الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حرف العين
* * *
389 -
عبد الله أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين السلطان الأعظم إسماعيل ابن أمير المؤمنين الشريف بن على الحسنى العلوى الينبوعى السجلماسى.
مولده: ولد بمهد سلفه تافيلالت بقصبة الفرخ قرب الدار البيضاء من وادى يفلى، في منتصف ذى الحجة عام واحد وعشرين ومائة وألف، أمه الحرة العالمة العاملة خناثة بنت الشَّيخ بكار المغفرى مارة الترجمة.
صفته: أبيض مشرب بحمرة، مليح الوجه، قصير القامة، خفيف اللحية جداً، مفلج الأسنان، بخده الأيسر شامة، طويل اليدين والأصابع، إذا تكلم تحرك شارباه الطويلان، صغير الرجلين دقيق القدمين، إذا ركب حسبته طوالاً، وإذا مشى حسبته لخفة مشيته شاباً صغيراً، مهاب لا يكاد أحد يبدؤه بالكلام، كذا وصفه من عاصره.
حاله: قال في الشجرة الذكية: كان محباً لأهل البيت ذنبهم عنده مغفور، وعيبهم مستور، يتجاور عن المسئ منهم ويجارى المحسن ويواسى الجميع بالأموال، ويعفو ويصفح في سائر الأحوال، قال: وكان معروفاً بالسماحة يعطى ولا يبالى وخصوصًا للأشراف. هـ.
389 - من مصادر ترجمته: نشر المثانى في موسوعة أعلام المغرب 6/ 2197.
وقال في الدرر البهية: كان رحمه الله في العلوم آية باهرة، وعلى أعدائه صاعقة قاهرة، فكم أحيا من علوم، وأباد من ظلوم، وجدد من رسوم، وجدلت سيوفه من بذى غشوم، وكم ضم من حشود، وقهر من حسود، تصدى للخلافة في معظم أيَّام الفتنة، وقد زاحمه إخوته في كل بلدة، ولم يزل يقارع الأهوال، مع معارقة الأحوال، إلى أن تمحضت له ولبنيه من بعده، وناداه منادى يمنه وسعده هـ.
وقال أبو عبد الله الضعيف: كان ذا رأى وحزم وإقدام؛ أيامه (1) أيَّام دعة ورخاء، وأبي وبهجة حسنة، مستبداً برأيه دون وزرائه، قاهرًا في سلطانه إذا أعطى أغنى، وإذا صال أقنى، ذا فضل وكرم وعلو همة، وافياً بالعهود، شجاعاً يباشر الحروب بنفسه، دوخ المغرب بأسره، إلَّا أنَّه مسلط على العتاة والطغاة والظلمة، سفاكاً لدمائهم، رفيقاً بالضعفاء والمساكين واليتامى هـ.
وقال في الشجرة الزكية: فلما تمكن، قتل من أهل فاس ثلاثمائة، ومن العبيد أربعمائة في يوم واحد، وبقتلهم كانت له قوة عظيمة في المملكة هـ.
وقال غيره شديد الغضب، ذا بطش غير متوقف في الدماء ولا واضع في موضع السيف (2) الندى هـ.
قلت: ومن حكم ذى القرنين الإسكندر الملك البعيد الهمة (نعم العون على إصلاح القلوب الموغرة الترغيب بالأموال وأصلح منه الترهيب وقت الحاجة إليه) وكأن المترجم بهذا كان ينظر في سياسته ولفساد الرعية أسرف في القتل وتجاوز الحد، فكان ما كان مما سيتلى على المطالع.
(1) في هامش المطبوع: "لعله يعني الأيَّام التي لم يكن له فيها منازع والتى لم يلزم فيها قصره".
(2)
في هامش المطبوع: "سيأتى في قتل أهل تطاوين لعاملهم خلافه".
وقال في نشر المثانى: هو الواحد في العز والمقام، الذي اختاره الله لتصريف أمور الأنام، كان ممن عمرت به الأرضون فأحيا أنجادها وأغوارها، وسعد به أهل العز من كل فريق، وتمهدت به السبل من كل فج عميق، وشقت هيبته المشارق والمغارب، وقال الضعفاء بعزمه ما تمنوه من المئارب، وعمر به سوق العلم بعد دروسه، وضحك به وجه الزمان لأهله بعد عبوسه، ولله در من قال في مديحه:
كفاك افتخاراً أن عزك ظاهر
…
وجودك منسى به جود حاتم
وكون سجاياك التي فاح عرفها
…
سجايا الملوك الشم أولى المكارم
لعمرى لقد ألقت إليك زمامها
…
سروج العلا إذ كنت أحزم حارم
وأغناك رب النَّاس عن جمع عسكر
…
برأى مصيب للعساكر هازم
ونفس على فوق السماكين قدرها
…
وعقل غنى عن هداية عالم
فأمتنا من كل طار وطارق
…
وحصنتنا من كل داه وداهم
قال أبو القاسم الزيانى في تواريخه ما زبدته مع مزيد تنقيح وإيضاح: بويع له بالإمامة العظمى بمكناس بعد وفاة صنوه أبي العباس أحمد الذَّهبيُّ سابق الترجمة، أوائل شعبان عام واحد وأربعين ومائة وألف كما هو ظاهر نصوصهم؛ باتفاق من أعيان الديوان، من عبيد وودايا، وطير الإعلام لإخوانهم جيرانهم أهل فاس وبالغوا في حصنهم على الموافقة على ما ذكر والتسارع لبيعة المترجم، وهو يومئذٍ بسجلماسة، ووجهوا إليه جريدة من الخيل لإعلامه باجتماع الكلمة على بيعته، والإتيان به، ولما وصل الكتاب المشار إليه لأهل فاس تلقوه بكلِّ ارتياح وانشراح، وجمعوا أمرهم وشركاءهم على قراءته على منبر جامع القرويين، وبإثر
قراءته أعلنوا بنصره، ولم يتوقف أحد ممن حضر القراءة ولا من غيرهم في بيعته بشرط تعجيل حضوره كذا قال الزيانى ومن تبعه.
والذى في الدرد المنتخب المستحسن نقلاً عن العلامة المؤرخ ابن إبراهيم الدكالى: أنَّه في خامس شعبان المذكور قدم من مكناس لفاس جماعة من العبيد والوزراء والكتاب للمشورة والمفاوضة فيمن يتولى أمر المسلمين، من إخوان السلطان المتوفى، فاتفق رأيهم على المترجم لكن أهل مكناس أعلنوا بنصره حالاً، وتأخرت بيعة أهل فاس إلى يوم الخميس تاسع الشهر، وزاد في الدر المنتخب نقلاً عن بعض الأعلام أن المترجم لما بلغه اجتماع الكلمة عليه امتنع من الإجابة لذلك، ولم يزل متمادياً على امتناعه إلى أن دخل عام اثنين وأربعين فاستخار الله ونهض من تافيلالت أواخر محرم الحرام ووصل لفاس في خامس صفر.
ثم حكى أقوالاً أخر في تعيين وقت قدومه فاسا، منها: أنَّه يوم الأربعاء سابع رمضان عام واحد وأربعين ورجح هذا القول واختاره.
ومنها: أن قدومه كان في مهل رمضان.
ومنها: أنَّه في سابع عشرى شعبان وكان نزوله عند وصوله إلى فاس بالمحل المعروف إلى اليوم بظهر المهراس بظاهر فاس.
وبمجرد تخييمه به هرع الأشراف والعلماء والأعيان لاستقبال جنابه وتقديم مراسم التهانى لجلالته، فقابلهم بكلِّ تجلة وإكبار، وكرم وفادتهم وأوعدهم بالدخول من غده لزيارة التصريح الإدريسى فرجعوا مبتهجين، وبالثناء على شمائله لهجين، وما كان الغد حتَّى أخذوا زينتهم وحملوا ألويتهم وأسلحتهم وخرجوا لمخيمه طبق الوعد الذي كان بينهم وبينه، وبمجرد وصولهم ركب المترجم فرسه
وتوجه معهم في موكبه الحفى الحافل وحاشيته الكريمة، وساروا إلى أن دخلوا على باب الفتوح أحد أبواب مدينة فاس الإدريسية، وكان اختيارهم للدخول على ذلك الباب تيمنا وتفاؤلا بما أضيف إليه.
ثم أن بعض سماسرة الفتن الموقدين لنيرانها من أهل فاس أولاد ابن يوسف رام اغتنام الفرصة بالإيقاع بحمدون الروسى غيلة، حيث إنه كان قتل أباهم، فشعر الروسى بذلك وتنحى عن الموكب، وقيل سبوه والسلطان يسمع واقتفى لأثره فانفلت منهم، ولحق بالمترجم، وأخبره بالواقع وهو إذ ذاك على قنطرة الرصيف فاغتاظ، ورجع على طريق جامع الحوت، وذهب على جزاء ابن عامر، وخرج على باب الحديد، وسار إلى أن دخل دار الملك من المدينة البيضاء فاس الجديد.
وقيل: إن ذلك كان والسلطان بالمحل المعروف بين المدن، وأنه سار على حومة البليدة، وخرج على باب الجيسة، وسار إلى أن بلغ فاسا الجديد، ولم يزر الضريح الإدريسى تحرزاً من توقد نيران الفتن على حين غفلة، وذهب القوم في إعراض المترجم عن الزيارة كل مذهب.
ثم بعد أن أحاطوا علما بالسبب الموجب للتخلف طلع لدار الملك أعيان البلد من أشراف وعلماء ووجهاء ببيعتهم، وكان القاضي الأعدل أبو العلاء إدريس ابن المهدى المشاط، هو الذى تولى إنشاءها وكتبها، وقد أوردها بنصها أبو القاسم الزيانى في البستان مؤرخة بسابع صفر عام 1141، وتبعه في جلبها صاحب الجيش، والاستقصا، والدار المنتخب المستحسن، تركت نقلها هنا اختصارًا، لكن صاحب الاستقصا أوردها بتاريخ سابع رمضان العام لا صفر وهو في نظرى أصوب (1) وأصح، ولما قدم الوفد الفاسى للحضرة السلطانية ببيعتهم المشار لها
(1) في هامش المطبوع: "لأنَّ صفر عام واحد وأربعين لا زال مولاى أحمد الذَّهبيُّ قائماً ولم يمت حتَّى وصل شعبان هـ".
أبدوا أعذارا عما أضمره السفهاء، فأعرض عنهم فيما يتعلق بذلك الموضوع، ووصلهم بقنطار ونصف ذهباً، اقتسموه أمامه بينهم.
ثم أمرهم بتهيئ خمسمائة رام للتوجه معه للعاصمة المكناسية طبق عوائدهم المقررة في ذلك، مع الملوك قبله من سفله وغيرهم، فأجابوا بالسمع والطاعة، ثم نهض المترجم لمكناس وفى معيته الخمسمائة رام المذكورة.
ولما كان على مقربة من العاصمة المكناسية وجد عسكر العبيد وقوادهم وقواد العرب والبرابر في استقباله فرحين مستبشرين، فأدوا لجلالته ما يجب من مراسم التهانى والترحيب والإعظام والإجلال، ثم انضافوا لجنده وسار وألوية النصر تخفق، إلى أن حل بعاصمة والده مكناسة الزيتون في موكبه المدهش العجيب التَّرتيب، وما استوى على العرش حتَّى وفد على شريف أعتابه الأشراف والعلماء والأعيان ببيعتهم العامة، ثم صارت وفود القبائل الشاسعة والدانية تفد على حضرته ببيعاتها، وهو يستقبل كلا بما يليق به، ولما فرغ من شأن الوفود فرق الصلات على سائر الطبقات كل وما يستحق، إلَّا أهل فاس فإنَّه حرمهم نواله.
ولما كان عيد الفطر قدم على الحضرة شرفاء فاس وعلماؤها وأعيانها بالهدايا العيدية كغيرهم من الحواضر والبوادى لحضور العيد مع الجلالة السلطانية وفق المقرر المعهود، ولما رجع من مصلى العيد فرق الصلات والجوائز على جميع تلك الوفود الوافرة والعساكر والجيوش غير أهل فاس، وصلات الوفود كما وفدوا على الجلالة السلطانية ومن ذكر معهم كانت من مألوف العادات عند ملوك دولتنا، ولا سيما في أيَّام الأعياد، واستمر العمل على ذلك ولم يتعطل إلَّا في هذه الأزمنة الأخيرة، ولما كان يوم ثانى العيد أمر بإحضار أهل فاس فأحضروا بمشوره السعيد وهو على سرير ملكه، ولما مثلوا بين يديه أمرهم بالكتب لإخوانهم بتسليم البساتين (المعاقل)
والقصبات لأنَّ ذلك ملك للسلطان ومن وظيفه، وأوعدهم إن هم امتنعوا بهدم ديارهم عليهم، فلم يكن لهم إذ ذاك بد من الامتثال والجواب بالسمع والطاعة.
ولما جن الليل ارتحلوا إلى بلادهم فاس، وقرروا لإخوانهم الأوامر السلطانية، فاتفق رأيهم على رفض ذلك وعدم الإجابة له، واجتمع فقهاؤهم وأشرافهم وأعيانهم للمفاوضة والنظر في وجه يمكن به خلاصهم مما ذكر، وبإثر ذلك ورد عليهم من الحضرة السلطانية كتاب بتسليم ما ذكر لجانب السلطان، فحاصوا حيصة حمر الوحش وهاجوا وماجوا، ثم اتفق رأيهم على أن يعينوا وفدا يوفدونه للشفاعة لدى المترجم أولاً، والتزموا بأداء جميع الوظائف التي كانوا يؤدونها لوالده وإعطاء الضمان على ذلك، فلم يرفع لهم رأساً، وردهم ناكصين على الأعقاب، ثم اتفق رأيهم ثانيا على أن يوجهوا لسدته الكريمة هدية تبرع بها تجارهم، وعينوا جماعة من أعيانهم توجهت بها فتعرض الودايا إليهم ونزعوا منهم الهدية وسلبوهم من كل ما بيديهم وأودعوهم سجن فاس الجديد، وصرحوا لهم بأن صاحب الترجمة أمرهم بحصار فاس الإدريسية.
ولما علم بذلك أهل فاس القديمة صمم العامة منهم على رفض بيعته، ونازع العلماء في ذلك محتجين بأن بيعته في أعناقهم فطاعته واجبة عليهم، إلَّا إن أمرهم بكفر براح فأعارهم الجمهور أذنا صماء وأعلنوا بخلع ربقة بيعة المترجم ورفض طاعته، ونادوا في المدينة من أراد الخروج لبلاده فليتهيأ لثلاث، وأغلقوا أبواب البلد وذلك في سادس الشهر المذكور.
ولما اتصل هذا النبأ بالمترجم صمم على محاربتهم، فجيش الجيوش وخرج لإرغامهم على الرضوخ للطاعة في خامس عشر شوال المذكور، وأحدقت عساكره الجرارة بفاس، وعثت في السبل الموصلة إليها، وقطعت أشجار جناتها، وهدمت مبانيها، وأفسدت الزروع والبحائر، وقطع عنهم الوادى، وحاربهم من كل ناحية
وباب، والمدافع والمجانيق تمطرهم بوابل كورها وأحجارها المدمرة، واستمر القتال عليهم بالليل والنهار حتَّى سئموا وكلوا وملوا وضاق بهم المتسع، ويئسوا من النصرة، وبارت حيلهم، وارتفعت الأسعار، وأنتنت المدينة من كثرة الأوساخ وعدم الماء، ولم يسعهم إلَّا الجنوح إلى المسلم، فسعوا في الصلح فاشترط المترجم عليهم تسليم المعاقل والقصبات، فكبّر عليهم ذلك واستأنفوا القتال وأظهروا التجلد.
وفى الرابع والخامس من ذى القعدة التقى الجمعان ووقعت بينهما معركتان خفيفتان بباب الجيسة، وفى الثَّاني منه وقعت معركة ثالثة بباب الفتوح، وفى الثالث عشر وقعت معركة كذلك، وفى الخامس عشر منة ركب السلطان في ملأ من جيشه فلقيه أهل فاس تائبين وفى عفوه راغبين ولأمانه آملين.
فأجابهم لما طلبوا بالشّرط المذكور، فلم يقبلوا، وفى الواحد والعشرين وقعت معركة عظيمة بباب الجيسة من الصبح إلى الزوال ومات من أهل فاس نحو الثلاثين، منهم: مولاى عبد القادر بن عبد الرحمن الدباغ، وعبد الخالق بن خالد، وعبد الله بن علال.
وفى الثَّاني والعشرين وقعت مقتلة بباب الفتوح مات فيها من أهل فاس ثلاثة أنفار.
وفى خامس ذى الحجة نزلت قنبلة بالعطارين وأهلكت بوجيدة بن عيشون.
وفى عيد النحر نزلت قنبلة أخرى على قبة الضريح الإدريسى أصابت أناسا، هلك منهم رجل وجرح باقيهم، وكان ممن جرح العلامة أبو العباس أحمد بن الخياط بن إبراهيم الدكالى، وعطلت صلاة الجمعة.
ومن الغد وقعت معركة بباب الجيسة مات فيها من أهل فاس نحو العشرين، فتوسط أهل فاس للسلطان ببعض الوجهاء الذين اعتقدوا أن شفاعته لا ترد لديه، فأبى إلَّا إذا سلموا البساتين والقصبات، فامتنعوا وتمادوا على القتال.
وفى فاتح محرم عام اثنين وأربعين كان قتال عظيم ببابى الجيسة والمسافريين، مات فيه من أهل فاس نحو الثلاثين رجلاً، واستؤنف القتال من الغد ومات فيه خلق، وارتفعت الأسعار وبلغ وسق القمح ثلاثين مثقالًا، وزادت نيران الفتن توقدا، وتكاثر الهرج والمرج، وجعلت المحال السلطانية ترمى القنابل المدمرة على المدينة.
وفى ثالث صفر وقعت معركة أول النهار، ولما كان العشى اتفق أهل فاس على الهجوم على المحال السلطانية من سائر الجهات، فخرج اللمطيون من باب الجيسة للمحلة التي بوادى المالح وكان قائدها موسى الجرارى فوثبوا عليها، وفر أهلها واستولى أهل فاس على جميع ما فيها، وكان من جملة ما غنموا مدفعان.
وخرج الأندلسيون وأهل العدوة من باب المسافريين واستولوا على جميع ما كان مدخرا بالسيد أبي جيدة حيث كان الحصن المنيع لتلك المحال، وساقوا من وجدوه من الجند هنالك إلى الباب وقتلوهم شر قتلة.
ومن الغد نصبوا المدفعين اللذين غنما بالقصبة البالية وجعلوا يرمون بهما فاسا الجديد.
وفى التاسع عشر من الشهر انضم الجيش السلطانى بعضه إلى بعض، وكان المترجم حاضرا بنفسه، ووقع قتال عظيم بين الفريقين انجلى بانهزام المحال السلطانية، ولم يمت من الجيش الفاسى غير ستة.
ومن الغد فقد الزرع بالمدينة، واشتد الهول، وعظم المصاب، ووقع التنازع بين العامة والرؤساء، وضعفت قوى المقاتلة عن المقاومة، ولم يكن لهم بد من الإذعان وتسليم ما طولبوا بتسليمه للجناب السلطانى.
وبسبب ذلك تم الصلح على يد القائد محمد السلوى بالضريح الإدريسى، وذلك يوم الثلاثاء عاشر ربيع الأول عند صلاة الظهر.
ثم اجتمع رؤساء الأشراف والعلماء وذوو النجدة والوجاهة، وطلعوا في معية القائد السلوى المذكور لدار الملك لاستئناف تقديم الطاعة فقبلهم المترجم وقابلهم بالعفو والإغضاء، ووصل الشرفاء والعلماء بألف دينار. وكسا الأعيان، وولى عليهم الحاج على السلوى، وانطفأت نيران تلك الفتن.
وفى الثالث عشر من ربيع النبوى عمر الجند السلطانى القصابى مع البساتين (المعاقل).
