الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
امرأة فى ليلة واحدة، فأظهر الله تعالى قدرته بأن أعطى لسليمان- عليه السلام القوة على ذلك فكان فيها معجزة وإظهار قدرة وإبداء حكمة، ردّا على من ربط الأشياء بالعوائذ فيقول: لا يكون كذا إلا من كذا، ولا يتولد كذا إلا من كذا، فألقى الله فى صلب سليمان ماء مائة رجل.
وكان له ثلاثمائة زوجة وألف سرية وهذا لا يعطى تفضيل سليمان- عليه السلام على نبينا- صلى الله عليه وسلم، إذ سيدنا محمد لم يعط إلا ماء أربعين رجلا، ولم يكن له غير عشر نسوة، لأن مرتبة نبينا- صلى الله عليه وسلم فى الأفضلية لا يساويه فيها أحد، وسليمان تمنى أن يكون ملكا فأعطى ذلك، وأعطى هذه القوة فى الجماع لكى يتم له الملك على خرق العادة من كل الجهات ليمتاز بذلك.
فكان نساؤه من جنس ملكه الذى لا ينبغى لأحد من بعده كما طلب.
ونبينا محمد- صلى الله عليه وسلم لما خير بين أن يكون نبيّا ملكا أبى ذلك، واختار أن يكون نبيّا عبدا، فأعطى من الخصوصية ذلك القدر لكونه- صلى الله عليه وسلم اختار الفقر والعبودية فأعطى الزائد لخرق العادة فى النوع الذى اختار وهو الفقر والعبودية، فكان- صلى الله عليه وسلم يربط على بطنه الأحجار من شدة الجوع والمجاهدة، وهو على حاله فى الجماع لم ينقصه شيئا، والناس أبدا إذا أخذهم الجوع والمجاهدة لا يستطيعون ذلك، فهو أبلغ فى المعجزة، قاله فى بهجة النفوس، والله أعلم.
النوع الرابع فى نومه صلى الله عليه وسلم
كان- صلى الله عليه وسلم ينام أول الليل ويستيقظ فى أول النصف الثانى، فيقوم فيستاك ويتوضأ، ولم يكن يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه، وكان ينام على جانبه الأيمن، ذاكرا الله حتى تغلبه عيناه، غير ممتلئ البدن من الطعام والشراب، لأنه- صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن فى شأنه كله، وليرشد أمته، لأن فى الاضطجاع على الشق الأيمن سرّا، وهو
أن القلب معلق فى الجانب الأيسر، فإذا نام الرجل على الجانب الأيسر استثقل نوما، لأنه يكون فى دعة واستراحة فيثقل نومه، فإذا نام على الشق الأيمن فإنه يقلق ولا يستغرق فى النوم لقلق القلب، وطلبه مستقره وميله إليه.
قالوا: وكثرة النوم على الجانب الأيسر- وإن كان أهنأ- مضر بالقلب بسبب ميل الأعضاء إليه، فتنصب المواد فيه. وأما قول القاضى عياض فى الشفاء: وكان نومه على جانبه الأيمن استظهارا على قلة النوم.. إلخ، ففيه شىء، لأنه- صلى الله عليه وسلم لا ينام قلبه، فسواء كان نومه على الجانب الأيمن أو الأيسر فهذا الحكم ثابت له، وما علله به إنما تستقيم فى حق من ينام قلبه، وحينئذ فالأحسن تعليله بحب التيامن، أو بقصده التعليم، كما مر. وأردأ النوم، النوم على الظهر، ولا يضر الاستلقاء عليه للراحة من غير نوم، وأردأ منه أن ينام منبطحا على وجهه، وفى سنن ابن ماجه أنه- صلى الله عليه وسلم مر برجل فى المسجد منبطح على وجهه فضربه برجله وقال:«قم، أو اقعد، فإنها نومة جهنمية» «1» .
