الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرابع: أن العرب تسمى الشجرة الفريدة فى الفلاة ضالة
،
كأنه تعالى يقول: كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان بالله تعالى ومعرفته إلا أنت، فأنت شجرة فريدة فى مفازة الحمد.
الخامس: قد يخاطب السيد، والمراد قومه
،
أى وجد قومك ضالين فهداهم بك وبشرعك.
السادس: أى محبّا لمعرفتى
،
وهو مروى عن ابن عطاء، والضال:
المحب، كما قال تعالى: إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ «1» أى محبتك القديمة، ولم يريدوا هاهنا: فى الدين، إذ لو قالوا ذلك فى نبى الله لكفروا.
السابع: أى وجدك ناسيا فذكرك
،
وذلك ليلة المعراج نسى ما يجب بأن يقال بسبب الهيبة، فهداه تعالى إلى كيفية الثناء حتى قال: لا أحصى ثناء عليك.
الثامن: أى وجدك بين أهل ضلال فعصمك من ذلك
وهداك للإيمان وإلى إرشادهم.
التاسع: أى وجدك متحيرا فى بيان ما أنزل إليك
،
فهداك لبيانه، كقوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»
وهذا مروى عن الجنيد.
العاشر: عن على أنه- صلى الله عليه وسلم قال:
«ما هممت بشىء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بينى وبين ما أريد، ثم ما هممت بعدهما بشىء حتى أكرمنى الله برسالته. قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى بأعلى مكة: لو حفظت لى غنمى حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب، فخرجت حتى أتيت أول دار من دور أهل مكة سمعت عزفا بالدفوف والمزامير فجلست أنظر إليهم وضرب الله على أذنى فنمت، فما
(1) سورة يوسف: 95.
(2)
سورة النحل: 44.
أيقظنى إلا مسّ الشمس، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك فضرب الله على أذنى فما أيقظنى إلا مسّ الشمس، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمنى الله برسالته» «1» .
وأما قوله تعالى: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ «2» .
فقد احتج بها جماعة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين المجوزين للصغائر على الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- وبظواهر كثيرة من القرآن والحديث، إن التزموا ظواهرها أفضت بهم- كما قال القاضى عياض- إلى تجويز الكبائر، وخرق الإجماع، وما لا يقول به مسلم، فكيف وكلما احتجوا به منها مما اختلف المفسرون فى معناه، وتقابلت الاحتمالات فى مقتضاه.
وجاءت الأقاويل فيها للسلف بخلاف ما التزموه من ذلك. فإذا لم يكن مذهبهم إجماعا، وكان الخلاف فيما احتجوا به قديما، وقامت الدلالة على خطأ قولهم، وصحة غيره، وجب تركه والمصير إلى ما صح، انتهى. وقد اختلف فى هذه الآية:
فقال أهل اللغة: الأصل فيه أن الظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض، أى صوت كصوت المحامل والرحال، وهذا مثل لما كان يثقل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم من أقداره. وقيل: المراد منه تخفيف أعباء النبوة التى يثقل الظهر القيام بأمرها، وحفظ موجباتها، والمحافظة على حقوقها، فسهل الله ذلك عليه، وحط عنه ثقلها بأن يسرها عليه حتى تيسرت له. وقيل الوزر: ما كان يكرهه من تغييرهم لسنة الخليل- عليه السلام، وكان لا يقدر على منعهم إلى أن قواه الله تعالى وقال له: اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ «3» .
وقيل: معناه عصمناك من الوزر الذى أنقض ظهرك لو كان ذلك الذنب حاصلا، فسمى الله العصمة «وضعا» مجازا، ومن ذلك ما فى الحديث أنه
(1) أخرجه الحاكم عن على، كما فى «كنز العمال» (32135) .
(2)
سورة الشرح: 2، 3.
(3)
سورة النحل: 123.