وفى العشرين منه نهض صاحب الترجمة من فاس ووجهته العاصمة المكناسية، ولما حل بها وجد القبائل استأنفت عملها الأول من ركوب الخيل واقتناء السلاح والعيث في الطرقات، فأصدر أوامره للعبيد بتجهيز الحركة لتمهيد البلاد، وقطع جرثومة الفساد.
ثم نهض قاًصدا تادلا لقمع آيت يمور الذين نزلوا بها لما أخرجهم آيت ومالوا من رأس ملوية، وأضروا بأهلها، ولما أحسوا بمقدمه فروا أمامه ودخلوا بلاد آيت يسرى، فاقتفى أثرهم وأوقع بهم شر وقعة بوادى العبيد نهبت فيها أموالهم وقتل منهم آلاف.
ولما رجع المترجم لتادلا قتل من أعيان رماة أهل فاس عشرين، وكتب لأهلهم يعتذر عن قتل من قتل منهم مبيناً لهم وجه ذلك وموجبه، وأمرهم بتوجيه حركة أخرى فامتثلوا وعينوا من يتوجه للحركة وفق الأمر الصادر إليهم، وكان الذي استعرضهم حمدون الروسى برأس الماء، وبعد الاستعراض توجهوا للحضرة السلطانية.
ومن غد يوم الاستعراض قتل الروسى المذكور عبد الواحد بتير، ومحمد بن الأشهب بباب السجن وأمر بجرهما، ثم من الغد أصبح يهدم أبواب المدينة، فهدم
باب المحروق، وباب عجيسة، وباب الجديد، وكان ذلك لما تقدم من الاستعانة بغلقها على التمرد ونبذ ما لزم من الطاعة.
وفى الخامس والعشرين من ربيع الثَّاني بعث المترجم للعلامة أبي عبد الله محمد بن عبد السَّلام بنانى فلحق به بمكناس، ولما مثل بين يديه سب وجدع وقرع ووبخ لأمر سوء بلغه عنه، وعزله عما كان بيده من الوظائف بجامع الأندلس، ثم عفا عنه وأغضى.
وفى الحادى عشر من جمادى الثَّانية عزل على السلوى عن عمالة فاس وسجنه لما تظاهر به من السوء لأهل فاس وقتله رئيس أهل العدوتين الشَّيخ دحمان المنكاد، وأسند عمالة فاس للبادسى بن حمدون الروسى.
وفى العشرين من رمضان عزل أبا العباس أحمد الشدادى عن قضاء فاس، وولى مكانه أبا الحسن على بوعنان.
وفى الثَّاني عشر من شوال عزل البادسى عن عمالة فاس، وولى مكانه عبد النَّبي بن عبد الله الروسى، فأساء السيرة فعزله، وولى مكانه حمدون الروسى وأوصاه بالرفق واللين، وحذر وأنذر، ولكن ما بالذات لا يتبدل فلم يزده التحذير إلَّا إغراء:
إذا كان الطباع طباع سوء
…
فلا أدب يفيد ولا أديب
وفى أوائل جمادى الأولى صدر الأمر بهدم القصبة البالية وحطب ما فيها من الأجنة، ولما علم السلطان بذلك سجن الناظر ونكل بمن فعل ذلك من الولاة محتجا بأنه لم يأمر بذلك، وإنما أمر بتخفيف بعض الأشجار التي لا غلة لها، ثم أمر ببناء ما تهدم وغرس ما قلع، وفى أواخر شعبان قتل عبدٌ الواحد بن سودة الذي كان أمين المواريث قصاصا.
وفى محرم الحرام عام ثلاثة وأربعين ومائة وألف ابتدأ في هدم أسوار المدينة، وصرح بأنه إذا فرغ من هدم الأسوار يشرع في هدم الدور وأمر بحمل الأنقاض لفاس الجديد.
ثم لما اتصل بالمترجم عتو الروسى وطغيانه، كتب كتاباً بتوبيخه وتهديده وإيعاده قرئ على منبر القرويين، ولما تيقن أن لا ملجأ له ولا منجى مما جنت يداه فر لزاوية جبل زرهون، حيث مدفن البضعة النبوية الطرية، إدريس بن عبد الله الكامل، ولما رجع المترجم من حركته وتوجه لزيارة الضريح الإدريسى تعلق حمدون بأذياله فلم يلتفت إليه، ثم بعد ذلك أحضره بين يديه وعدد عليه ما ارتكبه من الجرائم التي لم يجد لها مدفعا، ثم أمر بتوجيهه لفاس وقتله قصاصا، فأنشد بين يديه ما أنشده بعضهم لأبي جعفر المنصور العباسى:
إنا بطاعتك الألى
…
كنا نكابد ما نكابد
ونرى فنعرف بالعدا
…
وة والبعاد إذا تباعد
هذا أوان وفاء ما
…
سبقت به منه المواعد
فأطرق المترجم ساعة ثم قال له وهبتك لشيبتك، وأبقيتك لصبيتك، على أن لا تقرب ساحتنا، ولا تحوم حولنا، وإلا حلت بك عقوبتنا، وولى على فاس كاتبه الطَّيِّب بن حلوة، وذلك في يوم الاثنين تاسع عشر شعبان، وكان شديد الشكيمة على أولاد العرب والعلماء، ظلوما غشوما، لم يتول على فاس أتعس وأشأم منه، حتَّى سمى حجاج الوقت، يقال: إنه هو الذي أغرى المترجم على نهب زرع العرب الذي كان بخزائنهم، فأمر بحيازته، وتوجه الأشراف والعلماء للسلطان في الشفاعة فردهم خائبين، واستمر ابن حلوة على عمله من النهب والغصب والقتل والتدليس وتشويه وجه الحقيقة إلى أواخر رمضان وقيل شعبان، فنكبه المترجم وعزله وغربه إلى مكناسة الزيتون، فلم يزل بها في شبه عقال إلى أن لقى ربه بعد
خمسة أشهر، وولى على فاس مكانه عبد اللطيف بن عبد الخالق الروسى، ووجه به عاملاً فوصل إليها في سابع شوال.
وفى ربيع الثَّاني أصدر المترجم ظهيرًا شريفًا نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع بداخله (عبد الله بن أمير المؤمنين إسماعيل الحسنى الله وليه ومولاه) وبزواياه اليمن والإقبال وبلوغ الآمال والسعد:
"كتابنا هذا أسماء الله وأعز أمره، وأطلع في سماء المعالى شمسه المنيرة وبدره، بيد حامله الفقيه الأجل، المجود الأفضل، السيد الحاج أحمد بن عاشر العامرى يتعرف منه بحول الله وقوته، وشامل يمنه وبركته أننا جددنا له بحول الله وقوته حكم ما بيده من ظهائر سيدنا الوالد قد س الله روحه في أعلى الجنان آمين، وظهائرنا الكريمة التي تضمنت توقيره واحترامه على مر الليالى والأيام، والسنين والأعوام، فلا سبيل لمن يروم أو يحدث في جنابه الملحوظ نقصا ولا زيادة، وأبقيناه على مرتبه الذي كان يقبضه من وقف أحباس مسجد سلا الأعظم عمره الله بدوام ذكره، وقدره خمسة وعشرون أوقية دراهم من كل شهر إعانة له على ما هو بصدده من تعليم الطلبة بالمسجد المذكور، وعلى الفقيه المذكور بالاجتهاد فيما كلف به، والواقف عليه يعمل به ولا يتعداه والسلام في الثَّاني العشرين من ربيع الثَّاني عام ثلاثة وأربعين ومائة وألف".
وفى السابع والعشرين من شوال 1143 وقع الشروع بأمر المترجم في هدم مدينة الرياض المارة الذكر التي كانت زينة مكناسة وبهجتها، وفيها دور العمال والكتاب والأوداية وأهل الدولة الإسماعيلية، والتى كان بها المسجد الإسماعيلى الأعظم والمدرسة والأسواق والحمامات، وكان يقصدها التجار بالبضائع، فلم تمض عليها عشرة أيَّام حتَّى صارت كدية تراب.
وكان قد أشرف على الشروع في هدمها بنفسه وفى نظرى أن أحسن ما يعلل به هدمه إياها زيادة على ما أسلفناه، هو أن صدور الدولة وذوى الحيثيات من رؤساء الجيش ألهتهم قصورهم الفاخرة بزخاريفها عن القيام بوظائف الدولة،
واتفق ما حدث من الفتن بعد وفاة والد المترجم وأساطين دولته وساساتها، ولما آل الأمر للمترجم لم يجد من أولئك من يعيره لتنفيذ أوامره أذنا صاغية، بل قوبل جلها إن لم نقل جميعها بالرفض وإبداء العلل الواهية زيادة على كونها صارت بعد أبيه مركز المؤامرات السياسية عليه وعلى إخوته.
وأثناء هذا وسوس بعض شياطين الإنس لصاحب الترجمة في أبي العباس أحمد بن على الريفى حتَّى أوغر صدر السلطان عليه، وصمم على المكر به، فطير له الإعلام بذلك بعض أصدقائه من الحاشية الملكية فخاف بطش الملك ووجه بهدية ذات بال جمع فيها تيجانا مرصعة بنفيس الأحجار وأموالاً طائلة وأوفد معها ثلاثمائة نفر من أعيان إخوانه أهل الريف يبرهنون للمترجم على إخلاص مرسلهم ورضوخه للطاعة وبراءته مما ألصق به ويطلبون أمانه فأمر بقتل جميعهم، ولما اتصل ذلك بالريفى المذكور قام لإيقاد نيران الفتن على ساق حتَّى اضطرمت وتسعرت وتطاير شررها، وعم الفساد الحاضر والباد، وقطعت السابلة وكان ما كان مما لست أذكره.
ثم بلغ المترجم عيث آيت يمور وتمردهم واشتغالهم بالسلب والنهب، فحشد إليهم جيوش العبيد والودايا ونزل بساحتهم من غير تأهب لهم ولا استعداد للمقاومة، فأخذهم أخذاً وبيلا، وقتل أبا يعقوب الحنصالى شر قتلة، إذ وجده نازلاً بين أظهرهم، قال في نشر المثانى: ولما قتله منع النَّاس من دفنه حتَّى تمزقت أشلاؤه وتفرقت أعضاؤه، فعل ذلك به لئلا يتوهم ضعفة العقول من أصحابه أنَّه لم يمت لأنَّه كان يخالط علم الحدثان.
وفى العام نفسه قتل مائتين من لصوص حجاوة على قطع الطَّريق على المارة ببلادهم، ولما قتلهم خرج أهل مكناس والطالبون للفرجة في المقتولين بباب البطيوى، فاتفق خروج المترجم في تلك الساعة على ذلك الباب، فلما رأى القوم
قصدهم ظاناً أنهم المأمور بقتلهم ففروا خوفاً منه ودخلوا كهفاً عليه، مقربة من المحل يختفون فيه، فقصدهم حتَّى وقف على باب الكهف وأمر من كان معه بغلق باب الكهف عليهم بالأحجار فأغلقوه غلقاً متقنًا، ومات جميع من به ولم يوقف لهم بعد على خبر، ولم يعرف عددهم، وفى العام أيضاً أمر عبيد مشرع الرمل بالتهيؤ للحركة لجبال فازاز.
وفيه ولى أبا عبد الله محمد وعلى الزمورى عمالة فاس وأمره باستصفاء أموالهم وأن لا يترك لهم قيراطاً، إذ كان البعض نقلوا إليه أن المال أطغاهم وأنهم يحاولون الخروج عن طاعته وشق العصا عليه، فتوجه الزمورى المذكور إلى فاس ونزل بدار أبي على الروسى من حومة المعادى وصار ينقب على ذوى اليسار ووظف عليهم أولاً غرامة قدرها خمسمائة ألف مثقال وبالغ في التشديد في اقتضاء ذلك منهم، وعمَّر بهم السجون، ومن تغيب يلقى القبض على أقاربه.
ولما استوفى العدد المذكور ممن ذكر صرف وجهته لأهل الحرف والملاكين والبطالين، وقام بسبب ذلك هرج ومرج، وفر النَّاس لشواهق الجبال والقرى والأمصار الشاسعة، وامتدت ولايته عليهم ثلاثة عشر شهراً، وكان كلما قبض شيئاً وجهه للمكلف بالداخل للعاصمة المكناسية.
وقد ساق العلامة المؤرخ ابن إبراهيم الدكالى هذه الحادثة ببعض مخالفة وزيادات ونص ماله في تقاييده: وفى هذا الوقت قدم عبد الرَّزاق بن على ويشى، وقبض جميع تجار أهل فاس وسجنهم ودخل ديارهم وحوانيتهم، وشرع في قبض المال منهم، ثم دفعوا مائة وعشرين قنطاراً، وكان من جملة سرق قبض في المال الحاج محمد الأندلسيّ الرحوى، أخرجوه من حرم سيدى أحمد الشاوى، وأدخلوه السجن وضربوه حتَّى مات، وطوفوه على النعش وهم يقولون هذا جزاء من لم يعط مال السلطان، وكان ذلك في صفر وجاء العفو يوم الجمعة السادس عشر منه.
وفى الحادى والعشرين منه ذهب عبد الرَّزاق بمال التجار الذي قبض ودفعه للسلطان، وكان معه التجار الذين دفعوه، فأمرهم بالزيادة عليه، وسجن بعضهم وقد كان عبد اللطيف الروسى من جملتهم، وقد كان عبد اللطيف هذا أمر بقتل السيد الحسن بن السيد عبد العزيز بن إبراهيم الموقت بمنار القرويين بإشارة من القاضي السيد على بو عنان، وقتل بعد صلاة العصر من يوم السبت خامس المحرم عام 1145.
ولما تلاقى عبد اللطيف المذكور مع السلطان وتكلم معه في شأن المال الذي دفع أهل فاس غضب عليه السلطان من أجل الرماة، وأمر بضربه بالسياط، فضرب ثم ثمانمائة، ثم طعنه برمح وأمر بذبحه وجره لباب الملاح جزاء وفاقاً بما فعل بالسيد الحسن المذكور.
ثم تولى حكومة فاس الطالب محمد بن على ويشى أخو عبد الرَّزاق المذكور، وكان حسن الأخلاق يوقر الأشراف والعلماء وأبناء الصالحين، فكان جعل للطلبة خراجاً يقبضونه من وفر القرويين، إلَّا أنَّه كان فظاً غليظاً على التجار لا يقبل منهم عذراً، وقبض منهم زمن ولايته أموالاً عريضة، وانتفى بسببه من فاس من أهل الغرامات ما لا يحصى، وبقى حاكماً بفاس من حين قتل عبد اللطيف الروسى إلى وقت نجاة المولى عبد الله بنفسه كما يأتى هـ.
وفى 1144 لما كان المترجم وجه للمولى الطَّيِّب الوزانى في شأن الباشا عبد النَّبي الحيانى، وقدور السهلى، وقد كانا مستجيرين بوزان وتراخى المولى الطَّيِّب في توجيههما إليه، بعث له قائلاً: والله إن لم تأت بهما حتَّى أهدم عليك تلك الدشرة، وأجرك في أزقتها، فذهب إليهما فامتنعا من الخروج فأعطاهم عهوداً ومواثيق بأنه لا يتخلف عنهم ولا يسلمهم، فخرجا معه وخرج معهم جمع من الأشراف والصبيان أولادهم بالألواح.
فلما وصلوا لحضرته وأعلم بورود عبد النَّبي نهض وخرج إليهم راجلاً، وقبض على لحية المولى الطَّيِّب وهزه منها وقال له: أخى فارقنى فما أدخلك بين عبيدى ورعيتى .. فقال له: أريد من الله ومنك أن تعتقهما، فقال له: إن أعتقتهما فلست بولد لإسماعيل بن الشريف، والأشراف والصبيان واقفون وبيدهم غطاء جدهم المولى عبد الله الشريف، وغطاء المولى التهامى.
والتفت لعبد النَّبي وصار يخطب عليه ويعدد مساويه، وكان من جملة ما خاطبه به: إننى ما نسيت ولا أنسى ما شافهتنى به على رءوس العبيد: والله إن قبضتك يا عبد الله بوسبيبط الصَّغير (1) ربيب الدغمى، حتَّى أرمى على رجلك كبلا (قيدا) من عشرين رطلاً، وألقيك في الدهليس إلى أن تموت فيه، وتكررها مراراً .. وتذكر اليوم الذي قبضت فيه لجام فرسى ودككته إلى ورا، إلى أن سقطت من فرسى على الأرض وقلت لي: اذهب من هنا، إنما أنت طفل صغير، فطلعت إلى ربوة وبكيت حتَّى كاد أن يعود الدمع دماً، ومن أجلك أنفنت بيت المال كان إذا أتى إلى صاحبك بكتابك أو كلامك لم يكن لي بد من إعطائه قنطاراً سخرة له اتقاء لشرك، ثم قال لمن حوله اقبضوا الظالم عدو الله فصاروا يجرونه وقد كان قابضاً بيد المولى الطَّيِّب، فقطعوا يده وأخذوه، وكذلك فعلوا بصاحبه قدور السهلى، ذكره الضعيف.
وفى عام ستة وأربعين، عقد للباشا قاسم بن ريسون على جيش من العبيد منتظم من خمسة عشر ألف فارس، وللقائد عبد الملك بوشفرة الأودى على ثلاثة آلاف فارس من إخوانه الودايا، ووجه بالجميع لجبل آيت ومالوا، ولما عبرت تلك الجنود، وادام الرَّبيع على مجاز البروج، خيمت بآدخسان، ولما رأى أولئك البرابر العتاة ما لا قبل لهم بمقاومته، فروا للجبال فاقتفى الجند أثرهم إلى أن توغلوا في
(1) في هامش المطبوع: "كان المترجم كذلك رقيق القدمين حذاءهما كأحذية الأطفال كما تقدم في وصفه".
وعر تلك الجبال، ثم وجه البرابر ذات ليلة من سد الثَّنايا التي دخلوا منها بالأشجار الأرز.
ولما كان الصباح هجموا عليهم من كل ناحية وقاتلوهم قتالاً شديداً في تلك الأوعار التي لم يقرءوا لها حسباناً، فهزم الجيش هزيمة شنعاء، وولوا الأدبار، فوجدوا الثَّنايا قد سدت دونهم فازدادوا فشلاً ورعباً، ولم يسعهم غير الترجل وتسليم الخيل والسلاح والزاد، ولما تجردوا من كل شيء وتركوه غنيمة باردة حقن البربر دماءهم، ولم يقتلوا أحداً منهم.
ولما لحقوا بالمترجم لمكناس حفاة عراة منحهم وكساهم ووعدهم بإخلاف ما ضاع لهم، وأمرهم بالرجوع لمشرع الرمل فرجعوا وقد بذر في قلوبهم بغضه، شأن ما جلبت عليه الطباع فيمن تسبب لها في لقى ما تكره، وإلا فالمترجم إنَّما كان وجههم لحسم مادة المفسدين.
وفى عام سبعة وأربعين: اتفق العبيد والودايا على قتله والتمثيل به انتقاما منه لإسرافه في قتلهم حتَّى كاد أن يستولى على رءوسهم وصناديدهم سعياً وراء كسر شوكة استبدادهم وطغيانهم على الملوك وإيقادهم نيران الفتن في الرعية، وأخذاً بدم صنوه أبي مروان عبد الملك الذي خنقوه، وكان قصده استئصال شأفتهم لتحققه أنَّه لا يستقيم معهم ملك لأحد، قالوا بلغ عدد من قتل منهم عشرة آلاف ونيف، "إنَّما جزاء الذي يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض".
ثم إن المترجم أنذر بما صمم عليه العبيد من اغتياله، فخرج من العاصمة المكناسية يوم الأحد ثامن وعشرى ربيع الثَّاني ليلاً ناجيا بنفسه، ومن الغد الذي هو يوم الاثنين بلغ لفاس خبر خروج السلطان، فهرب عاملها محمد بن على
ويشى وأتباعه، وسار المترجم إلى أن بلغ آيت أدراسن ففرحوا به وآووه وعززوه إلى أن بلغ لمشرع بولعوان.
