صلى الله عليه وسلم نال درجة الخلة التى اشتهرت لإبراهيم- عليه الصلاة والسلام على وجه نطق إبراهيم بأن نصيب سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم منه الأعلى، بمفهوم قوله عن نفسه:«إنما كنت خليلا من وراء وراء» فلم يشفع، ففيه دليل على أنه إنما يشفع من كان خليلا لا من وراء وراء بل مع الكشف والعيان وقرب المكانة من حظيرة القدس، لا المكان، وذلك مقام محمد- صلى الله عليه وسلم بالدليل والبرهان.
ومما أعطيه إبراهيم- عليه الصلاة والسلام انفراده فى أهل الأرض بعبادة الله تعالى وتوحيده، والانتصاب للأصنام بالكسر والقسر، أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم كسرها بأسرها بمحضر من أولى نصرها بقضيب ليس مما يكسر إلا بقوة ربانية ومادة إلهية، اجتزأ فيها بالأنفاس عن الفاس، وما عول على المعول، ولا عرض فى القول ولا تمرض من الصول بل قال جهرا بغير سر:
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً «2» .
ومما أعطيه الخليل- عليه الصلاة والسلام بناء البيت الحرام، ولا خفاء أن البيت جسد وروحه الحجر الأسود بل هو سويداء القلب، بل جاء «أنه يمين الرب» «3» كناية عن استلامه كما تستلم الأيمان عند عقد العهود والأيمان، وقد أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم أن قريشا لما بنت البيت بعد تهدمه ولم يبق إلا وضع الحجر تنافسوا على الفخر الفخم والمجد الضخم، ثم اتفقوا على أن يحكموا أول داخل، فاتفق دخول سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا الأمين،
(1) قلت: جمهور السلف على استحالة رؤية الله عز وجل فى الحياة الدنيا، وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم لم يره فى الحياة الدنيا، وإن كان سيراه هو والمؤمنون فى الآخرة- إن شاء الله-.
(2)
سورة الإسراء: 81.
(3)
ضعيف: أخرجه الخطيب، وابن عساكر، كما فى:«ضعيف الجامع» (2772) .
فحكموه فى ذلك فأمر ببسط ثوب ووضع الحجر فيه ثم قال: «يرفع كل بطن بطرف» فرفعوه جميعا، ثم أخذه سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم فوضعه فى موضعه «1» ، فادخر الله تعالى له ذلك المقام ليكون منقبة له على مدى الأيام.
* وأما ما أعطيه موسى- عليه الصلاة والسلام من قلب العصا حية غير ناطقة، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم حنين الجذع «2» ، وقد مرت قصته.
وحكى الإمام الرازى- فى تفسيره- وغيره: أنه لما أراد أبو جهل أن يرميه- صلى الله عليه وسلم بالحجر رأى على كتفيه ثعبانين فانصرف مرعوبا.
وأما ما أعطيه موسى- عليه السلام أيضا من اليد البيضاء، وكان بياضها يغشى البصر، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم أنه لم يزل نورا ينتقل فى أصلاب الآباء وبطون الأمهات من لدن آدم إلى أن انتقل إلى عبد الله أبيه.
وأعطى- صلى الله عليه وسلم قتادة بن النعمان وقد صلى معه العشاء فى ليلة مظلمة مطيرة عرجونا وقال: «انطلق به فإنه سيضىء لك من بين يديك عشرا، ومن خلفك عشرا، فإذا دخلت بيتك فسترى سوادا فاضربه حتى يخرج فإنه شيطان» «3» فانطلق فأضاء له العرجون حتى دخل بيته ووجد السواد وضربه حتى خرج.
رواه أبو نعيم.
وأخرج البيهقى، وصححه الحاكم عن أنس قال: كان عباد بن بشر وأسيد بن حضير عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى حاجة: حتى ذهب من الليل ساعة، وهى ليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا وبيد كل واحد منهما عصا، فأضاءت لهما عصا أحدهما، فمشيا فى ضوئها، حتى إذا افترقت بهم الطريق أضاءت للآخر عصاه، فمشى كل واحد منهما فى ضوء عصاه حتى بلغ هديه «4» ، ورواه البخارى بنحوه فى الصحيح.