- صلى الله عليه وسلم حضر وليمة فيها دف ومزامير قبل البعثة فضرب الله على أذنه فما أيقظه إلا حر الشمس من الغد. وقيل: ثقل شغل سرك وحيرتك وطلب شريعتك، حتى شرعنا لك ذلك. وقيل معناه: خففنا عليك ما حملت بحفظنا لما استحفظت وحفظ عليك، ومعنى (أنقض) أى كاد ينقضه. قال القاضى: فيكون المعنى على من جعل ذلك لما قبل النبوة: اهتمام النبى- صلى الله عليه وسلم بأمور فعلها قبل نبوته وحرمت عليه بعد النبوة فعدها أوزارا وثقلت عليه وأشفق منها. وقيل: إنها ذنوب أمته صارت كالوزر عليه، فأمنه الله تعالى من عذابهم فى العاجل بقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «1» ووعده الشفاعة فى الآجل.
وأما قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «2» . فقال ابن عباس: أى أنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب أن لو كان. وقال بعضهم:
أراد غفران ما وقع وما لم يقع، أى أنك مغفور لك. وقيل: المراد ما كان عن سهو وغفلة وتأويل، حكاه الطبرى واختاره القشيرى. وقيل: ما تقدم لأبيك آدم وما تأخر من ذنوب أمتك، حكاه السمرقندى والسلمى عن ابن عطاء.
وقيل: المراد أمته وقيل المراد بالذنب ترك الأولى، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وترك الأولى ليس بذنب، لأن الأولى وما يقابله مشتركان فى إباحة الفعل.
وقال السبكى: قد تأملتها- يعنى الآية- مع ما قبلها وما بعدها فوجدتها لا تحتمل إلا وجها واحدا، وهو تشريف النبى- صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون هناك ذنب، ولكنه أريد أن يستوعب فى الآية جميع أنواع النعم- من الله على عباده- الآخروية، وجميع النعم الآخروية شيئان: سلبية وهى غفران الذنوب، وثبوتية وهى لا تتناهى، أشار إليها بقوله وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ «3» ، وجميع
(1) سورة الأنفال: 33.
(2)
سورة الفتح: 2.
(3)
سورة الفتح: 2.
النعم الدنيوية، شيئان: دينية، وأشار إليها بقوله: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً «1» ، ودنيوية، وهى قوله: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً «2» ، فانتظم بذلك تعظيم قدر النبى- صلى الله عليه وسلم بإتمام أنواع نعم الله تعالى عليه المتفرقة فى غيره، ولهذا جعل ذلك غاية للفتح المبين الذى عظمه وفخمه بإسناده إليه بنون العظمة «3» ، وجعله خاصّا بالنبى- صلى الله عليه وسلم بقوله:(لك) وقد سبق إلى نحو هذا ابن عطية فقال؛ وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم، ولم تكن ذنوب ألبتة.
ثم قال: وعلى تقدير الجواز لا شك ولا ارتياب أنه لم يقع منه- صلى الله عليه وسلم، وكيف يتخيل خلاف ذلك وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «4» . وأما الفعل: فإجماع الصحابة على اتباعه والتأسى به فى كل ما يفعله من قليل أو كثير، أو صغير أو كبير لم يكن عندهم فى ذلك توقف ولا بحث، حتى أعماله فى السر والخلوة يحرصون على العلم بها وعلى اتباعها، علم بهم أو لم يعلم، ومن تأمل أحوال الصحابة معه- صلى الله عليه وسلم استحيى من الله أن يخطر بباله خلاف ذلك، انتهى.
وأما قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ «5» . فلا مرية أنه- صلى الله عليه وسلم أتقى الخلق، والأمر بالشىء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمور به، إذ لا يصلح أن يقال للجالس اجلس، ولا للساكت اسكت، ولا يجوز عليه أن لا يبلغ، ولا أن يخالف أمر ربه، ولا أن يشرك، ولا أن يطيع الكافرين والمنافقين، حاشاه الله من ذلك، وإنما أمره الله تعالى بتقوى توجب استدامة الحضور.
وأجاب بعضهم عن هذا أيضا بأنه- صلى الله عليه وسلم كان يزداد علمه بالله تعالى، ومرتبته، حتى كان حاله- صلى الله عليه وسلم فيما مضى بالنسبة إلى ما هو فيه ترك للأفضل، فكان له فى كل ساعة تقوى تتجدد.
(1) سورة الفتح: 2.
(2)
سورة الفتح: 3.
(3)
يشير إلى قول الله عز وجل: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً سورة الفتح: 1.
(4)
سورة النجم: 3، 4.
(5)
سورة الأحزاب: 1.