وكان هنالك لجانب السلطان عدد وافر من الزرع، ففرقه في أتباعه وضعاف النَّاس، إذ كان الغلاء بمراكش ونواحيها، ففرح النَّاس واطمأن المترجم وودعه أهل تادلا، وانقلبوا لحللهم ومحالهم، وسار هو إلى مراكش، ثم تارودانت، وأقام بها أياما، ثم انتقل إلى السوس، ثم وادى نول حيث استقرار أخواله المغافرة فنزل عليهم.
وكان في معيته ولداه أبو عبد الله محمد مار الترجمة دون بلوغ، وأبو العباس أحمد فوق البلوغ، قاله الزيانى: وقال غيره: إنه ترك الأول من الولدين المذكورين مع جدته خناثة بمكناس، وهو ما حققه في الدر المنتخب وهو الذي يشهد له التاريخ.
وكانت مدة خلافته هذه خمسة أعوام وثمانية أشهر ونصف على ما شهره في الدر المنتخب، وكانت مدة مقامه بوادى نول عند أخواله ثلاثة أعوام.
أما العبيد فإنهم لما علموا بذلك وجهوا لسجلماسة جريدة من الخيل تأتى إليهم بصنو صاحب الترجمة أبي الحسن على الأعرج ليبايعوه، على ما سنفصله بعد في ترجمته بحول الله.
وفى عام ثمانية وأربعين ومائة وألف: كانت فتنة عبد الله بن محمد الكرسيفى مدعى المهدوية بالسوس، وارتفع صيته في تلك الأصقاع، ملأ أرجاءها، واقتحم حصن آكدير عنوة، وفعل بأهلها ما يخجل وجه المروءة، وخيم بالمحل المعروف بفونت تحت أبي القناديل، ومنعهم من الماء حتَّى مات جل تلك البلاد نساء ورجالا وصبيانا عطشا، وحيل بينهم وبين المقابر العامة فصاروا يدفنون
موتاهم بالدور والمساجد، وكان الفتان المذكور يحث أهل سوس على غزو أهل آكدير ويقول: إن ثلثهم نصارى، وثلثهم يهود، وثلثهم عصاة حصب جهنم.
فأجابه لذلك خلق كثير من أهل سوس، والحال أنهم لم يروا البحر قط، ولما نزلوا بساحته أخذوا يشربون ماء البحر ويلثون به سويقهم، فهلك منهم عدد عديد، ثم عاد الثائر لتارودانت مصمما على الإيقاع بهوارة، ولما شعروا بمراده اتخذوا سائر الاحتياطات اللازمة وأجمعوا أمرهم على اغتياله، فأوعز إليه بذلك بعض المعتقدين له، فأشاع أنَّه يريد زيارة أبي حفص عمر وهارون برأس الوادى، فتبعته هوارة إلى أن لحقوا به بثلاثاء تماصت بزاوية السيد عياد، وأخذوا يلعبون بالبارود مع أصحابه مظهرين الفرح به والطاعة له، فلم يأمن فيهم، ونجا بنفسه فاقتفوا أثره إلى أن لحقوا به بصهريج آيت أيوب في تنزرت، وأطلقوا عليه أفواه مكاحلهم بالرصاص ففر ودخل دار الشَّيخ أحمد ويدير، ومات بداره ونهب آيت يش ماله.
قاله الضعيف: وقد وقع لصاحب الدر المنتخب في سوق هذه الحادثة تخليط واشتبه عليه أمرها واشتبك وارتبك، وبموت هذا الفتان الأفاك اطمأنت نفوس أهل تلك البلاد، وأمنت سبلهم، وكان الذي قتله هو ابن همان وماين الهواريان ويعيش الزكنى المنبهى.
ثم وفد المترجم على تارودانت واستولى عليها وعلى أحوازها، وبويع له بتلك الأصقاع، ووقعت بينه وبين هوارة معارك عظيمة انجلت بانهزامهم وفشلهم كل الفشل، ثم نهض من تارودانت وخيم ببلاد السراغنة وأوقع بهم وقعة شنيعة، وحكم السيف في أربعمائة رجل من عوامهم، ومائة من طلبتهم، حيث إنه وجدهم هدموا مسجد القصبة وصيروه بلاقع، وكان ذلك كما قال الضعيف سنة 1148 ثمان وأربعين.
وانظر هذا التاريخ مع ما سبق أنَّه بقى بوادى نول ثلاثة أعوام، وكذلك يخالفه ما في الاستقصاء من أنَّه لما كان شهر ذى الحجة من سنة تسع وأربعين ومائة وألف ورد الخبر بأن السلطان المولى عبد الله قد أقبل من وادى نول، ووصل إلى تادلا، فاهتز العبيد له وتحدثت فرقة منهم برده إلى الملك، وخالفهم سالم الدكالى في جماعة من شيعته، وقالوا: لا نخلع طاعة مولاى على، إذ كان سالم هذا وأصحابه هم الذين تسببوا في خلع المولى عبد الله، وتولية أخيه مولاى على.
ثم إن شيعة المولى عبد الله قويت وكثروا أصحاب سالم وأعلنوا ببيعته، ففر سالم فيمن معه من القواد إلى زاوية زرهون مستجيرا بها.
ولما سمع بذلك السلطان المولى على فَرَّ من مكناسة إلى آخر ما يذكر في ترجمته، ولما فر اجتمعت كلمة العبيد على ذلك أهل فاس وسائر القبائل، ثم إن سالماً الدكالى الذي بزرهون كتب إلى أهل فاس يقول لهم: إن الديوان قد اتفق على خلع المولى عبد الله، وبيعة سيدى محمد بن إسماعيل المعروف بابن عريبة، والمشورة لعلمائكم، فأجابوه بأن قالوا: نحن تبع لكم، فلما سمع أهل الديوان بما فعله سالم الدكالى وما تقوله عليهم خرجوا من المحلة إلى زرهون، وقبضوا على سالم الدكالى ومن معه من القواد وبعثوا بهم إلى السلطان المولى عبد الله بتادلا، فاستفتى فيهم القاضي أبا عنان، وكان يومئذٍ معه فأفتاه بقتلهم هـ، ونحوه في الدر المنتخب، والترجمان المعرب، وغيره من كتب الزيانى.
لكنهم صرحوا بأن القبض على الدكالى وأنصاره كان بإيعاز من المترجم، وأنه لما ألقى القبض عليهم قيدوا بالحديد ووجه بهم لصاحب الترجمة وهو يومئذٍ بتادلا، وهنالك وقع استفتاء من ذكر فيهم وقتلهم، واستؤنفت البيعة للمترجم،
ونهض من تادلا وسار إلى أن خيم بأبي فكران وتوجه لاستقباله، ثم أهل فاس ومكناسة أشراف وعلماء وأعيان، ولما مثلوا بين يديه وقدموا إليه بيعتهم سب وجدع وهدد وأوعد على ما صدر منهم وتكرر من شق العصا والخروج عن الطاعة، وقتل جماعة من أعيانهم، وعزل قاضى العاصمة المكناسية أبا القاسم العميرى، وولى مكانه الطالب بوعنان، وألقى القبض على عاملها مسعود بن عبود، وولى على فاس محمد بن على ويشى.
ولكنه لما توجه إليها لم يستطع الدخول إليها خوفا على نفسه من الإيقاع به، ونزل بالقصبة الجديدة إذ كان فيها عبيد المترجم وخاصته أدالة.
وفى يوم الخميس خامس عشرى صفر مد الودايا يد النهب والسلب في الطرقات، ونهبوا ما كان بسوق الخميس من الماشية والدواب، أخذوا من البقر نحو الألفين، ومن البغال نحو سبعمائة، ومن الثياب عددا عديدا، وأغاروا على سرح أهل فاس وعاثوا في ضواحيها والسبل الموصلة إليها، واتفق أن كان اليوم العنصرة، وفى اليوم نفسه شرع أهل فاس في بناء أسوار المدينة التي تهدمت.
وفى يوم الأربعاء فاتح ربيع الأول قدم مسعود الروسى من مكناس لفاس والمدينة في حصار، فزار الضريح الإدريسى وانصرف لداره بالعدوة، فسأله بعض القوم عن سبب مجيئه، فقال: إن السلطان مولاى عبد الله ولانى حكومة فاس، ولما شاع ذلك النبأ تحزبت الغوغاء والأخلاط وهجموا عليه وقتلوه أمام داره وجروه إلى توتة الصفارين، وهموا بتعليقه عليها فتعذر (1) حمله لضخامة جثته وبقى ملقى هناك إلى الغد هـ.
وفى نظرى أن ما جاء في تاريخ الضعيف نقلاً عن تاريخ ابن موسى أصح وأقعد، لأنّه عاصر المترجم وحفظ ووعى وقيد على عهده ونقل كلامه الضعيف ولم يتعقبه.
(1) في هامش المطبوع: "لا تعذر في الضخامة مع التحزب المذكور".
وفى الدر المنتخب نقلاً عن صاحب نشر المثانى: أن السلطان -يعني المترجم- نادى بالوعيد الشديد لمن أتى بالميرة لفاس، وبقوا في الحصار إلى مهل ربيع الأول، فأرسل السلطان القائد مسعود الروسى والياعلى فاس لما شاع عنهم أنهم إنَّما كرهوا محمد بن على المذكور، وأمَّا غيره فهم راضون به أيا كان، ففرح عامة النَّاس بدخوله لخمود الفتنة، وإطفاء نارا الغلاء، فدخل الروسى دار أخيه بعدوة الأندلس من فاس، وجعل النَّاس يأتون للسلام عليه وكثر علبه الازدحام وهو داهش لا يدرى ما يحل به، ثم دخل عليه من جرى في الفتن فقتلوا بعض أصحابه بين يديه، وخرج هو فاراً لدور بعض الأشراف محترما ومحتفيا.
فلما كان الليل اجتمعوا على قتله أخذا بثأر أخيهم بوده إذ كان قتله في زمن ولايته لمولاى على، فأخرجوه من المحل الذي كان به وقتلوه، وأصبحوا على أشد ما يكون في حصارهم، وغلا الزرع وكان به نحو ثمان موزونات للصاع النبوى، وقل الإدام، وانقطع اللحم واستمروا على حصارهم ومكث أهل فاس على نصر مولاى عبد الله والخطبة به على المنابر هـ.
وفيه أيضاً نقلاً عن صاحب النشر وغيره قائلاً ما لفظه ومن كلامه الممزوج بكلام غيره: وفى عاشر ربيع الأول تولى عبد الخالق الزيتونى أمر فاس بإجماع أهلها، وجعل ينظر في مصالح المسلمين من إصلاح الأسوار وغيرها، وفى السادس عشر قبض الودايا ثلاثة من أهل فاس وطوفوهم بفاس الجديد وقتلوهم، وقتل أهل فاس الهزاز، وابن حمو.
وفى يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الثَّاني اختلفت كلمة اللمطيين والأندلسيين في ذكر السلطان مولاى عبد الله على المنبر في الخطبة، فأراد الأندلسيون ذكره، وامتنع اللمطيون، وصليت الجمعة بذكره في مسجد الأندلس والطالعة، وترك خطيب باب الجيسة ذكره، وكذلك نائب خطيب القرويين، لأنَّ
خطيبها قاضى فاس كان بالحرم الإدريسى محترما، وأمَّا خطيب المقام الإدريسى فإنَّه كنى عنه ولم يصرح، وإنَّما قال: وانصر اللَّهم من بايعناه على طاعتك من أبناء السادات الشرفا، سمى جده والد المصطفى.
وخاض الناس في ذلك وكثر القيل والقال، واجتمع العلماء في المقصورة فانفصلوا عن غير فائدة.
وفى السادس والعشرين اجتمعوا أيضاً بمسجد اللبارين، فأمَّا الفقيه سيدى محمد بن عبد السَّلام بنانى، فقال للعامة: أخرونى حتَّى أراجع المسألة وأراجع كتب الأئمة، وأمَّا الفقيه السيد محمد الزيزى فقال لهم: طاعة السلطان واجبة، وإن تفاحش ظلمه فإنَّه متغلب ولا تقدرون على مقاومته، ومن قال لكم غير هذا فقد غشكم، وأنا لكم من الناصحين.
فهاجت العامة عليه، وهموا بقتله حتَّى تشفع فيه بعض الأشراف، وانفصل المجلس على ما ذكره بنانى ومن تبعه من التأجيل، ثم اشتد الغلاء فبلغ القمح عشرين مثقالا والشعير عشرة مثاقيل، وتحير الناس في أمورهم، وأراد اللمطيون أن ينصروا سيدى محمد بن عريبة وامتنع الأندلسيون.
وفى مهل جمادى الأولى تذاكر النَّاس في الصلح مع مولاى عبد الله على يد السيد أبي بكر بن محمد بن الخديم الدلائى، فلم يظهر لذلك أثر بعد أن كانوا نصروه على المنابر في الخطب.
وفى ثانى جمادى الأولى جاء القائد محمد مغوس المجاطى بقصد الصلح، ثم إنه وقع خصام بينه وبين الودايا فجرحوه، وذهب لمكناسة وتوفى بها في سابع الشهر المذكور.
وفى السابع عشر منه تناول أهل فاس صلحاً مع السلطان على يد زيان بن على ويشى رئيس المحلة النازلة فلم يكمل، لأنَّه اشترط عليهم شروطا لم يقبلوها.
وفى يوم الثلاثاء السادس والعشرين منه وقع خصام بين بعض البوابين بباب الجيسة مع خديم من خدام الشرفاء أهل دار القيطون فضربوه، فلما سمع بذلك أصحابه الشرفاء تحزبوا، وانضاف إليهم جماعة وجاءوا لاشبارات من ناحية سيدى اللزاز من ناحية الطالعة، فلما وصلوا للقصبة الجديدة وتلاقوا مع محمد بن على ويشى قائد مولاى عبد الله، قالوا له: نحن لا نوافق على ما فعله أهل فاس، وما خرجنا إلَّا لهذا الغرض، فأعرض عنهم، وحينئذ اجتمع اللمطيون والأندلسيون بعد صلاة العشاء بالقرويين وتحزبوا على عدم نصر مولاى عبد الله، وشد السلطان في الحصار مدة من أربعة أشهر ولم يكن بين أهل فاس ومن حاصرهم قتال ولا رمى بكور ولا بمب ولا حفر مينة ولا طمع في الاستيلاء على المدينة، لأنَّ السلطان أوصاهم بعدم ذلك، وقال: إن ذلك لا يفيد في فاس شيئاً، وقد بالغت في الحصار الأول الذي قبل هذا الجهد وما حصل لي منى ذلك إلَّا تضيع الأموال والمشقة، وإنَّما يذعن أهل فاس المساكين من أهلها والضعفاء الذين لا يقدرون على الدفاع من أنفسهم شدة من الغلاء والجوع، هذا كله والسلطان بمكناسة يقتل من طغى من العبيد وتجبر هـ.
وفى يوم الثلاثاء سادس عشرى وقيل الثامن من جمادى الأولى عام تسعة وأربعين، اجتمع رأى أهل فاس والودايا ومن شايعهم على رفض طاعة صاحب الترجمة والبيعة لصنوه أبي عبد الله ابن عريبة مار الترجمة، وقد كان النَّاس سئموا الفتن وإتلاف الأنفس والأموال وضيق المعيشة وقطع السابلة وكلوا وملوا.
وفى الاستقصا أن بيعته كانت في خامس الشهر سنة خمسين. هـ.
ومن الغد الذي هو يوم الأربعاء أعلنوا بذلك ونادوا به في الأزقة والأسواق وكتبوا البيعة لابن عريبة المذكور، ومن توقف أو خالف في ذلك نكلوه، وإن كان موظفا عزلوه، وكان ممن آخر عن الوظيف لعدم إسراعه بالإجابة لما ذكر أبو عبد
الله محمد البكري الدلائى وسجن وذعر، وأبو عيسى المهدى الفاسى، وأبو مدين أحمد الفاسى، وأبو العباس أحمد بوعنان، الأول منهم عن إمامة الضريح الإدريسى وولى مكانه أبو عبد محمد بن عليّ بن إبراهيم، والثانى عن الإمامة بمدرسة الطالعة وعين للإمامة بها بدلاً عنه الشَّيخ التاودى بن سودة، والثالث عن الإمامة بجامع الأندلس وولى مكانه السيد بوعزة بن إدريس المشاط، والرابع عن إمامة جامع باب الجيسة وعين بدلاً عنه أبو عبد محمد فتحا السلاوى.
ولما اتصل ذلك بالمترجم جمع أهله وعياله وماله وكل ما له قيمة بالقصر الملكى بمكناس وأطلق سراح من كان بالسجون، وخرج من مكناسة ونزل بالحاجب، وقيل بجبال فازاز، والتفت عليه البرابر وصاروا يغيرون على سرح مكناسة وسايس وما والى ذلك.
ثم بعد ذلك بخمسة أيَّام أتى المترجم بالبرابر أتباعه ليلاً إلى مكناسة ونهب جميع أحوازها، ووصل إلى سيدى فرج وبقى هنالك إلى أن طلعت الشَّمس وفتح باب الأروى فدخلها وهدم البيوت وحرق المساكن، وأخذ جميع ما كان بها من خيل وسلاح، ورجع للحاجب فاقتفى أثره جند صنوه ابن عريبة ولما رأى المترجم ما لا قبل له به نجا بنفسه وترك مخيمه غنيمة، فتبعته جنود العبيد والودايا وأهل فاس إلى ملوية وتوغل في جبالها وخفى عنهم ولم يدروا أين ذهب، وفى منقلبهم اعترضهم البربر وسلبوهم من كل شيء، واشتبكت الفتن وارتبكت، وفى هذه الفتن كانت منية المولى الرشيد صنو المترجم، والقائد ابن النوينى.
وفى نسخة عتيقة من نشر المثانى غير مطبوع ما نصه: إن عبيد مكناسة تبعوا المترجم للفتك به فلما نزلوا على عين اللوح أنزل الله المطر الكثير وأرياحا وبردا شديداً حتَّى كادوا أن يهلكوا، فرجعوا وقد خاب قصدهم.
وفى شوال أكثر أتباع مولاى عبد الله من البرابر الغارة على سايس وغيره من البلاد الموالية لبلاد البربر، ففر جميع من كان يلي البربر، فخلت جميع تلك البلاد، ثم شن البرابر الغارات على من يمر بالطرقات، وأكثروا النهب في سائر البلاد التي يقدرون على الوصول إليها، وقاموا بدعوة مولاى عبد الله في جميع جبالهم واتخذهم بطانة له، وفى ذلك الوقت بدأ انتعاشهم، ولما رأى مولاى عبد الله فرار النَّاس من البربر نزل جبل غمره الموالى لبلاد سايس، وانقطعت الميرة على فاس الإدريسية من كل ناحية من غارات البربر على ما حولها، وحبس الله المطر عنها وعن حوزها فارتفعت الأسعار.
وفى رابع عشرى رمضان أقيمت صلاة الاستسقاء ببوعجول، وخطب مولاى حمدون الشريف الطاهرى نائبا عن القاضي سيدى يعيش.
وفى الثامن والعشرين من ذى القعدة أقيمت صلاة الاستسقاء أيضاً بباب الفتوح، وخطب الفقيه السيد أحمد الورزيزى، ثم أقيمت بباب الجيسة، وخطيبها سيدى حمدون الشريف الطاهرى.
وبالغد أقيمت صلاة الاستسقاء أيضاً بباب الفتوح، وخطب سيدى حمدون المذكور.
وفى الثلاثين صليت بباب الفتوح، وخطيبها الشريف المذكور.
وفى مهل ذى الحجة أقيمت صلاة الاستسقاء أيضاً، وخطيبها السيد أحمد الورزيزى المذكور.
وبالغد أقيمت صلاة الاستسقاء بوادى الزيتون، وخطيبها سيدى بومدين بن سيدى أحمد الفاسى.
وبالغد أقيمت بباب الجيسة، وخطيبها السيد أحمد الورزيزى.
وفى خامس ذى الحجة أقيمت بمصلى بباب الفتوح، وخطب الورزيزى أيضاً ولم ينزل المطر، وحينئذ اختل النظام وشاع الفساد وحصلت المجاعة العظيمة، ومات بالجوع من لا يحصى، وقل الإدام وانقطع اللحم.
