الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الأول فى آيات تتضمن تعظيم قدره ورفعة ذكره وجليل رتبته وعلو درجته على الأنبياء وتشريف منزلته
قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ «1» . قال المفسرون: يعنى موسى- عليه السلام، كلمه بلا واسطة، وليس نصّا فى اختصاص موسى- عليه السلام بالكلام، فقد ثبت أنه تعالى كلم نبينا- صلى الله عليه وسلم أيضا كما مر. فإن قلت: إذا ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم كلمه ربه وقام به هذا الوصف، فلم لم يشتق له من الكلام اسم الكليم، كما اشتق لموسى؟
أجيب: بأن اعتبار المعنى قد يكون لتصحيح الاشتقاق كاسم الفاعل فيطرد، بمعنى أن كل من قام به ذلك الوصف يشتق له منه اسم وجوبا، وقد يكون للترجيح فقط، كالكليم والقارورة فلا يطرد، وحينئذ فلا يلزم فى كل من قام به ذلك الوصف أن يشتق له منه اسم، كما حققه القاضى عضد الدين، وهذا ملخصه وتحريره، كما قاله الموسى سعد الدين التفتازانى.
انتهى. وقوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ «2» يعنى محمدا- صلى الله عليه وسلم رفعه الله تعالى من ثلاثة أوجه:
بالذات فى المعراج.
وبالسيادة على جميع البشر.
وبالمعجزات لأنه- صلى الله عليه وسلم أوتى من المعجزات ما لم يؤته نبى قبله.
قال الزمخشرى: وفى هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذى لا يشتبه، والمتميز الذى لا
(1) سورة البقرة: 253.
(2)
سورة البقرة: 253.
يلتبس، انتهى. وقد بينت هذه الآية وكذا قوله تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ «1» . أن مراتب الرسل والأنبياء متفاوتة، خلافا للمعتزلة القائلين: بأنه لا فضل لبعضهم على بعض، وفى هاتين الآيتين رد عليهم.
وقال قوم: آدم أفضل لحق الأبوة. وتوقف بعضهم فقال: السكوت أفضل. والمعتمد الذى عليه جماهير السلف والخلف: أن الرسل أفضل من الأنبياء، وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض بشهادة هاتين الآيتين وغيرهما.
قال بعض أهل العلم- فيما حكاه القاضى عياض-: والتفضيل المراد لهم هنا فى الدنيا، وذلك بثلاثة أحوال: أن تكون آياته ومعجزاته أظهر وأشهر، أو تكون أمته أزكى وأكثر، أو يكون فى ذاته أفضل وأظهر، وفضله فى ذاته راجع إلى ما خصه الله تعالى به من كرامته واختصاصه: من كلام أو خلة أو ما شاء الله من ألطافه وتحف ولايته واختصاصه، انتهى.
فلا مرية أن آيات نبينا- صلى الله عليه وسلم ومعجزاته أظهر وأبهر وأكثر وأبقى وأقوى، ومنصبه أعلى ودولته أعظم وأوفر وذاته أفضل وأظهر، وخصوصياته على جميع الأنبياء أشهر من أن تذكر، فدرجته أرفع من درجات جميع المرسلين، وذاته أزكى وأفضل من سائر المخلوقين. وتأمل حديث الشفاعة فى المحشر، وانتهائها إليه، وانفراده هناك بالسؤدد، كما قال- صلى الله عليه وسلم:«أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة» «2» رواه ابن ماجه. وفى حديث أنس عند الترمذى: «أنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربى ولا فخر» «3» .
لكن هذا لا يدل على كونه أفضل من آدم، بل من أولاده، فالاستدلال بذلك على مطلق أفضليته- صلى الله عليه وسلم على الأنبياء كلهم ضعيف. واستدل الشيخ سعد
(1) سورة الإسراء: 55.
(2)
صحيح: وقد تقدم.
(3)
إسناده ضعيف: أخرجه الترمذى (3610) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
الدين التفتازانى لمطلق أفضليته- صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «1» قال: لأنه لا شك أن خيرية الأمة بحسب كمالهم فى الدين، وذلك تابع لكمال نبيهم الذى يتبعونه.
واستدل الفخر الرازى- فى المعالم- بأنه تعالى وصف الأنبياء بالأوصاف الحميدة، ثم قال لمحمد- صلى الله عليه وسلم: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «2» ، فأمره أن يقتدى بأثرهم، فيكون إتيانه به واجبا، وإلا فيكون تاركا للأمر، وإذا أتى بجميع ما أتوا به من الخصال الحميدة فقد اجتمع فيه ما كان متفرقا فيهم، فيكون أفضل منهم، وبأن: دعوته- صلى الله عليه وسلم فى التوحيد والعبادة وصلت إلى أكثر بلاد العالم بخلاف سائر الأنبياء، فظهر أن انتفاع أهل الدنيا بدعوته- صلى الله عليه وسلم أكمل من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء فوجب أن يكون أفضل من سائر الأنبياء. انتهى. وقد روى الترمذى عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر، وما من نبى آدم فمن سواه إلا تحت لوائى» «3» . وفى حديث أبى هريرة مرفوعا- عند البخارى-: «أنا سيد الناس يوم القيامة» «4» وهذا يدل على أنه أفضل من آدم- عليه السلام ومن كل أولاده بل أفضل من الأنبياء، بل أفضل الخلق كلهم.
