الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده وعلى طريق مستقيم من إيمانه، أى طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق. قال النقاش: لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة فى كتابه إلا له- صلى الله عليه وسلم.
الفصل الخامس فى قسمه تعالى بمدة حياته صلى الله عليه وسلم وعصره وبلده
قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ «1» . والعمر والعمر واحد، ولكنه فى القسم يفتح لكثرة الاستعمال، فإذا أقسموا قالوا:
لعمرك القسم. قال النحويون: ارتفع قوله (لعمرك) بالابتداء، والخبر محذوف، والمعنى: قسمى، فحذف الخبر لأن فى الكلام دليلا عليه، وباب القسم يحذف منه الفعل نحو: تالله لأفعلن، والمعنى: أحلف بالله، فتحذف «أحلف» لعلم المخاطب بأنك حالف.
قال الزجاجى: من قال: لعمر الله كأنه حلف ببقاء الله، ومن ثم قال المالكية والحنفية: ينعقد بها اليمين، لأن بقاء الله من صفات ذاته. وعن مالك: لا يعجبنى الحلف بذلك. وقال الإمام الشافعى وإسحاق: لا يكون يمينا إلا بالنية، وعن أحمد كالمذهبين، والراجح عنه كالشافعى. واختلف فيمن المخاطب فى الآية على قولين:
أحدهما: أن الملائكة قالت للوط- عليه السلام لما وعظ قومه وقال: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ «2» : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ «3» ، أى يتحيرون فكيف يعقلون قولك، ويلتفتون إلى نصيحتك؟!
والثانى: أن الخطاب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم، وأنه تعالى أقسم بحياته،
(1) سورة الحجر: 72.
(2)
سورة الحجر: 71.
(3)
سورة الحجر: 72.
وفى هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض. قال ابن عباس: ما خلق الله، وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد- صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ «1» يقول: وحياتك وعمرك وبقائك فى الدنيا إنهم لفى سكرتهم يعمهون. رواه ابن جرير.
ومراده بقوله: «وما سمعت الله» ؛ سمعت كلامه المتلو فى الكتب المنزلة. ورواه البغوى فى تفسيره بلفظ: وما أقسم الله بحياة أحد إلا بحياته، وما أقسم بحياة أحد غيره، وذلك يدل على أنه أكرم خلق الله على الله، وعلى هذا فيكون قسمه تعالى بحياة محمد- صلى الله عليه وسلم كلاما معترضا فى قصة لوط.
قال القرطبى: وإذا أقسم الله تعالى بحياة نبيه فإنما أراد بيان التصريح لنا: أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته. وقد قال الإمام أحمد فيمن أقسم بالنبى- صلى الله عليه وسلم ينعقد به يمينه وتجب الكفارة بالحنث، واحتج بكونه- صلى الله عليه وسلم أحد ركنى الشهادة. وقال ابن خويز منداد: واستدل من جوز الحلف به- صلى الله عليه وسلم بأن أيمان المسلمين جرت من عهده- صلى الله عليه وسلم أن يحلفوا به- صلى الله عليه وسلم حتى إن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا خاصم أحدهم صاحبه قال له: احلف لى بحق ما حواه صاحب القبر، أو بحق صاحب هذا القبر، أو بحق ساكن هذا القبر، يعنى النبى- صلى الله عليه وسلم «2» .
(1) سورة الحجر: 72.
(2)
قلت: وقد ذكر القرطبى أيضا فى موضع آخر عند تفسيره لسورة المائدة، آية:(89)، فى معرض رده على من يجوز الحلف بغير الله فقال: وهذا يرده ما ثبت فى الصحيحين وغيرهما عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أنه أدرك عمر بن الخطاب فى ركب، وعمر يحلف بأبيه فناداهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم:«ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بابائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وهذا حسر فى عدم الحلف بكل شىء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته كما ذكرنا، وبما يحقق ذلك ما رواه أبو داود والنسائى وغيرهما عن أبى هريرة- رضى الله عنه-، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بابائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله إلا وأنتم صادقون» . اه. قلت: ولا يوجد تخصيص لهذا النهى، إلا ما-
وقال الله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ «1»
الآية. أقسم تعالى بالبلد الأمين، وهى مكة أم القرى بلده- صلى الله عليه وسلم، وقيده بحلوله- صلى الله عليه وسلم فيه إظهارا لمزيد فضله، وإشعارا بأن شرف المكان بشرف أهله. قاله البيضاوى. ثم أقسم بالوالد وما ولد، وهو فيما قيل: إبراهيم وإسماعيل، وما ولد: محمد- صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فتتضمن السورة القسم به فى موضعين، وقيل المراد به آدم وذريته، وهو قول الجمهور من المفسرين.