وكان- صلى الله عليه وسلم ينام على النطع تارة، وعلى الفراش تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة. وكان فراشه أدما حشوه ليف. وكان له مسح ينام عليه. وكان- صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه وضع كفه تحت خده الأيمن وقال:
«رب قنى عذابك يوم تبعث عبادك» «2» وفى رواية: «يوم تجمع عبادك» .
وقال أبو قتادة: كان- صلى الله عليه وسلم إذا عرّس بليل اضطجع على شقه الأيمن، وإذا عرس قبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه «3» . وقال ابن
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3735) فى الأدب، باب: النهى عن الاضطجاع على الوجه، من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .
(2)
صحيح: أخرجه أبو داود (5045) فى الأدب، باب: ما يقول عند النوم، من حديث حفصة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (683) فى المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، وأحمد فى «المسند» (5/ 298) .
عباس: كان- صلى الله عليه وسلم إذا نام نفخ «1» . وعن حذيفة كان- صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: «باسمك اللهم أموت وأحيا» «2» . وقالت عائشة: كان يجمع كفيه فينفث فيهما ويقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «3» وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ «4» وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ «5» ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده. يصنع ذلك ثلاث مرات «6» . وقال أنس: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: «الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، وكم ممن لا كافى له ولا مؤوى» «7» . روى ذلك الترمذى.
وكان- صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه «8» ، رواه البخارى من حديث عائشة، قاله لها- عليه الصلاة والسلام لما قالت له: أتنام قبل أن توتر، وإنما كان- صلى الله عليه وسلم لا ينام قلبه لأن القلب إذا قويت فيه الحياة لا ينام إذا نام البدن، وكمال هذه الحالة لنبينا- صلى الله عليه وسلم، ولمن أحيا الله قلبه بمحبته واتباع رسوله من ذلك جزء، بحسب نصيبه منها، فمستيقظ القلب وغافله، كمستيقظ البدن ونائمه، وإلى هذا الذى ذكرته أشار صاحب المعارف العلية والحقائق السنية سيدى على ابن سيدى محمد وفا:
عينى تنام لكن قلبى والله ما ينام
(1) صحيح: أخرجه البخارى (698) فى الأذان، باب: إذا قام الرجل عن يسار الإمام، ومسلم (763) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه. (2) صحيح: أخرجه البخارى (6312) فى الدعوات، باب: ما يقول إذا نام. (3) سورة الإخلاص: 1. (4) سورة الفلق: 1. (5) سورة الناس: 1. (6) صحيح: أخرجه البخارى (8/ 50) فى فضائل القرآن، باب: فضل المعوذات. (7) صحيح: أخرجه مسلم (5/ 27) فى الذكر والدعاء، باب: ما يقول عند النوم وأخذ المضجع. (8) صحيح: أخرجه البخارى (3569) فى المناقب، باب: كان النبى- صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه.
وكيف ينام عاشق مسبى فى الحب مستهام
ناظر إلى وجه الحبيب شاخص على الدوام
…
أتاه فى المعنى مرسوم أن يمحى الرسوم
فقال بالحى القيوم يا سعد من يقوم
وقد جمع العلماء بين هذا الحديث وبين حديث نومه- صلى الله عليه وسلم فى الوادى عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس وحميت حتى أيقظه عمر- رضى الله عنه- بالتكبير «1» .
فقال النووى: له جوابان، أحدهما: أن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما، ولا يدرك ما يتعلق بالعين لأنها نائمة والقلب يقظان، والثانى: أنه كان له حالان، حال كان قلبه لا ينام وهو الأغلب، وحال ينام فيه قلبه وهو نادر، فصادف هذا، أى قصة النوم عن الصلاة. قال: والصحيح المعتمد هو الأول والثانى ضعيف.