وروى البيهقى فى فضائل الصحابة، أنه ظهر على بن أبى طالب من البعد، فقال- صلى الله عليه وسلم:«هذا سيد العرب» فقالت عائشة: ألست بسيد العرب؟
فقال: «أنا سيد العالمين وهو سيد العرب» «5» وهذا يدل على أنه أفضل
(1) سورة آل عمران: 110.
(2)
سورة الأنعام: 90.
(3)
صحيح: أخرجه الترمذى (3148) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، و (3615) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4)
صحيح: أخرجه البخارى (4712) فى التفسير، باب: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً.
(5)
أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 134) بنحوه.
الأنبياء، بل أفضل خلق الله كلهم. وقد روى هذا الحديث- أيضا- الحاكم فى صحيحه عن ابن عباس، لكن بلفظ:«أنا سيد ولد آدم، وعلى سيد العرب» «1» . وقال: إنه صحيح ولم يخرجاه.
وله شاهد من حديث عروة عن عائشة، وساقه من طريق أحمد بن عبيد عن ناصح قال: حدثنا الحسين عن علوان- وهما ضعيفان- عن هشام ابن عروة عن أبيه، عن عائشة بلفظ:«ادعوا لى سيد العرب» قالت: فقلت:
يا رسول الله ألست سيد العرب؟ فقال: وذكره «2» . وكذا أورده من حديث عمر بن موسى الوجيهى- وهو ضعيف أيضا- عن أبى الزبير عن جابر مرفوعا: «ادعوا لى سيد العرب» فقالت عائشة: ألست بسيد العرب وذكره.
قال شيخنا: وكلها ضعيفة. بل جنح الذهبى إلى الحكم على ذلك بالوضع.
انتهى.
ولم يقل- صلى الله عليه وسلم: أنا سيد الناس عجبا وافتخارا على من دونه، حاشاه الله من ذلك، وإنما قاله- صلى الله عليه وسلم إظهارا لنعمة الله تعالى عليه، وإعلاما للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله تعالى، وعلو منزلته لديه، لتعرف نعمة الله عليه وعليهم. وكذا العبد إذ لاحظ ما هو فيه من فيض المدد، وشهده من عين المنة ومحض الجود، وشهد مع ذلك فقره إلى ربه فى كل لحظة، وعدم استغنائه عنه طرفة عين أنشأ له ذلك فى قلبه سحائب السرور، فإذا انبسطت هذه السحائب فى سماء قلبه وامتلأ أفقه بها أمطرت عليه وابل الطرب بما هو فيه من لذيذ السرور، فإن لم يصبه وابل فطل، وحينئذ يجرى على لسانه الافتخار من غير عجيب ولا فخر، بل فرح بفضل الله وبرحمته، كما قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا «3» فالافتخار على ظاهره، والافتخار والانكسار فى باطنه، ولا ينافى أحدهما الآخر، وإلى هذا المعنى يشير قول العارف الربانى سيد على الوفائى فى قصيدته التى أولها:
(1) هو الحديث السابق.
(2)
انظر ما قبله.
(3)
سورة يونس: 58.
من أنت مولاه حاشا
…
علاه أن يتلاشا
والله يا روح قلبى
…
لا مات من بك عاشا
قوم لهم أنت ساق
…
لا يرجعون عطاشا
لا قص دهر جناحا
…
له وفاؤك راشا
بك النعيم مقيم
…
لمن وهبت انتعاشا
ومن بحولك يقوى
…
لن يضعف الدهر جاشا
عبد له بك عز
…
فكيف لا يتحاشا
حاشا وفاؤك يرمى
…
من أنت مولاه حاشا
فإن قلت: فما الجمع بين هاتين الآيتين، وبين قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
«1» .
والحديث الثابت فى الصحيحين، عن أبى هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودى فى قسمه: لا والذى اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده فلطم اليهودى وقال: أى خبيث، وعلى محمد؟ فجاء اليهودى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم واشتكى على المسلم فقال- صلى الله عليه وسلم:«لا تفضلونى على الأنبياء» وفى رواية (لا تفضلوا بين الأنبياء)«2» .
وحديث أبى سعيد الخدرى عند البخارى ومسلم أنه- صلى الله عليه وسلم قال: «لا تخيروا بين الأنبياء» «3» . وحديث ابن عباس عند البخارى ومسلم مرفوعا (ما ينبغى
(1) سورة البقرة: 136.
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (3414) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، ومسلم (2373) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- صلى الله عليه وسلم.
(3)
صحيح: أخرجه البخارى (2412) فى الخصومات، باب: ما يذكر فى الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهودى، ومسلم (2374) فيما سبق.
لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) «1» . وحديث أبى هريرة عند الشيخين، (من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب) «2» .
أجاب العلماء: بأن قوله عز وجل: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ «3» يعنى: فى الإيمان بما أنزل إليهم والتصديق بهم، والإيمان بأنهم رسل الله وأنبياؤه، والتسوية بينهم فى هذا لا تمنع أن يكون بعضهم أفضل من بعض.
