الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَمْ يَقْبِضْهُ دَل عَلَى الْبَيْعِ قَبْل الْقَبْضِ فِي الْمُتَعَيَّنِ (1) .
وَلأَِنَّ الْمَبِيعَ الْمُعَيَّنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، فَكَانَ مِنْ مَال الْمُشْتَرِي، كَغَيْرِ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ.
وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ قَبْل قَبْضِهِ. وَهِيَ الَّتِي وَافَقَ فِيهَا الإِْمَامَ الشَّافِعِيَّ وَغَيْرَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَرِوَايَةُ الْمَذْهَبِ (2) : أَنَّ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونَ وَالْمَعْدُودَ وَالْمَذْرُوعَ، لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ مِنْ بَائِعِهِ (3) . وَهَذَا مَرْوِيٌّ أَيْضًا: عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادِ ابْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالأَْوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ (4) .
وَمُسْتَنَدُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ وَنَحْوِهِمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا:
أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ، وَكَانَ الطَّعَامُ يَوْمَئِذٍ مُسْتَعْمَلاً غَالِبًا فِيمَا يُكَال وَيُوزَنُ، وَقِيسَ عَلَيْهِمَا الْمَعْدُودُ وَالْمَذْرُوعُ، لاِحْتِيَاجِهِمَا إِلَى حَقِّ التَّوْفِيَةِ (5) . وَسَوَاءٌ أَكَانَ
(1) الشرح الكبير 4 / 115.
(2)
انظر الإنصاف 4 / 460 - 461 فهي المذهب، وعليها الأصحاب، والمشهور في المذهب.
(3)
المغني 4 / 217 وما بعدها، والشرح الكبير في ذيله 4 / 115، وكشاف القناع 3 / 241.
(4)
المغني 4 / 220.
(5)
كشاف القناع 3 / 241.
الْمَعْدُودُ مُتَعَيَّنًا كَالصُّبْرَةِ، أَمْ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ كَقَفِيزٍ مِنْهَا.
أَمَّا مَا عَدَا الْمَكِيل وَالْمَوْزُونَ وَنَحْوَهُمَا، فَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، وَذَلِكَ: لِمَا رُوِيَ {عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنِّي أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ. فَقَال: لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَ بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ} (1) .
قَالُوا: فَهَذَا تَصَرُّفٌ فِي الثَّمَنِ قَبْل قَبْضِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ (2) .
ضَابِطُ مَا يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ:
6 -
اخْتَلَفَتْ ضَوَابِطُ الْفُقَهَاءِ، فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَمْنُوعَةِ شَرْعًا قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ:
أ - فَاتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، عَلَى هَذَا الضَّابِطِ وَهُوَ:
أَنَّ كُل عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِهِ قَبْل الْقَبْضِ، لَمْ يَجُزِ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ،
(1) حديث ابن عمر: " لا بأس أن تأخذ بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء " أخرجه أبو داود (3 / 651 ط عزت عبيد دعاس) ، ونقل البيهقي عن شعبة أنه حكم عليه بالوقف على ابن عمر. (التلخيص لابن حجر 3 / 26 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2)
المغني 4 / 221، والشرح الكبير في ذيله 4 / 118.
وَمَا لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ، جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ (1) .
فَمِثَال الأَْوَّل: الْمَبِيعُ وَالأُْجْرَةُ وَبَدَل الصُّلْحِ عَنِ الدَّيْنِ، إِذَا كَانَ الثَّمَنُ وَالأَْجْرُ وَالْبَدَل عَيْنًا - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - أَوْ كَانَ مِنَ الْمَكِيل أَوِ الْمَوْزُونِ أَوِ الْمَعْدُودِ عِنْدَ الْحَنْبَلِيَّةِ.
وَمِثَال الآْخَرِ: الْمَهْرُ إِذَا كَانَ عَيْنًا - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَكَذَا بَدَل الْخُلْعِ، وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ - وَكَذَا أَرْشُ الْجِنَايَةِ، وَقِيمَةُ الْمُتْلَفِ، عِنْدَ الْحَنْبَلِيَّةِ فِي هَذَيْنِ - كُل ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَيْنًا، يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِجَارَتُهُ قَبْل قَبْضِهِ، وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ (2) .