وقيل: المراد دم على التقوى. فإنه يصح أن يقال للجالس: اجلس هاهنا إلى أن آتيك، وللساكت: قد أصبت فاسكت تسلم، أى دم على ما أنت عليه. وقيل: الخطاب مع النبى- صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، ويدل عليه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً «1» ، ولم يقل بما تعمل.
وأما قوله تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ «2» . فاعلم أنه تعالى لما ذكر ما عليه الكفار فى أمره- صلى الله عليه وسلم، ونسبته إلى ما نسبوه إليه، مع ما أنعم الله به عليه من الكمال فى أمر الدين والخلق العظيم، أتبعه بما يقوى قلبه ويدعوه إلى التشديد مع قومه، وقوى قلبه بذلك مع قلة العدد وكثرة الكفار، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل فقال: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ «3» والمراد رؤساء الكفار من أهل مكة، وذلك أنهم دعوه إلى دينهم، فنهاه الله أن يطيعهم، وهذا من الله تهييج للتشديد فى مخالفتهم.
وأما قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ «4» ، الآية فاعلم أن المفسرين اختلفوا فيمن المخاطب بهذا:
فقال قوم المخاطب به النبى- صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: المخاطب به غيره. فأما من قال بالأول فاختلفوا على وجوه:
الأول: أن الخطاب مع النبى- صلى الله عليه وسلم فى الظاهر والمراد غيره، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «5» وكقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «6» ، وكقوله لعيسى ابن مريم- عليهما السلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «7» ومثل هذا معتاد، فإن السلطان إذا كان
(1) سورة الأحزاب: 2.
(2)
سورة القلم: 8.
(3)
سورة القلم: 8.
(4)
سورة يونس: 94.
(5)
سورة الطلاق: 1.
(6)
سورة الزمر: 65.
(7)
سورة المائدة: 116.
له أمير، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه لا يوجه خطابه إليهم، بل يوجهه إلى ذلك الأمير ليكون ذلك أقوى تأثيرا فى قلوبهم.
الثانى: قال الفراء: علم الله تعالى أن رسوله- صلى الله عليه وسلم غير شاك، ولكن هذا كما يقول الرجل لولده: إن كنت ابنى فبرنى، ولعبده: إن كنت عبدى فأطعنى.
الثالث: أن يقال لضيق الصدر شاك، يقول: إن ضقت ذرعا بما تعانى من تعنتهم وأذاهم فاصبر واسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك كيف صبر الأنبياء على أذى قومهم، وكيف كان عاقبة أمرهم من النصر، فالمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما فى الكتب المتقدمة، وأن القرآن مصدق لما فيها، أو تهييج الرسول- صلى الله عليه وسلم وزيادة تثبيته، أو يكون على سبيل الفرض والتقدير، لا إمكان وقوع الشك له، ولذلك قال- صلى الله عليه وسلم:«لما نزلت هذه الآية: والله لا أشك ولا أسأل» .
وأما الوجه الثانى- وهو أن المخاطب غيره- صلى الله عليه وسلم فتقريره: أن الناس كانوا فى زمانه- صلى الله عليه وسلم فرقا ثلاثة: المصدقون به، والمكذبون له، والمتوقفون فى أمره الشاكون فيه فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: فإن كنت فى شك أيها الإنسان مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان نبينا- صلى الله عليه وسلم فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته، وهذا مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ «1» ويا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ «2» وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ «3» فإن المراد «بالإنسان» هنا الجنس، لا إنسان بعينه، فكذا هنا، ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك حذرهم من أن يلحقوا
(1) سورة الانفطار: 6.
(2)
سورة الانشقاق: 6.
(3)
سورة الزمر: 8.
بالقسم الثانى وهم المكذبون فقال: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ «1» .
وأما قوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ «2» . أى فى أنهم لا يعلمون ذلك، أو يكون المراد:
قل لمن امترى يا محمد، لا تكونن من الممترين فليس الخطاب له وأنه- صلى الله عليه وسلم يخاطب به غيره. وقيل غير ذلك.