(1) القصة مشهورة، وقد ذكرت فى «كتب السير» ، انظر سيرة ابن هشام (1/ 208) .
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
(4)
صحيح: أخرجه البخارى (465) فى الصلاة، باب: إدخال البعير فى المسجد لعلة، وأطرافه (3639 و 3805) .
وأخرج البخارى فى تاريخه والبيهقى وأبو نعيم عن حمزة الأسلمى قال: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم فى سفر فتفرقنا فى ليلة ظلماء، فأضاءت أصابعى حتى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم وإن أصابعى لتنير «1» .
ومما أعطيه موسى- عليه السلام أيضا انفلاق البحر له، أعطى نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر- كما مر- فموسى تصرف فى عالم الأرض وسيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم تصرف فى عالم السماء، والفرق بينهما واضح، قاله ابن المنير.
وذكر ابن حبيب أن بين السماء والأرض بحرا يسمى المكفوف «2» ، يكون بحر الأرض بالنسبة إليه كالقطرة من البحر المحيط، قال: فعلى هذا يكون ذلك البحر انفلق لنبينا- صلى الله عليه وسلم حتى جاوزه- يعنى ليلة الإسراء- وهو أعظم من انفلاق البحر لموسى- عليه الصلاة والسلام.
ومما أعطيه موسى- عليه السلام إجابة دعائه، أعطى نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم من ذلك ما لا يحصى. ومما أعطيه موسى- عليه السلام تفجير الماء له من الحجارة، أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم أن الماء تفجر من بين أصابعه «3» ، وهذا أبلغ لأن الحجر من جنس الأرض التى ينبع منها الماء، ولم تجر العادة ينبع الماء من اللحم، ويرحم الله القائل:
وكل معجزة للرسل قد سلفت
…
وافى بأعجب منها عند إظهار
فما العصا حية تسعى بأعجب من
…
شكوى البعير ولا من مشى أشجار
ولا انفجار معين الماء من حجر
…
أشد من سلسل من كفه جار
ومما أعطيه موسى- عليه السلام الكلام، أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم مثله ليلة الإسراء وزيادة الدنو والتدلى، وأيضا كان مقام المناجاة فى حق نبينا
(1) أخرجه البخارى فى «تاريخه الكبير» (3/ 46) .
(2)
قلت: لا أعلم من أين أتى بهذه المعلومة، أمن وحى فلا يوجد دليل، أمن من تجربة، وأين الدليل؟!
(3)
تقدمت الأحاديث الدالة على ذلك.
- صلى الله عليه وسلم فوق السماوات العلى وسدرة المنتهى، والمستوى وحجب النور والرفرف، ومقام المناجاة لموسى- عليه السلام طور سيناء.
* وأما ما أعطيه هارون- عليه الصلاة والسلام من فصاحة اللسان، فقد كان نبينا- صلى الله عليه وسلم من الفصاحة والبلاغة بالمحل الأفضل والموضع الذى لا يجهل. ولقد قال له بعض أصحابه: ما رأينا الذى هو أفصح منك فقال:
«وما يمنعنى وإنما نزل القرآن بلسانى، لسان عربى مبين» «1» .
وقد كانت فصاحة هارون غايتها فى العبرانية، والعربية أفصح منها.
وهل كانت فصاحة هارون معجزة أم لا؟ قال ابن المنير: الظاهر أنها لم تكن معجزة، ولكن فضيلة ولم يتحد نبى من الأنبياء بالفصاحة إلا نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم، لأن هذه الخصوصية لا تكون لغير الكتاب العزيز، وهل فصاحته- صلى الله عليه وسلم فى جوامع الكلم التى ليست من التلاوة ولكنها معدودة من السنة، هل تحدى بها أم لا؟ فظاهر قوله- صلى الله عليه وسلم:«أوتيت جوامع الكلم» «2» أنه من التحدث بنعمة الله عليه وخصائصه، ولا خلاف أنها باعتبار ما اشتملت عليه من الإخبار بالمغيبات ونحوها معجزة.