وأجابوا عن الأحاديث بأجوبة:
فقال بعضهم: أن نعتقد أن الله تعالى فضل بعضهم على بعض فى الجملة. ونكف عن الخوض فى تفصيل التفضيل بارائنا، قال ابن طغر بك:
فإن أراد هذا القائل أن نكف عن الخوض فى تفصيل التفضيل بارائنا فصحيح، وإن أراد أنا لا نذكر فى ذلك ما فهمناه من كتاب الله وروى لنا من حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم فسقيم.
وقال آخر: تفضل من رفع درجته بخصائص الحظوة والزلفى، ولا نخوض فى تفضيل بعضهم على بعض فى سياسة المنذرين والصبر على الدين، والنهضة فى أداء الرسالة، والحرص على هدى الضلّال، فإن كلا منهم قد بذل فى ذلك وسعه الذى لا يكلفه الله تعالى أكثر منه.
وقال آخر- مما حكاه القاضى عياض-: إن نهيه- صلى الله عليه وسلم عن التفضيل كان قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فنهى عن التفضيل إذ يحتاج إلى توقيف، وإن من فضل بلا علم فقد كذب. قال الحافظ عماد الدين بن كثير: وفى هذا نظر. انتهى. ولعل وجه النظر من جهة معرفة المتقدم تاريخا من ذلك. ثم رأيت فى تاريخ ابن كثير أن وجه النظر- من جهة- أن هذا من رواية أبى سعيد وأبى هريرة، وما هاجر أبو هريرة إلا عام خيبر متأخرا، فيبعد أنه لم
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3416) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، ومسلم (2373) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- صلى الله عليه وسلم.
(2)
صحيح: وقد تقدم حديث أبى هريرة قبل قليل.
(3)
سورة البقرة: 136.
يعلمه بهذا إلا بعد هذا. وقال آخر: إنما قاله- صلى الله عليه وسلم عن طريق التواضع ونفى التكبر والعجب. قال القاضى عياض: وهذا لا يسلم من الاعتراض.
وقيل: لا يفضل بينهم تفضيلا يؤدى إلى تنقيص بعضهم أو الغض منه.
وقيل: منع التفضيل فى حق النبوة والرسالة، فإن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- فيها على حد واحد، لا يتفاضل. وإنما التفاضل فى زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والرتب، وأما النبوة فى نفسها فلا تتفاضل، وإنما التفاضل بأمور أخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل وأولو عزم، انتهى، وهذا قريب من القول الثانى.
وقال ابن أبى جمرة فى حديث يونس: يريد بذلك نفى التكييف والتحديد على ما قاله ابن خطيب الرى، لأنه قد وجدت الفضيلة بينهما فى عالم الحس، لأن النبى- صلى الله عليه وسلم أسرى به إلى فوق السبع الطباق، ويونس نزل به إلى قعر البحر، وقد قال- صلى الله عليه وسلم:«أنا سيد ولد آدم يوم القيامة» وقال- صلى الله عليه وسلم: «آدم ومن دونه تحت لوائى» وقد اختص- صلى الله عليه وسلم بالشفاعة الكبرى التى لم تكن لغيره من الأنبياء- عليهم السلام. فهذه الفضيلة وجدت بالضرورة، فلم يبق أن يكون قوله- صلى الله عليه وسلم:«لا تفضلونى على يونس بن متى» إلا بالنسبة إلى القرب من الله سبحانه وتعالى والبعد، فمحمد- صلوات الله وسلامه عليه- وإن أسرى به لفوق السبع الطباق واخترق الحجب، ويونس- عليه الصلاة والسلام وإن نزل به لقعر البحر فهما بالنسبة إلى القرب والبعد من الله سبحانه وتعالى على حد واحد. انتهى. وهو مروى عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس وعزى نحوه لإمام الحرمين.
وقال ابن المنير: إن قلت إن لم يفضل على يونس باعتبار استواء الجهتين بالنسبة إلى وجود الحق تعالى، فقد فضله باعتبار تفاوت الجهتين فى تفضيل الحق فإنه تعالى فضل الملأ الأعلى على الحضيض الأدنى، فكيف لا يفضله- عليه الصلاة والسلام على يونس، فإن لم يكن التفضيل بالمكان فهو بالمكانة بلا إشكال. ثم قال: قلت لم ينه عن مطلق التفضيل، وإنما نهى عن تفضيل
مقيد بالمكان يفهم منه القرب المكانى فعلى هذا يحمل جمعا بين القواعد، انتهى.
واختلف هل البشر أفضل من الملائكة؟ فقال جمهور أهل السنة والجماعة: خواص بنى آدم، وهم الأنبياء، أفضل من خواص الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش، والمقربون والكروبيون والروحانيون. وخواص الملائكة أفضل من عوام بنى آدم- قال التفتازانى:
بالإجماع بل بالضرورة- وعوام بنى آدم أفضل من عوام الملائكة. فالمسجود له أفضل من الساجد، فإذا ثبت تفضيل الخواص على الخواص ثبت تفضيل العوام على العوام، فعوام الملائكة خدم عمال الخير، والمخدوم له فضل على الخادم، ولأن المؤمنين ركب فيهم الهوى والعقل، مع تسليط الشيطان عليهم بوسوسته، والملائكة ركب فيهم العقل دون الهوى لا سبيل للشيطان عليهم.
