الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ قالوا: فأنت أعلمنا، فما تقول؟ قال: فأخذ النجاشي شيئًا من الأرض، ثم قال: هكذا عيسى ابن مريم، ما زاد على ما قال هؤلاء مثل هذا، ثم قال لهم: أيؤذيكم أحدٌ؟ قالوا: نعم، فأمر مناديًا فنادى: من آذى أحدًا من هؤلاء فأغرموه أربعة دراهم [ثم] قال: يكفيكم؟ فقلنا: لا، فأضعفها، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى المدينة، وظهر بها، قلنا له: إن صاحبنا قد خرج إلى المدينة وظهر بها، وهاجر قبل الذين كنا حدثناك عنهم، وقد أردنا الرحيل إليه فزوّدنا، قال: نعم، فحملنا وزودنا وأعطانا، ثم قال: أخبر صاحبك ما صنعت إليكم، وهذا رسولي معك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنه رسول الله، فقل له يستغفر لي، قال جعفر: فخرجنا حتى أتينا المدينة، فتلقانا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم واعتنقني، فقال:"ما أدري أنا بفتح خيبر أفرح أم بقدوم جعفر؟ ".
ثم جلس، فقال رسول النجاشي فقال: هو ذا جعفر، فسله ما صنع به صاحبنا؟ فقلت: نعم، قد فعل بنا، قد فعل كذا وكذا، وحملنا وزودنا ونصرنا، وشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وقال: قل له: يستغفر لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فتوضأ، ثم دعا ثلاث مرات:"اللَّهم اغفر للنجاشي" فقال المسلمون: آمين، فقال: فقلت للرسول: انطلق، فأخبر صاحبك ما رأيت من النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم (1).
حديث أم سلمة في الهجرة إلى الحبشة
وعن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جارٍ، النجاشي أمنَّا على ديننا، وعبدنا الله وحده لا نؤذى ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا، مما يستطرف من متاع مكة،
(1) جامع الأصول في حديث الرسول لابن الأثير حديث رقم 9845.
وكان أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدمًا كثيرًا، لم يتركوا من بطارقته بطريقًا إلا أهدوا له هديةً، وبعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته، قبل أن تكلِّموا النجاشي فيهم، ثم قدَّموا للنجاشي هداياه، ثم اسألوه أن يسلِّمهم إليكم قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجا، فقدما على النجاشي، [ونحن عنده بخير دارٍ، وعند خير جارٍ، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي] ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم، ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، فإنّ قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم، ثم قربوا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهم، ثم كلماه، فقالا له: أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأبنائهم وعشائرهم، لنردهم إليهم، فلهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه، ولم يكن [شيء] أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم، فغضب النجاشي وقال: لا ها الله، أيْمُ الله، إذا لا أسلمهم إليهما ولا أُكاد، قومًا جاوروني ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي حتى أدعوهم، فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك، منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، كائن في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوه، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم
تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ قالت: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب عليه السلام فقال: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصِدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنَّا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرَّحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وشهادة الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئًا، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة -قالت: فعدّد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فَعَدَا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عز وجل، وأن نستحلّ ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، حالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك، قالت: فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، قالت: فقال له النجاشي: فاقرأه، فقرأ عليه صدرًا من {كهيعص} قالت: فبكى [والله] النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا [والله] والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أُسلمهم إليكم أبدًا ولا أُكاد.
قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدًا أعيبهم عنده بما استأصل به خضراءهم، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل، فإن لهم أرحامًا، وإن كانوا خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عليه السلام عبدٌ، قالت: ثم غدا عليه [الغد] فقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم، فسلهم عما يقولون فيه؟! قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها، واجتمع القوم، فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه قالوا: نقول والله ما قال الله عز وجل-
وما جاء به نبينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم كائن في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه قال [لهم]: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول" قال: فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عودًا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقة حوله حين قال ما قال، [فقال]: وإن نخرتم والله، اذهبوا، فأنتم سُيُوم بأرضي -السُيُوم: الآمنون- من سبَّكم غُرِّم، ثم من سبَّكم غُرِّم، ثم من سبَّكم غُرِّم، ما أحب أن لي دبرًا ذهبًا، وأني آذيت رجلًا منكم. -الدبر بلسان الحبشة: الجبل- ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي فيهما، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردّ علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه، فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءوا به وأقمنا عنده، في خير دارٍ مع خير جارٍ، فوالله إنا لعلى ذلك، إذا نزل به -يعني: من ينازعه في ملكه- قالت: والله ما علمنا حزنًا قطُّ كان أشد من حزن حزناه عند ذلك، تخوفًا أن يظهر ذلك على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف [منه].