* وأما ما أعطيه يوسف- عليه الصلاة والسلام من شطر الحسن، فأعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم الحسن كله، وستأتى الإشارة إلى ذلك- إن شاء الله تعالى- فى مقصد الإسراء. ومن تأمل ما نقلته فى صفته تبين له من ذلك التفصيل التفضيل على كل مشهور بالحسن فى كل جيل.
وأما ما أعطيه يوسف- عليه السلام أيضا من تعبير الرؤيا، فالذى نقل عنه من ذلك ثلاث منامات، أحدها: حين رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر، والثانى: منام صاحبى السجن، والثالث: منام الملك، وقد أعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم من ذلك ما لا يدخله الحصر، ومن تصفح الأخبار وتتبع الآثار وجد من ذلك العجب العجاب، وستأتى نبذة من ذلك- إن شاء الله تعالى-.
(1) ذكره القاضى عياض فى «الشفاء» له (1/ 80) .
(2)
قلت: هو فى الصحيح بلفظ: «بعثت بجوامع الكلم» أخرجه البخارى (7013) فى التعبير، باب: المفاتيح فى اليد، وبلفظ «أوتيت جوامع الكلم» عند مسلم (523) في المساجد، باب: رقم (1) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
* وأما ما أعطيه داود- عليه الصلاة والسلام من تليين الحديد له، فكان إذا مسح الحديد لان، فأعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم أن العود اليابس اخضر فى يده وأورق، ومسح- صلى الله عليه وسلم شاة أم معبد الجرباء، فبرئت ودرت.
* وأما ما أعطيه سليمان- عليه الصلاة والسلام من كلام الطير وتسخير الشياطين والريح، والملك الذى لم يعطه أحد من بعده، فقد أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وزيادة.
أما كلام الطير والوحش فنبينا- صلى الله عليه وسلم كلمه الحجر، وسبح فى كفه الحصى، وهو جماد، وكلمه ذراع الشاة المسمومة- كما تقدم فى غزوة خيبر- وكذلك كلمه الظبى وشكا إليه البعير- كما مر-. وروى أن طيرا فجع بولده فجعل يرفرف على رأسه ويكلمه فيقول: أيكم فجع هذا بولده، فقال رجل أنا فقال:«اردد ولده» ذكره الرازى ورواه أبو داود بلفظ: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم فى سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش- أى تدنو- من الأرض، فجاء النبى- صلى الله عليه وسلم فقال:«من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها» «1» الحديث. وقصة كلام الذئب مشهورة.
وأما الريح التى كانت غدوها شهر ورواحها شهر، تحمله أين أراد من أقطار الأرض، فقد أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم البراق الذى هو أسرع من الريح، بل أسرع من البرق الخاطف، فحمله من الفرش إلى العرش فى ساعة زمانية، وأقل مسافة ذلك سبعة آلاف سنة، وتلك مسافة السماوات، وأما إلى المستوى وإلى الرفرف فذلك ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وأيضا: فالريح سخرت لسليمان لتحمله إلى نواحى الأرض، ونبينا- صلى الله عليه وسلم زويت له الأرض
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (2675) فى الجهاد، باب: فى كراهية حرق العدو بالنار، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 267) ، والطبرانى فى «الكبير» (10/ 177) ، والطيالسى فى «مسنده» (336) ، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
- أى جمعت- حتى رأى مشارقها ومغاربها، وفرق بين من يسعى إلى الأرض، وبين من تسعى له الأرض.
وأما ما أعطيه من تسخير الشياطين فقد روى أن أبا الشياطين إبليس اعترض سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم وهو فى الصلاة فأمكنه الله منه وربطه بسارية من سوارى المسجد «1» وخير مما أوتيه سليمان من ذلك إيمان الجن بمحمد- صلى الله عليه وسلم، فسليمان استخدمهم ومحمد استسلمهم.