فالإنسان- كما قاله فى شرح العقائد- يحصل الفضائل والكمالات العلمية والعملية مع وجود العوائق والموانع من الشهوة والغضب وسنوح الحاجات الضرورية الشاغلة عن اكتساب الكمالات، ولا شك أن العبادة والكمالات مع الشواغل والصوارف أشق وأدخل فى الإخلاص فتكون أفضل.
والمراد بعوام بنى آدم- هنا- الصلحاء لا الفسقة، كما نبه عليه العلامة كمال الدين بن أبى شريف المقدسى، قال: ونص البيهقى عليه فى الشعب وعبارته: قد تكلم الناس قديما وحديثا فى الملائكة والبشر، فذهب ذاهبون إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، وأن الأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة. انتهى.
وذهب المعتزلة والفلاسفة وبعض الأشاعرة إلى تفضيل الملائكة. وهو اختيار القاضى أبى بكر الباقلانى، وأبى عبد الله الحليمى، وتمسكوا بوجوه:
الأول: أن الملائكة أرواح مجردة كاملة بالفعل مبرأة عن مبادئ الشرور والآفات كالشهوة والغضب، وعن ظلمات الهيولى والصورة، قوية على الأفعال العجيبة عالمة بالكوائن ماضيها وآتيها من غير غلط.
والجواب: أن مبنى ذلك على الأصول الفلسفية دون الأصول الإسلامية.
الثانى: أن الأنبياء مع كونهم أفضل البشر يتعلمون ويستفيدون منهم بدليل قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «1» وقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ «2» ولا شك أن المعلم أفضل من المتعلم.
والجواب: أن التعليم من الله تعالى والملائكة إنما هم مبلغون.
الثالث: أنه أطرد فى الكتاب والسنة تقديم ذكرهم على ذكر الأنبياء، وما ذلك إلا لتقدمهم فى الشرف والرتبة.
والجواب: أن ذلك لتقدمهم فى الوجود، أو لأن وجودهم أخفى فالإيمان بهم أقوى وبالتقديم أولى.
الرابع: قوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
«3» ، فإن أهل اللسان يفهمون من ذلك أفضلية الملائكة على عيسى، إذ القياس فى مثله الترقى من الأدنى إلى الأعلى، يقال: لا يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان، ولا يقال: السلطان ولا الوزير. ثم لا قائل بالفصل بين عيسى- عليه السلام وغيره من الأنبياء- عليهم السلام.
والجواب: أن النصارى استعظموا المسيح بحيث يترفع أن يكون عبدا من عباد الله، بل ينبغى أن يكون ابنا له، لأنه مجرد لا أب له، وكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بخلاف سائر العباد من بنى آدم، فرد عليهم بأنه لا يستنكف من ذلك المسيح ولا من هو أعلى منه فى هذا المعنى وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أم، ويقدرون بإذن الله على أفعال أقوى وأعجب من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى فالترقى
(1) سورة النجم: 5.
(2)
سورة الشعراء: 193، 194.
(3)
سورة النساء: 172.
والعلو إنما هو فى أمر التجرد وإظهار الآثار القوية لا فى مطلق الشرف والكمال، فلا دلالة على أفضلية الملائكة، انتهى.
ثم الملائكة بعضهم أفضل من بعض، وأفضلهم الروح الأمين جبريل، المزكى من رب العالمين، المقول فيه من ذى العزة إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ «1» فوصفه بسبع صفات، فهو أفضل الملائكة الثلاثة- الذين هم أفضل الملائكة على الإطلاق- وهم:
ميكائيل وإسرافيل وعزرائيل.
وكذلك الرسل أفضل من الأنبياء، وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض، ومحمد- صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والرسل، كما تقدم. وأول الأنبياء آدم وآخرهم نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم. فأما نبوة آدم فبالكتاب الدال على أنه قد أمر ونهى، مع القطع بأنه لم يكن فى زمنه نبى آخر، فهو بالوحى لا غير، وكذا السنة والإجماع، فإنكار نبوته على ما نقل عن البعض يكون كفرا.
وقد اختلف فى عدد الأنبياء والمرسلين، والمشهور فى ذلك ما فى حديث أبى ذر عند ابن مردويه فى تفسيره، قال: قلت يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال:«مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال:«ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير» ، قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال:«آدم» ثم قال: «يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم وشيت ونوح وخنوخ» - وهو إدريس وهو أول من خط بالقلم-، «وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر، وأول نبى من بنى إسرائيل موسى وآخرهم عيسى، وأول النبيين آدم وآخرهم نبيك» «2» ، وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان فى كتاب «الأنواع والتقاسيم» وقد وسمه بالصحيح.
وخالفه ابن الجوزى فذكره فى الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام.
قال الحافظ ابن كثير: ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح
(1) سورة التكوير: 19- 21.
(2)
أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (1/ 167) .