قالت: وسار النجاشي وبينهما عُرضُ النيل، قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا، قالت: وكان من أحدث القوم سنًا. قالت: فنفخوا له قربةً فجعلوها في صدره، فسبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: ودعونا الله عز وجل للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده، واستوثق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزلٍ حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وهو بمكة.
روى أحمد ورجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع (1).
(1) سيرة ابن إسحاق التدمري ج1 ص (360).
روى أبو نعيم بسنده عن عروة بن الزبير في خروج جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة قال: فبعثت قريش في آثارهم عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص السهمي وأمروهما أن يسرعا السير حتى يسبقاهم إلى النجاشي، ففعلا، فقدما على النجاشي فدخلا عليه: فقالا له: إن هذا الرجل الذي بين أظهرنا، وأفسدنا فينا، تناولك ليفسد عليك دينك، وملكك وأهل سلطانك، ونحن لك ناصحون، وأنت لنا عيبة صدقٍ، تأتي إلى عشيرتنا بالمعروف ويأمن تاجرنا عندك، فبعثنا قومنا إليك لننذرك فساد ملكك، وهؤلاء نفرٌ من أصحاب الرجل الذي خرج فينا، ونخبرك بما نعرف من خلافهم الحق، أنهم لا يشهدون أن عيسى بن مريم، أحسبه قال (إلهًا) ولا يسجدون لك إذا دخلوا عليك، فادفعهم إلينا فلنكفيكهم فلما قدم جعفر وأصحابه وهم على ذلك من الحديث وعمرو وعمارة عند النجاشي، وجعفر وأصحابه على ذلك الحال، قال: فلما رأوا أن الرجلين قد سبقا ودخلا، صاح جعفر على الباب: يستأذن حزب الله، فسمعها النجاشي، فأذن لهم، فدخلوا وعمرو وعمارة عند النجاشي، قال: أيُّكم صاح عند الباب؟ فقال جعفر: أنا هو، فأمره فعاد لها، فلما دخلوا وسلموا تسليم أهل الإيمان، ولم يسجدوا له، فقال عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد ألم نبين لك خبر القوم؟ فلما سمع النجاشي ذلك أقبل عليهم، فقال: أخبروني أيها الرهط ما جاء بكم؟ وما شأنكم؟ ولِمَ أتيتموني ولستم بتجار، ولا سؤال؟ وما نبيكم هذا الذي خرج؟ وأخبروني مالكم، لِمَ لا تحيّوني كما يحييني من أتاني من أهل بلدكم؟ وأخبروني ما تقولون في عيسى بن مريم؟.
فقام جعفر بن أبي طالب، وكان خطيب القوم فقال: إنما كلامي ثلاث كلمات، وإن صدقت فصدقني وإن كذبت فكذبني، فأمرْ أحدًا من هذين الرجلين فليتكلَّمْ ولينصت الآخر، قال: عمرو: أنا أتكلم، قال النجاشي: أنت يا جعفر فتكلم قبله. فقال جعفر: إنما كلامي ثلاث كلمات، سلْ هذا الرجل أعبيدٌ نحن أبقْنا من أربابنا؟ فارددنا إلى أربابنا. فقال النجاشي: أعبيدٌ هم يا عمرو قال عمرو: بل أحرارٌ كرامٌ، قال جعفر: سلْ هذا الرجل هل أهرقْنا دمًا بغير حقه؟ فادفعنا إلى أهل الدم. فقال: هل أهرقوا دمًا بغير حقه؟ فقال: ولا قطرة واحدة من دمٍ، ثم قال جعفر: سلْ هذا الرجل أخذنا أموال الناس بالباطل؟ فعندنا قضاءٌ. فقال النجاشي: يا عمرو أنْ كان على هؤلاء قنطار من ذهب فهو عليّ. فقال عمرو: ولا قيراطٌ. فقال النجاشي: ما تطالبونهم به؟ قال عمرو:
فكنا نحن وهم على دينٍ واحدٍ وأمرٍ واحدٍ فتركوه، ولزمناه. فقال النجاشي: ما هذا الذي كنتم عليه فتركتموه وتبعتم غيره؟ فقال جعفر: أمّا الذي كنَّا عليه فدين الشيطان وأمر الشيطان، نكفر بالله ونعبد الحجارة، وأمَّا الذي نحن عليه فدين الله عز وجل، نخبرك: إن الله بعث إلينا رسولًا كما بعث إلى الذين من قبلنا فأتانا بالصدق والبر، ونهانا عن عبادة الأوثان فصدقناه وآمنا به، واتبعناه، فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا، وأرادوا قتل النبي الصادق، وردّنا في عبادة الأوثان، ففررنا إليك بديننا ودمائنا، ولو أقّرنا قومنا لاستقررنا، فذلك خبرنا. وأمَّا شأن التحية: فقد حيَّيناك بتحية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم والذي يحيِّي به بعضنا بعضًا؛ أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أن تحية أهل الجنة السلام فحيَّيناك بالسلام، وأمَّا السجود، فمعاذ الله أن نسجد إلا لله وأن نعدلك بالله. وأمَّا في شأن عيسى بن مريم: فإن الله عز وجل أنزل في كتابه على نبينا أنَّه رسول قد خلت من قبله الرسل، ولدته الصديقة العذراء البتول الحصان وهو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وهذا شأن عيسى بن مريم.
