الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"لعل الله أن يقرَّ أعيننا بغلام"، فأتي بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في خرقي فحنكني. قال مجاهد: لا نعلم أحدًا حُنِّكَ بريق النبوة غيره.
حديث نقض الصحيفة برواية أبي نعيم
فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ورجال من بني قصي ورجال ممّن سواهم، وذكروا الذي وقعوا فيه من القطيعة فأجمعوا أمرهم في ليلتهم على نقض ما تعاقدوا عليه، والبراءة منه، فبعث الله عز وجل على صحيفتهم التي فيها المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم الأرضة فلحست كل شيء كان فيها، وكانت معلقة في سقف الكعبة، وكان فيها عهد الله وميثاقه، فلم تترك فيها شيئًا إلا لحسته، وبقي فيها ما كان من شرك أو ظلم أو بغي، فأطلع الله تعالى رسوله على الذي صنع بالصحيفة. فقال أبو طالب: لا والثواقب (1) ما كذبني، فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب، حتى أتى المسجد، وهو حافل من قريش فلما رأوهم أتوا بجماعة أنكروا ذلك، فظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء، وأتوهم ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلم أبو طالب، فقال: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها.
فأتوا بصحيفتهم معجبين بها، لا يشكون أن الرسول مدفوع إليهم، فوضعوها بينهم وقالوا: قد دنا لكم أن تقبلوا أو ترجعوا إلى أمر يجمع عامتكم ويجمع قومكم، ولا يقطع بيننا وبينكم إلا رجل واحد جعلتموه خطرًا لعشيرتكم وفسادكم.
قال أبو طالب: إنما أتيتكم لأعطيكم أمرًا فيه نصف بيني وبينكم، هذه الصحيفة التي في أيديكم، إن ابن أخي قد أخبرني، ولم يكذبني، أن الله عز وجل بعث عليها دابة، فلم تترك فيها اسمًا لله إلا لحسته، وترك فيها غدركم وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان الحديث كما يقول فأفيفوا، فوالله لا نسلمه حتى نموت عن آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلًا دفعنا إليكم صاحبنا، فقتلتم، أو استحييتم، قالوا: لقد رضينا بالذي تقول،
(1) الثواقب: النجوم.
وفتحت الصحيفة، فوجدوا الصادق المصدوق قد أخبر خبرها قبل أن تفتح، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب، قالوا: والله ما كان هنا إلا سحرًا من صاحبكم، فارتكسوا وعادوا لشر ما كانوا عليه من كفرهم والشدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ورهطه، والقيام على ما تعاقدوا عليه، فقال أولئك النفر من بني عبد المطلب: إن الأولى بالكذب والسحر غيرنا، فكيف ترون، فإنا نعلم أن الذي أجمعتم عليه من قطيعتنا أقرب للخبث والسحر، ولولا الذي أجمعتم فيها من السحر لم تفسد الصحيفة، وهي في أيديكم فما كان لله عز وجل من اسم هو فيها طمسه، وما كان من بغي تركه في صحيفتكم. أفنحن السحرة أم أنتم؟ فندم المشركون من قريش عند ذلك.
وقال رجال: منهم أبو البختري وهو العاص بن هشام بن الحارث بن عبد العزى بن قصي ومنهم المطعم بن عدي، وهشام بن عمرو أخو بني عامر بن لؤي، وكانت الصحيفة عنده، وزهير ابن أمية، وزمعة بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي في رجال من قريش ولدتهم نساء من بني هاشم كانوا قد ندموا على الذي صنعوا فقالوا: نحن براء من هذه الصحيفة، قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل" (1)
حديث نقض الصحيفة (2) برواية ابن إسحاق
قال ابن إسحاق: وبنو هاشم وبنو المطلب في منزلهم الذي تعاقدت فيه قريش عليهم في الصحيفة التي كتبوها، ثم إنه قام في نقض تلك الصحيفة التي تكاتبت فيها قريش على بني هاشم وبني المطلب نفر من قريش، ولم يبل فيها أحدٌ أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن ربيعة، وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه فكان هشام لبني هاشم واصلًا، وكان ذا شرف في قومه، فكان -فيما بلغني- يأخذ بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلًا، قد أوقره طعامًا حتى أقبل به فم الشعب خلع خطامه من رأسه، ثم ضرب على جنبه، فيدخل الشعب عليهم ثم يأتي به قد أوقره بِزًّا أو بُرًّا، فيفعل به مثل ذلك.