والتعديل من أجل هذا الحديث، فالله أعلم. وروى أبو يعلى عن أنس مرفوعا: كان من خلى من إخوانى من الأنبياء ثمانية آلاف نبى، ثم كان عيسى ابن مريم، ثم كنت أنا والذين نص الله تعالى على أسمائهم فى القرآن: آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم، ولوط وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب، وموسى وهارون ويونس، وداود وسليمان وإلياس واليسع، وزكريا ويحيى وعيسى. وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين والله أعلم.
وقال الله تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ «1» . روى ابن جرير من حديث أبى سعيد، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال:«أتانى جبريل عليه السلام» فقال: إن ربى وربك يقول: أتدرى كيف رفعت ذكرك؟ قلت: «الله أعلم» قال: إذا ذكرت ذكرت معى «2» . وذكره الطبرانى، وصححه ابن حبان: وروينا عن الإمام الشافعى قال: أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبى نجيح: معناه لا أذكر إلا ذكرت معى، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، قال الإمام الشافعى يعنى- والله أعلم- ذكره عند الإيمان بالله، والأذان، قال:
ويحتمل ذكره عند تلاوة القرآن وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية انتهى. وقيل: رفعه بالنبوة. قاله يحيى بن آدم. وعن ابن عطاء: جعلتك ذكرا من ذكرى. فمن ذكرك ذكرنى، وعنه أيضا: جعلت تمام الإيمان بذكرى معك. وعن جعفر بن محمد الصادق: لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرنى بالربوبية. قال البيضاوى: وأى رفعة مثل أن قرن اسمه باسمه فى كلمتى الشهادة، وجعل طاعته طاعته، انتهى، يشير إلى قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «3» وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «4» وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «5» وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ «6» .
(1) سورة الشرح: 4.
(2)
ضعيف: أخرجه أبو يعلى وابن حبان والضياء، كما فى «ضعيف الجامع» (71) .
(3)
سورة النساء: 80.
(4)
سورة التوبة: 62.
(5)
سورة النساء: 13.
(6)
سورة آل عمران: 132.
وقول قتادة: رفع الله ذكره فى الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، انتهى. فهو مذكور معه فى الشهادة والتشهد، ومقرون ذكره بذكره فى القرآن والخطب والآذان، ويؤذن باسمه فى موقف القيامة. وأخرج أبو نعيم فى الحلية عن أبى هريرة رفعه: لما نزل آدم- عليه السلام بالهند استوحش فنزل جبريل- عليه السلام فنادى بالأذان: الله أكبر، الله أكبر مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدا رسول الله مرتين، الحديث. وكتب اسمه الشريف على العرش وعلى كل سماء، وعلى الجنان وما فيها. رواه ابن عساكر. وأخرج البزار عن ابن عمر مرفوعا: لما عرج بى إلى السماء، ما مررت بسماء إلا وجدت اسمى مكتوبا فيها: محمد رسول الله. وفى الحلية عن ابن عباس رفعه: ما فى الجنة شجرة عليها ورقة إلا مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله. وأخرج الطبرانى من حديث جابر مرفوعا: كان نقش خاتم سليمان بن داود- عليهما السلام لا إله إلا الله محمد رسول الله. وعزاه الحافظ ابن رجب فى كتاب أحكام الخواتيم لجزء أبى على الخالدى، وقال: إنه باطل موضوع. وشق اسمه الكريم من اسمه تعالى، كما قال حسان:
وشق له من اسمه ليجله
…
فذو العرش محمود وهذا محمد
وسماه من أسمائه الحسنى بنحو سبعين اسما، كما بينت ذلك فى أسمائه- صلوات الله وسلامه عليه-، وصلى عليه فى ملائكته، وأمر المؤمنين بالصلاة عليه، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً «1» فأخبر عباده بمنزلة نبيه عنده فى الملأ الأعلى بأنه يثنى عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلى عليه، ثم أمر العالم السفلى بالصلاة والتسليم عليه، فيجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوى والسفلى جميعا.
(1) سورة الأحزاب: 56.
وكتبه نبيّا وآدم بين الروح والجسد «1» ، وختم به النبوة والرسالة، وأعلن بذكره الكريم فى الأولين والآخرين، ونوه بقدره الرفيع حين أخذ الميثاق على جميع النبيين، وجعل ذكره فى فواتح الرسائل وخواتمها، وشرف به المصاقع على المنابر، وزين بذكره أرباب الأقلام والمحابر، ونشر ذكره فى الآفاق شرقا وغربا، برّا وبحرا، حتى فى السماوات السبع وعند المستوى وصريف الأقلام، والعرش والكرسى، وسائر الملائكة المقربين من الكروبيين والروحانيين والعلويين والسفليين، وجعله فى قلوب المؤمنين بحيث يستطيعون ذكره فترتاح أرواحهم، وربما تميل من طرب سماع اسمه أشباحهم:
وإذا ذكرتكم أميل كأننى
…
من طيب ذكركم سقيت الراحا
كأنه تعالى يقول: أملأ الوجود كله من أتباعك، كلهم يثنون عليك، ويصلون عليك ويحفظون سنتك، بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعها سنة، فهم متمسكون فى الفريضة بأمرى، وفى السنة بأمرك، وجعلت طاعتى طاعتك، وبيعتى بيعتك، فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك، والمفسرون يفسرون معانى فرقانك، والوعاظ يبلغون بليغ وعظك، والملوك والسلاطين يقفون فى خدمتك ويسلمون من وراء الباب عليك، ويمسحون وجوههم بتراب روضتك، ويرجون شفاعتك، فشرفك باق إلى أبد الآبدين، والحمد لله رب العالمين.