وَعَلَّل الْحَنَابِلَةُ هَذَا الضَّابِطَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلتَّصَرُّفِ هُوَ الْمِلْكُ، وَقَدْ وُجِدَ. لَكِنَّ مَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ غَرَرُ الاِنْفِسَاخِ، بِاحْتِمَال هَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ بِنَاءُ عَقْدٍ آخَرَ عَلَيْهِ تَحَرُّزًا مِنَ الْغَرَرِ، وَمَا لَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ ذَلِكَ الْغَرَرُ، انْتَفَى عَنْهُ الْمَانِعُ، فَجَازَ بِنَاءُ الْعَقْدِ الآْخَرِ عَلَيْهِ (3) .
ب - وَوَضَعَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الضَّابِطَ، وَهُوَ:
(1)
أَنَّ كُل تَصَرُّفٍ لَا يَتِمُّ إِلَاّ بِالْقَبْضِ، كَالْهِبَةِ
(1) المغني 4 / 221، والشرح الكبير في ذيله 4 / 118، وقارنه تماما بالذي في الدر المختار ورد المحتار 4 / 162.
(2)
المراجع السابقة نفسها في المذهبين في مواضعها.
(3)
المغني 4 / 221، والشرح الكبير في ذيله 4 / 118.
وَالصَّدَقَةِ وَالرَّهْنِ وَالْقَرْضِ وَالإِْعَارَةِ وَنَحْوِهَا، يَجُوزُ قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ.
(2)
وَكُل تَصَرُّفٍ يَتِمُّ قَبْل الْقَبْضِ، كَالْمَبِيعِ وَالإِْجَارَةِ وَبَدَل الصُّلْحِ عَنِ الدَّيْنِ إِذَا كَانَ عَيْنًا، وَنَحْوِهَا لَا يَجُوزُ قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ.
وَتَعْلِيلُهُ عِنْدَهُ: أَنَّ الْهِبَةَ - مَثَلاً - لَمَّا كَانَتْ لَا تَتِمُّ إِلَاّ بِالْقَبْضِ، صَارَ الْمَوْهُوبُ لَهُ نَائِبًا عَنِ الْوَاهِبِ، وَهُوَ الْمُشْتَرِي الَّذِي وَهَبَهُ الْمَبِيعَ قَبْل قَبْضِهِ، ثُمَّ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ، فَتَتِمُّ الْهِبَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ.
بِخِلَافِ الْبَيْعِ - مَثَلاً - وَنَحْوِهِ مِمَّا يَتِمُّ قَبْل الْقَبْضِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، لأَِنَّهُ إِذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي لَا يَكُونُ قَابِضًا عَنِ الأَْوَّل، لِعَدَمِ تَوَقُّفِ الْبَيْعِ عَلَى الْقَبْضِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَمْلِيكُ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ (1) .
وَأَشَارَ التُّمُرْتَاشِيُّ إِلَى أَنَّ الأَْصَحَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الإِْمَامُ مُحَمَّدٌ (2) .
ج - وَضَبَطَ الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَا يَمْنَعُ بَيْعَ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ، بِأَنْ تَتَوَالَى عُقْدَتَا بَيْعٍ لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا قَبْضٌ (3) . وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالطَّعَامِ عَلَى رَأْيِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ فِي حَصْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْ بَيْعِهِ قَبْل قَبْضِهِ فِي مُطْلَقِ الأَْطْعِمَةِ الرِّبَوِيَّةِ.
(1) رد المحتار 4 / 162، 163 بتصرف. وانظر بسط الموضوع في فتح القدير 6 / 136، 137.
(2)
الدر المختار 4 / 162.
(3)
الشرح الكبير للدردير 3 / 152.
وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ جُزَيٍّ هَذَا الضَّابِطُ، وَهُوَ:
أَنَّ كُل طَعَامٍ أُخِذَ مُعَاوَضَةً - بِغَيْرِ جُزَافٍ - فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ. وَتَشْمَل الْمُعَاوَضَةُ: الشِّرَاءَ، وَالإِْجَارَةَ، وَالصُّلْحَ، وَأَرْشَ الْجِنَايَةِ، وَالْمَهْرَ، وَغَيْرَهَا - عَلَى مَا ذُكِرَ - فَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ، لَكِنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَهَبَهُ أَوْ يُسَلِّفَهُ قَبْل قَبْضِهِ (1) .
وَالتَّقْيِيدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِغَيْرِ الْجُزَافِ، لإِِخْرَاجِ مَا بِيعَ جُزَافًا بِغَيْرِ كَيْلٍ وَلَا عَدٍّ وَلَا وَزْنٍ مِنَ الطَّعَامِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، لِدُخُولِهِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، فَهُوَ مَقْبُوضٌ حُكْمًا، فَلَيْسَ فِيهِ تَوَالِي عُقْدَتَيْ بَيْعٍ لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا قَبْضٌ (2) .
كَمَا شَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي جَوَازِ بَيْعِ مُطْلَقِ طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ - بِالإِْضَافَةِ إِلَى شَرْطِ قَبْضِهِ - أَنْ لَا يَكُونَ الْقَبْضُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ قَبَضَ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، مُنِعَ بَيْعُهُ؛ لأَِنَّ هَذَا الْقَبْضَ الْوَاقِعَ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ كَلَا قَبْضٍ (3) .
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْقَبْضَ الْمُعْتَدَّ بِهِ فِي الْجَوَازِ، هُوَ الْقَبْضُ الْقَوِيُّ، فَيَجُوزُ بَيْعُ الطَّعَامِ عَقِبَهُ. أَمَّا الْقَبْضُ الضَّعِيفُ، فَهُوَ كَلَا قَبْضٍ، فَلَا
(1) القوانين الفقهية 170 - 171.
(2)
الشرح الكبير 3 / 152، والقوانين الفقهية 171.
(3)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 152.
يُعْقِبُ الْجَوَازَ. مِثَال ذَلِكَ: - إِذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ طَعَامٍ، فَبَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، وَقَبْل قَبْضِ الأَْجْنَبِيِّ الطَّعَامَ، اشْتَرَاهُ الْوَكِيل مِنْهُ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ بَيْعُهُ مِنْ نَفْسِهِ، لأَِنَّهُ يَقْبِضُ هَذِهِ الْحَال مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ.
- وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ طَعَامٍ، فَاشْتَرَاهُ وَقَبَضَهُ ثُمَّ بَاعَهُ لأَِجْنَبِيٍّ، وَاشْتَرَاهُ مِنْهُ قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ الأَْجْنَبِيُّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ شِرَاؤُهُ مِنْ نَفْسِهِ، لأَِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَال يَقْبِضُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ (1) .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الطَّعَامِ إِذَا قَبَضَ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، مَا إِذَا كَانَ الْقَابِضُ مِنْ نَفْسِهِ مِمَّنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ، كَوَصِيٍّ لِيَتِيمَيْهِ، وَوَالِدٍ لِوَلَدَيْهِ الصَّغِيرَيْنِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ طَعَامِ أَحَدِهِمَا لِلآْخَرِ، ثُمَّ بَيْعُهُ لأَِجْنَبِيٍّ، قَبْل قَبْضِهِ لِمَنِ اشْتَرَاهُ لَهُ (2) .
د - لَمْ يَضَعِ الشَّافِعِيَّةُ ضَابِطًا فِي هَذَا الصَّدَدِ، لَكِنَّهُمْ أَلْحَقُوا - فِي الأَْصَحِّ مِنْ مَذْهَبِهِمْ - بِالْبَيْعِ عُقُودًا أُخْرَى، مِنْ حَيْثُ الْبُطْلَانُ قَبْل الْقَبْضِ.
فَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الإِْجَارَةَ وَالرَّهْنَ وَالْهِبَةَ - وَلَوْ مِنَ الْبَائِعِ - بَاطِلَةٌ، فَلَا تَصِحُّ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُعَلَّل بِهِ النَّهْيُ فِيهَا، وَهُوَ ضَعْفُ الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ وَعِوَضُ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ نَحْوِ دَمٍ،
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 152.
(2)
الشرح الكبير للدردير 3 / 153.
وَالْقَرْضُ وَالْقِرَاضُ وَالشَّرِكَةُ وَغَيْرُهَا (1) .
وَجَاءَتْ عِبَارَةُ الْمَنْهَجِ عَامَّةً، فَنَصَّتْ عَلَى أَنَّهُ: لَا يَصِحُّ تَصَرُّفٌ، وَلَوْ مَعَ بَائِعٍ، بِنَحْوِ بَيْعٍ وَرَهْنٍ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ، وَضُمِنَ بِعَقْدٍ (2) .