وأما قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ «3» . فقال القاضى عياض: لا يلتفت إلى قول من قال: لا تكونن ممن يجهل أن الله لو شاء لجمعهم على الهدى، إذ فيه إثبات الجهل بصفة من صفاته تعالى، وذلك لا يجوز على الأنبياء، والمقصود وعظهم أن لا يتشبهوا فى أمورهم بسمات الجاهلين، وليس فى الآية دليل على كونه على تلك الصفة التى نهاه الله عن الكون عليها، فأمره الله تعالى- صلى الله عليه وسلم بالتزام الصبر على إعراض قومه، ولا يخرج عند ذلك فيقارب حال الجاهل بشدة التحسر حكاه أبو بكر بن فورك.
وقيل: معنى الخطاب لأمته- صلى الله عليه وسلم، أى فلا تكونوا من الجاهلين.
حكاه أبو محمد مكى، قال: ومثله فى القرآن كثير، وكذلك قوله تعالى:
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ «4» فالمراد غيره، كما قال تعالى: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا «5» وقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ «6» ولَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «7» وما أشبه ذلك فالمراد غيره، وأن هذه حال من
(1) سورة يونس: 95.
(2)
سورة الأنعام: 114.
(3)
سورة الأنعام: 35.
(4)
سورة الأنعام: 116.
(5)
سورة آل عمران: 149.
(6)
سورة الشورى: 24.
(7)
سورة الزمر: 65.
أشرك والنبى- صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه هذا، والله تعالى ينهاه عما يشاء ويأمره بما يشاء، كما قال تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ «1» الآية، وما طردهم- صلى الله عليه وسلم وما كان من الظالمين.
وأما قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ «2» . فليس بمعنى قوله وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ «3» ، وإنما المعنى: لمن الغافلين عن قصة يوسف، إذ لم تخطر ببالك، ولم تقرع سمعك قط، فلم تعلمها إلا بوحينا.
وأما قوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ»
الآية. فمعناه: يستخفّك غضب يحملك على ترك الإعراض عنهم.
والنزغ: أدنى حركة تكون، كما قاله الزجاج. فأمره الله تعالى أنه متى تحرك عليه غضب على عدوه، أو رام الشيطان من إغرائه به وخواطر أدنى وساوسه ما لم يجعل له سبيل إليه أن يستعيذ به تعالى منه، فيكفى أمره، ويكون سبب تمام عصمته، إذ لم يسلط عليه بأكثر من التعرض له، ولم يجعل له قدرة عليه. وكذلك لا يصح أن يتصور له الشيطان فى صورة الملك ويلبس عليه، لا فى أول الرسالة ولا بعدها [والاعتماد فى ذلك دليل المعجزة]«5» بل لا يشك النبى أن ما يأتيه من الله هو الملك ورسوله حقيقة إما بعلم ضرورى يخلقه الله له أو ببرهان يظهر لديه كما قدمته فى المقصد الأول عند البعثة، لتتم كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته.
وأما قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «6» الآية. فأحسن ما قيل فيها ما عليه جمهور المفسرين:
أن التمنى المراد به هنا: التلاوة، وإلقاء الشيطان فيها إشغاله بخواطر وأذكار
(1) سورة الأنعام: 52.
(2)
سورة يوسف: 3.
(3)
سورة يونس: 7.
(4)
سورة الأعراف: 200.
(5)
زيادة من المصدر المنقول عنه، انظر «الشفا» للقاضى عياض (2/ 120) .
(6)
سورة الحج: 52.
من أمور الدنيا للتالى حتى يدخل عليه الوهم والنسيان فيما تلاه، أو يدخل غير ذلك على أفهام السامعين من التحريف وسوء التأويل ما يزيله الله وينسخه ويكشف لبسه ويحكم آياته. قاله القاضى عياض، وقد تقدم فى المقصد الأول مزيد لذلك.
قال فى الشفاء: وأما قوله- صلى الله عليه وسلم حين نام عن الصلاة يوم الوادى:
«إن هذا واد به شيطان» «1» فليس فيه ذكر تسلطه عليه ولا وسوسته له، بل إن كان بمقتضى ظاهره فقد بين أمر ذلك الشيطان بقوله: إن الشيطان أتى بلالا، فلم يزل يهدّيه كما يهدى الصبى حتى نام، فاعلم أن تسلط الشيطان فى ذلك الوادى إنما كان على بلال الموكل بكلاءة الفجر، هذا إن جعلنا قوله «إن هذا واد به شيطان» تنبيها على سبب النوم عن الصلاة، وأما إن جعلناه تنبيها على سبب الرحيل عن الوادى وعلة لترك الصلاة به، وهو دليل مساق حديث زيد ابن أسلم فلا اعتراض به فى هذا الباب، لبيانه وارتفاع إشكاله.