وقال تعالى: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «2» . اعلم أن للمفسرين فى (طه) قولين، أحدهما: أنها من حروف التهجى، والثانى أنها كلمة مفيدة.
وعلى الأولى: قيل معناها، يا مطمع الشفاعة للأمة، ويا هادى الخلق إلى الملة، وقيل:«الطاء» فى الحساب بتسعة والهاء بخمسة، فالجملة أربعة عشر، ومعناه: يا أيها البدر، وهذه الأقوال لا يجب أن يعتمد عليها إذ هى،
(1) تقدم الحديث الدال على ذلك.
(2)
سورة طه: 1، 2.
كما قاله المحققون، من بدع المفسرين، ومثلها قول الواسطى، فيما حكاه القاضى عياض فى «الشفاء» ، أراد: يا طاهر يا هادى.
وأما على قول من قال: إنها كلمة مفيدة، ففيه وجهان: أحدهما، أن معناه: يا رجل، وهو مروى عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة. قال سعيد بن جبير: بلسان النبطية، وقال قتادة: بلسان السريانية، وقال عكرمة: بلسان الحبشية. وقال البيضاوى: إن صح إن معناه:
يا رجل فلعل أصله: يا هذا فتصرفوا فيه بالقلب والاختصار، انتهى.
وقال الكلبى «1» : لو قلت فى «عكّ» «2» يا رجل، لم يجبك حتى تقول: طه. وقال السدى: معنى طه يا فلان. وقال الزمخشرى: لعل «عكا» تصرفوا فى «يا هذا» كأنهم فى لغتهم قالبون «الياء» «طاء» فقالوا: فى «يا طاء» واختصروا هذا فاقتصروا على «ها» ، وأثر الصيغة ظاهر لا يخفى فى البيت المستشهد به:
إن السفاهة طه فى خلائقكم
…
لا قدس الله أخلاق الملاعين
قال فى البحر: وقد كان قدم أن «طه» فى لغة «عك» فى معنى يا رجل، ثم تخوض وتجرأ على «عك» بما لا يقوله نحوى، وهو أنهم قلبوا «الياء» «طاء» وهذا لا يوجد فى لسان العرب قلب «الياء» التى للنداء «طاء» وكذلك حذف اسم الإشارة فى النداء وإقرار «ها» التى للتنبيه، انتهى.
وقيل: معناه يا إنسان. وقرئ (طه) بإسكان الهاء، على أنه أمر له- صلى الله عليه وسلم بأن يطأ الأرض بقدميه. وقد روى أنه- صلى الله عليه وسلم كان يقوم فى تهجده على إحدى رجليه، فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معا، وأن الأصل «طاء» فقلبت همزته هاء، كما قالوا «هياك» فى:«إياك» ، و «هرقت» فى: أرقت.
ويجوز أن يكون الأصل من وطئ على ترك الهمزة، فيكون أصله «طا» يا
(1) الكلبى: ضعيف، وكذلك السدى الذى بعده.
(2)
هو: عك بن عدنان أخو معد، قبائل باليمن إليهما تنسب، والمقصد إذا قلت باليمن.
رجل ثم أثبتت الهاء فيها للوقف. وعلى هذا يحتمل أن يكون أصل «طه» :
طاها، والألف مبدلة من الهمزة والهاء كناية عن الأرض. لكن يرد ذلك:
كتبهما على صورة الحرف.
وأما قوله تعالى: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «1» فذكروا فى سبب نزولها أقوالا:
أحدها: أن أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدى قالوا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك، فقال- صلى الله عليه وسلم:«بل بعثت رحمة للعالمين» فأنزل الله تعالى هذه الآية ردّا عليهم، وتعريفا له- صلى الله عليه وسلم بأن دين الإسلام والقرآن هو السلّم إلى نيل كل فوز، والسبب فى إدراك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها.
وثانيها: أنه- صلى الله عليه وسلم صلى بالليل حتى تورمت قدماه، فقال له جبريل:
أبق على نفسك، فإن لها عليك حقّا. أى ما أنزلناه عليك لتنتهك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة العظيمة، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحاء. وروى أنه كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام. وقال بعضهم: كان يسهر طول الليل. وتعقب: بأنه بعيد، لأنه- صلى الله عليه وسلم إن فعل شيئا من ذلك فلابد أن يكون قد فعله بأمر الله تعالى، وإذا فعله عن أمره فهو من باب السعادة لا من باب الشقاوة.
وثالثها: قال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد، لا تشق على نفسك وتعذبها بالأسف على كفر هؤلاء، فإنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر به من آمن، فمن آمن وأصلح فلنفسه، ومن كفر فلا يحزنك كفره، فما عليك إلا البلاغ، وهذا كقوله: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «2» فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ «3» .
(1) سورة طه: 2.
(2)
سورة الشعراء: 3.
(3)
سورة لقمان: 23.
