الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دخول أبي بكر رضي الله عنه في جوار ابن الدغنة بعد عزمه على الهجرة
قال ابن إسحاق: وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كما حدثني محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، حين ضاقت عليه مكة، وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وأصحابه ما رأى، استأذن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في الهجرة، فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجرًا، حتى إذا سار من مكة يومًا أو يومين لقيه ابن الدغنة أخو بني الحارث بن بكر، وهو يومئذ سيد الأحابيش، قالت: فقال ابن الدغنة: أين يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي، وأذوني وضيقوا علي، قال: ولم؟ فوالله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتكسب المعدوم، ارجع وأنت في جواري، فرجع معه، حتى إذا دخل مكة قام ابن الدُّغُنَّةِ فقال: يا معشر قريش، إني قد أجرت ابن أبي قحافة، فلا يعرضن له أحد إلا بخير، قالت: فكفوا عنه، قالت: وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح، فكان يصلى فيه، وكان رجلًا رقيقًا إذا قرأ القرآن استبكى، قالت: فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته، قالت: فمشى رجال من قريش إلى ابن الدُّغُنَّة فقالوا: يا ابن الدُّغُنَّةِ، إنك لم تجر هذا ليؤذينا، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمَّد يَرقُّ ويبكي، وكانت له هيئة ونحو، فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم، فأته فمره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء، قالت: فمشى ابن الدُّغُنَّة إليه، فقال له: يا أبا بكر، إني لم أجرك لتؤذي قومك، إنهم قد كرهوا مكانك الذي أنت به وتأذوا بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت، قال: أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله، قال: فاردد عليَّ جواري، قال: قد رددته عليك، قال: فقام ابن الدُّغُنَّةِ فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبي قحافة قد رد عليَّ جواري،
فشأنكم بصاحبكم. (1)
وروى ابن إسحاق بسنده عن القاسم بن محمَّد قال: لقيه سفيه من سفهاء قريش، وهو عامد إلى الكعبة، فحثا على رأسه ترابًا، قال: فمر بأبي بكر الوليد بن المغيرة، أو العاص بن وائل، قال: فقال أبو بكر: ألا ترى إلى ما يصنع هذا السفيه؟ قال: أنت فعلت ذلك بنفسك، قال: وهو يقول: أي رب ما أحلمك، أي رب ما أحلمك، أي رب ما أحلمك.
روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قالت: لم أعقل أبوي قط، إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرًا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدُّغُنَّةِ وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، وأعبد ربي، قال ابن الدُّغُنَّةِ: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدُّغُنَّةِ، فطاف ابن الدُّغُنَّةِ عشية في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجل يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، فلم تكذب قريش بجوار ابن الدُّغُنَّةِ، وقالوا لابن الدُّغُنَّةِ: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدُّغُنَّةِ لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلكَ يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدًا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلًا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن،
(1) ذكر ابن هشام هذه الحادثة بعد حصر قريش بني هاشم في الشعب وقبل خروجهم منه، وتابعه على ذلك ابن حجر انظر (فتح الباري: ج 7/ 232). وصرح بعضهم أنها كانت بعد وفاة أبي طالب انظر (الرحيق المختوم: 133).
وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدُّغُنَّةِ فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدًا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن بذلك، فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان، قالت عائشة: فأتي ابن الدغنة إلى أبى بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل. (1)
(1) أخرجه البخاريُّ في صحيحه ج 1/ 128).