قال عياض: وأما قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى «2» الآية، فليس فيها إثبات ذنب له- صلى الله عليه وسلم. بل إعلام الله له أن ذلك المتصدى له من لا يتزكى، وأن الصواب والأولى كان لو كشف له حال الرجلين لاختار الإقبال على الأعمى وفعل النبى- صلى الله عليه وسلم لما فعل وتصديه لذلك الكافر كان طاعة لله، وتبليغا عنه، واستئلافا له، كما شرعه الله [له] لا معصية ولا مخالفة له، وما قصه الله عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين، وتوهين أمر الكافر عنده، والإشارة إلى الإعراض عنه بقوله: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى «3» أى ليس عليك بأس فى أن لا يتزكى بالإسلام، أى لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم أن تعرض عمن أسلم بالاشتغال بدعوتهم، إن عليك إلا البلاغ.
وقد كان ابن أم مكتوم يستحق التأديب والزجر، لأنه- وإن فقد بصره-
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2)
سورة عبس: 1، 2.
(3)
سورة عبس: 7.
كان يسمع مخاطبة الرسول- صلى الله عليه وسلم لأولئك الكفار، وكان يعرف بواسطة استماع تلك الكلمات شدة اهتمامه- صلى الله عليه وسلم بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلامه- صلى الله عليه وسلم إيذاء له- صلى الله عليه وسلم وذلك معصية عظيمة. فثبت أن فعل ابن أم مكتوم كان ذنبا ومعصية، وأن الذى فعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم كان هو الواجب المتعين. وقد كان- صلى الله عليه وسلم مأذونا له فى تأديب أصحابه، ولكن ابن أم مكتوم بسبب عماه استحق مزيد الرفق به.
وأما قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «1» الآية. فروى ابن أبى حاتم عن مسعر عن عون قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة، وكذا قال مورق العجلى وغيره. وقال قتادة: عاتبه الله كما تسمعون ثم أنزل التى فى سورة النور، فرخص له فى أن يأذن لهم إن شاء فقال: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ «2» ففوض الأمر إلى رأيه- صلى الله عليه وسلم.
وقال عمرو بن ميمون: اثنتان فعلهما الرسول- صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشىء: إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسرى، فعاتبه الله كما تسمعون.
وأما قول بعضهم إن هذه الآية تدل على أنه وقع من الرسول ذنب لأنه تعالى قال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «3» والعفو يستدعى سالفة ذنب، وقوله الآخر: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «4» استفهام بمعنى الإنكار، فاعلم: أنا لا نسلم أن قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ «5» يوجب ذنبا، ولم لا يقال إن ذلك يدل على مبالغة الله تعالى فى توقيره وتعظيمه، كما يقول الرجل لغيره إذا كان عظيما عنده: عفا الله عنك، ما صنعت فى أمرى ورضى الله عنك ما جوابك عن كلامى، وعافاك الله ألا عرفت حقى، فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا
(1) سورة التوبة: 43.
(2)
سورة النور: 62.
(3)
سورة التوبة: 43.
(4)
سورة التوبة: 43.
(5)
سورة التوبة: 43.
زيادة التبجيل والتعظيم، وليس (عفا) هنا بمعنى: غفر، بل كما قال- صلى الله عليه وسلم:
«عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق» «1» ولم تجب عليهم قط، أى لم يلزمكم ذلك. ونحوه للقشيرى قال: وإنما يقول العفو لا يكون إلا عن ذنب من لا يعرف كلام العرب، قال: ومعنى عفا الله عنك أى لم يلزمك ذنبا.
وأما الجواب عن الثانى فيقال: إما أن يكون صدر من الرسول- صلى الله عليه وسلم ذنب أم لا؟ فإن قلنا: لا، امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «2» إنكارا عليه، وإن قلنا إنه قد صدر عنه ذنب- وحاشاه الله من ذلك- فقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ «3» يدل على حصول العفو، وبعد العفو يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه، فثبت أنه على جميع التقادير يمتنع أن يقال:
إن قوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «4» يدل على كون الرسول مذنبا، وهذا جواب كاف شاف قاطع، وعند هذا يحمل قوله لم أذنت لهم على ترك الأولى والأكمل. بل لم يعد هذا أهل العلم معاتبة، وغلطوا من ذهب إلى ذلك.