رابعها: أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة، وفى ذلك الوقت كان- صلى الله عليه وسلم مقهورا مع أعدائه، فكأنه تعالى قال: لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة، بل يعلو أمرك ويظهر قدرك، فإنا ما أنزلنا عليك القرآن لتبقى شقيّا، بل تصير معظما مكرما، زاده الله تعالى تعظيما وتكريما وتشريفا.
وقال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «1» السورة. قال الإمام فخر الدين ابن الخطيب: فى هذه السورة كثير من الفوائد، منها: أنها كالتتمة لما قبلها من السور، وذلك لأن الله تعالى جعل سورة (والضحى) فى مدح نبينا- صلى الله عليه وسلم، وتفصيل أحواله، فذكر فى أولها ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته وهى قوله: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى «2» ثم ختمها كذلك بأحوال ثلاثة فيما يتعلق بالدنيا، وهى قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا «3» أى عن علم الحكم والأحكام فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى «4» . ثم ذكر فى سورة أَلَمْ نَشْرَحْ «5» أنه تعالى شرفه- صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشياء وهى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ أى: ألم نفسحه حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق، وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ «6» . أى عناءك الثقيل الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ وهكذا سورة سورة، حتى قال: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «7» أى أعطيناك هذه المناقب المتكاثرة التى كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها. وإذ أنعمنا عليك بهذه النعم فاشتغل بطاعتنا ولا تبال بقولهم. ثم إن الاشتغال بالعبادة إما أن يكون بالنفس وهو قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ، وإما بالمال وهو قوله: وَانْحَرْ «8» .
(1) سورة الكوثر: 1.
(2)
سورة الضحى: 3- 5.
(3)
سورة الضحى: 6، 7.
(4)
سورة الضحى: 7، 8.
(5)
سورة الشرح: 1.
(6)
سورة الشرح: 2.
(7)
سورة الكوثر: 1.
(8)
سورة الكوثر: 2.
وتأمل قوله: إِنَّا أَعْطَيْناكَ «1» كيف ذكر بلفظ الماضى، ولم يقل:
سنعطيك، ليدل على أن هذا الإعطاء حصل فى الزمان الماضى، قال- صلى الله عليه وسلم:«كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد» «2» ولا شك أن من كان فى الزمان الماضى عزيزا مرعى الجانب أشرف ممن سيصير كذلك، كأنه تعالى يقول: يا محمد قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك فى هذا الوجود، فكيف أمرك بعد وجودك واشتغالك بعبوديتنا يا أيها العبد الكريم، إنا لم نعطك هذا الفضل العميم لأجل طاعتك، وإنما اخترناك بمجرد فضلنا وإحساسنا من غير موجب. واختلف المفسرون فى تفسير (الكوثر) على وجوه:
منها: أنه نهر فى الجنة، وهذا هو المشهور والمستفيض عند السلف والخلف، فروى أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال:(بينا أنا أسير فى الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذى أعطاك ربك، فإذا طينه مسك أذفر)«3» رواه البخارى.
وقيل: الكوثر أولاده، لأن هذه السورة إنما نزلت ردّا على من عابه- صلى الله عليه وسلم بعدم الأولاد، وعلى هذا فالمعنى: أنه يعطيه نسلا يبقون على ممر الزمان. فانظر كم قتل من أهل البيت، ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يتفق ذلك لنبى من الأنبياء غيره. وقيل: الكوثر الخير الكثير. وقيل: النبوة، وهى الخير الكثير. وقيل: علماء أمته، وقيل الإسلام، ولا ريب أنهما من الخير الكثير، فالعلماء ورثة الأنبياء «4» ، كما رواه أحمد وأبو داود والترمذى، وأما «علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل» «5» فقال الحافظ ابن حجر، ومن قبله
(1) سورة الكوثر: 1.
(2)
صحيح: وقد تقدم.
(3)
صحيح: أخرجه البخارى (6581) فى الرقاق، باب: فى الحوض.
(4)
صحيح: أخرجه أبو داود (3641) فى العلم، باب: الحث على طلب العلم، والدارمى فى «سننه» (342) ، من حديث أبى الدرداء- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6297) .
(5)
لا أصل له: انظر «كشف الخفاء» للعجلونى (1744) .
الدميرى والزركشى، أنه لا أصل له. نعم روى أبو نعيم فى فضل العالم العفيف بسند ضعيف عن ابن عباس رفعه: أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد. وقيل: الكوثر كثرة الأتباع والأشياع.
وعن بعضهم: المراد بالكوثر العلم، وحمله عليه أولى لوجوه: أحدها أن العلم هو الخير الكثير، والثانى: إما أن يحمل الكوثر على نعم الآخرة أو على نعم الدنيا، قال: والأول غير جائز لأنه قال: إن أعطيناك الكوثر، والجنة سيعطيها لا أنه أعطاها، فوجب حمل الكوثر على ما وصل إليه فى الدنيا، وأشرف الأمور الواصلة إليه فى الدنيا هو العلم والنبوة، فوجب حمل اللفظ على العلم، والثالث: أنه لما قال إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «1» قال عقبه: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ «2» والشىء الذى يتقدم على العبادة هو المعرفة، ولأن «الفاء» فى قوله (فصل) للتعقيب، ومعلوم أن الموجب للعبادة ليس إلا العلم.