فلما سمع النجاشي قول جعفر أخذ بيده عودًا ثم قال لمن حوله: صدق هؤلاء النفر، وصدق نبيُّهم، والله ما يزيد عيسى بن مريم على ما يقول هذا الرجل ولا وزن هذا العود، فقال لهم النجاشي: امكثوا فإنَّكم سيومٌ -والسيوم آمنون- قد منعكم الله، وأمر لهم بما يصلحهم، فقال النجاشي: أيُّكم أدرس للكتاب الذي أنزل على نبيكم؟ قالوا: جعفرٌ، فقرأ عليهم جعفر سورة مريم، فلما سمعها عرف أنَّه الحق، وقال النجاشي: زدنا من الكلام الطيَّب، ثمّ قرأ عليه سورة أخرى، فلما سمعها عرف الحق، وقال: صدقتم وصدق نبيكم صلى الله عليه وسلم أنتم والله صديقون، امكثوا على اسم الله وبركته آمنين ممنوعين، وألقى عليهم المحبة من النجاشي (1).
(1) دلائل أبي نعيم ج/1 ص 317.
روى بسنده عن عمرو قال: لما قدم عمرو بن العاص من أرض الحبشة جلس في بيته فلم يخرج إليهم، فقالوا: ما شأنه؟ ما له لا يخرج؟ فقال عمرو: إن أصْحمة يزعم أن صاحبكم نبي (1).
وروى بسنده عن ابن شهاب قال: بلغني أن مخرج عمرو بن العاص. وابن أبي ربيعة إلى أرض الحبشة فيمن كان بأرضهم من المسلمين كان بعد وقعة بدر. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم مخرجهما بعث عمرو بن أمية الضمري من المدينة. إلى النجاشي بكتاب (2).
وروى بسنده عن عروة بن الزبير فذكر هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة ثم قال: فلما كانت وقعة بدر، وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: إنّ ثأركم بأرض الحبشة، فأهدوا إلى النجاشي وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم، لعله يعطيكم من عنده من قريش، فتقتلونهم بمن قتل ببدر، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة، وأهدوا للنجاشي ولعظماء الحبشة هدايا.
فلما قدما على النجاشي قبل هداياهم، وأجلس معه عمرو بن العاص على سريره. فقال لهم النجاشي: ما دينكم؟ أنَصَارى أنتم؟ قالوا: لا. قال: فما دينكم؟ ديننا الإسلام، قال: وما الإسلام؟ قالوا: نعبد الله ولا نشرك به شيئًا، قال: ومن جاءكم بهذا؟ قالوا: جاءنا به رجل من أنفسنا قد عرفنا وجهه ونسبه، أنزل الله عليه كتابه، فعرفنا كلام الله وقد صدقناه. قال لهم النجاشي: فبم يأمركم؟ قالوا: يأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا، ويأمرنا أن نترك ما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة وبالوفاء وبأداء الأمانة وبالعفاف.
قال النجاشي: فوالله إن خرج هذا إلَّا من المشكاة التي خرج منها أمر موسى عليه السلام، فقال عمرو بن العاص حين سمع ذلك من النجاشي: إنّ هؤلاء يزعمون أن ابن مريم إلهك الذي تعبد عبدٌ: فقال النجاشي لجعفر ومن معه من المهاجرين:. ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ قالوا: نقول هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه،
(1) دلائل النبوة للبيهقي ج 2/ 307.
(2)
الدرر لابن عبد البر. ص 134.
