الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النفس، فبين تعالى أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج ويسلم إلى النص تسليما كليّا، قاله الإمام فخر الدين. وجوز غيره تخصيص الكتاب والسنة بالقياس، وبه صرح العلامة التاج بن السبكى فى جمع الجوامع.
النوع الثامن فيما يتضمن الأدب معه ص
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «1» .
فمن الأدب أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهى، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى ويأذن كما أمر الله تعالى بذلك فى هذه الآية، وهذا باق إلى يوم القيامة لم ينسخ. فالتقدم بين يدى سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه فى حياته، لا فرق بينهما عند كل ذى عقل سليم. قال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم بشىء، حتى يقضيه الله تعالى على لسانه. وقال الضحاك: لا تقضوا أمرا دون رسول الله- صلى الله عليه وسلم. وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر، ولا تنهوا حتى ينهى.
وانظر أدب الصديق- رضى الله عنه- معه- صلى الله عليه وسلم فى الصلاة، إذ تقدم بين يديه كيف تأخر وقال: ما كان لابن أبى قحافة أن يتقدم بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم، كيف أورثه مقامه والإمامة بعده، فكان ذلك التأخر إلى خلفه، وقد أومأ إليه أن اثبت مكانك، سعيا إلى قدام بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قدام تنقطع فيها أعناق المطى.
ومن الأدب معه- صلى الله عليه وسلم أن لا ترفع الأصوات فوق صوته، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ «2» . قال الرازى: أفاد أنه ينبغى أن لا يتكلم المؤمن عنده- صلى الله عليه وسلم كما يتكلم العبد عند سيده، لأن العبد أدخل فى قوله
(1) سورة الحجرات: 1.
(2)
سورة الحجرات: 2.
تعالى: كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ «1» لأنه للعموم، فلا ينبغى أن يجهر المؤمن للنبى- صلى الله عليه وسلم كما يجهر العبد للسيد، وإلا كان قد جهر له كما يجهر بعضكم لبعض.
قال: ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ «2» ، والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه، حتى لو كانا فى مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده، ويجب البذل للنبى- صلى الله عليه وسلم، ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده لا يلزمه أن يلقى نفسه فى التهلكة لإنجاء سيده، ويجب لإنجاء النبى- صلى الله عليه وسلم، فكما أن العضو الرئيس أول بالرعاية من غيره، لأن عند خلل القلب مثلا لا يبقى لليدين والرجلين استقامة، فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبى- صلى الله عليه وسلم لهلك هو أيضا بخلاف العبد والسيد. انتهى. وإذا كان رفع الأصوات فوق صوته موجبا لحبوط الأعمال فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به.
واعلم أن فى الرفع والجهر استخفافا قد يؤدى إلى الكفر المحبط، وذلك إذا انضم إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة. وروى أن أبا بكر- رضى الله عنه-، لما نزلت هذه الآية قال: والله يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخى السرار، وأن عمر- رضى الله عنه- كان إذا حدثه حدّثه كأخى السرار ما كان يسمع النبى- صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه «3» .
وقد روى أن أبا جعفر أمير المؤمنين ناظر مالكا فى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك فى هذا المسجد، فإن الله عز وجل أدب قوما فقال: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ «4» ومدح قوما فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ «5» ، وذم قوما فقال: إِنَ
(1) سورة الحجرات: 2.
(2)
سورة الأحزاب: 6.
(3)
تقدم
(4)
سورة الحجرات: 2.
(5)
سورة الحجرات: 3.
الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ «1» الآية. وإن حرمته ميتا كحرمته حيّا، فاستكان لها أبو جعفر.
ومن الأدب أن لا يجعل دعاؤه كدعاء بعضنا بعضا، قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً «2» وفيه قولان للمفسرين:
أحدهما: أنكم لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا، بل قولوا:
يا رسول الله، يا نبى الله، مع التوقير والتواضع، فعلى هذا: المصدر مضاف إلى المفعول، أى دعاؤكم الرسول.
والثانى: إن المعنى، لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضا، إن شاء أجاب وإن شاء ترك، بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد من إجابته، ولم يسعكم التخلف عنها ألبتة، فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، والمراجعة بغير إذنه محرمة، فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل، أى دعاءه إياكم، وقد تقدم فى الخصائص من المقصد الرابع عن مذهب الشافعى أن الصلاة لا تبطل بإجابته- صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدب معه- صلى الله عليه وسلم أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد، أو رباط، لم يذهب أحد مذهبا فى حاجة له حتى يستأذنه، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ «3» . فإذا كان هذا مذهبا مقيدا لحاجة عارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه، فكيف بمذهب مطلق فى تفاصيل الدين، أصوله وفروعه، دقيقه وجليله، هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه؟ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «4» .
ومن الأدب معه- صلى الله عليه وسلم أنه لا يستشكل قوله، بل تستشكل الآراء
(1) سورة الحجرات: 4.
(2)
سورة النور: 63.
(3)
سورة النور: 62.
(4)
سورة النحل: 43.