قال نفطويه: ذهب ناس إلى أن النبى- صلى الله عليه وسلم معاتب بهذه الآية، وحاشاه الله من ذلك، بل كان مخيرا، فلما أذن لهم أعلمه الله أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، وأنه لا حرج عليه فى الإذن.
وأما قوله تعالى فى أسارى بدر: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ إلى قوله:
عَظِيمٌ «5» . فروى مسلم من إفراده من حديث عمر بن الخطاب قال: لما
(1) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (1574) فى الزكاة، باب: فى زكاة السائحة، والترمذى (620) فى الزكاة، باب: ما جاء فى زكاة الذهب والورق، وابن ماجه (1790) فى الزكاة، باب: زكاة الورق والذهب، والدارمى فى «سننه» (1629) ، وأحمد فى «المسند» (1/ 92 و 132 و 145 و 146) ، من حديث على- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2)
سورة التوبة: 43.
(3)
سورة التوبة: 43.
(4)
سورة التوبة: 43.
(5)
سورة الأنفال: 67، 68.
هزم الله المشركين يوم بدر، وقتل منهم سبعون وأسر سبعون، استشار النبى- صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليّا، فقال أبو بكر: يا نبى الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإنى أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار وعسى أن يهداهم الله فيكونوا لنا عضدا. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم:«ما ترى يا ابن الخطاب؟» قال: قلت والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكنى أرى أن تمكننى من فلان- قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن عليّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه يعلم الله أنه ليس فى قلوبنا هوادة للمشركين، فهوى رسول الله- صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد غدوت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فإذا هو قاعد وأبو بكر الصديق وهما يبكيان فقلت يا رسول الله أخبرنى ماذا يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم: «أبكى للذى عرض على أصحابك من الفداء، لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة، لشجرة قريبة فأنزل الله تعالى:
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى إلى قوله: عَظِيمٌ «1» » .
وقوله: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ «2» : أى يكثر القتل ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الإسلام ويستولى أهله. وليس فى هذا إلزام ذنب للنبى- صلى الله عليه وسلم، بل فيه بيان ما خص به وفضّل من بين سائر الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- فكأنه قال: ما كان هذا لنبى غيرك. قال- صلى الله عليه وسلم:
«أحلت لى الغنائم ولم تحل لنبى قبلى» «3» . وأما قوله: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا «4» فقيل المراد بالخطاب من أراد ذلك منهم وتجرد غرضه لعرض الدنيا وحده، والاستكثار منها، وليس المراد بهذا النبى- صلى الله عليه وسلم ولا علية أصحابه.
(1) سورة الأنفال: 67، 68.
(2)
سورة الأنفال: 67.
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1763) فى الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة فى غزوة بدر، من حديث عمر- رضى الله عنه-.
(4)
سورة الأنفال: 67.
بل قد روى عن الضحاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر واشتغل الناس بالسلب وجمع الغنائم عن القتال حتى خشى عمر أن يعطف عليهم العدو.
ثم قال تعالى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ «1» فاختلف المفسرون فى معنى هذه الآية: فقيل معناها لولا أنه سبق منى أن لا أعذب أحدا إلا بعد النهى لعذبتكم، فهذا ينفى أن يكون أمر الأسرى معصية. وقيل: لولا إيمانكم بالقرآن، وهو الكتاب السابق، فاستوجبتم به الصفح لعقوبتم على الغنائم.
وقيل: لولا أنه سبق فى اللوح المحفوظ أنها حلال لكم لعقوبتم. وهذا كله ينفى الذنب والمعصية، لأن من فعل ما أحل له لم يعص، قال الله تعالى:
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً «2» .
وقيل: بل كان- صلى الله عليه وسلم قد خير فى ذلك، وقد روى عن على قال: جاء جبريل- عليه السلام إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال: «خير أصحابك فى الأسارى إن شاؤوا القتل وإن شاؤوا الفداء على أن يقتل منهم فى العام المقبل مثلهم فقالوا الفداء ويقتل منا» «3» وهذا دليل على أنهم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه. لكن بعضهم مال إلى أضعف الوجهين مما كان الأصلح غيره من الإثخان والقتل فعوتبوا على ذلك وبين لهم ضعف اختيارهم وتصويب اختيار غيرهم، وكلهم غير عصاة ولا مذنبين.