ولم يزل الأمر في شدة، وازدادت الفتن وفر النَّاس، فعند ذلك أتى القائد العباس بورمانة أكبر رؤساء جيش أبي عبد الله بن عريبة صنو المترجم وقال له: إن البربر عثوا، ولم يبق التفات للأمير، فخرج في خيله ورجله ووقع قال شديد بين جنود ابن عريبة والمترجم وأحزابه البربرية بسايس من الزَّوال إلى الاصفرار انجلى بهزيمة بورمانة وجموعه، وتركوا جميع مقوماتهم واستعداداتهم غنيمة، ولو أن الظلام حال بينهم وبين جنود المترجم لاستأصلوهم قتلاً وأثخنوهم جرحاً.
وقام عدة ثوار كل يدعو لنفسه ويحاول جر النَّار لقرصه والاستيلاء على ما بيد غيره، استولى الحوات على عبيد الرمل وبنى مالك وسفيان والطليق والخلط وما وإلى ذلك، واستولى الباشا أحمد الريفى على الفحص، وبلاد غمارة، وطنجة، والقصر وما حول ذلك من المعاقل وعلى بلاد الريف وجبالها وقلاعها إلى ناحية كرسيف، واستولى القائد القلعى على بنى يازغة وما والاها.
أما المترجم فقد كان تحت سلطنته الصحراء، وسوس، ومراكش، والبربر، وقد نص التاريخ على أن هذه الفتن لم تكن في هذه السنة بالمغرب فقط بل عمت سائر أقطار العالم.
ولما طال مقام صاحب الترجمة بين أظهر البربر ينتقل من أغوارها إلى النجود، والفتن قائمة على ساق، والقحط ضارب أطنابه، سار لتافيلالت وصار يترقب ما تنجلى به تلك الغياهب.
وفى رجب عام خمسين ومائة وألف: بلغ ثمن وسق القمح مائة مثقال، قال ابن إبراهيم الدكالى في تقاييده: بعد أن كان في الرخاء بخمسين أوقية والشعير
يقاربه، وكذلك الذرة حتَّى كاد أن ينقطع الطَّعام من فاس، وكان وزن الخبزة التي تباع بالسوق بموزونة خمس أواقى بالبقالى، وافتضح وجوه النَّاس وأعيانهم، وخلت المدينة وسدت حومات متعددة، مثل حومة الكدان؛ ودرب اللمطى، وحومة الأقواس، والبليدة، والطالعة، والدوح، وسدت الأسواق إلَّا القليل، وهدمت الديار وبيعت، ومات من النَّاس ما لا يعلمه إلَّا الله، حتَّى ذكر بعض النَّاس ممن أثق به أنَّه وصل للمارستان من الموتى في رجب وشعبان ورمضان نحو الثمانين ألفاً، فضلاً عمن لم يصل إليه وكانت الدار التي قيمتها عشرة (كذا) مائة مثقال تباع بثمانين مثقالاً وسبعين ولا تبلغ المائة، وانجلى كثير من النَّاس عن المدينة وذهبوا إلى القصر، وتطاوين.
وممن ذهب بعياله لتطاوين العلامة سيدى محمد بن عبد السَّلام بنانى شارح الاكتفاء، واندثرت بسبب ذلك قبائل كثيرة من أهل فاس، ولولا أن النصارى أتوا بالزرع من بلادهم لتطاوين ونواحيها وجلبه أهل فاس لهلك الكل جوعاً، وقد كان وإلى تلك البلاد أحمد بن عبد الله الريفى ذا إبل عديدة اكتراها منه أهل فاس لحمل ما اكتالوه من المغيرة، قيل: إنه ساعدهم على الكراء ظاهرا، ومنع الحمالين من الحمل باطناً، وتمرد عليهم ستة أشهر حتَّى تحقق لديه أن أكثر العائلات الكبيرة الذين لا يقدرون على التنقل لبلد آخر من قلة الزاد وكثرة أفراد العائلة ماتوا جوعاً فسر بذلك باطناً، وساعدهم ظاهراً، ووصل الزرع لفاس، وانجلت الأزمة التي حصت منهم كل شيء، ولما أتى ركب الحجاج من طرابلس أتى معه بالقمح الكثير وانحط السعر ورحم الله عباده.
قال ابن إبراهيم في تقاييده لدى تعرضه لهذه الأحداث ما لفظه: كان اللصوص يأتون ليلاً لديار النَّاس ينهبونها ومن قام معهم يقتلونه ويأخذون جميع ما وجدوه، فكانوا يأتون لرأس الجنان والمخفية ومصمودة والطالعة والدوح وسوق
النخالين وباب السلسلة، وقد جاءوا مرَّة إلى سوق قيسارية البز وحصل للناس بسبب ذلك خوف عظيم، وهذا كله والسلطان بمكناس يعني ولد عريبة لم يلتفت للناس ولم يعبأ بما نزل بهم، وحيل بين النَّاس وبين اجتنهم بلمطة والمرج وغيرهما من أحواز المدينة، ولم يبق أحد يذهب لموضعه بالمرج إلَّا من اتخذ يدًا مع السياب.
وجاء لصوص من ناحية باب الفتوح للفندق الذي يقرب من مدرسة الوادى وأخذ منه قافلة كانت عزمت على السَّفر، فلما اجتمع أهل فاس وخرجوا إليهم وجدوهم قد ذهبوا بما أخذوه وذلك في وسط النهار.
وفى هذه الأيَّام أغار الودايا على القصارين بوادى فاس ونوبوا ما عندهم من الثياب، ثم صار القصارون يخدمون الثياب بوادى مصمودة، فأخذها اللصوص أيضاً، وكثر الخوف بسبب ذلك، وصار النَّاس يبيتون في الشوارع التي هي مظنة مجئ اللصوص ليلاً والأمر في كل نفس يزيد اشتداداً.
وفى خامس عشر شعبان ذهب السياب إلى مدرسة الصفارين ليلاً ونهبوا جميع ما كان بها، لأنها كانت خلت من أهلها وغلقت أبوابها وافتضحوا، وقام معهم النَّاس وقتلوا منهم السلاسى بباب المدرسة وباقي أصحابه هربوا، ومن الغد قتل بالموضع نفسه بورمضان الحيانى وتسعة من أصحابه بالموضع المذكور، وفى هذه الأيَّام جاءت قافلة من الغنم ونزلت بفندق التجارة قرب القرويين لعدم الأمن من غيره.
وفى سابع رمضان ضرب الأندلسيون المحتسب السيد محمد بن عبد السَّلام المحمودى بحومة البليدة قرب دار القائد السيد عبد المجيد بوطالب، ووقعت بسبب ذلك فتنة بين الأندلسيين واللمطيين ثم اصطلحوا ليلاً بروضة مولانا إدريس، ووقع اتفاقهم على تقديم التاجلوتى على الأندلسيين، والحاج محمد برزوز على
اللمطيين، وأحمد الغرناطى على أهل العدوة، والسيد عبد المجيد بوطالب يكون الحاكم على الجميع ورضى الكل بذلك.
وفى ليلة الأحد الخامس من شوال جاء السياب لسوق قيسارية البز ونهبوا منها بعض الحوانيت.
وفى سادس شوال قتل سيدى محمد بن عبد الرحمن إنّ القاضي بجنانه المسمى باللب، قتله القطاع رحمه الله.
وفى ليلة الحادى عشر منه جاء السياب لدار الغزوانى الهزاز بشارع سويقة الذياب ونهبوها.
وفى ليلة الثَّاني عشر منه جاء السياب أيضاً لدرب جنيارة ودخلوا على الحاج محمد برزوز بدار هنالك كان بها مع جماعة من أصحابه، فضربوه برصاصة ومات من الغد، وجرح من أصحابه مولاى أحمد بن إدريس العراقى، والشريف سيدى محمد بن المهدى بوطالب، وأحمد بن جلون، والتاودى ابن عبد الخالق بنانى، والحاج محمد عديل.
ومن الغد اجتمع أولاد برزوز وقتلوا محمد بن العربي الجزولي كبير حومة البليدة، لاتهامهم له بأنه هو الذي أدخل السياب على عمهم الحاج محمد.
وفى أواسط شعبان ذبح يَحْيَى الشاوى ليلاً وألقى بالبرادعيين.
وفى مهل ذى القعدة ذبح المحتسب سيدى محمد بن عبد السَّلام المحمودى قرب درب رطوانه، كان ذاهباً لداره بسيدى أحمد الشاوى ولم يدر من قتله.
ومن الغد وقعت بسبب ذلك فتنة بين الأندلسيين واللمطيين ثم اصطلحوا.
وفى التاسع والعشرين من ذى الحجة جاء السياب لدار الراعى قرب ضريح سيدى محمد بن عباد، وأخذوا منها غنماً وبقراً كثيراً، وضربوا الحاج محمد بن
عبد السَّلام قصارة برصاصة فمات من حينه هـ بنقل صاحب الدر المنتخب المستحسن.
وفى ترجمة أبي عبد الله محمد بوطالب من نشر المثانى أنه لما نزلت بالنَّاس مسغبة عام خمسين، احترف رؤساء الرماة ببيع الزرع من البادية يمنعون المساكين من شرائه ويشترونه بما شاءوا، ويبخسون النَّاس أشياءهم، وإذا باعوا يبيعونه بما شاءوا، وكان من جملتهم رجل يقال له العمارى رئيس الرميلة والكدان والصفاح من بنى عمار أحد شعوب سكان زرهون ورد على فاس جده، فكان يسرح البقر حتَّى يحفى، فاشترى بقراً لنفسه وكان يبيع الحليب بحانوت بالصفاح، وسكن بالكدان، ثم بعد ذلك اشترى الدار الأولى عن يمين الداخل لدرب خلوق، وكان يبيع اللبن، ثم ولده كذلك، إلى أن نزلت مسغبة عام خمسين، وترأس على أهل الكدان وجدبت البلاد ومات البقر ولم يبق حليب يباع، صار يبيع الزرع بسوق الكدان بالصفاح.
فاضطر مولاى عليّ بن مولاى محمد بوطالب صاحب الترجمة إلى شراء ما يتقوت به، فقصد سوق الصفاح فجلس ينتظر ما يشترى، فإذا بتليس جاء من البادية فاشتراه العمارى بما شاء، ولم يقدر أحد من المساكين يشتريه بما ساومه به العمارى ولا يعطيه فيه السوم، فباعه للعمارى بما شاء بمدهم الذي أحدثوه.
ثم أتى تليس آخر من البادية فساومه للعمارى أيضاً وأعطى فيه السوم فزاد عليه مولاى على الثالث وباعه له مالكه فأراد العمارى منعه من شرائه، فلم يتركه له مولاى على، فتسابا بينهما وتصارعا، فصرعه مولاى على فدخل العمارى إلى حانوته وأخذ كابوسا كان عنده مرصصا وخرجه في مولاى على من خلفه وهو لا يشعر فخر ميتا فحمله بعض المؤمنين إلى داره، فقالت لهم أمه: لا ندفنه حتَّى نقتل قاتل ابنى، فقالوا لها: قتلناه فدفنوه من يومه في روضة أبي غالب على.
ثم في غده حمل السلاح الشرفاء الأدارسة وغيرهم وساروا إلى قتل العمارى وأهل الرميلة والصفاح والكدان الذين تعرضوا عليه ونصروه، فاقتتلوا وسلم الله الشرفاء من الجرح والقتل، وقتل العمارى وعدة من أنصاره، ثم افترقوا وكفوا، وهدنت الفتنة والمدينة، ثم سلط الله على أهل الرميلة والصفاح والكدان السارق بوزيان العبادى من أولاد عباد صفرو، ومعه جماعة من سراق إخوته والمزاوغة وبنى يازغة، فكان يأوى لحوز فاس ليلاً ويدخل الديار وينهبهم، فخلت بذلك الحومات الثلاث المذكورة ولم يبق منهم إلَّا القليل، ورجعت تلك الديار بساتين وجنات.
ولم تنزل نيران الفتن والأهوال في توقد، وأمر ابن عريبة في اختلال وانحلال، والدماء تراق، والأموال تؤكل بالباطل، والفوضى ضاربة أطنابها، ونفد ما في بيوت الأموال، وسدت أبواب الجبايات، وتعذرت المصالح العامة، ولم يوجد ما تدفع منه رواتب الجند وانقطعت عن الرؤساء وأولى العصبة مادة ما كانوا يستفيدونه من بيوت الأموال، والأمر في كل يوم يزداد شدة، فاتفقت كلمة العبيد مع رئيسهم الحوات والبعض من الودايا والبربر على خلع ابن عريبة.
وفى صبيحة يوم الأربعاء التاسع والعشرين وقيل الرابع والعشرين من صفر العام أخرجوا ذلك من القول إلى الفعل، فأعلنوا بخلعه، ولم يقتصروا على الخلع، بل ألقوا عليه القبض وعقلوه بداره الواقعة على ضفة وادى يسلن جوار حمرية التي لازالت معروفة إلى الآن خارج العاصمة المكناسية، والهرج والمرج والخلاف في ازدياد، فرأى آيت عياش أن لا مخلص من ذلك إلَّا الرجوع لطاعة المترجم واستئناف البيعة له، فذهبوا إليه لتافيلالت مقر سلفه فشرحوا إليه جميع ما حل بالرعية من الأحداث، وما أوصلها التنازع إليه من الفشل وذهاب الريح، وما آل إليه أمر صنوه ابن عريبة والمنازعين له من إخوته، وألحوا عليه في القدوم معهم
للقيام بنصرته، فقابل مطلبهم بالرفض قائلاً: لا غرض لكم إلَّا أن تجعلونى طريقاً موصلة لإذاية المسلمين، والتوصل لأكل أموال العجزة والمستضعفين بالباطل وردهم بخفى حنين.
ثم بعد ذلك بدا للمترجم الرجوع إلى المغرب، فنهض من تافيلالت وسار إلى أن بلغ تادلا ثم آيت عتاب، فاجتمعت عليه قبائل تلك الناحية وهادوه واستبشروا بطلعته، وبقى هناك يستطلع أخبار فاس ومكناس وما والاهما، ويبحث من أحوال إخوته مع العبيد إلى أن تحقق لديه اجتماع الكلمة عليه.
واستؤنفت إليه البيعة فعلاً على يد القائد بوعزة مولى الشربيل، وذلك يوم الاثنين الخامس عشر من ذى القعدة عام اثنين وخمسين على الأصح، وقيل يوم الجمعة، وهو يومئذٍ ببلاد السراغنة، ولما تم له الأمر وجه للمترجم فئة عظيمة من أعيان العبيد لإعلامه باستئناف البيعة له، ولما لحقوا به أنزلهم منزلة تجلة وإكرام، وأقاموا معه ببلاد السراغنة أياما، ثم أنهضهم لناحية سيدى رحال مع الباشا الزيانى ومكثوا ثمة بضعة أيَّام، ثم أصدر أوامره بحصار اكدير فأجابوا بالسمع والطاعة وصارت تفد عليه الوفود من سائر الأصقاع المغربية يطلبون عفوه وأمانه، فأمن الجميع وقابل بالعفو والإحسان.
وفى حادى عشر ذى الحجة منصرم العام أمر رؤساء العبيد أشراف فاس وعلماءها وأعيانها بالتوجه لتقديم الطاعة لصاحب الترجمة، فأجمعوا أمرهم من فاس أول عام ثلاثة وخمسين، ينتظم ذلك الوفد من القاضي أبي العباس أحمد بن على الشعراوى، والعلامة أبي عبد الله محمد الزيزى، وأبى حفص عمر بن إدريس الإدريسى، وصنوه المولى أحمد وابن عمهما أبي عبد الله محمد بن عبد الله المدعو الغالى، ونحو الأربعين من الرماة والأعيان في طليعتهم شيخ ركب الحاج وهو الخياط عديل ورؤساء العبيد والودايا.
وصاروا يظعنون ويقيمون إلى أن وصلوا للحضرة السلطانية، فأنزلهم منزلة تجلة وإكرام، ثم أحضرهم لديه ووجه اللوم على ما صدر منهم على الفقهاء، فاعتذر الكل بأنهم مرغمون على ذلك ممن لهم السلطة الاستبدادية من عبيد وودايا، فقال لهم ما قاله الصِّديق نبى الله لإخوته: لا تثريب عليكم فيما جنيتم، وعين عبد الله الحمرى عاملاً على فاس، ورد الجميع رداً جميلاً.
ثم استقدم العبيد بأجمعهم لحضرته، ولما قدموا عليه جمع جيوشاً عديدة من القبائل الحوزية، ثم عقد الرياسة على الجميع للقائد الباشا الزياني، ووصل الجميع وأوصى بالعدل والإحسان والبر والتقوى، ووجههم لحصار آكدير إلى أن يدخل أهله فيما دخلت فيه الجماعة فساروا إلى أن وصلوا لسيدى رحال إلى أن لحق آخرهم بأولهم، ثم نهضوا يطوون المراحل إلى أن خيموا على حصن آكدير، ولم يزالوا محاصرين له إلى أن فتحوه عنوة في سابع ربيع الثَّاني من العام واستولوا على جميع ما كان به.
وفى عاشر ربيع المذكور، وقعت ملحمة عظيمة بين الجيوش السلطانية والقبائل الحوزية مراكش ودكالة والرحامنة وزمران ومن انضاف إليهم من الأعراب والبرابر، كان الظفر أولاً للجيش السلطانى ولكنهم أضاعوا الأخذ بالحزم ونبذوا الاحتياطات اللازمة وراءهم ظهرياً، واشتغلوا بالنزاع على الغنيمة، حتَّى أتاهم من خلفهم المولى المنتصر بنور الله شقيق المستضئ بنور الله وحال بينهم وبين الأثقال والأخبية، وحاز الكل غنيمة باردة ورجع من حيث أتى.
أما الجيش السلطانى فكان منه من لحق بصاحب الترجمة، ومنهم من بقى بآكدير حتَّى يصدر إليه الأمر العالى بما يكون عليه عملهم، وقد كان من بقى من عبيد مشرع الرمل بمحل استيطانه من المشرع المذكور أنهضوا منهم جيشاً ثانياً رأسه الباشا بوعزة مولى الشربيل، وتوجه للحضرة السلطانية ليكون ردفاً للأول، وسار
إلى أن بلغ لبلاد تامسنا وأقام هنالك حتَّى تلاحق المتأخر بالمتقدم، ثم نهضوا وساروا إلى أن خيموا بتساوت، وأقاموا هنالك إلى أن لحق بهم المترجم في فاتح ربيع الثَّاني في جنود جرارة، واطمأن بعضهم لبعض، ونشطوا للقتال، واستعدوا للنزال، أخذاً بثأر إخوتهم.
ثم نهض بهم المترجم إلى ناحية وادى تانسيفت، فوجد صنوه أبا النصر قد حال بجنوده الحوزية بينه وبين الماء، ولما التقى الجمعان ببوكر كور وتسعرت نيران القتال وحمى الوطيس تقدم الباشا بوعزة المذكور وقد كان على الميمنة للطعن والنزال، واقتفى أثره ابن النوينى وقد كان على الميسرة، ثم تبعهما صاحب الترجمة، وكان القلب والساقة، وكان انجلاء الملحمة بانهزام أبي النصر وأحزابه شر هزيمة، وذلك يوم الخميس فاتح جمادى الأولى من العام، ثم نزل المترجم على الماء واقتفى الباشا بوعزة أثر المنهزمين، إلى أن نزل على رأس العين، ومن الغد رجع إلى المحال السلطانية، وأقام المترجم بزاوية ابن ساسى نحو سبعة عشر يوماً.
وفى يوم الأربعاء متم جمادى الأولى من العام كانت وقعة كبيرة بـ (منزات) حضرها صنو المترجم المستضئ بنور الله بنفسه، وكانت الكرة عليه، فاعتصم هو وشيعته بجبال مسفيوة، ولولا ذلك لداستهم حوافر الجنود السلطانية، ولما أيقن المترجم بفشلهم وذهاب ريحهم أقلع عنهم وتوجه إلى دكالة فحصت جنوده منها كل شيء وأقام بها نحواً من شهر.
