الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَالْكَبِدِ وَالطِّحَال (1) ، وَقَدِ اسْتُثْنِيَا مِنْ تَحْرِيمِ الدَّمِ، بِحَدِيثِ {أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ} . . . " الآْنِفِ الذِّكْرِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَصَرَّحَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالشَّوْكَانِيُّ بِإِجْمَاعِ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ (2) .
وَعِلَّةُ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَنَحْوِهِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ انْتِفَاءُ الْمَالِيَّةِ، وَعِنْدَ الآْخَرِينَ نَجَاسَةُ الْعَيْنِ (3) .
وَمَنْ صَوَّرَ انْتِفَاءَ الْمَالِيَّةِ فِي مَحَل الْعَقْدِ: بَيْعَ الْحُرِّ. وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بِهِ، بِجَعْلِهِ ثَمَنًا، بِإِدْخَال الْبَاءِ عَلَيْهِ (كَأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ هَذَا الْبَيْتَ بِهَذَا الْغُلَامِ، وَهُوَ حُرٌّ) لأَِنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ: مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ. وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ (4) .
وَفِي الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا الْبَيْعِ، وَرَدَ حَدِيثُ:{ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ. رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَل ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ} (5) .
(1) الدر المختار 4 / 101.
(2)
الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 13، ونيل الأوطار 5 / 144.
(3)
انظر القوانين الفقهية (163) والشرح الكبير للدردير 3 / 10، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 157.
(4)
الدر المختار 4 / 101، وبدائع الصنائع 5 / 140.
(5)
حديث " ثلاثة أنا خصمهم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 447 ط السلفية) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: التَّقَوُّمُ:
8 -
وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَحَل الْعَقْدِ - بَعْدَ كَوْنِهِ مَالاً - أَنْ يَكُونَ مُتَقَوَّمًا.
وَالتَّقَوُّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ضَرْبَانِ:
عُرْفِيٌّ: وَيَكُونُ بِالإِْحْرَازِ، فَغَيْرُ الْمُحْرَزِ، كَالصَّيْدِ وَالْحَشِيشِ، لَيْسَ بِمُتَقَوَّمٍ.
وَشَرْعِيٌّ: وَيَكُونُ بِإِبَاحَةِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
فَمَا لَيْسَ بِمُتَقَوَّمٍ مِنَ الْمَال بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ غَيْرُ مَا كَانَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ غَيْرَ مُبَاحٍ، يَبْطُل بَيْعُهُ (1) .
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنِ اسْتَغْنَى عَنِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ، بِشَرْطَيِ الطَّهَارَةِ وَالنَّفْعِ، كَمَا فَعَل الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (2) .
وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَغْنَى عَنْ شَرْطِ التَّقَوُّمِ هَذَا بِشَرْطِ الْمَالِيَّةِ، بِتَعْرِيفِ الْمَال عِنْدَهُ بِأَنَّهُ: مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ، وَيُبَاحُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْحَنَابِلَةُ.
فَخَرَجَ بِقَيْدِ الْمَنْفَعَةِ، مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ أَصْلاً: كَالْحَشَرَاتِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُحَرَّمَةٌ كَالْخَمْرِ. وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِلْحَاجَةِ كَالْكَلْبِ. وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِلضَّرُورَةِ، كَالْمَيْتَةِ فِي حَال الْمَخْمَصَةِ (3) .
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 103.
(2)
انظر القوانين الفقهية ص 163، والشرح الكبير للدردير 3 / 10، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 157.
(3)
كشاف القناع 3 / 152.
9 -
فَمِنْ أَمْثِلَةِ غَيْرِ الْمُتَقَوَّمِ: بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّهُ فَاسِدٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ هُوَ نَجَاسَةُ عَيْنِهِ، وَيُلْحَقُ بِهِمَا بَاقِي نَجِسِ الْعَيْنِ (1)، وَكَذَا كُل مَا نَجَاسَتُهُ أَصْلِيَّةٌ أَوْ ذَاتِيَّةٌ وَلَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ (2) . وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْل بِهِ (3) وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمُ:{إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ} (4) .
وَالْحَنَفِيَّةُ فَرَّقُوا بَيْنَ بَيْعِ الْمَذْكُورَاتِ بِثَمَنٍ أَوْ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ، فَهُوَ بَاطِلٌ. وَبَيْنَ بَيْعِهَا بِأَعْيَانٍ أَوْ عُرُوضٍ، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَبْطُل فِي الْخَمْرِ، وَيَفْسُدُ فِيمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْعُرُوضِ وَالأَْعْيَانِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الأَْصْل فِي الْبَيْعِ، وَلَيْسَتِ الْخَمْرُ وَنَحْوُهَا مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ، فَبَطَل الْبَيْعُ فِيهَا، فَكَذَا يَبْطُل فِي ثَمَنِهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ، مَقْصُودٍ بِالتَّمَلُّكِ، وَلَكِنْ فَسَدَتِ التَّسْمِيَةُ، فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ دُونَ الْخَمْرِ الْمُسَمَّى (5) .
