الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى قول: «الإيمان والقرآن» ، أى مثل الإيمان والقرآن فى صدر المؤمنين وفى قلبه كمشكاة.
وأما الضمير على قول المؤمنين فى قراءة أبى المذكورة فى بعض التفاسير، ففيه إشكال من حيث الإفراد، وعن أبى: هو عائد على المؤمنين، وفى قراءته: مثل نور المؤمنين، وفى رواية عنه: مثل نور من آمن به. وعن الحسن: يعود على القرآن والإيمان.
النوع السابع فى آيات تتضمن وجوب طاعته واتباع سنته
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» وقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ «2» . وقال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ «3» . قال القاضى عياض: فجعل طاعته طاعة رسوله، وقرن طاعته بطاعته، ووعد على ذلك بجزيل الثواب، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب.
وقال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «4» . يعنى: من أطاع الرسول لكونه رسولا مبلغا إلى الخلق أحكام الله فهو فى الحقيقة ما أطاع إلا الله، وذلك فى الحقيقة لا يكون إلا بتوفيق الله. وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً «5» فإن من أعماه الله عن الرشد وأضله عن الطريق فإن أحدا من الخلق لا يقدر على إرشاده. وهذه الآية من أقوى الأدلة على أن الرسول معصوم فى جميع الأوامر والنواهى، وفى كل ما يبلغه عن الله، لأنه لو أخطأ
(1) سورة الأنفال: 20.
(2)
سورة آل عمران: 132.
(3)
سورة آل عمران: 32.
(4)
سورة النساء: 80.
(5)
سورة النساء: 80.
فى شىء منها لم تكن طاعته طاعة الله تعالى، وأيضا وجب أن يكون معصوما فى جميع أفعاله، لأنه تعالى أمر بمتابعته فى قوله: وَاتَّبِعُوهُ»
، والمتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير، فثبت أن الانقياد له فى جميع أقواله وأفعاله إلا ما خصه الدليل طاعة له، وانقياد لحكم الله تعالى. وقال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ «2» الآية. وهذا عام فى المطيعين لله من أصحاب الرسول ومن بعدهم، وعام فى المعية فى هذه الدار، وإن فاتت فيها معية الأبدان.
وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية أن ثوبان، مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه، وعرف الحزن فى وجهه، فسأله رسول الله- صلى الله عليه وسلم عن حاله فقال: يا رسول الله، ما بى وجع، غير أنى إذا لم أرك اشتقتك واستوحشت وحشة عظيمة حتى ألقاك، فذكرت الآخرة بحيث لا أراك هناك، لأنى إذا دخلت الجنة فأنت تكون فى درجات النبيين، وإن أنا لم أدخل الجنة فحينئذ لا أراك أبدا، فنزلت هذه الآية.
وذكر ابن أبى حاتم عن أبى الضحى عن مسروق، قال أصحاب محمد: يا رسول الله ما ينبغى لنا أن نفارقك، فإنك لو قد متّ لرفعت فوقنا ولم نرك، فأنزل الله الآية. وذكر عن عكرمة مرسلا، قال: أتى فتى النبى- صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لنا منك نظرة فى الدنيا ويوم القيامة لا نراك لأنك فى الجنة فى الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم:«أنت معى فى الجنة» . وذكر فيها أيضا روايات أخر ستأتى- إن شاء الله تعالى- فى مقصد محبته- صلى الله عليه وسلم.
لكن قال المحققون: لا ننكر صحة هذه الروايات، إلا أن سبب نزول
(1) سورة الأعراف: 158.
(2)
سورة النساء: 69.
هذه الآية يجب أن يكون شيئا أعظم من ذلك، وهو الحث على الطاعة والترغيب فيها، فإنا نعلم أن خصوص السبب لا يقدح فى عموم اللفظ، فهذه الآية عامة فى حق جميع المكلفين، وهو أن كل من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز بالدرجات العالية والمراتب الشريفة عنده تعالى.
ثم إن ظاهر قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ «1» أنه يكفى الاكتفاء بالطاعة الواحدة، لأن اللفظ الدال على الصفة يكفى فى جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة، لكن لابد أن يحمل على غير ظاهره، وأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات وترك جميع المنهيات، إذ لو حملناه على الطاعة الواحدة لدخل فيه الفساق والكفار، لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة.
قال الرازى: قد ثبت فى أصول الفقه أن الحكم المذكور عقب الصفة مشعر بكون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، وإذا ثبت هذا فنقول: قوله:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ «2» أى فى كونه إلها، وطاعة الله فى كونه إلها هى معرفته والإقرار بجلالته وعزته وكبريائه وصمديته، فصارت هذه تنبيها على أمرين عظيمين من أحوال المعاد:
فالأول: أن منشأ جميع السعادات يوم القيامة إشراف الروح بأنوار معرفة الله، فكل من كانت هذه الأنوار فى قلبه أكثر، وصفاؤها أقوى كان إلى السعادة أقرب، وإلى الفوز بالنجاة أوصل.
والثانى: أن الله تعالى ذكر فى الآية السابقة وعد أهل الطاعة بالأجر العظيم والثواب الجزيل، ثم ذكر فى هذه الآية وعدهم بكونهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين كون الكل فى درجة واحدة، لأن هذا يقتضى التسوية فى الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز، فالمراد كونهم فى
(1) سورة النساء: 69.