وفى آخر جمادى الثَّانية أقلع عنهم ووجهته مكناسة الزيتون مقر عرش والده، وكان وصوله إليها في منتصف رجب العام، وخيم بباب الريح خارج البلد، ولم يزل مخيمًا هنالك والوفود تفد عليه بالهدايا والبيعات من سائر الأقطار المغربية من عرب وبربر، وهو يقابل كلاً بما يليق ويصله على قدر حيثيته ومكانته،
وكم قضى لخاصتهم والعامة من مآرب ومطالب ووالى من إحسان إلى أن رجع الكل لوطنه لاهجًا مثنياً شاكراً.
قال أبو عبد الله الضعيف: إلى هنا انتهى تأليف الفقيه المؤرخ الحاج عبد الكريم بن موسى الريفى الذي سماه بزهر الأكم، قال رحمه الله: وهنا انتهى بنا هذا التأليف، وقد قيل في بعض الكلام، من قعدت به نكاية الأيَّام، أقامته إغاثة الكرام، والبقاء والدوام، للملك العلام هـ.
ولم يتخلف أحد عن البيعة وتقديم الطاعة غير زعيم الريف الباشا أحمد بن على ومن هو تحت سيطرته لتمرده وشقه عصا الطاعة.
وكان سبب عدم دخول المترجم لدار الملك ما كان صدر من أخيه المستضئ من التزوج ببعض نسائه، ولذلك ألقى القبض على قاضى البلد أبي القاسم بن سعيد العميرى، والقاضي أبي العباس أحمد بن على الشدادي، والعلامة أبي الفضل العباس بن الحسن بن رحال المعدانى، وأبى العباس أحمد بن عبد الله التملى، وأبى الحسن على الندرومى خليفة القاضي العميرى المذكور، وأغلظ لهم في القول وقرع ووبخ على موافقتهم لأخيه المستضئ على التزوج بزوجاته، وكان ذلك في يوم الخميس حادى عشرى رجب المذكور، وعزل الخطباء الذين كانوا يخطبون باسم أخيه المستضئ.
ثم بنى دويرة لسكناه بباب الريح، ولما تم العمل فيها سكنها بمن كان معه من الحرم، ووظف على أهل البلد وظائف أثقلت كواهلهم، ولما بلغت زروعهم أوان الحصاد أطلق أيدى الجيوش فيها، ولما ضاق بهم الخناق وبلغ بهم الجهد منتهاه عفا عنهم وأحلم وصفح فاطمأنت النفوس، وزال عنهم ما كانوا فيه من شدة
وبوس، وأنجح الله لهم الأسباب وصلح الزرع والضرع وتوالت الأمطار، وانحطت الأسعار، وتبدل عسرهم يسرا.
وفى أوائل المحرم فاتح عام أربعة وخمسين نزل بفاس، وولى عليها الحاج عبد الخالق عديل شيخ ركب الحاج، وأمره بتأخير كل خطيب خطب بصنوه المستضئ، وكان عديل المذكور ذا ثبات ورسوخ عقل فقال له: يا مولاى هذا من وظيف القاضى، وحسبى شد عضده فيه، فولى قضاء فاس أبا يعقوب يوصف بوعنان وأمره بما أمر به عديل فعزل السيد بوعزة المشاط عن خطبة مسجد الأندلس وولى مكانه الفقيه أبا عبد الله محمد الزيزى، وعزل أبا حفص عمر بن عبد الله الفاسى عن خطبة باب الجيسة وولى مكانه أبا عبد الله محمد السلوى، والشيخ التاودى بن سودة عن خطبة مدرسة الطالعة وولى مكانه أبا العباس أحمد الحارثى الدلائى، وأبا الحسن على التوزانى عن خطبة جامع القصبة البالية بباب المحروق وولى مكانه أبا العباس الشامى.
وولى قضاء تازا الفقيه أبا محمد عبد الواحد بوعنان، وأمره بعزل من هنالك من الخطباء للسبب المذكور، ولما كان في أثناء الطريق لمحل مأموريته اعترضه اللصوص وسلبوه من كل ما كان معه، وتوفى بعد وصوله لتازا قبل قضاء ما أمر به.
وفى صبيحة يوم الثلاثاء تاسع عشرى محرم أتى اللصوص لفندق النخالين من فاس ونهبوه.
وفى أواخر صفر جاءوا لسوق البز ونهبوا منه دكانين.
وفى العام سلط الله الفار على الزرع والقطانى والبحائر والفواكه الخريفية في سائر البلاد.
وفى العام نفسه اختط المترجم دار الدبيبغ الشهيرة بضواحى فاس، وفيه بعث القائد محمد الكعيدى اليازغى كبير أهل الديوان لجباية الأموال المترتبة بذمم الحياينة وغيرهم، فقتله الحياينة مع من كان معه من الأصحاب بالموضع المعروف بعين مديونة، وذلك في ثانى عشرى ذى الحجة منصرم العام.
وفى اليوم نفسه اتصل بالمترجم وهو يومئذ بفاس خروج الباشا أحمد بن على الريفى من طنجة ووجهته القصر الكبير في استعداد زائد، فانهض لمقاومته وصده عن القصر جيشا جراراً من عبيد الرمل وذهب هو للعاصمة المكناسية، فخان القواد ومن في قلبه مرض ولحقوا بالريفى المذكور ورجع الباقون إلى مكناس وانحل الأمر، ولما نزل القواد الخائنون ومن في حكمهم إلى الريفى، أكرم مثواهم ونزلهم ووصلهم واقترح عليهم الكتب لإخوانهم الذين بمشرع الرمل بالقدوم عليهم لديه، ونكث بيعة صاحب الترجمة، ووعدهم على ذلك بمال جزيل.
واتفق أن كان ذلك غب زمن المسغبة، فأسعفوا رغبته، ووجهوا لإخوانهم يستقدمونهم، فوجدوهم ارتحلوا لمكناسة لما لحقهم من عيث جيرانهم سفيان وبنى مالك وبنى حسن والبربر، ولما حلوا بمكناسة تطاولوا على أهلها وضيقوا بهم أشد التضييق، واستباحوا الأموال والأعراض، ونزعوا عن وجوههم جلباب الحياء، حتى انجلى عن البلاد كثير من أهلها وتفرقوا في البلاد، ولم يقتصر العبيد على أذى أهل المدينة بل مدوا يد الطغيان والظلم والتعدى في ما جاورها وعثوا في السابلة، ولما اشتعلت نيران الفتن وعجز المترجم عن رِتق ما انفتق، جمع عياله وماله ووجه بذلك لفاس، وكان وصوله إليها ضحى يوم الخميس الموفى ثلاثين من ربيع الأول على الأصح، واجتمع رأى أهل النقض والإبرام على خلع المترجم لعجزه عن الدفاع، والمبايعة لصنوه زين العابدين سابق الترجمة، وقد كان عند الباشا أحمد الريفى.
ولما اتصل هذا النبأ بالريفى المذكور وكان من أشد الناس عداوة لصاحب الترجمة، بادر للإعلان بنصر زين العابدين وتبعه على ذلك من كان معه من العبيد، وطيروا الكتب لإخوانهم الذين بمكناس بتعجيل رفض بيعة المترجم من أعناقهم، والبيعة لصنوه المذكور.
ولما وصلت إليهم تلك الرسائل ارتأوا أنه لا يتم لهم أمر إلا بموافقة الودايا وأهل فاس معهم على ذلك، فكتبوا لهم بشرح ما أصاب الناس من الضيق والحرج بتراكم الأهوال والفتن، ورغبوا منهم الدخول معهم فيما راموه وأبرموه، فأجابوهم برفض ذلك المطلب وإلغائه محتجين بأن بيعة المترجم في أعناقهم لا يبيح لهم الشرع خلع ربقتها.
وفى ثانى ربيع الثانى خيم المترجم بدار الدبيبغ الشهيرة خارج فاس، حيث المدينة الجديدة اليوم، فاستقبله الودايا وأهل فاس وشرح لهم ما تحقق لديه مما أضمره العبيد له فأجابوه بأنه لا سبيل لرفض بيعته، وأن طاعته لازمة لهم.
ثم انتصر حزب العبيد وأعلنوا بخلع صاحب الترجمة والبيعة لصنوه زين العابدين، وذلك يوم الأربعاء تاسع عشرى ربيع، فكانت دولة المترجم في هذه المرة من اليوم الذى بويع فيه وهو الخامس عشر من ذى القعدة عام اثنين وخمسين إلى اليوم الذى خلع فيه وهو الأربعاء تاسع عشرى ربيع من عام أربع وخمسين، عاما واحدا وأربعة عشر يوما وهى الدولة الثالثة له.
وفى ثالث عشر رمضان عام أربعة وخمسين ومائة وألف، أعلن العبيد بخلع زين العابدين مار الترجمة، واستئناف البيعة لصنوه المترجم، وهو يومئذ بالقبائل البربرية، وبويع له بالعاصمة المكناسية بمحضر الشرفاء والعبيد وإلأعيان، وتمت له
البيعة العامة حيث إن البربر والودايا وأهل فاس والعرب كانوا لازالوا متمسكين ببيعته ببواطنهم، وإن اضطرهم العبيد على التظاهر بالطاعة لزين العابدين.
ولما اتصل هذا النبأ بالمترجم قدم لمكناس، ووفد عليه أربعمائة من العبيد يطلبون عفوه وأمانه فأمنهم وقابل جنايتهم بالصفح، واستقر بمكناس أياما، ثم بدا له النهوض لفاس، ولما نزل بداره المعروفة خارج المدينة بدار الدبيبغ خرج لاستقباله الأشراف والوجهاء وذوو المناصب العالية فرحين مستبشرين، وتسابقت الفرسان على الصافنات الجياد أمامه إظهارًا لما خامرهم من السرور، وسدت الأسواق.
ثم صارت الوفود تفد على جلالته لتقديم الطاعة وإظهار الخضوع، فأوسعهم برا وحلما، ونقل من دار أبيه لداره المذكورة كل ما له قيمة من ذخائر وأثاث، فكبر ذلك على العبيد، ولم يرضوه وطلبوا منه الرجوع عن ذلك، وأن لا يتمادى على إكمال بناء تلك الدار لتيقنهم أنه إن تم بناؤها وسكن بها اعصوصب عليهم، وخرج من ربقة استبدادهم، فلم يلتفت إليهم، فهددو، بالخروج عليه، فلم يرفع لهم رأسا.
ولما علم بذلك الباشا أحمد الريفى اتخذه فرصة، وكتب لعبيد مكناس قائلا: إن الأمر صار لغيركم ولم يبق لكم أمان على أنفسكم، وإن المترجم لم يبق تحت يده مال، والملك لا يقوم إلا بالمال، فقوموا على ساق في خلعه وتبديد جموعه وأحزابه، ولكم من المال ما تحتاجون إليه، وها صنوه المستضئ بمراكش وقد بايعه أهلها فاتبعوهم، وأعلنوا بنصره، فأجمعوا أمرهم على ذلك وفعلوا، فوجهوا للمستضئ يستقدمونه.
وفى ذى القعدة بلغ المترجم ما صمم عليه العبيد مما أوعز لهم به الريفى، فاشتغل بتأليف القبائل المتمسكة بطاعته وحالفهم على المدافعة عنه ومحاربة أضداده والموت دونه، وإثر ذلك ورد على فاس من مراكش الحاج أحمد السوسى داعية المستضئ ينشر دعوته ويرجف الناس ويعظم شوكته، فأصدر صاحب الترجمة أمره بقتله قصاصًا، فقتل واستصفيت أمواله، واستؤصل ما كان بداره.
وفى أول المحرم عام خمسة وخمسين دخل المستضئ مكناسة في عساكره العبيد، وبأثر ذلك ورد كتاب الريفى المذكور على أهل فاس يدعوهم لبيعة المستضئ، فأجابوه بالرفض وصمموا على نصرة المترجم ومقاومة كل من ناوأه والموت دونه، وتعاهدوا لإصلاح المعاقل والصقائل، وجعلوا لباب محروق أحد أبواب المدينة أبوابا من ساج مغشاة بالحديد.
وفى يوم الثلاثاء رابع عشرى ربيع الأول خيم المستضئ بجند العبيد بظهر الزاوية، وفر المترجم للقبائل للانتصار بهم، ونزل على آيت يدراسن، ولما كان الغد الذى هو يوم الأربعاء وقع قتال شديد بين المستضئ وأهل فاس ومن انضم إليهم من الحياينة وشراقة وأولاد جامع، مات في المعركة من الودايا نحو اثنى عشر رجلا، ومن أهل فاس نحو الستة، ومن العبيد نحو الستين.
وفى يوم الجمعة رابع ربيع الثانى رجع السلطان عبد الله صاحب الترجمة في جيوش جرارة ذات قوة وبأس شديد من البرابر بنى مطير وجروان وآيت يوسى وأيت أدراسن وزمور وآيت ومالو وغيرهم، وجلب بهم على أحزاب صنوه المستضئ، ولما التقى الجمعان علم المستضئ أنه لا قبل له بمقاومة تلك الجنود البربرية المجندة، فنجا هو وأتباعه بأنفسهم بعد عشاء يوم السبت خامس ربيع الثانى، وعصم الله بمحض فضله دماء المسلمين.
وفى العام عم الطاعون بالمغرب وخصوصا بفاس ومكناس ونواحيهما وانحبست الأمطار، وارتفعت الأسعار، وفشا الجوع في القرى والأمصار، وتفرق أهل فاس في البلاد كالقصر ووزان والعرائش وتطاوين وطنجة. قال أبو عبد الله الضعيف: حكى لى من أثق به من أهل القصر أن صبيان أهل فاس كانوا يتكففون بأبواب الدور والأزقة.
وفى جمادى الأخيرة وقعت فتنة بين الحاج عبد الخالق عديل، وأبى عبد الله محمد الغالى الشريف الإدريسي، فرفع عديل الشكاية بالشريف لصاحب الترجمة فأصدر الأمر بإلقاء القبض عليه، ففر واستجار بضريح جده أبى العلاء إدريس الأزهر بن إدريس الأكبر، فضيق عليه إلى أن خرج وضرب ووبخ وسجن وقتل أنصاره لسعيهم في الأرض الفساد.
وفى يوم الخميس سابع عشرى رجب سرح المترجم أبا عبد الله محمد الغالى الشريف الإدريسى، ولما علم بذلك أهل فاس تحزبوا وخرجوا لباب محروق بقصد قتل الشريف المذكور إن رام النزول لفاس القرويين، فأوعز بعض الناس بذلك للإدريسى المذكور فسكن فاسا الجديد.
وفى العام وجه المترجم مع ركب الحاج ثلاثة وعشرين مصحفا كلها محلاة بالذهب مرصعة بنفيس الدر والياقوت، منها المصحف الكبير العقبانى المنسوب لعقبة بن نافع الفهرى الذى كان الملوك يتوارثونه من عهد بنى أمية بالأندلس، ونقل إلى المغرب على يد عبد المؤمن الموحدى، ثم انتقل إلى بنى مرين، ثم وقع بيد الأشراف السعديين، ولم يزل يتداول إلى أن وقع بيد المترجم ووجه معه بألفى حصاة من الياقوت المختلف الألوان العزيز الوجود وسبعمائة حصاة هدية للحجرة النبوية.
وفى العام توالت الأمطار حتى هدم قوس من أقواس قنطرة وادى سبو، واستهلكت السيول كثيراً من الماشية وأقلعت الأشجار.
وفى السنة ثار العبيد على قبيلة سفيان وبنى مالك وأوقعوا بهم شر وقعة، واستحوذوا على كل ما أمكنهم الاستحواذ عليه من مال ومتمول ورجعوا لمحالهم، وبعد أيام قلائل نهضوا لناحية الفحص لمحاربة الباشا المذكور مخيما بجنوده، ولما التقى الجمعان انهزم العبيد بعد أن تركوا إخوانهم صرعى طعمة للعقبان والذئاب، ورجع الريفى لمقره بطنجة.
وفى أوائل المحرم عام ستة وخمسين ومائة وألف، نهض الباشا أحمد الريفى بخمسين ألف مقاتل أو يزيدون لمحاربة المترجم، ونزل على وزان بقصبة ارجن من بلاد مصمودة، وكان الإبان إبان مطر، فحبس به هنالك نحو الشهر، وشرفاء وزان قائمون بكل ما يلزمه من مئونة وعلف دواب وسائر اللوازم.
وفى عشية يوم الثلاثاء ثانى عشرى محرم المذكور نزل الباشا المذكور بجموعه المتكاثفة بالعسال من مزارع فاس من ناحية قنطرة سبو، فنارشه القتال بعض القبائل، ثم ورد عليه جند من العبيد معززين له، وانضم إليه من القبائل الجبلية نحو الخمسة عشر ألف رجل، ثم لحق به متبوعه المستضئ وأتباعه من عبيد الرمل وتازا ومكناس وبنى حسن، وكان الحياينة وشراقة وأولاد جامع جاءوا لتحصين فاس، ونصرة صاحب الترجمة لما علموا بمقدم الريفى ومتبوعه، ونزلوا بحللهم باجنتها وأحدقوا بها من كل جهاتها، وتوجه المترجم في عشرة من أتباعه لآيت أدراسن يستصرخهم ويستنصر بهم ويعرفهم بمقاصد الريفى، فأجابوه لما أراد، ووجهوا لحلفائهم من آيت ومالوا وبنى حكم وزمور وكروان يستنهضونهم ورجع المترجم من حينه لداره دار الدبيبغ.
ثم لحقت القبائل البربرية المذكورة بمحال الريفى والمستضئ، وذلك يوم الخميس ثانى عشرى صفر الخير من العام، ولما أقبلوا عليهم صاحوا وحملوا عليهم وحكموا فيهم سيوفهم وهزموهم شر هزيمة لم يسمع بمثلها، حتى إن عددًا عديداً منهم رموا بنفوسهم في الوادى فغرقوا، واستولت جنود المترجم على جميع ما كان بمخيمهم من مال وعدة وكراع، وقد كان الأمير أبو عبد الله محمد نجل المترجم حاضراً بهذه المعركة، وكان عدد من قتل من جند المستضئ والريفى ثمانمائة، ورجع الريفى لمقره طنجة وقام على ساق في تجديد الاستعداد رجاء الأخذ بالثأر، وأقسم ألا يأكل لحما ولا يشرب لبنا إلا إذا احتل فاسا وجاس خلال خيم أولئك البرابر.
ولما كان أول جمادى الثانية من العام نهض من طنجة ووجهته فاس، ولما اتصل الخبر بصاحب الترجمة طير الإعلام لأنصاره من القبائل البربرية وغيرهم، ثم نهض من فاس في مهل جمادى الأخيرة وخيم بوادى سبو، وهنالك استعرض جنوده وعساكره ورتبها أحسن ترتيب، فجعل رماة أهل فاس مع خاصته وعبيدة، ورماة العبيد مع بوعزة صاحب الشربيل، والودايا وزرارة وأهل سوس مع ولده أبى عبد الله الأمير محمد، وآيت يدراسن وجروان في رماة حاجبه القائد عبد الله اليمورى، وشراقة وأولاد جامع وأولاد عيسى في رماة قائدهم أحمد بن موسى الشركى.