لَكِنَّهُمْ صَحَّحُوا تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ بِالإِْعْتَاقِ وَالْوَصِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْوَقْفِ وَقِسْمَةِ الإِْفْرَازِ وَالتَّعْدِيل لَا الرَّدِّ، وَكَذَا إِبَاحَةُ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ جُزَافًا، بِخِلَافِ مَا لَوِ اشْتَرَاهُ مَكِيلاً، فَلَا بُدَّ لِصِحَّةِ إِبَاحَتِهِ مِنْ كَيْلِهِ وَقَبْضِهِ.
وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِلَى الْعِتْقِ - عَلَى حَدِّ تَعْبِيرِهِمْ - وَفِي مَعْنَاهُ بَقِيَّةُ التَّصَرُّفَاتِ.
7 -
وَأَلْحَقُوا أَيْضًا الثَّمَنَ الْمُعَيَّنَ، سَوَاءٌ أَكَانَ دَرَاهِمَ أَمْ دَنَانِيرَ أَمْ غَيْرَهُمَا بِالْمَبِيعِ فِي فَسَادِ التَّصَرُّفِ قَبْل الْقَبْضِ، فَلَا يَبِيعُهُ الْبَائِعُ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَلِلتَّعْلِيل الْمُتَقَدِّمِ (3) .
بَل قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَكُل عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ. كَذَلِكَ (4) ، أَيْ لَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا قَبْل قَبْضِهَا.
فَأَمَّا الأَْمْوَال الَّتِي تَكُونُ لِلشَّخْصِ فِي يَدِ غَيْرِهِ
(1) شرح المحلي على المنهاج 2 / 213.
(2)
انظر المنهج وشرحه بحاشية الجمل 3 / 161، 162، وانظر تحفة المحتاج 4 / 402، 403.
(3)
راجع فيما تقدم. ف / 1.
(4)
تحفة المحتاج 4 / 403.
أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ، وَالْمَال الْمُشْتَرَكِ فِي الشَّرِكَةِ وَالْقِرَاضِ، وَالْمَرْهُونِ بَعْدَ انْفِكَاكِهِ، وَالْمَوْرُوثِ، وَمَا يَمْلِكُهُ الْغَانِمُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالْمَال الْبَاقِي فِي يَدِ الْوَلِيِّ بَعْدَ بُلُوغِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ رُشْدَهُ وَنَحْوِهَا، فَيَمْلِكُ بَيْعَهَا، لِتَمَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَذْكُورَاتِ (1) .
8 -
وَلَعَلَّهُ لَا بَأْسَ مِنَ الإِْشَارَةِ هَاهُنَا إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ الشَّوْكَانِيَّ رحمه الله طَرَحَ ضَابِطًا آخَرَ، شَطْرُهُ مِمَّا قَرَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَقَال مَا نَظِيرُهُ:
إِنَّ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَكُونُ بِعِوَضٍ، تُلْتَحَقُ بِالْبَيْعِ، فَيَكُونُ فِعْلُهَا قَبْل الْقَبْضِ غَيْرَ جَائِزٍ. وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا عِوَضَ فِيهَا، تُلْتَحَقُ بِالْهِبَةِ، فَيَكُونُ فِعْلُهَا قَبْل الْقَبْضِ جَائِزًا. وَرَجَّحَ هَذَا الرَّأْيَ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ الْوَقْفِ وَالْعِتْقِ قَبْل الْقَبْضِ. وَبِمَا عُلِّل بِهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَهُوَ شُبْهَةُ الرِّبَا: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ طَاوُسًا سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ النَّهْيِ، فَأَجَابَهُ: بِأَنَّهُ إِذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ قَبْل قَبْضِهِ، وَتَأَخَّرَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، صَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ، فَإِذَا اشْتَرَى طَعَامًا بِمِائَةِ دِينَارٍ مَثَلاً، وَدَفَعَهَا إِلَى الْبَائِعِ، وَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ الطَّعَامَ، ثُمَّ بَاعَ الطَّعَامَ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ - مَثَلاً - صَارَ كَأَنَّهُ
(1) المرجع السابق 4 / 403، 404، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 213.