(1) أبو نعيم دلائل النبوة 1 - 357.
(2)
بن هشام ج 1/ 397.
قال ابن إسحاق: ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت، لا يباعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدًا، قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل أخر لقمت في نقضها حتى أنقضها، قال: قد وجدت رجلًا قال: فمن هو؟ قال: أنا، قال له زهير: أبغنا رجلًا ثالثًا.
فذهب إلى المطعم بن عدي، فقال له: يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه! أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعًا، قال ويحك فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانيًا، قال: من هو؟ قال: أنا قال: أبغنا ثالثًا، قال: قد فعلت، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: أبغنا رابعًا.
فذهب إلى البختري بن هشام، فقال له نحوًا مما قال للمطعم بن عدي، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم، قال: من هو؟ قال: زهر بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا معك، قال أبغنا خامسًا.
فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم؛ ثم سمى له القوم.
فاتعدوا خطم الحجون (1) ليلًا بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك. فأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم، فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير ابن أميه عليه حلة فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، إنا أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
(1) الخطم: المقدمة. والحجون: موضع بأعلى مكة.
قال أبو جهل: وكان في ناحية المسجد: كذبت والله لا تشق، قال زمعة ابن الأسود أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حيث كتبت. قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به، قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك. فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تشوور فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها، إلا "باسمك اللَّهم".
وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة فشلت يده فيما يزعمون.
قال ابن هشام: وذكر بعض أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: "يا عم، إن ربي الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسمًا هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان"، فقال: أربك أخبرك بهذا؟ قال: "نعم"، قال: فوالله ما يدخل عليك أحد، ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا، وانزلوا عما فيها، وإن يكن كاذبًا دفعت إليكم ابن أخي. فقال القوم: رضينا. فتعاقدوا على ذلك. ثم نظروا. فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فزادهم ذلك شرًا. فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا.
قال ابن إسحاق: فلما مزقت الصحيفة وبطل ما فيها. قال أبو طالب، فيما كان من أمر أولئك النفر الذين قاموا في نقضها يمدحهم:
ألا هل أتى بحرينا (1) صنع ربنا
…
على نأيهم والله بالناس أرود (2)
فيخبرهم أن الصحيفة مزقت
…
وأن كل ما لم يرضه الله مفسد
تراوحها إفك وسحر مجمع
…
ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد
(1) يعني بالبحري الذين كانوا بأرض الحبشة وركبوا البحر إليها.
(2)
الأرود: الأرفق.
تداعى لها من ليس فيها بقرقر (1)
…
فطائرها في رأسها يتردد
وكان كفاء رقعة بأثيمة
…
ليقطع منها ساعد ومقلد (2)
ويظعن أهل المكتين فيهربوا
…
فرائصهم من خشية الشر ترعد
ويترك حراث (3) يقلب أمره
…
أيتهم فيهم عند ذاك وينجد (4)
وتصعد بين الأخشبين كتيبة
…
لها حدج سهم وقوس ومرهد (5)
فمن ينش من حضار مكة عزة
…
فعزتنا في بطن مكة أتلد
نشأنا بها والناس فيها قلائل
…
فلم ننفك نزداد خيرًا ونحمد
ونطعم حتى يترك الناس فضلهم
…
إذا جعلت أيدي المفيضين (6) ترعد
جزى الله رهطًا بالحجون تتابعوا
…
على ملأ يهدي لحزم ويرشد
قعودًا لدى خطم الحجون كأنهم
…
مقاولة (7) بل هم أعز وأمجد
أعان عليها كل صقر كأنه
…
إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد (8)
جرى على جلى (9) الخطوب كأنه
…
شهاب بكفي قابس يتوقد
من الأكرمين من لؤي بن غالب
…
إذا سِيم خسفًا وجهه يتربد
طويل النجاد خارج نصف ساقه
…
على وجهه يسقى الغمام ويسعد
عظيم الرماد سيد وابن سيد
…
يحض على مقرى الضيوف ويحشد
ويبني لأبناء العشيرة صالحًا
…
إذا نحن طفنا في البلاد ويمهد
أَلَظَّ (10) بهذا الصلح كل مبرَّأ
…
عظيم اللواء أمره ثم يحمد
(1) القرقر: الذليل، السهل اللين.