قال القاضى بكر بن العلاء: أخبر الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم فى هذه الآية أن تأويله وافق ما كتب له من إحلال الغنائم والفداء، وقد كان قبل هذا فادى فى سرية عبد الله بن جحش التى قتل فيها ابن الحضرمى بالحكم بن كيسان
(1) سورة الأنفال: 68.
(2)
سورة الأنفال: 69.
(3)
صحيح: أخرجه الترمذى (1567) فى السير، باب: ما جاء فى قتل الأسارى والفداء، وابن حبان فى «صحيحه» (4795) ، من حديث على- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
وصاحبه، فما عتب الله ذلك عليهم، وذلك قبل بدر بأزيد من عام، فهذا كله يدل على أن فعل النبى- صلى الله عليه وسلم فى شأن الأسارى كان على تأويل وبصيرة على ما تقدم قبل ذلك مثله فلم ينكره الله عليه. لكن الله تعالى أراد لعظم أمر بدر وكثرة أسرارها- والله تعالى أعلم- إظهار نعمته وتأكيد منته بتعريفهم ما كتبه فى اللوح المحفوظ من حل ذلك لا على وجه عتاب أو إنكار أو تذنيب قاله القاضى عياض «1» .
وأما قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ «2» الآية.
فالمعنى: لولا أن ثبتناك لقاربت أن تميل إلى اتباع مرادهم، لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب فضلا عن أن تركن إليهم. وهو صريح فى أنه- صلى الله عليه وسلم ما همّ بإجابتهم مع قوة الدواعى إليها، فالعصمة بتوفيق الله وحفظه، ولو قاربت لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، أى ضعف ما يعذب به فى الدارين بمثل هذا الفعل غيرك، لأن خطأ الخطير أخطر، وقد أعاذه الله من الركون إلى أعدائه بذرة من قلبه. ومما يعزى للحريرى مما يؤيد ذلك قوله:
أنحوى هذا العصر ما هى لفظة
…
جرت فى لسانى جرهم وثمود
إذا استعملت فى صورة الجحد أثبتت
…
وإن أثبتت قامت مقام جحود
وفسر الأول وهو النفى المثبت بنحو فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ «3» والثانى وهو الثبوت المنفى بنحو قوله تعالى: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ قالوا: وهو- صلى الله عليه وسلم ثبت قلبه ولم يركن.
وأما قوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ
(1) فى «الشفا» له (2/ 159) .
(2)
سورة الإسراء: 74، 75.
(3)
سورة البقرة: 71.
(45)
ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «1» فالمعنى: لو افترى علينا بشىء من عند نفسه لأخذنا منه باليمين وقطعنا نياط قلبه وأهلكناه، وقد أعاذه الله من التقول عليه. فإن قلت: لا مرية أنه يعفى للمحب ولصاحب المحاسن والإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، ويسامح بما لا يسامح به غيره، كما قال الشاعر:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد
…
جاءت محاسنه بألف شفيع
ولا شك أن نبينا- صلى الله عليه وسلم هو الحبيب الأعظم ذو المحاسن والإحسان الأكبر، فما هذه العقوبة المضاعفة والتهديد الشديد الوارد إن وقع منه ما يكره، وكم من راكن إلى أعدائه ومتقول عليه من قبل نفسه لم يعبأ به كأرباب البدع ونحوهم؟
فالجواب: أنه لا تنافى بين الأمرين، فإن من كملت عليه نعمة الله، واختصه منها بما لم يختص به غيره، وأعطاه منها ما لم يعط غيره، فحباه بالإنعام وخصه بمزيد القرب والإكرام اقتضت حالته من حفظ مرتبة القرب والولاية والاختصاص أن تراعى مرتبته عن أدنى مشوش وقاطع، فلشدة الاعتناء به، ومزيد تقريبه واتخاذه لنفسه واصطفائه على غيره تكون حقوق وليه وسيده عليه أتم ونعمه عليه أكمل، فالمطلوب منه فوق المطلوب من غيره، فهو إذا غفل أو أخل بمقتضى مرتبته نبه بما لم ينبه عليه البعيد، مع كونه يسامح بما لم يسامح به ذلك البعيد أيضا، فيجتمع فى حقه الأمران.