(2)
سورة النساء: 69.
الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد المكان، لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا، وإذا أرادوا الرؤية والتلاقى قدروا على ذلك، فهذا هو المراد من هذه المعية، وقد ثبت وصح عنه- صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«المرء مع من أحب» «1» ، وثبت عنه أيضا أنه قال:«إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا نزلتم منزلا إلا وهم معكم حبسهم العذر» «2» ، فالمعية والصحبة الحقيقية إنما هى بالسر والروح لا بمجرد البدن، فهى بالقلب لا بالقالب، ولهذا كان النجاشى معه- صلى الله عليه وسلم ومن أقرب الناس إليه، وهو بين النصارى بأرض الحبشة، وعبد الله بن أبى من أبعد الخلق عنه، وهو معه فى المسجد، وذلك أن العبد إذا أراد بقلبه أمرا من طاعة أو معصية أو شخص من الأشخاص فهو بإرادته ومحبته معه لا يفارقه، فالأرواح تكون مع الرسول- صلى الله عليه وسلم وأصحابه- رضى الله عنهم-، وبينها وبينهم من المسافة الزمانية والمكانية بعد عظيم.
وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ «3» . وهذه الآية الشريفة تسمى: آية المحبة، قال بعض السلف:
ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحبة قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي «4» وقال تعالى: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «5» إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها، فدليلها وعلامتها اتباع الرسول، وفائدتها وثمرتها محبة المرسل لكم، فما لم تحصل المتابعة فلا محبة لكم حاصلة، ومحبته لكم منتفية، فجعل سبحانه اتباع رسوله- صلى الله عليه وسلم مشروطا بمحبتهم لله، وشرطا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود تحقق شرطه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة،
(1) صحيح: أخرجه البخارى (6168 و 6169) فى الأدب، باب: علامة الحب فى الله عز وجل، ومسلم (2640) فى البر والصلة، باب: المرء مع من أحب، من حديث عبد الله ابن مسعود- رضى الله عنه-.
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (4423) فى المغازى، باب: نزول النبى- صلى الله عليه وسلم الحجر، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(3)
سورة آل عمران: 31.
(4)
سورة آل عمران: 31.
(5)
سورة آل عمران: 31.
فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل حينئذ ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله- صلى الله عليه وسلم فدل على أن متابعة الرسول هى حب الله ورسوله وطاعة أمره، ولا يكفى ذلك فى العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فلا يكون شىء أحب إليه من الله ورسوله، ومتى كان شىء عنده أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذى لا يغفر لصاحبه ألبتة ولا يهديه الله، قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ «1» ، فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة أحد منهم على معاملة الله ورسوله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن قال بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بما ليس هو عليه. انتهى ملخصا من كتاب «مدارج السالكين» ، وسيأتى مزيد لذلك- إن شاء الله تعالى- فى مقصد محبته- صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ «2» . أى إلى الصراط المستقيم، فجعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين، الإيمان بالرسول واتباعه، تنبيها على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو فى الضلالة، فكل ما أتى به الرسول- صلى الله عليه وسلم يجب علينا اتباعه إلا ما خصه الدليل.
وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا «3» يعنى القرآن،
(1) سورة التوبة: 24.
(2)
سورة الأعراف: 158.
(3)
سورة التغابن: 8.
فالإيمان به- صلى الله عليه وسلم واجب متعين- على كل أحد. لا يتم إيمان إلا به ولا يصح إسلام إلا معه، قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً «1» أى ومن لم يؤمن بالله ورسوله فهو من الكافرين، وإنا أعتدنا للكافرين سعيرا.
وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ «2» الآية. معناه: فوربك، كقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «3» و «لا» مزيدة للتأكيد لمعنى القسم، كما فى لِئَلَّا يَعْلَمَ «4» ولا يؤمنون جواب. أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول فى جميع أموره، ويرضى بجميع ما حكم به، وينقاد له ظاهرا وباطنا، سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفهم، كما ورد فى الحديث:«والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» «5» ، وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول- صلى الله عليه وسلم لا يكون مؤمنا، وعلى أنه لابد من حصول الرضا بحكمه فى القلب، وذلك بأن يحصل الجزم والتيقن فى القلب بأن الذى يحكم به- صلى الله عليه وسلم هو الحق والصدق، فلابد من الانقياد باطنا وظاهرا، وسيأتى مزيد بيان لذلك- إن شاء الله تعالى- فى مقصد محبته- صلى الله عليه وسلم. ثم إن ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس، لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه، وأنه لا يجوز العدول عنه إلى غيره.
وقوله: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ «6» مشعر بذلك، لأنه متى خطر بقلبه قياس يقتضى ضد مدلول النص فهناك يحصل الحرج فى
(1) سورة الفتح: 13.
(2)
سورة النساء: 65.
(3)
سورة الحجر: 92.
(4)
سورة الحديد: 29.
(5)
أخرجه الحكيم الترمذى وأبو نصر السجزى فى الإبانة وقال: حسن غريب، والخطيب عن ابن عمرو، كما فى «كنز العمال» (1084) .
(6)
سورة النساء: 65.