(2)
المقلد: العنق.
(3)
الحراث: المكتسب.
(4)
أيتهم: بمعنى أتهم، أي أتى تهامة، وهي ما انخفض عن أرض الحجاز إلى البحر، وأنجد: أتى نجدًا، وهي ما ارتفع عن أرض الحجاز إلى الشرق.
(5)
المرهد: الناعم، أي السيف الناعم بارتوائه من الدماء.
(6)
المفيضون: الضاربون بقداح الميسر.
(7)
المقاولة: الملوك.
(8)
رفرف الدرع: ما فضل منه. والأحرد: بطيء المشي لثقل ما عليه من لباس الحرب.
(9)
الجُلّى: الأمر العظيم.
(10)
ألظ: ألحَّ.
قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا
…
على مهل وسائر الناس رُقَّد
هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا
…
وسُرَّ أبو بكرٍ بها ومحمَّد
متى شرك الأقوام في جلِّ أمرنا
…
وكنا قديمًا قبلها نتودد
وكنا قديمًا لا نقرّ ظلامةً
…
وندرك ما شئنا ولا نتشدد
فيا لقصيَّ هل لكم في نفوسكم
…
وهل لكم فيما يجيء به غد
فإني وإيّاكم كما قال قائل
…
لديك البيان لو تكلمت أسود (1)
وقال حسَّان بن ثابت يبكي المطعم بن عدي حين مات، ويذكر قيامه في نقض الصحيفة:
أيا عين فابكي سيد القوم واسفحى
…
بدمع وإن أنزفته (2) فاسكبي الدما
وبكي عظيم المعشرين كليهما
…
على الناس معروفًا له ما تكلما
فلو كان مجد يخلد الدهر واحدًا
…
من الناس، أبقى مجده اليوم مطعما (3)
أجرت رسول الله منهم فأصبحوا
…
عبيدك ما لبى مهل وأحرما
فلو سئلت عنه معد بأسرها
…
وقحطان أو باقي بقية جرهما
لقالوا هو الموفي بخفرة (4) جاره
…
وذمته يومًا إذا ما تذمَّما (5)
فما تطلع الشمس المنيرة فوقهم
…
على مثله فيهم أعز وأعظما
وآبي إذا يأبى وألين شيمة
…
وأنوم عن جار إذا الليل أظلما
قال ابن هشام: قوله "كليهما" عن غير ابن إسحاق:
قال ابن هشام: وأما قوله: "أجرت رسول الله منهم"،فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن أهل الطائف، ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، من تصديقه ونصرته، صار إلى حراء، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال: أنا حليف، والحليف لا يجير. فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال: إن بني عامر لا تجير على
(1) أسود: اسم جبل كان قد قُتل فيه قتيل، فلم يعرف قاتله، فقال أولياء المقتول هذه المقالة.
(2)
أنزفته: أنفدته.
(3)
ضمير المفعول، فصار في الضرورة مثل قوله: جزى ربه عني عدي بن حاتم.
(4)
الخفرة: العهد.
(5)
تذمم: طلب الذمة، وهي العهد.
بني كعب. فبعث إلى المطعم بن عدي فأجابه إلى ذلك، ثم تسلح المطعم وأهل بيته، وخرجوا حتى أتوا المسجد، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت وصلى عنده، ثم انصرف إلى منزله. فذلك الذي يعني حسان بن ثابت.
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت أيضًا: يمدح هشام بن عمرو لقيامه في الصحيفة:
هل يوفين بنو أمية ذمة
…
عقدًا كما أوفى جوار هشام
من معشر لا يغدرون بجارهم
…
للحارث بن حبيب بن سخام
وإذا بنو حسل أجاروا ذمة
…
أوفوا وأدوا جارهم بسلام
وكان هشام أحد سحام.
قال ابن هشام: ويقال: سخام.