وإذا أردت معرفة اجتماعهما وعدم تناقضهما فالواقع شاهد بذلك، فإن الملك يسامح خاصته وأولياءه بما لا يسامح به من ليس فى منزلتهم، ويؤاخذهم بما لا يؤاخذ به غيرهم. وأنت إذا كان لك عبدان أو ولدان أحدهما أحب إليك من الآخر وأقرب إلى قلبك وأعز عليك عاملته بهذين الأمرين، واجتمع فى حقه المعاملتان بحسب قربه منك، وحبك له وعزته، فإذا نظرت إلى إكمال إحسانك إليه وإتمام نعمك عليه اقتضت معاملته بما لم تعامل به من هو دونه من التنبيه وعدم الإهمال. وإذا نظرت إلى محبته لك وطاعته وخدمته وكمال
(1) سورة الحاقة: 44- 46.
عبوديته ونصحه، وهبت له وسامحته وعفوت عنه بما لا تفعله مع غيره.
فالمعاملتان بحسب ما بينك وبينه.
وقد ظهر اعتبار هذا المعنى فى الشرع، حيث جعل حد من أنعم عليه بالتزويج إذا تعداه إلى الزنا الرجم، وحد من لم يعطه هذه النعمة الجلد، وكذلك ضاعف الحد على الحر الذى قد ملكه نفسه وأتم عليه نعمته ولم يجعله مملوكا لغيره، وجعل حد العبد المنقوص بالرق- الذى لم يجعل له هذه النعمة- نصف ذلك. فسبحان من بهرت حكمته فى خلقه.
فلله سر تحت كل لطيفة
…
فأخو البصائر غائص يتعقل
انتهى ملخصا.
وأما قوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ «1» . فقيل:
معناه ما كنت تدرى الإيمان على التفصيل الذى شرع لك فى القرآن. وقال أبو العالية: هو بمعنى الدعوة إلى الإيمان، لأنه كان قبل الوحى لا يقدر أن يدعو إلى الإيمان بالله تعالى. وقيل: معناه أنه ما كان يعرف الإيمان حين كان فى المهد وقيل البلوغ. حكاه الماوردى والواحدى والقشيرى. وقيل: إنه من باب حذف المضاف، أى ما كنت تدرى أهل الإيمان، أى من الذى يؤمن، أبو طالب، أو العباس، أو غيرهما. وقيل: المراد به شرائع الإيمان ومعالمه وهى كلها إيمان، وقد سمى الله الصلاة بقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «2» أى صلاتكم إلى بيت المقدس، فيكون اللفظ عامّا والمراد الخصوص. قاله ابن قتيبة وابن خزيمة. وقد اشتهر فى الحديث أنه- صلى الله عليه وسلم كان يوحد الله ويبغض الأوثان ويحج ويعتمر. وروى أبو نعيم وابن عساكر عن على قال: قيل للنبى- صلى الله عليه وسلم هل عبدت وثنا قط؟ قال: «لا» ، قيل: فهل شربت خمرا قط؟ قال:
«لا، وما زلت أعرف أن الذى هم عليه كفر. وما كنت أدرى ما الكتاب ولا الإيمان» .
(1) سورة الشورى: 52.
(2)
سورة البقرة: 143.
وعن عائشة: كانت قريش ومن دان دينها، وهم الحمس، يقفون بمزدلفة ويقولون: نحن أهل الحرم رواه الشيخان. وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى الجاهلية يقف بعرفات دونهم توفيقا من الله تعالى. رواه البيهقى وأبو نعيم من حديث جبير بن مطعم. وقد ورد أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إسماعيل، كحج البيت والختان والغسل من الجنابة، وكان- صلى الله عليه وسلم لا يقرب الأوثان ويعيبها، ولا يعرف شرائع الله التى شرعها لعباده على لسانه، فذلك قوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ «1» ولم يرد الإيمان الذى هو الإقرار بالله، لأن آباءه الذين ماتوا على الشرك كانوا يؤمنون بالله ويحجون مع شركهم، والله أعلم.
(1) سورة الشورى: 52.