وابن العذراء البتول. فخفض النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عودًا وقال: والله ما زاد على ذلك قدر هذا العود. فقال عظماء الحبشة: والله لئن سمعت الحبشة بهذا لتخلعنَّك. فقال النجاشي: والله لا أقول في ابن مريم غير هذا القول أبدًا، وإن الله لم يطع في الناس حين ردّ إلي ملكي، فأنا أطيع الناس في الله؟ معاذ الله من ذلك، ارجعوا إلى هذا هديته، فوالله لو رشوني دبرًا من ذهبٍ ما قبلته. والدبر: الجبل، قال الهروي: لا أدرى عربيٌّ أم لا. ثم قال: من نظر إلى هؤلاء الرهط نظرة يؤذيهم بها فقد غرم. ومعنى غرم هلك، وفي قوله تعالى:{إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} . فخرج عمرو بن العاص وابن أبي ربيعة.
وسمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ببعث قريش عمرو بن العاص إلى النجاشي، فبعث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم عمرو بن أمية الضَّمري وكتب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم ثم أمر جعفر يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم (كهيعص)، وقاموا تفيض أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله فيهم:{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} وقرأ عليهم إلى: {الشَّاهِدِينَ} (1).
قال ابن إسحاق: قال الزهري: فحدثت عروة بن الزبير حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فقال: هل تدرى ما قوله: ما أخذ الله مني الرشوة حين ردّ عليَّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيع الناس فيه؟ قال: قلت: لا، قال: فإنّ عائشة أم المؤمنين حدَّثتني أنَّ أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولدٌ إلَّا النجاشي، وكان للنجاشي عمَّ له من صلبه اثنا عشر رجلًا، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فقالت الحبشة بينها: لو أنَّا قتلنا أبا النجاشي وملّكنا أخاه، فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه من صلبه اثنتي عشر رجلًا فتوارثوا ملكه من بعده؛ بقيت الحبشة بعده دهرًا، فعدوا على أبي النجاشي فقتلوه، وملكوا أخاه؛
(1) الدرر لابن عبد البر 135.
فمكثوا على ذلك حينًا، ونشأ النجاشي مع عمه، وكان لبيبًا حازمًا من الرجال، فغلب على أمر عمه، ونزل منه بكلّ منزلةٍ؛ فلما رأت الحبشة مكانه منه قالتْ بينها: والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمِّه، وإنَّا لنتخوَّفُ أن يملكه علينا، وإن ملكه علينا ليقتُلنَّنا أجمعين، لقد عرف أنَّا نحن قتلنا أباه، فمشوا إلى عمِّه، فقالوا: إما أن تقتل هذا الفتى، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا، فإنَّا قد خفناه على أنفسنا، قال: ويلكم!! قتلت أباه بالأمس وأقتله اليوم؟ بل أخرجه من بلادكم، قالت: فخرجوا به إلى السوق، فباعوه من رجل من التُجَّار بستَّمائة درهم، فقذفه في سفينة، فانطلق به حتى إذا كان العشي من ذلك اليوم هاجت سحابة من سحائب الخريف، فخرج عمُّه يستمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته، قالت: ففزعت الحبشة إلى ولده، فإذا هو محمقٌ ليس في ولده خيرٌ، فمرج على الحبشة أمرهم فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك قال بعضهم لبعض: تعلموا والله إن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره للذي بعتم غُدوةً، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه، قالت: فخرجوا في طلبه وطلب الرجل الذي باعوه منه، حتى أدركوه فأخذوه منه، ثم جاؤوا به فعقدوا عليه التاج، وأقعدوه على سرير الملك فملكوه، فجاءهم التاجر الذي كانوا باعوه منه، فقال: إمّا أن تعطوني مالي، وإمَّا أنْ أكلِّمه في ذلك، قالوا: لا نعطيك شيئًا، قال: إذًا والله أكلّمه، قالوا: فدونك وإياه، قالت: فجاءه، فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعت غلامًا من قومٍ بالسوق بستِّمائة درهم، فأسلموا إليّ غلامي وأخذوا دراهمي، حتى إذا سرْتُ بغلامي أدركوني فأخذوا غلامي ومنعوني دراهمي، قالت: فقال لهم النجاشي: لتعطُنَّه دراهمه أو ليضعنَّ غلامه يده في يده فليذهبنَّ به حيث شاء، قالوا: بل نعطيه دراهمه، قالت: فلذلك يقول: ما أخذ الله مني رشوة حين ردّ عليَّ مُلكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيع الناس فيه. قالت: وكان ذلك أولَ ما خبر من صلابته في دينه وعدله في حكمه (1).
(1) دلائل النبوة لأبي نعيم ج 1/ 328، دلائل النبوة للبيهقي ج 2/ 295، 304.