وأما عد الجن من جنود سليمان فى قوله تعالى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ «2» . فخير منه عد الملائكة، جبريل ومن معه من جملة أجناده- صلى الله عليه وسلم، باعتبار الجهاد وباعتبار تكثير السواد على طريقة الأجناد.
وأما عد الطير من جملة أجناده، فأعجب منه حمامة الغار «3» وتوكيرها فى الساعة الواحدة وحمايتها له من عدوه، والغرض من استكثار الجند إنما هو الحماية، وقد حصلت من أعظم شىء بأيسر شىء. وأما ما أعطيه من الملك، فنبينا- صلى الله عليه وسلم خيّر بين أن يكون نبيّا ملكا ونبيّا عبدا، فاختار- صلى الله عليه وسلم أن يكون نبيّا عبدا. ولله در القائل:
يا خير عبد على كل الملوك ولى
* وأما ما أعطيه عيسى- عليه الصلاة والسلام من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم أنه رد العين إلى مكانها بعد ما سقطت فعادت أحسن ما كانت «4» ، وفى دلائل البيهقى قصة الرجل الذى قال للنبى- صلى الله عليه وسلم لا أؤمن بك حتى تحيى لى ابنتى، وفيه أنه- صلى الله عليه وسلم أتى قبرها فقال:«يا فلانة» ، فقالت: لبيك وسعديك يا رسول الله، الحديث «5» ، وقد مر. وروى أن امرأة معاذ بن عفراء- وكانت برصاء-
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (461) فى الصلاة، باب: الأسير أو الغريم يربط فى المسجد، ومسلم (541) فى المساجد، باب: جواز لعن الشيطان فى أثناء الصلاة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2)
سورة النحل: 17.
(3)
قلت: حديث الحمامة ضعيف كما بين ذلك الأئمة الحفاظ.
(4)
تقدم.
(5)
تقدم.
فشكت ذلك إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فمسح عليها بعصا فأذهب الله البرص منها، ذكره الرازى، وأيضا قد سبح الحصى فى كفه- صلى الله عليه وسلم، وسلم عليه الحجر، وحن لفراقه الجذع، وذلك أبلغ من تكليم الموتى لأن هذا من جنس من لا يتكلم.
وأما ما أعطيه عيسى أيضا من أنه كان يعرف ما تخفيه الناس فى بيوتهم، فقد أعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم من ذلك ما لا يحصى، وسيأتى من ذلك- إن شاء الله تعالى- ما يكفى ويشفى.
وأما ما أعطيه عيسى أيضا من رفعه إلى السماء، فقد أعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم ذلك ليلة المعراج، وزاد فى الترقى لمزيد الدرجات وسماع المناجاة والحظوة فى الحضرة المقدسة بالمشاهدات.
وبالجملة: فقد خص الله تعالى نبينا- صلى الله عليه وسلم من خصائص التكريم بما لم يعطه أحدا من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-.
وقد روى جابر عنه- صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى، كان كل نبى يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل حيث كان، ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة» «1» رواه البخارى. وفى رواية: «وبعثت إلى الناس كافة» . وزاد البخارى فى روايته- فى الصلاة- عن محمد بن سنان (من الأنبياء) .
وعند الإمام أحمد: «أعطيت خمسا لم يعطهن نبى قبلى، ولا أقوله فخرا» وفيه: «وأعطيت الشفاعة فاخترتها لأمتى، فهى لمن لا يشرك بالله شيئا» وإسناده كما قال ابن كثير جيد.
(1) صحيح: أخرجه البخارى (335) فى التيمم، باب: وقول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، وأطرافه (438 و 3122) ، ومسلم (521) فى المساجد.
