الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَيْعُ الْمُسْتَرْسِل:
10 -
عَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: قَوْل الشَّخْصِ لِغَيْرِهِ بِعْنِي كَمَا تَبِيعُ النَّاسَ، أَوْ بِسِعْرِ السُّوقِ، أَوْ بِسِعْرِ الْيَوْمِ، أَوْ بِمَا يَقُولُهُ فُلَانٌ، أَوْ أَهْل الْخِبْرَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَالْمُسْتَرْسِل - كَمَا عَرَّفَهُ الإِْمَامُ أَحْمَدُ - هُوَ الْجَاهِل بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ وَلَا يُحْسِنُ الْمُمَاكَسَةَ أَوْ لَا يُمَاكِسُ.
وَبَيْعُ الْمُسْتَرْسِل بِهَذَا التَّعْرِيفِ يَنْعَقِدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَرْسِل فِيهِ (1) .
حُكْمُ الْخِيَانَةِ فِي بُيُوعِ الأَْمَانَةِ:
سَبَقَ أَنَّ هَذِهِ الْبُيُوعَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ بُيُوعَ الأَْمَانَةِ لأَِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الثِّقَةِ وَالاِطْمِئْنَانِ فِي التَّعَامُل بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ: الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي.
11 -
فَأَمَّا فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ - عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهُ - فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ الْمَبِيعِ إِلَى بَائِعِهِ بَعْدَ تَسَلُّمِ الثَّمَنِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُ الْمَبِيعِ؛ لأَِنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ لَا يَسُوغُ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ النَّاقِل لِلْمِلْكِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِغَيْرِ بَائِعِهِ وَلَيْسَ فِيهِ الشُّفْعَةُ، وَخَرَاجُهُ عَلَى بَائِعَةِ، وَلَوْ هَلَكَ
(1) القواعد الفقهية ص 269، ومواهب الجليل 4 / 470، والدسوقي 3 / 55، والزرقاني 5 / 175، والمغني 3 / 584، وابن عابدين 4 / 159، وروضة الطالبين 3 / 419، والمجموع 12 / 118.
الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الآْخَرِ؛ لأَِنَّ يَدَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمَبِيعِ يَدُ أَمَانَةٍ.
وَإِذَا مَاتَ الْبَائِعُ انْتَقَل الْمَبِيعُ بِالإِْرْثِ إِلَى وَرَثَتِهِ (1) . وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ (بَيْعُ الْوَفَاءِ) .
12 -
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِبُيُوعِ الأَْمَانَةِ الأُْخْرَى فَإِنَّهُ إِذَا ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي الْمُرَابَحَةِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ ظَهَرَتْ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ، أَوْ أَنَّهَا ظَهَرَتْ فِي قَدْرِهِ.
فَإِنْ ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ، بِأَنِ اشْتَرَى شَيْئًا بِنَسِيئَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِنَسِيئَةٍ، أَوْ بَاعَهُ تَوْلِيَةً وَلَمْ يُبَيِّنْ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي، فَلَهُ الْخِيَارُ بِالإِْجْمَاعِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ؛ لأَِنَّ الْمُرَابَحَةَ عَقْدٌ بُنِيَ عَلَى الأَْمَانَةِ؛ لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ اعْتَمَدَ الْبَائِعَ وَائْتَمَنَهُ فِي الْخَبَرِ عَنِ الثَّمَنِ الأَْوَّل، فَكَانَتِ الأَْمَانَةُ مَطْلُوبَةً فِي هَذَا الْعَقْدِ، فَكَانَتْ صِيَانَتُهُ عَنِ الْخِيَانَةِ مَشْرُوطَةً دَلَالَةً، وَفَوَاتُهَا يُوجِبُ الْخِيَارَ كَفَوَاتِ السَّلَامَةِ عَنِ الْعَيْبِ.
وَإِنْ ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ، بِأَنْ قَال: اشْتَرَيْتُ بِعَشَرَةٍ وَبِعْتُكَ بِرِبْحِ دِينَارٍ عَلَى كُل عَشَرَةِ دَنَانِيرَ، أَوْ قَال: اشْتَرَيْتُ بِعَشَرَةٍ وَوَلَّيْتُكَ بِمَا تَوَلَّيْتَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ
(1) ابن عابدين 4 / 247، والفتاوى الهندية 3 / 209، ومعين الحكام ص 183، وبغية المسترشدين ص 133.
كَانَ اشْتَرَاهُ بِتِسْعَةٍ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْظْهَرِ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَال بِهِ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ، وَلَكِنْ يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَذَلِكَ دِرْهَمٌ فِي التَّوْلِيَةِ وَدِرْهَمٌ فِي الْمُرَابَحَةِ، وَحِصَّتُهُ مِنَ الرِّبْحِ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ دِرْهَمٍ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْمُرَابَحَةِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَفِي التَّوْلِيَةِ لَا خِيَارَ لَهُ، لَكِنْ يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ، وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ حَطَّ الْبَائِعُ الزَّائِدَ الْمَكْذُوبَ وَرِبْحَهُ لَزِمَ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَحُطَّ لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ وَخُيِّرَ بَيْنَ الإِْمْسَاكِ وَالرَّدِّ.
وَفِي الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ قَال مُحَمَّدٌ: لَهُ الْخِيَارُ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ جَمِيعًا، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ.
13 -
وَأَمَّا الْمُوَاضَعَةُ، فَإِنَّهَا تُطَبَّقُ عَلَيْهَا شُرُوطُ الْمُرَابَحَةِ وَأَحْكَامُهَا، إِذْ هِيَ بَيْعٌ بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل مَعَ نُقْصَانٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ.
وَكَذَا الإِْشْرَاكُ حُكْمُهُ حُكْمُ التَّوْلِيَةِ، وَلَكِنَّهُ تَوْلِيَةُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ (1) .
14 -
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِبَيْعِ الْمُسْتَرْسِل فَمِنْ صُوَرِهِ:
(1) البدائع 5 / 225 - 226، 228، وابن عابدين 4 / 163، والدسوقي 3 / 168، وقليوبي 2 / 223، وكشاف القناع 3 / 231.
أَنْ يَقُول الرَّجُل لِلرَّجُل: بِعْنِي كَمَا تَبِيعُ النَّاسَ، فَهَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَكِنْ إِنْ غَبَنَهُ بِمَا يَخْرُجُ عَنِ الْعَادَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ.
15 -
وَمِنْ صُوَرِهِ أَيْضًا: أَنْ يَبِيعَ شَخْصًا لَا يُمَاكِسُ، أَوْ لَا يُحْسِنُ الْمُمَاكَسَةَ، فَكَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ اسْتَرْسَل إِلَى الْبَائِعِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ مَا أَعْطَاهُ مِنْ غَيْرِ مُمَاكَسَةٍ، وَلَا مَعْرِفَةٍ بِغَبْنِهِ.
وَبَيْعُ الْمُسْتَرْسِل بِهَذَا التَّعْرِيفِ يَنْعَقِدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَرْسِل فِيهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارِ؛ لأَِنَّ نُقْصَانَ قِيمَةِ السِّلْعَةِ مَعَ سَلَامَتِهَا لَا يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ، وَمُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَغْبُونًا لَا يُثْبِتُ لَهُ خِيَارًا، لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ إِذَا كَانَ الْغَبْنُ فَاحِشًا. وَفَسَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِمَا لَا يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ؛ لأَِنَّ مَا لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدِهِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ، وَفَسَّرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ بِأَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْوَصِيَّةِ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ (1)
(1) حديث: " الثلث، والثلث كثير ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 14 ط السلفية) .