وسار على هذه الحال إلى أن قرب من مخيم المحال الريفية، ولما علم الريفى أن المترجم بات على مقربة من مخيمه ارتحل بجنده وسار إلى أن أقبل على وادى لوكس، ورأى جيوش المترجم بدار العباس على ضفة الوادى المذكور مقبلة فاستقلها ونزل وأمر أتباعه بالنزول، ولما رأى المترجم اشتغال محال الريفى بالنزول
نادى في عساكره لا نزول إلا بغنيمة أو هزيمة، فأجابوه بالسمع والطاعة، وانقضوا على المحال الريفية انقضاض البزاة فولوا الأدبار منهزمين، وتركوا جثتهم وأشلاءهم مبعثرة بالهضاب والسهول من بينهم جثة الزعيم الريفى فقطع رأسه وأتى به للمترجم، وذلك صبيحة يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الثانية من العام، ووجه برأسه لفاس فطيف به بالأسواق، ثم علق بباب محروق، ولم يزل معلقا هنالك إلى أن قدم على المترجم أولاد أبى زيد عبد الرحمن الثعالبى من الجزائر متشفعين للمترجم في إنزاله، فشفعهم وأصدر أوامره المطاعة بإنزاله، ووجه القاضى إذ ذاك عدلين لمشاهدة إنزاله وتسليمه للمتشفعين فيه، فذهبا -أى العدلان- وهما العلامة خطيب المدرسة العنانية من طالعة فاس أبو عبد الله الحارثى الدلائى والعلامة المفتى الشيخ أويس، وكتبت بذلك وثيقة من إنشاء أبى عبد الله محمد بن علال وإليك نصها:
الحمد لله الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، العفو الذى يحب العفو حتى لا يهتك الستر ولا يؤاخذ بالجريمات، الذى من كمال عفوه ورحمته ومنته أن وعد بالجنة التي أعدت للمتقين، للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أحلم رسول أرسله، المأمور بإعطاء من حرمه، وإيصال من قطعه والعفو عمن ظلمه، بقوله في الكتاب المبين {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199] وعلى أصحابه وأنصاره وأحزابه وآله البالغين الغاية في اتباعه، واقتفاء اتباع أتباعه ..
وبعد: فعن الأمر المطاع، الذى يجب له الانقياد والاتباع، والإذن الشريف العلوى، السلطانى المولوى، أمر مولانا أمير المؤمنين، المحفوف من الله تعالى بالنصر والتمكين، فخر الملوك والأشراف، وظل الله على الأقوياء والضعاف، خليفة الله في أرضه، وأمين الله على جنده بطوله وعرضه، المعتمد في أموره على
مولاه الذى ولاه، أبو محمد مولانا عبد الله، أيد الله أوامره، وظفر بمنه جنوده وعساكره، عاين شهيداه ظهيره الأسمى، وطابعه الشريف الأنمى، بيد حملته السيد فلان، والسيد فلان، بقبول شفاعتهما في رأس أحمد الريفى المخالف أمر السلطان وصحبته كتاب لخليفته الأسعد، وركن إيالته الأرشد، خديم المقام المولوى، وشيخ الركب النبوى، القائم بأمر مولانا المنصور، المضاعف له في الثواب والأجور، في سعيه الصالح، ومتجره الرابح، التاجر الجليل، الحاج عبد الخالق عديل، المتضمن عفو مولانا نصره الله وأيد أمره وخلد في صفحات الدهر مآثره الشريفة، وأوامره عن رأس خديم إيالته الشريفة، وعتباته المنيفة، الباشا أحمد بن على بن عبد الله الريفى، من إنزاله من شرفات باب الشريعة من فاس، أمنها الله من كل باس، ودفعه لحملة الظهير الشريف، العالى القدر المنيف.
ففعل العامل المذكور ما أمر به امتثالا للأمر الشريف السعيد، المحفوف من الله تعالى بالنصر والتأييد، والعز المديد، ودفع لمن ذكر بمحضر شهيديه ومعاينتهما لما سطر، فمن عاين ذلك كما قرر، وشهد على من ذكر كما حرر، وهم عارفون قدره وعرفهم في يوم السبت السابع عشر من شوال عام ستة وخمسين ومائة وألف، والله تعالى يحسن عاقبة الجميع في يوم البعث والنشور هـ-.
هذا ولما مات الريفى ومزقت أشلاء أحزابه كل ممزق استولى المترجم على البقية الباقية من معسكره، ثم قدم عليه أهل تلك الجبال والخلط وطليق وغيرهم لتقديم الطاعة وطلب العفو والأمان، فعفا عفو قادر، وبعد ذلك توجه لطنجة وألقى القبض على خاصة الريفى وعماله، واستصفى أموالهم، ووجه القائد عبد الخالق عديل وجماعة من أهل فاس لحيازة ما بدار أحمد الريفى المذكور، وأمر أهل الريف بالإتيان بما له عندهم من ماشية وغيرها، ولما جمع ذلك وأحصى فرقه فيمن كان معه من البرابر، وكان نحو الأربعة آلاف وأقام المترجم بجنوده بطنجة أربعين يوماً.
أما المستضئ فإنه لما علم بموت عضده الأيمن وساعده المساعد أحمد الريفى، أغرى من معه من العبيد وبنى حسن على الأخذ بثأر إخوانهم واستئناف قتال صنوه المترجم، وقطع خط الرجعة بينه وبين فاس، فأجابوه لذلك.
وأطلق عيونه لترقب حركات المترجم وسكناته وإعلامه بظعنه ومقامه، فكانت تأتيه بتفاصيل ذلك، ولما بلغه أن صاحب الترجمة خيم بدار العباس التي كانت بها تلك المعركة التي قضت على جموعه بالدمار والخذلان، ركب في أتباعه من العبيد وبنى حسن، وصبح المترجم على حين غفلة، ولما التقى الجمعان ولى المستضئ وجنوده الأدبار. وانكسروا أى انكسار، مات من خصوص بنى حسن ما يزيد على الألف، وسلب لهم من عتاق الخيل والسلاح ما يزيد على الخمسة آلاف، ومات من العبيد نحو الخمسين.
وبعد الهزيمة فر القائد حسن فنيش هاربا، وهو أخو الباشا عبد الحق فنيش عامل سلا، فلقى في ذهابه أحد قواد عبيد الرمل كان مصاحبا له وقد مات له فرسه في المعركة، فطلب من القائد الحسن أن يردفه فأردفه لسابفية الصحبة، ثم غدر العبد به وأكبه على رأسه وشد وثاقه وأقسم له يمينا بالله إن لم يسر أمامه حتى يقتله، فسار به إلى أن أوصله لصاحب الترجمة ولما مثل بين يدى المترجم، قال له: أنت يا فنيش من علوج أبى إسماعيل ووالدك كذلك، فلم تركت خدمتى وأخذتك الغيرة على الحمار ابن الحمار؟ فقال له فنيش: أعتقنى وأنا أعطيك عشرين قنطارًا فقلع المترجم عشبة من الأرض، وقال له: هذه العشبة عندى أفضل من مالك، وأنشد متمثلا بقول القائل:
إن الأسود أسود الغيل همتها يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
وضربه بمزراقه فقتله، وذلك بوادى الدزاز من وزان.
ثم نهض المترجم وسار إلى أن حل بفاس مؤيدًا منصورًا، فكسا وفرق الجوائز، وعمم الصلات بدار الدبيبغ إلى ربيع الثانى من عام سبعة وخمسين، فقدم عليه رءوس العبيد وقوادهم ببيعتهم له وإعلامهم بخلع المستضئ، خاضعين معتذرين طالبين عفوه وصفحه عما اقترفوه.
فعفا وصفح على عادته ووصلهم، وأمرهم بالتهيُّؤ لقتال بغاة بنى حسن ومن في حلفهم من شيعة المستضئ كدكالة أخواله وأهل مراكش المتمسكين بطاعته سعيا وراء جمع الكلمة وإطفاء نيران الفتن التي حصت كل شئ، فأجابوه بالامتثال والسمع، وأمرهم باللحوق به لدار ملك أبيه مكناسة الزيتون، وأصدر أوامره للحياينة وشراقة وأولاد جامع وأهل فاس والغرب بالإتيان إليه بحركتهم لأجل ما ذكر.
ثم نهض لمكناس وبها اجتمعت عليه تلك القبائل، ووفدت إليه الوفود ببيعاتها وبعد تجديد البيعة العامة له وهى البيعة الخامسة، كتب الكتائب وجند الجنود، ورتب الجيوش، ونظم المقاتلة، ونهض قاصدًا بنى حسن على طريق الفج ليحول بينهم وبين الشعاب التي يتحصنون بها.
قيل: كان نهوضه في ذى القعدة الحرام من العام، وسار إلى أن وافاهم ببسيط زبيدة، ففروا أمامه للغابة، وخلفوا حللهم وأموالهم غنيدة باردة، وما كان مساء اليوم حتى جاءوا تائبين منيبين، فعفا عنهم ورد عليهم مالهم وارتحل عنهم.
وسار إلى أن نزل بداره من القصبة الكائنة بأبى لعوان بين الشاوية ودكالة، وخيمت عساكره أمامه ببسيط دكالة، وقد كان أهلها فروا مع المستضئ للحور، فأقام المترجم بدكالة سنة كاملة بعساكره، أتى فيها على ما لتلك القبيلة من زرع وضرع، وقطعت أشجارها وهدت قراها ومداشرها وصيرها بلاقع كأن لم تغن بالأمس.
ثم انتقل لبلاد السراغنة، وما استقر به الثوى بتلك البلاد حتى وفد عليه أهلها طائعين وفى عفوه راغبين، وانضموا لجيوشه، ثم وثب البعض من السراغنة على ستة من صعاليك العبيد وقتلوهم لارتكاب عار وذعر.
ولما اتصل الخبر بصاحب الترجمة أسرع للانتقام من غير فحص عن السبب، فقتل منهم عددا كبيرا، ونهض من بلادهم مغاضبا، ثم وفد عليه دمنات وما والاها من سهل وجبل طائعين مذعنين، ثم انتقل لبلاد زمران وأعلام النصر خافقة، ولما حل بها قدم عليه الرحامنة وأهل سوس والدير وقدموا لجلالته الطاعة وانضموا بمحالهم لمحلته.
ثم تقدمت تلك الجنود الجرارة لبلاد مسفيوة، حيث كان المستضئ وأحزابه، وشبت نيران القتال بين جيوش المترجم وأهل مسفيوة ومن انضم إليهم إلى أن فشلوا، وفلت جموعهم وضعفت البقية الباقية عن المقاومة، فأتوا للمترجم بنسائهم وصبيانهم حاملين الألواح والمصاحف يستجيرون، ولما مثلوا ببن يديه طلبوا من جلالته المقابلة بما جبل عليه من الحلم والإغضاء، فأمرهم بالإتيان بالمستضئ، فأخبروه بأنه قد فرّ لمراكش، فعفا وسامح، ثم ورد عليه أهل دكالة بنسائهم وصبيانهم كمن قبلهم، فقابلهم بالصفح وأمرهم بالرجوع لبلادهم، وألقى عصاه واستقر به الثوى إلى أن وفد عليه أهل الدير ببيعتهم وهداياهم، وطلب الرحامنة وأهل سوس من جلالته المسير معهم لمراكش فأسعف رغبتهم.
أما المستضئ فإنه لما فر من مسفيوة لمراكش صده عنها أهلها، ولم يزل يتردد بين القبائل ولا يقابل بغير الطرد إلى أن بلغ الفحص وأقام بحور طنجة كما مر.
وبينما يقدم رجلا ويؤخر أخرى في التوجه لمراكش، إذ ورد عليه أعيانها وشرفاؤها ببيعتهم، وقدموا لحضرته طاعتهم وأبدوا أعذارا عما تورطوا فيه من شق عصا الطاعة، وطلبوا من جلالته القدوم لبلادهم، وقد كان جل تلك الجيوش سئم
الحرب وكل ومل من الغربة وفراق أوطانهم نحو العامين، فصاروا يتسللون حتى لم يبق بالمحال إلا نحو النصف من الجيش ورؤساء القبائل، فرأى المترجم أن الرأى هو أن يرجع لعاصمة ملكه ودافع الراغبين في التوجه لمراكش بالتى هى أحسن، وعين ولده الأمير أبا عبد الله خليفة بها، ووجه به إليها في معية وفدهم وذلك عام ثمان وخمسين ومائة وألف.
ثم ولى وجهه نحو العاصمة، وكان مروره على تادلا وأقام بها أياما، ثم سار إلى أن بلغ لرباط الفتح، واستخلف به ولده أبا العباس أحمد، ثم سار إلى أن خيم بقصبة وادى أبى فكران وذلك في خامس عشرى ربيع الثانى عام تسعة وخمسين ومائة وألف على ما في الترجمان المعرب وغيره، والذى في تاريخ الضعيف أن المترجم دخل مكناسة الزيتون أوائل ربيع الأول والله أعلم.
وفى مهل جمادى الأولى خرج من الحضرة الفاسية وجهاء البلد من العلماء وذوى المناصب لتهنئته بسلامة القدوم وتقديم ما يجب لجلالته، فسر بمقدمهم وقابلهم بكل تجلة وإكبار، ووصلهم وأكرم وفادتهم، ثم ودعهم وأمرهم بالأوبة لوطنهم، ووجه معهم الرماة الذين كانوا معه.
ووفد على حضرته أيضا قائد طنجة ووجهاؤها وأولاد الباشا أحمد المذكور ونساؤه بهدية سنية وتحف نفيسة، وكان عدد الوافدين يتجاوز المائة، ولما مثلوا بين يديه قال لهم: إنه قد بلغنى أنكم استخرجتم مالا كثيرا كان أخفاه الباشا أحمد عند خروجه ثانى مرة لمبارزتى واقتسمتموه فيما بينكم، وأمرهم بشرح الواقع فأجابه سبعة منهم بالإقرار، والباقى بصريح الإنكار، فأمر بزت الجميع بالسجن، وبعد ثلاث سرح السبعة المقرين، وهم: العاقل، وأولاد الباشا، وبنو عمهم وأمر بقتل المنكرين فقتلوا جميعا، وفى ذلك اليوم نفسه قتل من بنى حسن وغيرهم نحو ثلاثمائة نسمة.
ثم وجه نفرا من حاشيته لطنجة للإتيان بمال الريفى المذكور، فقام في وجوههم أهل طنجة وصدوهم وشتموهم أقبح شتم، بل هموا بالإيقاع بهم لولا أنهم نجوا بأنفسهم، ولما رجعوا للمترجم وأخبروه الخبر ثار غضبه، وأمر بقتل من كان أبقى عليه من أهل طنجة المذكورين.
وبعد ما نفذ الأمر فيهم أخبر صاحب الترجمة أن المال الذى كان قد أخرج من طنجة وأمنه عند عديل بفاس صرف منه في مصالح نفسه عدداً لا يستهان به، فأصدر أوامره بالإتيان بذلك المال، ولما أحضر أمر بوزنه فأخبر من باشر الوزن بأنه يخص من العدد المؤمن اثنان وثلاثون ألف قنطار عدة قديمة، فألزم عديل بأداء العدة فعجز، وضمنه بعض الرؤساء ووتع عليه الإشهاد بالأداء حلولا، وأمر بإعطاء عشرة آلاف مثقال صلة للودايا، سكان فاس الجديد، فكان من أقوى موجبات وغر صدر أهل فاس على صاحب الترجمة، حيث خص الودايا بالعطية دونهم، والحال أنهم -أى الودايا- أول من شق العصا عليه، وهم -أى أهل فاس- أول من تمسك بطاعته وآخر من قاتل دونه.
ومما زاد الطين بلة وطنبور الفتن نغمة أمره للمسخرين من جيشه بكل زرع ما حرثه آيت يدراسن أنصاره بأحواز العاصمة المكناسية انتقاما منهم لتأخرهم عن الإتيان لحضرته للتهنئة بسلامة القدوم، وبعد ذلك كتب الرئيس القبيل المذكور محمد وعزيز يلومه عن التأخر، وقد كانت بينه وبينه صداقة، ومصافاة تامة، حتى كان صاحب الترجمة لا يخاطبه إلا بياأبت، وكل ما يرومه يمضيه بدون أدنى توقف.
ولما وصل الكتاب السلطانى لوعزيز جمع إخوانه وأمرهم بجمع هدية والإتيان إليه بها ليتوجه بها مع وجوههم للحضرة السلطانية، فأظهروا الامتناع وتعللوا بالخوف على أنفسهم إن هم ذهبوا لعدم توقفه في سفك دماء الواردين
عليه، فتكفل لهم بأنهم لا يرون منه إلا ما يسرهم، وأنهم ليسوا كغيرهم بناء على ما يعتقده من كامل الصداقة، وأنه يستحيل لديه أن تخفر له ذمة عند الأمير المترجم، فأجابوه لما اقترح، وعينوا مائة من صدورهم للتوجه مع رئيسهم المذكور، وساروا بهديتهم إلى أن وصلوا لمخيم السلطان بقصبة أبى فكران، واستقبلوا حاجبه عبد الوهاب اليمورى.
فأخبر السلطان بمقدمهم فأمر بإدخالهم لبساطه مجردين من السلاح، ولما مثلوا بين يديه أحدق بهم لفيفا من الحرس ثم قال لمحمد وعزيز هؤلاء حادوا عن الطريق المثلى، وعاثوا في الطرقات وروعوا المسلمين بالسلب والنهب، وأخذوا أموال التجار غصبا ولم يتركوا ضعيفا ولا يتيما ولا مسكينا إلا وآذوه في ماله وبدنه، فإذن مالهم ودمهم حلال.
وأمر الحرس بإلقاء القبض على جميعهم غير وعزيز فانقض الحرس عليهم وأوثقوهم بالحبال وساروا بهم إلى بطون السجون، فقال له وعزيز: أغدراً بعد عهدٍ! فقد جاءوا في أمان.
فأجابه المترجم بقوله: هؤلاء حاربوا الله ورسوله، وسعوا في الأرض الفساد، وقد خير الله فيهم الإمام، فقم أنت في حفظ الله لأنك بمنزلة والدى لا تخاف دركا ولا تخشى، فقال له: لا أقوم إلا مع إخوانى، فإن ماتوا مت، وإن عاشوا عشت، وكيف يسمع عنى أنى قدمتهم للذبح ورجعت! فأى أرض تقلنى وأى سماء تظلنى؟ لابد أن يقتلنى إخوانهم وأخلف بعدى سبة لا تنفى مدى الأبد، وقد تنبئوا بهذا لما أمرتهم بالقدوم معى لحضرتك، فقالوا: إن ذهبنا إليه سلك بنا مسلك من قبلنا من الوافدين عليه، فنفيت لهم ذلك، وأعطيتهم العهود والمواثيق على أنهم لا يقابلون من جلالتك إلا بالجميل ووافر الإحسان.
فأطرق مليا ثم رفع رأسه وقال لحاجبه المذكور: يا عبد الوهاب لا خير في رجل يقول لرجل: يا أبت، ثم لا يشفعه في قبيلته، وأمر بتسريحهم فسرحوا، ولما خرجوا ركبوا خيولهم وتوجهوا لحللهم مع رئيسهم وعزيز.
ولما اجتمعوا بإخوانهم قالوا لهم: لقد أحيانا الله حياة جديدة بعد أن متنا فلا بُدَّ لنا من الأخذ بثأرنا مادام فينا عرق ينبض، وأجمعوا أمرهم على الخروج على المترجم والهجوم عليه بعد ثلاث، ومن تخلف منا عاديناه، وبأنواع الأذى والإهانة سمناه، فلم يشعر المترجم إلا وخيولهم مطلة عليه من ناحية الحاجب، فتيقن أن ذلك أمر دبر بليل، ولم يسعه غير حمل عياله وجواريه وإحاطتهم بالخيل والرماة، ثم ركب هو في من بقى معه من الجند وانحدر خلفهم مع بطن الوادى وتفرق العبيد يمين الوادى ويساره، وتركوا كل ما كان بالمحلة من أمتعة وأخبية وعدة ومقومات غنيمة باردة، وشب القتال بين البربر والمحال السلطانية وحمى الوطيس ودام ذلك إلى أن دخل المترجم على باب القزدير أحد أبواب العاصمة المكناسية، فرجع البربر وقد مات منهم خمسمائة مقاتل، ومن العبيد ثلاثمائة وذلك يوم الخميس سابع شعبان العام.