وليس المراد حصر خصائصه- صلى الله عليه وسلم فى هذه الخمسة المذكورة. فقد روى مسلم من حديث أبى هريرة مرفوعا: «فضلت على الأنبياء بست:
أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب وجعلت لى الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بى النبيون» «1» فذكر الخمسة المذكورة فى حديث جابر إلا الشفاعة، وزاد خصلتين وهما: أعطيت جوامع الكلم وختم بى النبيون، فتحصل منه ومن حديث جابر سبع خصال.
ولمسلم أيضا من حديث حذيفة: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة» «2» وذكر خصلة الأرض كما تقدم، قال: وذكر خصلة أخرى. وهذه الخصلة المبهمة قد بينها ابن خزيمة والنسائى، وهى:
وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، يشير إلى ما حطه الله تعالى عن أمته من الإصر وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنسيان، فصارت الخصال تسعا.
ولأحمد من حديث على «أعطيت أربعا لم يعطهن أحد من أنبياء الله تعالى قبلى أعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعلت أمتى خير الأمم، وذكر خصلة التراب، فصارت الخصال ثنتى عشرة خصلة» «3» .
وعند البزار من وجه آخر عن أبى هريرة رفعه: «فضلت على الأنبياء، وغفر لى ما تقدم من ذنبى وما تأخر، وجعلت أمتى خير الأمم، وأعطيت الكوثر، وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه» «4» وذكر ثنتين مما تقدم.
وله من حديث ابن عباس رفعه: «فضلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطانى كافرا فأعاننى الله عليه فأسلم. قال: ونسيت الآخرى» «5» .
(1) صحيح: أخرجه مسلم (523) فى المساجد، باب: رقم (1) .
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (522) فيما سبق.
(3)
أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 158) .
(4)
إسناده جيد: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 369) وقال: رواه البزار وإسناده جيد.
(5)
ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 225) من حديث أبى هريرة وليس ابن عباس، وقال: رواه البزار وفيه إبراهيم بن صرمة، وهو ضعيف.
فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة، ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع.
وقد ذكر أبو سعيد النيسابورى فى كتاب «شرف المصطفى» أن عدد الذى خص به- صلى الله عليه وسلم ستون خصلة. وطريق الجمع أن يقال: لعله- صلى الله عليه وسلم اطلع أولا على بعض ما اختص له، ثم اطلع على الباقى. ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإشكال من أصله. وقد ذكر بعض العلماء أنه- صلى الله عليه وسلم أوتى ثلاثة آلاف معجزة وخصيصية.
وقد اختلف فى العلم بخصائصه- صلى الله عليه وسلم، فقال الصيمرى من الشافعية: منع أبو على بن خيران الكلام فيها، لأنه أمر انقضى فلا معنى للكلام فيه.
وقال إمام الحرمين: قال المحققون ذكر الاختلاف فى مسائل الخصائص خبط غير مفيد، فإنه لا يتعلق به حكم ناجز تمس إليه حاجة، وإنما يجرى الخلاف فيما لا يوجد بد من إثبات حكم فيه، فإن الأقيسة لا مجال لها، والأحكام الخاصة تتبع فيها النصوص، وما لا نص فيه فالخلاف فيه هجوم على الغيب من غير فائدة.
وقال النووى- فى الروضة والتهذيب- بعد نقله هذين الكلامين: وقال سائر الأصحاب لا بأس به، وهو الصحيح، لما فيه من زيادة العلم، فهذا كلام الأصحاب، والصواب الجزم بجواز ذلك، بل استحبابه، ولو قيل وجوبه لم يكن بعيدا، لأنه ربما رأى جاهل بعض الخصائص ثابتا فى الحديث الصحيح فعمل به أخذا بأصل التأسى، فوجب بيانها لتعرف، فلا يعمل بها، فأى فائدة أهم من هذه الفائدة، وأما ما يقع فى ضمن الخصائص مما لا فائدة فيه اليوم فقليل لا تخلو أبواب الفقه عن مثله للتدريب ومعرفة الأدلة، وتحقيق الشىء على ما هو عليه. انتهى كلام النووى.
وقد تتبعت ما شرف الله تعالى به نبينا- صلى الله عليه وسلم من الخصائص والآيات،