قال فى فتح البارى: وهو كما قال، ولا يقال: القلب- وإن كان لا يدرك ما يتعلق بالعين من رؤية الفجر مثلا- لكنه يدرك إذا كان يقظانا مرور الوقت الطويل، فإن من ابتداء طلوع الفجر إلى أن حميت الشمس مدة طويلة، لا تخفى على من لم يكن مستغرقا، لأنا نقول: يحتمل أن يقال:
كان قلبه- صلى الله عليه وسلم إذ ذاك مستغرقا بالوحى، ولا يلزم من ذلك وصفه بالنوم، كما كان يستغرق- صلى الله عليه وسلم حالة إلقاء الوحى فى اليقظة، وتكون الحكمة في ذلك بيان التشريع بالفعل، لأنه أوقع فى النفس، كما فى قصة سهوه فى الصلاة، وقريب من هذا جواب ابن المنير: أن القلب يحصل له السهو فى اليقظة لمصلحة التشريع، ففى النوم بطريق الأولى، أو على السواء.
وقال ابن العربى فى القبس: النبى- صلى الله عليه وسلم كيفما اختلف حاله من نوم أو يقظة فى حق وتحقيق، ومع الملائكة فى كل طريق، إن نسى فباكد من
(1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (344) فى التيمم، باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، ومسلم (682) فى المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيلها، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-.
المنسى اشتغل، وإن نام فبقلبه ونفسه على الله أقبل، ولهذا قالت الصحابة كان- صلى الله عليه وسلم إذا نام لا نوقظه حتى يستيقظ، لأنا لا ندرى ما هو فيه، فنومه عن الصلاة أو نسيانه لشىء منها لم يكن عن آفة، وإنما كان بالتصرف من حالة إلى حالة مثلها لتكون لنا سنة. انتهى.
وقد أجيب عن أصل الإشكال بأجوبة أخرى ضعيفة منها: أن معنى قوله: «لا ينام قلبى» أى لا يخفى عليه حالة انتقاض وضوئه، ومنها: أن معناه لا يستغرقه النوم حتى يوجد منه الحدث، وهذا قريب من الذى قبله.
قال ابن دقيق العيد، كأن قائل هذا أراد تخصيص يقظة القلب بإدراك حالة الانتقاض، وذلك بعيد، وذلك أن قوله- صلى الله عليه وسلم:«إن عينى تنامان ولا ينام قلبى» «1» خرج جوابا عن قول عائشة: أتنام قبل أن توتر؟ وهذا كلام لا تعلق له بانتقاض الطهارة الذى تكلموا فيه. وإنما هو جواب يتعلق بأمر الوتر، فتحمل يقظته على تعلق القلب باليقظة للوتر، وفرق بين من شرع فى النوم مطمئن القلب به، وبين من شرع فيه متعلقا باليقظة.
قال: وعلى هذا فلا تعارض ولا إشكال فى حديث النوم حتى طلعت الشمس، لأنه يحتمل أنه اطمأن فى نومه لما أوجبه تعب السير معتمدا على من وكله بكلاءة الفجر، انتهى.
ومحصله تخصيص اليقظة المفهومة من قوله «ولا ينام قلبى» بإدراكه وقت الوتر إدراكا معنويّا لتعلقه به، وأن نومه فى حديث الباب كان نوما مستغرقا، ويؤيده قول بلال: أخذ بنفسى الذى أخذ بنفسك، كما فى حديث أبى هريرة عند مسلم، ولم ينكر عليه، ومعلوم أن نوم بلال كان مستغرقا، وقد اعترض عليه: بأن ما قاله يقتضى اعتبار خصوص السبب، وأجاب، بأنه يعتبر إذا قامت عليه قرينة، وأرشد إليها السياق، وهو هنا كذلك.
ومن الأجوبة الضعيفة أيضا: قول من قال: كان قلبه يقظانا وعلم بخروج الوقت، لكن ترك إعلامهم بذلك لمصلحة التشريع، والله أعلم انتهى.
(1) صحيح: وقد تقدم قبل حديث.