وإنما أقسم تعالى بهم لأنهم أعجب خلق الله على وجه الأرض لما فيهم من البيان والنظر واستخراج العلوم، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه، وكل ما فى الأرض من مخلوق خلق لأجلهم، وعلى هذا فقد تضمن القسم أصل المكان وأصل السكان، فمرجع البلاد إلى مكة، ومرجع العباد إلى آدم.
وقوله: وَأَنْتَ حِلٌّ «2» هو من: الحلول، ضد الظعن، فيتضمن إقسامه تعالى ببلده المشتمل على عبده ورسوله، فهو خير البقاع واشتمل على خير العباد فقد جعل الله بيته هدى للناس، ونبيه إماما وهاديا لهم، وذلك من أعظم نعمه وإحسانه إلى خلقه. وقيل: المعنى أنت مستحل قتلك وإخراجك من هذا البلد الأمين الذى يأمن فيه الطير والوحش، وقد استحل فيه قومك حرمتك. وهذا مروى عن شرحبيل بن سعد.
وعن قتادة: وَأَنْتَ حِلٌّ «3» أى لست باثم، وحلال لك أن تقتل بمكة
- ورد فى كتاب الله عز وجل أنه قسم ببعض آياته، ولو علمنا بهذه القاعدة، لجوزنا الحلف بهذه الآيات كما يجوز الحلف بذات رسول الله- صلى الله عليه وسلم، إلا أنا نقول ما قاله العلماء من قبلنا أن لها تأويلان: إحداهما: أن هناك محذوف مقدر، تقديره رب ثم ذكر الشىء المحلف به مثل رب الشمس، رب الضحى، رب حياتك، أو أن هذا القسم خاص بالله عز وجل فقط، حيث يجوز له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، والله أعلم.
(1)
سورة البلد: 1، 2.
(2)
سورة البلد: 2.
(3)
سورة البلد: 2.
من شئت. وذلك أن الله تعالى يفتح عليه مكة وأهلها، وما فتحت على أحد قبله، فأحل ما شاء وحرم ما شاء، فقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وغيره، وحرم دار أبى سفيان. فإن قلت: هذه السورة مكية، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ «1» إخبار عن الحال، والواقعة التى ذكرت فى آخر مدة هجرته إلى المدينة، فكيف الجمع بين الأمرين؟
أجيب: بأنه قد يكون اللفظ للحال، والمعنى مستقبل، كقوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «2» . وعلى كل حال فهذا متضمن للقسم ببلد رسول الله- صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى ما فيه من زيادة التعظيم، وقد روى أن عمر ابن الخطاب- رضى الله عنه- قال للنبى- صلى الله عليه وسلم: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن أقسم بحياتك دون سائر الأنبياء، ولقد بلغ من فضيلتك عنده أن أقسم بتراب قدميك فقال: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ «3» .
وقال تعالى: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «4» . اختلف فى تفسير العصر على أقوال.
فقيل: هو الدهر، لأنه مشتمل على الأعاجيب، لأنه يحصل فيه السراء والضراء، والصحة والسقم وغير ذلك. وقيل: ذكر العصر الذى بمضيه ينقضى عمرك، فإذا لم يكنى فى مقابلته كسب صار ذلك عين الخسران، ولله در القائل:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها
…
وكل يوم مضى نقص من الأجل
وفى تفسير الإمام فخر الدين والبيضاوى وغيرهما: أنه أقسم بزمان الرسول- صلى الله عليه وسلم. قال الإمام الرازى: واحتجوا له بقوله- صلى الله عليه وسلم: «إنما مثلكم
(1) سورة البلد: 2.
(2)
سورة الزمر: 30.
(3)
سورة البلد: 1.
(4)
سورة العصر: 1، 2.