(1) شرح المحلي على المنهاج 2 / 175.
(2)
الشرح الكبير للدردير 3 / 10، وشرح الخرشي على مختصر خليل بحاشية العدوي عليه 5 / 15 ط بيروت.
(3)
كشاف القناع 3 / 152، والشرح الكبير بذيل المغني 4 / 13.
(4)
حديث " إن الله حرم بيع الخمر والميتة. . . " سبق تخريجه (ف 7) .
(5)
الدر المختار ورد المحتار 4 / 103، 104، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 4 / 44، 45 ط دار المعرفة. بيروت.
وَكَذَلِكَ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فِي بَيْعِ الْمَذْكُورَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ الذِّمِّيِّ. وَفِي هَذَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ: وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْخِنْزِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا أَهْل الذِّمَّةِ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ تَبَايُعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِمَا يَلِي:
أ - أَمَّا عَلَى قَوْل بَعْضِ مَشَايِخِنَا، فَلأَِنَّهُ مُبَاحٌ الاِنْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا لَهُمْ، كَالْخَل وَكَالشَّاةِ لَنَا، فَكَانَ مَالاً فِي حَقِّهِمْ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ. وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُشَّارِهِ بِالشَّامِ: أَنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا. وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْخَمْرِ مِنْهُمْ لَمَا أَمَرَهُمْ بِتَوْلِيَتِهِمُ الْبَيْعَ.
ب - وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا: حُرْمَةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ؛ لأَِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا، فَكَانَتِ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، لَكِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ بَيْعِهَا، لأَِنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهَا، وَيَتَمَوَّلُونَهَا، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ (1) .
فَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ رحمه الله مُعَلِّقًا عَلَى عِبَارَةِ الْكَاسَانِيِّ: وَظَاهِرُهُ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَوْ بِيعَتْ بِالثَّمَنِ (2) .
10 -
وَمِنْ أَمْثِلَةِ غَيْرِ الْمُتَقَوَّمِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
(1) بدائع الصنائع 5 / 143.
(2)
رد المحتار 4 / 104.
الْمَيْتَةُ الَّتِي لَمْ تَمُتْ حَتْفَ أَنْفِهَا، بَل مَاتَتْ بِالْخَنْقِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهَا مَالٌ عِنْدَ الذِّمِّيِّ كَالْخَمْرِ (1) . وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَنْهَا فِي شَرْطِ الْمَالِيَّةِ.
11 -
وَيَتَّصِل بِغَيْرِ الْمُتَقَوَّمِ: الْمُتَنَجِّسُ الَّذِي لَا يَقْبَل التَّطْهِيرَ، كَالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَالْعَسَل وَاللَّبَنِ وَالْخَل.
وَالْمَشْهُورُ وَالأَْصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الأَْكْثَرِينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِهَا؛ لأَِنَّ أَكْلَهَا حَرَامٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم {سُئِل عَنِ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ، فَقَال:. . . وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ} (2) وَإِذَا كَانَ حَرَامًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: {أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَّلُوهَا أَيْ أَذَابُوهَا فَبَاعُوهَا} (3) . . .
وَلأَِنَّهَا نَجِسَةٌ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، قِيَاسًا عَلَى شَحْمِ الْمَيْتَةِ، فَهِيَ فِي مَعْنَى نَجِسِ الْعَيْنِ (4) .
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 103. وراجع فيما تقدم (ف 7) .
(2)
حديث: " وإن كان مائعا فلا تقربوه. . . " أخرجه أبو داود 4 / 181 تحقيق عزت عبيد دعاس من حديث أبي هريرة وإسناده صحيح كما ذكر ابن حجر (فتح الباري 1 / 344 ط السلفية) .
(3)
حديث: " لعن الله اليهود. . . " أخرجه مسلم (3 / 1207 ط عيسى الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(4)
القوانين الفقهية ص 163، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 157، وكشاف القناع 3 / 165، والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 15.
وَقَدْ قَرَّرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِهِمْ هُوَ عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِهَا اخْتِيَارًا، أَمَّا اضْطِرَارًا فَيَصِحُّ (1) .
وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ رِوَايَةٌ وَقَعَتْ لِمَالِكٍ، هِيَ جَوَازُ بَيْعِهِ، وَكَانَ يُفْتِي بِهَا ابْنُ اللَّبَّادِ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، الْمَعْلُومُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا، أَنَّ بَيْعَهُ لَا يَجُوزُ، وَالأَْظْهَرُ أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ مِمَّنْ لَا يَغُشُّ بِهِ إِذَا بَيَّنَ؛ لأَِنَّ تَنْجِيسَهُ بِسُقُوطِ النَّجَاسَةِ فِيهِ لَا يُسْقِطُ مِلْكَ رَبِّهِ عَنْهُ، وَلَا يُذْهِبُ جُمْلَةَ الْمَنَافِعِ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْلَفَ عَلَيْهِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِمَّنْ يَصْرِفُهُ فِيمَا كَانَ لَهُ هُوَ أَنْ يَصْرِفَهُ فِيهِ، وَهَذَا فِي الزَّيْتِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يُجِيزُ غَسْلَهُ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ غَسْلَهُ - وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ - فَسَبِيلُهُ فِي الْبَيْعِ سَبِيل الثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ (2) .
وَجَعَل ابْنُ جُزَيٍّ قِيَاسَ ابْنِ رُشْدٍ مِمَّا أَجَازَهُ ابْنُ وَهْبٍ إِذَا بَيَّنَ. وَأَشَارَ إِلَى الاِخْتِلَافِ فِي الاِسْتِصْبَاحِ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ (3) .
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، هُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ، بِأَنْ يُصَبَّ عَلَيْهِ فِي إِنَاءٍ مَاءٌ يَغْلِبُهُ، وَيُحَرَّكُ بِخَشَبَةٍ حَتَّى يَصِل إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، جَازَ بَيْعُهُ قِيَاسًا عَلَى الثَّوْبِ
(1) الشرح الكبير للدردير 3 / 10.
(2)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير في الموضع نفسه.
(3)
القوانين الفقهية ص 163.
الْمُتَنَجِّسِ. وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمُ الْمَنْعُ مِنَ الْبَيْعِ، لِتَعَذُّرِ التَّطْهِيرِ، لِحَدِيثِ الْفَأْرَةِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ لَمْ يَقُل فِي الْحَدِيثِ:{أَلْقَوْهَا وَمَا حَوْلَهَا} وَفِي رِوَايَةٍ: {فَأَرِيقُوهُ} (1) وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ عِنْدَهُمْ فِي بَيْعِ الْمَاءِ النَّجِسِ.
فَيَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، لإِِمْكَانِ تَطْهِيرِهِ بِالْمُكَاثَرَةِ.
وَجَزَمَ بَعْضُهُمْ بِمَنْعِ الْجَوَازِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ - كَمَا يَقُول الْقَلْيُوبِيُّ نَقْلاً عَنْ شَيْخِهِ - إِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، وَذَلِكَ نَظَرًا إِلَى النَّجَاسَةِ الآْنَ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ صَحَّ عِنْدَهُمْ (2) .
وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيزُوا بَيْعَ الدُّهْنِ النَّجِسِ، رَوَوْا عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِكَافِرٍ يَعْلَمُ نَجَاسَتَهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يَعْتَقِدُ حِلَّهُ، وَيَسْتَبِيحُ أَكْلَهُ، وَلأَِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى: لُتُّوا بِهِ السَّوِيقَ وَبِيعُوهُ، وَلَا تَبِيعُوهُ مِنْ مُسْلِمٍ، وَبَيِّنُوهُ. لَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَدَمُ الْجَوَازِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ:{لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا} (3) .
(1) شرح المحلي على المنهاج 2 / 157، وتحفة المحتاج 4 / 235، 236، وحاشية الشرواني عليها. وحديث " ألقوها وما حولها. . . " وفي رواية:" فأريقوه ". أخرجه البخاري. (فتح الباري 9 / 668 ط السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.
(2)
شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي عليه 2 / 157.
(3)
حديث " لعن الله اليهود " سبق تخريجه. ف / 10.
وَلأَِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مِنْ مُسْلِمٍ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مِنْ كَافِرٍ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَهُمْ.
وَلأَِنَّهُ دُهْنٌ نَجِسٌ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِكَافِرٍ، كَشُحُومِ الْمَيْتَةِ (1) .
هَذَا، وَأَمَّا الثَّوْبُ الْمُتَنَجِّسُ أَوِ الإِْنَاءُ الْمُتَنَجِّسُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ كُل مَا يَطْهُرُ بِالْغَسْل مِنَ الْمُتَنَجِّسَاتِ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى صِحَّةِ بَيْعِهِ، لِمَا أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بَعْدَ التَّطْهِيرِ، وَطَهَارَتُهُ أَصْلِيَّةٌ، وَإِنَّمَا عَرَضَ لَهَا نَجَاسَةٌ يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا.