وقيل الكوثر الخلق الحسن كما فى حديث: ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة «3» . رواه الطبرانى. وعن ابن عباس: جميع نعم الله على نبيه- صلى الله عليه وسلم.
وبالجملة: فليس حمل الآية على بعض هذه النعم أولى من حملها على الباقى، فوجب حملها على الكل، ولذا روى أن سعيد بن جبير لما روى هذا القول عن ابن عباس قال له بعضهم: إن ناسا يزعمون أنه نهر فى الجنة، فقال سعيد: النهر الذى فى الجنة من الخير الذى أعطاه الله إياه.
قال الإمام فخر الدين بن الخطيب: قال بعض العلماء: ظاهر قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «4» يقتضى أنه تعالى قد أعطاه ذلك الكوثر فيجب أن يكون الأقرب حمله على ما آتاه الله من النبوة والقرآن والذكر
(1) سورة الكوثر: 1.
(2)
سورة الكوثر: 2.
(3)
ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 24) و (10/ 418) وعن أم سلمة وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير بنحوه، وفى إسنادهما سليمان بن أبى كريمة، وهو ضعيف.
(4)
سورة الكوثر: 1.
العظيم والنصر على الأعداء. وأما الحوض وسائر ما أعدّ له من الثواب فهو وإن جاز أن يقال: إنه داخل فيه لأن ما ثبت بحكم وعد الله فهو كالواقع، إلا أن الحقيقة ما قدمناه، لأن ذلك وإن أعدّ له فلا يصح أن يقال على الحقيقة إنه أعطاه الكوثر فى حال نزول هذه السورة بمكة، ويحتمل أن يجاب عنه بأن من أقر لولده الصغير بشىء له، يصح أن يقال: أعطاه ذلك الشىء مع أن الصبى فى ذلك الحال ليس أهلا للتصرف. انتهى.
وقد روينا فى صحيح مسلم من حديث أنس (بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا ما يضحكك أضحك الله سنك، يا رسول الله؟ قال: «نزلت على آنفا سورة فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «1» . ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربى، عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتى عليه يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتى، فيقول: ما تدرى ما أحدث بعدك) «2» . وهذا تفسير صريح منه- صلى الله عليه وسلم بأن المراد بالكوثر- هنا- الحوض، فالمصير إليه أولى، وهذا هو المشهور كما تقدم. فسبحان من أعطاه هذه الفضائل العظيمة وشرفه بهذه الخصال العميمة، وحباه بما أفاضه عليه من نعمه الجسيمة.
وقد جرت عادة الله مع أنبيائه- عليهم الصلاة والسلام- أن يناديهم بأسمائهم الأعلام نحو: يا آدَمُ اسْكُنْ «3» يا نُوحُ اهْبِطْ «4» يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ «5» يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ «6» ، وأما نبينا محمد
(1) سورة الكوثر: 1- 3.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (400) فى الصلاة، باب: حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة.
(3)
سورة البقرة: 35.
(4)
سورة هود: 48.
(5)
سورة القصص: 30.
(6)
سورة المائدة: 110.
- صلى الله عليه وسلم فناداه بالوصف الشريف من الإنباء والإرسال فقال: (يا أيها الرسول)(يا أيها النبى) . ولله در القائل:
فدعا جميع الرسل كلا باسمه
…
ودعاك وحدك بالرسول وبالنبى
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا عبيده بأفضل ما أوجد لهم من الأوصاف العلية والأخلاق السنية ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام التى لا تشعر بوصف من الأوصاف، ولا بخلق من الأخلاق، أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم، وهذا معلوم بالعرف: أن من دعى بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبالغة فى تعظيمه واحترامه. انتهى.
وانظر ما فى نحو قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «1» من ذكر «الرب» تعالى وإضافته إليه- صلى الله عليه وسلم، وما فى ذلك من التنبيه على شرفه واختصاصه بخطابه، وما فى ذلك من الإشارة اللطيفة، وهى أن المقبل عليه بالخطاب، له الحظ الأعظم، والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها إذ هو فى الحقيقة أعظم خلفائه. ألا ترى إلى عموم رسالته ودعائه، وجعله أفضل أنبيائه، أمّ بهم ليلة إسرائه، وجعل آدم فمن دونه يوم القيامة تحت لوائه، فهو المقدم فى أرضه وسمائه، وفى دار تكليفه وجزائه.
وبالجملة: فقد تضمن الكتاب العزيز من التصريح بجليل رتبته، وتعظيم قدره، وعلو منصبه، ورفعة ذكره ما يقضى بأنه استولى على أقصى درجات التكريم ويكفى إخباره تعالى بالعفو عنه وملاطفته قبل ذكر العتاب فى قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «2» . وتقديم ذكره على الأنبياء تعظيما له، مع تأخره عنهم فى الزمان فى قوله تعالى: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ «3» وإخباره بتمنى أهل النار طاعته فى قوله تعالى:
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا «4» ، وهذا بحر لا ينفد وقطر لا يعد.
(1) سورة البقرة: 30.
(2)
سورة التوبة: 43.
(3)
سورة الأحزاب: 7.
(4)
سورة الأحزاب: 66.