ثم اتفقت كلمة العرب على الخروج على المترجم، ووافقهم على ذلك شيخ العرب محمد الحبيب المالكى الحمادى، وقد كان صاحب الترجمة ولاه على إخوانه سفيان وبنى مالك والخلط وطليق وغيرهم من عرب تلك الناحية، ثم بعثوا إلى أهل فاس يحثونهم على متابعتهم في رفض بيعة المترجم فأجابوهم لذلك، ثم اجتمع رأى العبيد على الانضمام لهؤلاء وكتبوا لإخوانهم يغرونهم على الانخراط في سلكهم والموافقة معهم على ما أبرموا، وحققوا لهم غدر المترجم ووثوبه عليهم إن لم يربئوا بأنفسهم ويغتنموا الفرصة قبل الظفر بهم، ولما اتصل كتاب العبيد
بإخوانهم وتمعنوه تواعدوا على الرحيل لمكناسة بعد ثلاث إجابة لإخوانهم، وفرارا مما لحقهم من إهانة بنى حسن وإضرارهم بهم غاية الإضرار.
فأخبر السلطان بذلك بعض عيونه، وعندما تيقن صدق الخبر طير الإعلام لأخواله الودايا الذين بفاس يحضهم على القدوم عليه من يومهم قبل بلوغ السيل الزبى، واتساع الخرق على المرتق، واشتغل بجمع ماله وأثاثه وحمل ما عز عليه وأسراج خيله مظهرا أنه يريد الرجوع لقصبة أبى فكران حيث كان مخيمه، ولما كان وقت العشاء ورد عليه من خيل أخواله الودايا أربعمائة، فخرج من باب القزدير بجميع ماله وعياله ولم يترك بدار الملك غير النزر مما لا يؤبه به، وسار في معيتهم إلى أن بلغ دار ادبيبغ.
وفى ثالث عشر شعبان اجتمع البربر مع بنى مالك بفاس لقتال الودايا، فتحصنوا بالمدينة البيضاء فاس الجديد، ثم عاث البرابر في الطرقات ونهبوا دار ادبيبغ، وقلعوا أبوابها وحرقوا الأخصاص التي كانت محدقة بها، وجعلوا يغيرون على سرح الودايا ويناوشونهم القتال، ومات من الفريقين عدد عديد، وشبت نيران الفتن وقطع الودايا الماء على فاس القرويين.
وفى يوم الجمعة الخامس عشر من شعبان المذكور وقع التوافق على أن لا يذكر اسم المترجم في الخطب، واشتبكت الفتن وارتبكت وكثر الهرج والمرج، وامتد ذلك نحوم من سبعة وعشرين شهرا.
وفى أوائل رمضان أخلى العبيد مشرع الرمل، وبقيت بيوتهم خاوية بما ظلموا، ولما لحقوا بإخوانهم لمكناسة، نزلوا بالقصبة والمدينة، والأروى وقصبتى بريمة وهدراش، وبعضهم اتخذ الأخصاص والعرائش بضواحى المدينة والرحاب المتسعة وثووا هنالك في البلاد، وخرب بنو حسن ما خلف العبيد بمشرع الرمل من الدور والقصور التي كانوا يتنافسون في تشييدها.
ولما وافى عيد الفطر وجه العبيد الذين بمكناسة جماعة من، قوادهم في معية قاضى البلد أبى القاسم العميرى ووجوه الأشراف لحضور العيد مع المترجم والاعتذار عما صدر منهم، وطلب رجوع جنابه إلى عاصمة الملك مكناس.
ولما وصلوا لحضرته ومثلوا بين يديه قابلهم بالعفو والإغضاء، ووصلهم وكساهم ووعدهم بتوجهه للعاصمة المذكورة، فانقلبوا إلى مقارهم فرحين مبتهجين، ولما كانوا في أثناء طريقهم لمكناس اعترضهم البرابر بوادى الجديدة وسلبوهم حتى مما يستر عوراتهم، ولم يفلتوا منهم غير القاضى المذكور أبقوا عليه ثيابه وبغلته.
ثم صارت البرابر تغير على الذين نزلوا بضواحى مكناس وتنهب أموالهم وأولادهم حتى ضاق بهم المتسع، وتفرقوا في البلاد، ولم يبق منهم إلا القواد وشرذمة من أهل الحرف والصنائع، ومات منهم بالزلزال الذى وقع بمكناس خمسة آلاف.
وفى فاتح جمادى الأولى عام ستين قدم قبائل البربر وقبائل العرب لإعانة أهل فاس على محاربة المترجم فنزل القائد الحبيب بإيالته الغرب والخلط، وطليق بدار الأضياف، ونزل محمد واعزيز بأتباعه البرابر بجبل أطغات، وانحجر الودايا بفاس الجديد، والعبيد بقصبة شراقة، وأحاطوا بالمترجم بداره دار الدبيبغ إحاطة السوار بالمعصم.
ولما كان الغد ركب العبيد والعرب وقصدوا دار الدبيبغ والبربر على آثارهم، فلما بلغوا حريم الدار المذكورة اتصل بهم أن البربر غدروا ونهبوا محلتهم فارتاعوا ورجعوا القهقرى منهزمين لا يلوى بعضهم على بعض، وتفرقت تلك الجموع الباغية، وكفى الله المؤمنين القتال، قيل: إن المترجم أغرى واعزيز بمال وجهه إليه ليلا على تفريق تلك الأحزاب ففعل، وسقط في يد أهل فاس وبقوا يتجرعون الغصص في ضيق وعناء يستغيثون فلا يغاثون.
وفى انقلاب عرب الغرب من انكسارهم هذا لبلادهم مروا بحلة بنى حسن فانتهبوها، فقدم بنو حسن على السلطان شاكين إليه بما فعله بهم عرب الغرب فحركوا منه ما كان كامنا بصدره عليهم، وجيش إليهم جيشا كثيفا من العبيد والودايا للإيقاع بهم أخذا لثأر بنى حسن منهم، ولما شعروا بنهوض الجيوش التي لا قبل لهم بها للاقتصاص منهم انجلوا عن البلاد وتوجهوا للعرائش وتحصنوا بأسوارها، فاقتفت أثرهم تلك الجيوش وأحدقت بهم وشددت الحصار عليهم ثلاثة أشهر، هلك فيها لهم الزرع والضرع ثم رق لهم المترجم ووجه لهم شرذمة من الودايا بأمانه ومصحفه وسبحته، وأفرج الجيش عنهم، وقدموا مع الودايا على المترجم بهداياهم تائبين، ولفضله شاكرين، فولى عليهم كبيرهم الحبيب المالكى، وأضاف إليه قبائل الجبل كلها.
وفى شوال عام واحد وستين ومائة وألف، استأنف أهل فاس الرضوخ لطاعة المترجم وتجديد البيعة له، وذلك بواسطة بعض بنى عمه من أهل سجلماسة، والعلامة أبى الإجلال عبد الكبير السرغينى، فأنهضوا وفدا من الأشراف والعلماء وذوى الجاه والوجاهة في طليعتهم الفقيه المذكور ومعهم هدية قيمة للعاصمة المكناسية إظهاراً للخضوع، وطلبا في العفو والصفح، ولما مثلوا بين يدى المترجم سب وجدع ثم سامح وأحلم وردهم لبلدهم رداً جميلاً، ثم انعقد الصلح بين أهل فاس والودايا، وفتحت أبواب المدينة بعد الحصار سنتين وثلاثة أشهر، وكان ذلك في ذى القعدة من السنة.
وفى هذه الأعوام انتشر الوباء الجارف في هذه السنين سائر البلاد المغربية وتفاحش الغلاء.
وفى ثامن عشر جمادى الأولى، وقيل الثانية من العام، نهض المترجم من فاس لمكناسة، لكسر شوكة متمردة البربر وخيم بقصبة أبى فكران ينتظر ورود
القبائل التي كانت تظهر له الطاعة، إذ قد كان استنهضهم لذلك، ولما طال انتظاره وتبين تقاعسهم عن اللحوق به، رجع للعاصمة المكناسية بمن كان معه مصابا بألم إحدى عينيه.
ولما سمع البربر برجوعه لمكناس طمعوا فيه، وأجمعوا على غزوه، وزاد طنبورهم نغمة وطينهم بلة، ما وقع من الصلح بين الودايا وأهل فاس وذلك يوم الاثنين الثالث عشر من شوال، وخضوع الكل لصاحب الترجمة، فلم يألوا جهدا في تفريق الكلمة واستشاروا في التدابير الموصلة لهم لذلك زعيمهم واعزيز لما يعلمون في قلبه من المرض، فأشار عليهم بأنه لا يتم لهم معه أمر ماداموا لم يقطعوا خط الرجعة بسايس، ويحال بينه -أى المترجم- وبين الموالين له من الودايا والعبيد وأهل فاس، فاستصوبوا رأيه ونزلوا بحللهم في تلك البسائط، وأطلقوا يد السلب والنهب، وأغاروا على سرح الودايا أفسدوا وزروعهم وبحائرهم، وجعلوا يختطفون أطفال العبيد النازلين بضواحى مكناس ويغيرون على سرحهم كلما أمكنتهم فرصة.
وفى أول رجب من السنة ورد الخبر بإلقاء أهل الريف القبض على المستضئ مار الترجمة، واستيلائهم على كل ما كان له من مال ومتمول لإلقائه القبض على القائد عبد الكريم بن على الريفى صنو أحمد المذكور، وسمله عينه.
وفى شعبان أوقد الودايا النار بأجواف باب محروق ليلا، فشعر بذلك الحرس وطردوهم عن الباب، ومن الغد ركبوا له أبوابا جددا.
وفى ثالث عشرى شوال أوفد أهل فاس على المترجم بمكناس القائد الحسن ابن صالح الليرنى، والفائد قاسم بن الأشهب، والقائد الحاج محمد الصفار، وقاضى البلد وغيرهم من الأشراف والعلماء، وكان ذهابهم على طريق زرهون خوفا من عيث عتاة البرابر، ولما وصلوا لحضرته ومثلوا بين يديه شرحوا أعذارهم
في التظاهر بالقيام عليه، وأقاموا الحجج والبراهين على أن ذلك لم يكن عن اختيار منهم، فقبل المعذرة شأن الكرام، وقال: لا تثريب عليكم، وإنى عاهدت الله أن لا أفعل بأهل تلك المدينة -يعنى فاسا- إلا الخير وكتب بهذا كتابا لأهل فاس.
وفى متم الشهر آب الوفد الفاسى لوطنه فرحا مسرورًا، وقرئ الكتاب السلطانى المشار له على منبر القرويين، وبه وقع الإعلان باستئناف بيعته، وانبرم الصلح بينهم وبين الودايا، وتبادلوا الطعام بالمدينة البيضاء وفاس القديمة، وزينت المدينة إظهارًا للارتياح، وإشهارا لما أقاموه من حفلات الأفراح.
وفى ثالث عشرى قعدة قدم ركب الحجيج الذى كان محصورا بتازا لانقطاع السابلة وتوقد نيران الفتن بها.
وفى يوم السبت تاسع ذى الحجة خرج من فاس وفد من أعيانها لتهنئة جلالة المترجم بغرة عيد الأضحى والمشاركة في أفراحه ومشاهدة فاخر حفلاته، من جملة أعيان ذلك الوفد: القائد قاسم بن الأشهب، والقائد ابن صالح الليرينى، والحاج محمد الصفار، والقاضى أبو محمد عبد القادر بوخريص، وناظر الأحباس التاودى بن أحمد المشاط، فقابلهم بغاية الإجلال وغمرهم بنعمه الضافية، وردهم بعد يومين ردا جميلا.
ثم إن البربر لما علموا بانبرام الصلح بين أهل فاس والمترجم والواديا والعبيد سقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد ضلوا وصاروا يضربون أخماسا في أسداس، ويبذلون جهدهم وطاقتهم في اتخاذ الحيل في تفريق الكلمة، ولا سيما لما ثبت لديهم أن العبيد صمموا على الحركة لغزوهم، وأخذوا يغرون القبائل على نصرتهم على ذلك ومعاضدتهم، فلم ير البربر حيلة أنفع لهم من المسارعة لشن الغارات والتضييق على العبيد من كل جهة وقطع الميرة عنهم، ومديد السلب والنهب في
السبل عمومًا والعبيد خصوصا، حتى ضاق بهم المتع فلم ينفعهم إلا الجنوح للسلم ومصالحة البربر، وبعد اتخاذ الوسائط لذلك صرح لهم البربر بأن السلطان هو الآمر لهم بذلك، فلم يرتب العبيد في صدق مقال البربر لما سلف من المترجم مع واعزيز عند تخلفهم عنه حين أمرهم بغزو البربر، وصاروا يدبرون في كيفية يتوصلون بها لإلقاء القبض على صاحب الترجمة والفتك به، فأوعز إليه بذلك بعض عيونه، فنجا بنفسه لدار الدبيبغ وذلك في صفر سنة اثنتين وستين.
ثم اتصل الخبر بنجله خليفته بمراكش أبى عبد الله محمد مار الترجمة فكتب للعبيد يعلمهم بصيرورته على بال، مما أضمروا لوالده، ويعدد عليهم إحسانه إليهم ويوعدهم إن لم يرجعوا عما سولت لهم أنفسهم الأمارة، فأجابوه بتنفيذ ذلك الخبر، وأنه لم يكن خطر لهم قط ببال، ورجعوا إلى أنفسهم، وقالوا: إن هذا الخليفة -يعنون محمد بن عبد الله- ذو قوة وبأس شديد، وهو أمامنا، ووالده وراءنا، والبرابر محدقة بنا، فكيف الخلاص؟ فاتفق رأيهم على أن يعيدوا البيعة لصنو المترجم أبى عبد الله ابن عريبة المترجم سابقا فأبى وامتنع، ثم بعثوا لصنوه أبى الحسن على آتى الترجمة وكان يومئذ بسجلماسة مهد ملك سلفه فقابل طلبهم بالرفض، ولما كانت نتيجة سعيهم فيما راموه الخيبة عقدوا صلحا مع البرابر على المبايعة لنجل المترجم أبى عبد الله المذكور، وأقاموا لهم حججا على أنه لا يصلح للملك وتدبير أمور الرعية غيره فأجابوهم لذلك.
وفى أوائل ربيع الأول أعلن العبيد والبرابر بنصر أبى عبد الله المذكور بمكناس وزرهون وخطبوا به على المنابر، وأشاعوا ذلك في البوادى والحواضر، ثم جهزوا فئة من أعيانهم وأوفدوها إليه لمراكش لإعلامه بجمع الكلمة على المبايعة له وطلب تعجيل قدومه عليهم، ولما بلغوا إليه وأبلغوه ما جاءوا لأجله قبح فعلهم وعنفهم ثم وصلهم، وقال لهم: ارجعوا عن غيكم فإن بيعة والدى في عنقى وأعناقكم لا يحل خلعها بحال، وألزمهم الرجوع للطاعة والتزم لهم بأن لا
يلحقهم أدنى سوء من والده، وأنه يسعى في إصلاح ذات البين بينهم وبينه، فرجعوا آيسين من بلوغ مقصدهم، ولم يرجعوا عن غيهم بل تجادوا على الدعاية لسيدى محمد والخطبة به، والمترجم مستعير لذلك كله آذانا صما وعيونا عميا، وولده الخليفة المذكور يرجف فؤاده من ذلك خوفا من أن يظن به والده أنه راض بفعل أولئك الأوغاد الجفاة، وصار يتابع الهدايا ذات البال لوالده استجلابا لمرضاته، وإظهارا لطاعته، ولما تيقن صاحب الترجمة كراهية نجله المذكور لسوء فعل العبيد ورفضه لمطلبهم، رام استجلاب القلوب الشاردة عنه، فصار يفكر في ما يوصله لذلك.
ولما كان يوم الخميس تاسع عشرى شعبان العام أمر بإعلان النداء بسوق الخميس وغيره من أسواق فاس، بأن كل من أتى إليه من العبيد لدار ادبيبغ يعطى خمسمائة مثقال، ومن تخلف فلا يلوم إلا نفسه، فتساقطوا على أعتابه زرافات ووحدانا ووفاهم بما وعد به، وأمرهم بالكتب لإخوانهم الذين بمكناس وغيرها من البلاد بالإتيان لحضرته، وأن كل من أتى يقبض القدر المذكور تأليفا لهم وكفا لأذاهم، فلم يزدهم ذلك إلا نفورا وتمردا وطغيانا، شأن النفوس الخبيثة، ولم يقتصروا في ذلك على أنفسهم، بل أغروا البرابر النازلين بسايس على قتل كل من وجدوه من إخوانهم ذاهبا لفاس، لأنه يعد ناكثا للعهد الذى تعاهدوا عليه، وخارقا لإجماع جموعهم الفاسدة.
فأجمع البرابر أمرهم وشركاءهم ودرسوا الحالة هم عليها وحالة العبيد معهم قديما وحديثا، وما جنوه من ثمار ما زرعوه من الفتن، فتمحض لديهم أن العبيد إنما يسعون وراء ما رأوه مصلحة شخصية لهم، ولو أدى الحال إلى تضحية من سواهم، وأن أكد مصالحهم هلاك البربر.
واتفق رأيهم على الرجوع لطاعة المترجم وعضدهم في رأيهم الأسد رئيسهم محمد واعزيز، ثم كتبوا للمترجم يطلبون عفوه وأمانه فأجابهم بقبول إنابتهم وعدم
مؤاخذتهم طبق ما عرف في غالب أحواله، وبأثر ذلك وفد محمد واعزيز مع إخوته، فكرم وفادتهم ووصلهم بعشرة آلاف مثقال، فسروا وابتهجوا ورجعوا لمحالهم شاكرين.
وفى آخر رمضان رجعوا لحضور الحفلات العيدية ومشاهدة الطلعة الإمامية، فوصلهم بمثل ما ذكر كما وصل الودايا، وأعطى لأهل فاس خيلا مسومة وجواهر نفيسة وأوانى من الزجاج، وكساهم بفاخر الثياب، قال في الدر المنتخب: تزيد قيمة ما ذكر على عشرة آلاف مثقال بتقويم ذوى العرفان، ولم يحرم من نواله المدرار غير العبيد الذين جبلوا على كفران النعم.
وفى هذه السنة جمع رأس عتاة العبيد، وشيطانهم المريد، المسمى زعبول إخوانه الذين بمكناس ونواحيه ونهض بهم لسفيان وبنى مالك، ولما رأى المذكورون ما لا قبل لهم به، فروا إلى العرائش، فاحتوى الزعيم وإخوته على ما خلفه سفيان وبنو مالك من ماشية وغيرها، وفى منقلبهم دخلوا القصر على حين غفلة من أهله، وارتكبوا كل شنيع على عادة الأوغاد السفل، وكان الوقت وقت اشتداد البرد وتهاطل الأمطار فعظم الخطب واشتد المصاب.
وفى السنة أيضا قتل المولى الحسن صنو المترجم أولاد أخيه المولى يوسف، وتسبب في خراب دار ابن أخيه مولاى الشريف بن زين العابدين إرضاء لأهل تافيلالت أعدائهم، فدخلوا الدار عنوة وقتلوا أهلها صبرا ظلما وعدوانا.
وفيها أيضا هجمت شرذمة من دخيسة وذوى منيع وعرب الصباح وآيت عطا، على تافلالت، فنهبوا الأموال وسبوا النساء والأطفال، وقتلوا عددًا عديدا من أهلها، وسلبوا تجار أهل فاس القاطنين هنالك من أموالهم، وذلك من نتائج ما فعله الحسن المذكور بأبناء أخيه، ولم يزل الحسن ثاثرا بتلك البلاد إلى أن صار الأمر للأمير أبى عبد الله محمد بن عبد الله ونقله لمكناسة وذلك آخر العهد به.
وفى أوائل جمادى الأولى عام 1163 ضحى يوم الاثنين قدم من الحضرة المراكشية الخليفة السلطانى أبو عبد الله محمد إلى مكناس، وخيم بأبى زكرياء الصبان، ومن الغد دخل البلد، وزار ضريح جده المولى إسماعيل، وقد وجد العبيد لازالوا على انحرافهم عن والده، متمادين على الخطبة به، فتبرأ من سوء فعلهم وقرعهم أشد التقريع، وأمر بإحضار العلماء والأعيان لديه وقال لهم: هؤلاء العبيد بايعونى وبغوا على والدى السلطان، وإنى أشهدكم أننى أبرأ إلى الله مما أجرموه، فهل ترون لهم مندوحة فيما ارتكبوه، فأجابوه جميعا بأن الخروج على السلطان لا يحل، وأن دم مرتكبه حل.