وَقَدْ أَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ تَبْيِينَ النَّجَاسَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الثَّوْبُ - مَثَلاً - جَدِيدًا أَمْ قَدِيمًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُفْسِدُهُ الْغَسْل أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُشْتَرِي يُصَلِّي أَمْ لَا، قَالُوا: لأَِنَّ النُّفُوسَ تَكْرَهُهُ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ وَجَبَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ (2) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا - خِلَافًا لِلأَْصَحِّ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ - عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ، وَهُوَ الَّذِي عَرَضَتْ لَهُ النَّجَاسَةُ، وَأَجَازُوا الاِنْتِفَاعَ بِهِ فِي غَيْرِ الأَْكْل، كَالاِسْتِصْبَاحِ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ وَالدَّبَّاغَةِ وَغَيْرِهِمَا (3) .
وَفَرَّقُوا بَيْنَ الدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ وَبَيْنَ دُهْنِ الْمَيْتَةِ،
(1) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 15، وكشاف القناع 3 / 156.
(2)
الشرح الكبير للدردير 3 / 10، وانظر شرح المحلي على المنهاج 2 / 157، وكشاف القناع 3 / 6.
(3)
الدر المختار 4 / 114.
فَإِنَّ هَذَا نَجِسٌ، لأَِنَّهُ جُزْؤُهَا، فَلَا يَكُونُ مَالاً، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ اتِّفَاقًا، كَمَا لَا يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ (1) وَاسْتَدَل لَهُ ابْنُ عَابِدِينَ رحمه الله بِحَدِيثِ:{إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ. فَقِيل يَا رَسُول اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَال: لَا، هُوَ حَرَامٌ} (2) .
12 -
وَيَتَّصِل بِغَيْرِ الْمُتَقَوَّمِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالْمُتَنَجِّسَاتِ، بَيْعُ عَظْمِ الْمَيْتَةِ وَجِلْدِهَا وَصُوفِهَا وَحَافِرِهَا وَرِيشِهَا وَنَحْوِهَا.
وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِنَجَاسَتِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (3) وَهَذِهِ أَجْزَاءُ الْمَيْتَةِ، فَتَكُونُ حَرَامًا، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:{لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ} (4) . بَل نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ شَيْءٍ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِمُضْطَرٍّ، إِلَاّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ وَالْجُنْدُبَ، لِحِل أَكْلِهَا (5) .
(1) رد المحتار 4 / 114، وانظر تبيين الحقائق 4 / 51.
(2)
حديث " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة. . . " سبق تخريجه (ف 7) .
(3)
سورة المائدة / 3.
(4)
حديث " لا تنتفعوا من الميتة. . . " أخرجه الترمذي (4 / 222 ط عيسى الحلبي) من حديث عبد الله بن عكيم وحسنه.
(5)
انظر الشرح الكبير للدردير 3 / 10 وشرح المنهج بحاشية الجمل 3 / 22، وكشاف القناع 3 / 155، 156.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَفَصَّلُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ غَيْرِ الآْدَمِيِّ وَبَيْنَ الآْدَمِيِّ، وَبَيْنَ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْل الدَّبْغِ وَبَيْنَ جِلْدِهَا بَعْدَ الدَّبْغِ. قَالُوا:
أ - إِنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْل الدَّبْغِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا:{لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ} وَلأَِنَّ نَجَاسَتَهُ مِنَ الرُّطُوبَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ بِأَصْل الْخِلْقَةِ، فَصَارَ كَلَحْمِ الْمَيْتَةِ. بِخِلَافِ الثَّوْبِ النَّجِسِ حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لأَِنَّ نَجَاسَتَهُ لَيْسَتْ بِأَصْل الْخِلْقَةِ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ.
ب - أَمَّا بَعْدَ الدَّبْغِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ، لأَِنَّهُ طَهُرَ بِالدَّبَّاغِ.
ج - أَمَّا الْعَظْمُ وَنَحْوُهُ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ بِأَصْل الْخِلْقَةِ، وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ كُل شَيْءٍ لَا يَسْرِي فِيهِ الدَّمُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، كَالشَّعْرِ وَالرِّيشِ وَالْوَبَرِ وَالْقَرْنِ وَالْحَافِرِ وَالْعَظْمِ - كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ فِي الطِّهَارَاتِ (1) - فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ، وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرَهُ الْكَاسَانِيُّ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل لَنَا هَذِهِ الأَْشْيَاءَ، وَامْتَنَّ عَلَيْنَا بِهَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الذَّكِيَّةِ وَالْمَيِّتَةِ، فَيَدُل عَلَى تَأَكُّدِ الإِْبَاحَةِ، قَال تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَل لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَل لَكُمْ
(1) انظر في طهارة هذه المذكورات - على سبيل المثال - مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي عليه ص 91 ط الثالثة، بولاق سنة 1318 هـ.