ولما سمع العبيد جواب العلماء ورأوا قوة الخليفة وخافوا شدة بطشه لم يسعهم إلا الرجوع لطاعة المترجم وأنفهم صاغر، وأعلنوا بنصره في الأسواق والأزقة، ولاذوا بالخليفة في الشفاعة لهم لدى والده الإمام والاعتذار له عما اقترفوه، والوساطة لهم في أن لا يحرمهم من نواله، فأجابهم لذلك، وتكفل لهم به.
ثم كتب لوالده بشرح الواقع وطلب الإذن له في القدوم بهم لحضرته، وأعلمه بأنه أمنهم بأمانه فيرجو ألا يخفر له فيهم ذمة فلم يرد له والده جوابا عن الكتاب، فأعاد الكتابة ثانية فأذن له في القدوم بهم لحضرته، وواعده بأنهم لا يرون إلا ما يسرهم ويرضيه هو فيهم.
وفى يوم الأربعاء الثانى والعشرين من جمادى الأولى هذه قدم الفقيه السيد على بن زيد من عند الفقيه السيد على وهو الباشا بتونس على السلطان المترجم بهدية سنية، يطلب منه عددا من الخيل سماه، ففرح به وأعطاه ستة من إناث الخيل قيمتها ثمانمائة مثقال، وأعطاه خنجرا مرصعا بالياقوت مختلف، الألوان لا تعلم قيمته.
وفى يوم الأحد الحادى عشر من جمادى الثانية وصل الخليفة سيدى محمد المذكور بمن في معيته من العبيد والجند الذى أتى به من مراكش، وكان نحو أربعة آلاف جندى لحضرة والده بدار دبيبغ، ووجد والده في موكبه وأهل فاس والودايا في استقباله، ولما مثل بين يدى والده ترجل وأدى التحية اللائقة بعلى مقامه، وقدم إليه هدية ثمينة، وقدم العبيد، وطلب لهم عفوه وأمانه، فعفا وأمن، وكان ذلك اليوم من أيام الأفراح المشهودة، وأقام الخليفة مع والده ثلاثة أيام يذاكره في أمور ولايته، وأحوال رعيته.
ولما كان صباح يوم الأربعاء ودع والده وطلب رضاه وصالح دعائه، ونهض من دار دبيبغ وخيم برأس الماء بجنوده الجرارة، ومن الغد نهض وخيم بوادى النجا، وفى يوم الجمعة السادس عشر من الشهر دخل الحضرة المكناسية.
هكذا في الدر المنتخب، وفى الترجمان وغيره أن والده ودعه من حينه وأمره بالانصراف لمكناس خوفا من اغتيال البربر، فامتثل ولم يبت إلا بوادى النجا، ثم سار لمحل مأموريته، وكان وصله إليه في ثامن عشرى شوال، وتلقاه أهل الهدايا بالرايات والطبول، وأظهروا بقدومه غاية الارتياح، وقدموا لحضرته هدايا ذات بال.
وفى العام فشا الوباء وانتشر، ودفن بفاس في يوم واحد ما يزيد على أربعمائة نسمة، واشتد الأمر وحبس المطر، حتى كررت صلاة الاستسقاء ست عشرة مرة.
قال ابن إبراهيم: في يوم الجمعة الرابع عشر من صفر خرج الناس للاستسقاء بباب الفتوح فصلوها، وإمامهم خطيب القرويين أبو مدين الفاسى.
وفى يوم الأحد أعيدت الصلاة بالمحل والإمام الخطيب المذكور.
وفى يوم الثلاثاء بعده صليت صلاة الاستسقاء، والإمام خطيب المقام الإدريسى الفقيه، الناسك الشيخ الكبير ابن الغزوانى السرغينى.
وفى يوم الخميس بعده خرج الناس لصلاة الاستسقاء، وإمامهم العدل سيدى أحمد الطاهرى الجوطى الحسنى.
وفى يوم السبت الموالى أعيدت الصلاة خارج باب الفتوح أيضا، والإمام خطيب القرويين كذلك.
وفى يوم الاثنين ثانى ربيع الأول أعيدت الصلاة خارج باب الجيسة بإمامة الخطيب المذكور.
وأعيدت أيضا في يوم الخميس بعده بإزاء روضة ابن عباد، والإمام من ذكر.
وفى يوم الثلاثاء الموالى له أقيمت داخل باب الفتوح قرب باب الحمراء بإمامة الخطيب المذكور.
وفى يوم الأحد خامس عشر ربيع المذكور أعيدت الصلاة بالمحل المذكور وإمامها من ذكر.
وبإمامة أيضا أعيدت من الغد بالمحل نفسه.
وفى يوم الخميس أعيدت طبق ما ذكر.
وكذلك أعيدت من غده.
وفى يوم السبت ثامن عشرى الشهر استدعى المترجم لدار دبيبغ وأعطاهم مائة بندقة وست عشرة بندقة وثمانية مثاقيل لكل فرد.
وفى يوم الاثنين متم ربيع أعاد الإمام المذكور صلاة الاستسقاء خارج باب الفتوح قرب ضريح الشيخ دراس بن إسماعيل.
وفى يوم الأربعاء ثانى ربيع الثانى أعاد الإمام المذكور الصلاة بالمحل نفسه. وفى يوم الأحد المتصل الولاء أعاد الإمام المذكور الصلاة بالمحل المعروف بمطرح الأجلة خارج باب الفتوح.
وفى يوم الأحد أعيدت الصلاة بعد، ولم ينزل المطر إلا في شهر إبريل آخر العام، ونزلت معه أحجار بلغ وزن بعضها نصف كيلو، ودام ذلك نحو الساعتين، وتكاثرت السيول وفاضت الأودية وتهدمت الدور وقلعت الأشجار، وتعطلت السبل، وارتفعت الأسعار، وبلغ القمح خمس موزونات للصاع النبوي، وأكل الناس الجيف والنبات.
وفى محرم فاتح عام أربعة وستين، وجه صاحب مراكش لوالده هدية ثمينة مع بعض الخاصة من أصحابه فتلقاها بيمنى القبول، ودعا له بالرضا والخلف، ووجه له مع الهدية كتابا يستلفت فيه أنظاره للعبيد الذين تشفع فيهم إليه، ويذكره إهمال شفاعته، حيث إنه كان وصل البرابر الذين وفدوا على حضرته لحضور عيد الفطر مع جلالته بصلة قدرها عشرون ألف مثقال، ورد قواد العبيد الذين كانوا معهم صفر اليد، فوصل الودايا بصلة تقدر بعشرة آلاف ريال، والعبيد الذين معه ثلاثة آلاف، وأعطى لمن تشفع فيهم ولده المذكور عشرين ألف ريال رعيا لشفاعة ولده، فطابت نفوس العبيد بذلك.
وفى سادسه أعطى أهل فاس مائة وسق بين قمح وشعير كانت أمانة له عندهم، وأمرهم بتوزيعها على الرماة بعد أن عين منها مائة مثقال تعطى لأبى عبد الله محمد الغالى بن عبد الله الشريف الإدريسى، وثلاثين مثقالا للقاضى أبى محمد عبد القادر بوخريص.
وفى أوائل ربيع الأول السنة قدم بشدور النصارى على المترجم ومعه من المال والثياب والملف وغيرها مما يناسب ذلك نحو من خمسين قنطارا، بعضها فداء بعض إخوانه، وبعضها هدية للسلطان، قاله ابن إبراهيم.
وفى أواخر شعبان توفى ولد المترجم المولى أحمد بفاس، وحضر جنازته جميع كتاب أبيه ووزرائه وغيرهم من العامة.
وفى عام خمسة وستين اتصل بالمترجم خبر قتل أهل تطاوين لعاملهم الحاج محمد تميم، وبعد ذلك قدموا على أعتابه معتذرين ولعفوه مؤملين، فعفا عنهم ولم يعنفهم، بل قال لهم: أنتم وليتموه وأنتم قتلتموه فاختاروا لأنفسكم من يتولى عليكم، فوقع اختيارهم على أبى عبد الله محمد بن عمر الوقاش، وفى نظرى أن هذا من الفشل وضعف العزيمة المؤديان لا محالة إلى الفساد وقديما قيل:
ويقبح وصف الحلم في سمة الفتى
…
إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
وقيل:
ووضع الندى في موضع السيف بالعدا
…
مضر كموضع السيف في موضع الندى
والله يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ
…
(179)} [البقرة: 179].
وفى أوائل ربيع الأولى من العام ورد على الحضرة السلطانية سفير دولة الإصبان بهدية مائة ألف ريال دورو، وتحف ثمينة، وعدد من الملف والحرير والكتان، طالبا فداء أسرائهم الذين بالدولة المغربية، فقبل الهدية وعلق له فكاك الأسارى على فكاك أسارى المسلمين الذين عندهم من غير مال، فكان الأمر كما أراد، ووصل ذكور العبيد وإناثهم بريالين لكل نسمة، وكانوا ألفا ومائتين.
وفى منتصف هذا الشهر بعث البربر إلى الودايا الإعلام بنقض ما كان منبرما من العهد بينهما، وفى غده اختطف البربر ماشية أهل فاس، وكان ما نهب لهم من خصوص البقر ينيف على المائة وتناوشوا القتال.
وفى أوائل جمادى الأولى من العام وفد على الحضرة السلطانية ولد الباشا أحمد بن على الريفى، وشكا إليه بما مسه من الفاقة والاضطرار فرق له وولاه عمالة طنجة وما والاها، ووعده بأنه سيضيف إليه عمالة تطاوين وأعمالها.
وفى يوم السبت خامس جمادى الثانية أنعم على العبيد بخمسة آلاف ريال، وعلى الودايا بمثلها.
وفى يوم الأربعاء ثالث عشرى الشهر أنعم على أهل فاس بمائتى قفطان وخمسين قفطانا فلبسوها أمامه، ووصلهم بعشرة آلاف ريال.
وفى الشهر نفسه ورجب الذى بعده وشعبان انتشر الوباء في الأرض المغربية، ولم يزل أمره في تفاقم إلى منتصف شعبان.
وفى أواخر رمضان وفد العبيد على الحضرة السلطانية بقصد حضور العيد مع علىّ جنابه فوصلهم بعشرة آلاف ريال، وقتلوا أبا عبد الله محمد السلوى، والقائد الحسن زعبول استجلابا لرضا المترجم، إذ كانا من أكبر أعدائه وألد خصومه.
وفى منتصف شوال وفد على صاحب الترجمة صنوه أبو الحسن على آتى الترجمة، فأكرم وفادته وأعطاه مالا جزيلا وذخائر مهمة، وخيره بين أن يستوطن مكناس أو تافلالت، فاختار مكناس فأقره على استيطانها، ثم تشكى منه العبيد فوجهه لتافلالت.
وفى السنة ورد بعض النصارى على الخليفة السلطانى بمراكش يطلب تأمينه والترخيص له في وسق الصوف وغيرها مما يتوقف على وسقه وشراء المرتب على السفن التي تأتى لمرسى آكدير بقصد الاتجار وحمل البضائع، فأجابه إلى ذلك، وأعلم والده بما راج بينهما فأمضاه، فإذا بالنصرانى أتى لآكدير بسفن كثيرة ممتلئة
بمقومات البناء من جير وآجر وغير ذلك وعدد من العملة بنائين ونجارين وحدادين وغيرهم، يريد بناء قصبة تحول بين مرابطى أكدير والماء الذى يستقون منه، فتفطنوا لذلك، وطيروا الإعلام للخليفة المذكور، فأمر بإلقاء القبض على النصرانى ومن معه، فقبض النصرانى وبعض ممن أتى بهم وفر الباقون في مراكبهم.
وفى العام نفسه تفاحش أمر صالح المجاطى وتظاهر بأمور سحرية استهوى بها سخفة العقول من الأوباش وكثير ما هم، وطار صيته بذلك في القطر السوسى وغيره، وطمحت إليه الأنظار، وصارت الدولة منه في خطر، فحذره الخليفة بمراكش وأنذره، ووعظه وذكره، فلم يزده ذلك إلا عتوا وطغيانا، ولما اشتدت شوكته رأى الخليفة أن شوكته لا تنكسر قوة، وإنما يؤخذ باللين والسياسة إذْ رُبّ حيلة، أنفع من قبيلة، فصار يتظاهر له بالتودد وصفاء المحبة ويهاديه ويستشيره في الأمور ويسترشده ويتغافل عما يضمره ويتجاهل، ويحمل استفاض ما يصدر على أحسن المحامل، ويشيع ذلك في الحواضر والبوادى، حتى استفاض وذلك عند الثائر وحمله على الحقيقة ومن يرد الله أن يضله فما له من هاد.
ثم إن الخليفة نهض من مراكش لآكدير قاصدا الإيقاع بالثائر المذكور، ويورى بأنه يريد غزو قبيلة مجاورة للثائر المذكور حادت عن الصراط السوى، وذلك بعد أن استشار صالحا المذكور في تأديبها، فأذن له في ذلك وأعطاه تعاليم يتمشى عليها، ولما كان الخليفة على مقربة من آكدير اختار عشرة من الفرسان الصناديد ووجههم أمامه يتجسسون خبر صالح المذكور ويعرفونه بأمره، فاتفق أن وجدوا السوق عامرة خارج آكدير والرجل راكبًا بغلته يتطوف بالسوق ويرتب شئونه فحملوا عليه بخيولهم وألقوا القبض عليه وأوثقوه وساروا به إلى الخليفة، ولما رجعوا إليه بالرجل أسيرا أسرع لداره فدخلها واستولى على جميع ما وجده بها من مال وذخائر وعدة وسلاح وذلك شئ كثير، وأدخل صالحا السجن، ولما طال
سجنه وجه لأولاده يأمرهم أن يوجهوا له موسى وسط خبزة كيلا يتفطن السجان لها فيحجزها عنه، ولما بلغته ذبح نفسه بها، وقد كان فيما سلف صد السلطان والد الخليفة عن دخول آكدير ورماه بالأنفاض، وبعد أوبة الخليفة من هذه الحركة لمراكش أخذ في إكمال داره بالبديع وغرس جنان رضوان وجنان العافية وغيرهما.
وفى عام ستة وستين استقر المترجم بداره دار الدبيبغ، وضعفت قواه عن الحركة، وظهر بالمغرب ثوار: فبالغرب عبد الله السفيانى، وببنى مالك الحبيب المالكى الحمادى، وفى أوائل ربيع الأول استقل أهل فاس بأنفسهم وأخذوا يشترون الخيل وجعلوا يركبونها كل بكرة وعشى، واتفقوا على عقاب من لم يشتر الفرس، واستقل كذلك أهل رباط الفتح بأنفسهم وصاروا يولون عليهم ويعزلون ويقتلون ويسجنون، وثار الودايا وطغوا وسعوا في الأرض الفساد، وأصاب الضعفاء والعجزة من البؤس ما كاد أن يقضى عليهم.
وفى هذه السنة ثار البعض من عتاة الرحامنة وراموا نهب مراكش فلم يوافقهم على ذلك أهل الرأى منهم، وخوفوهم عقوبة السلطان، وشدة بطشه، ثم تحين السفهاء منهم فرصة ودخلوا على النساء الحمامات وثارت بسبب ذلك فتنة عظيمة بينهم وبين أهل البلد، وتلفت نفوس، ولما اتصل الخبر بالخليفة السلطانى بارح مراكش للتأهب لكسر شوكة المتمردين خوفا من اتساع الخرق، ونزل بزاوية الشرادى فاهتبل به زعيمها ووجه للرحامنة اللوم والتعنيف والعتاب الأليم، على فعلهم الذميم، وكان لهم فيه اعتقاد قوى ونية صالحة يخشون غضبه ويسعون في مرضاته خوفا من أن يدعو عليهم بما فيه هلاكهم، ولا يشكون في سرعة استجابة دعائه ولا ريب أن ذلك كان من حسن حظ أهل مراكش وسعادة خليفتهم.
فارتاع الرحامنة وبادروا للخضوع والتوبة والإنابة، ثم استعطف الخليفة في الرجوع لمحل مأموريته وأوصاه بالرحامنة خيرًا لأن التوبة تجب ما قبلها، {إنما التوبة للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم} ، {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه} ، ومن يومئذ رضخ الرحامنة للطاعة وقابلوا الأوامر السلطانية بالسمع والطاعة وقاموا بذلك أتم قيام.
ولما اتصل بالقبائل الحوزية ما أوجب مبارحة الخليفة لمراكش، أرسلوا إليه رسلهم قائلين: إننا قد ساءنا ما صدر بذلك البلد الطيب من أولئك الأوباش، وإننا تحت أوامركم فيما ترون في زجرهم وتأديبهم جزاء عما أجرموا، وردعا لأمثالهم، فمُرْ تُطَعْ فالمال والرقاب، ملك لسمو ذلك الجناب، فشكر حسن عواطفهم وإحساساتهم الجميلة، وعرفهم بتوبتهم النصوح، وحمد الله وأثنى عليه ما خوله من ميل قلوب الرعية إليه، واستيلائه عليها من غير سيف ودم مهراق.
وفى السنة أيضا انعقدت الشروط بين المترجم وبين جنس الاصطادوس، وفيها أغار نصارى الجديدة على آزمور، واقتحموا ضريح الشيخ أبى شعيب ليلا وقتلوا به نحو الخمسين من أهل آزمور.
وفى عام سبعة وستين ثار أبو عبد الله محمد وعلى بوثقالا الشريف الكثيرى، وكان ذا حيل ودهاء يتظاهر بالصلاح شأن من يريد الوثوب على الملك، ويقيم الأدلة على أنه صاحب الوقت، من ذلك أنه صنع طبولا من نحاس ببلاد تعرنت، ومن دهائه أنه لم يطلع عليه في صنعها أحد ممن يريد استهوائهم وجعلهم في قبضته كالصولجان، ودفن تلك الطبول بالمحل المعروف بماسة من غير أن يعلم بذلك غير خالقه، واختار للدفن موضعا لا يخطر ببال أحد وقوع الحفر به، وقد كان أهل ذلك القبيل يعتقدون أن طبول ذى القرنين مدفونة بتلك الناحية في
موضع غير معين لا يطلع عليها إلا صاحب الوقت المجدد للدين، وتواتر ذلك الخبر الواهى لديهم وتناقله كذلك جيل بعد جيل وقيدوه في دفاترهم، ولم يكن لأحد منهم في صحة ذلك أدنى شك ولا ريب، وما ذلك عند سخفاء العقول سفهاء الأحلام بمستحيل بل ولا بعيد.
وصار هذا الثائر يتحين الفرص لاقتناص الملك والوثوب عليه بالتظاهر بنشر دعاية دينية، إلى أن كانت هيعة الرحامنة المذكورة فاغتنم تلك الفرصة ولم يبق له أدنى شك في أن الحين حان، فأعلن النداء في القبائل السوسية بأنه صاحب الوقت والمجدد الأكبر، وأن علامة صحة دعواه إخراجه طبول ذى القرنين التي هى أكبر علامة عند صغيرهم وكبيرهم على صدق مقاله، فنسل المغفلون إليه من كل حدب وكثير ما هم، واحتف حوله ملأ من الأخلاط عظيم.
ولما رأى كثرة جموعه وإقبالهم عليه ذهب بهم إلى الموضع الذى دفن فيه الطبول وحفرها وأخرج الطبول منها، وهم ينظرون فآمنوا به وصدقوا، ورأوا أنهم قد ظفروا بالضالة المنشودة، والمسلمون ميالون للدين بالطبع، ولا سيما من ليس لديه علم يميز به اللجين من اللجين، والغث من السمين، فاعتروا به وتمسكوا بدعوته، وانتشر خبره في الآفاق، وادعى أنه لا يحتاج إلى بارود ولا سلاح، وقويت عصبيته حتى لم يستطع من تبين أمره ولم تجر عليه حيلة من علماء وعقلاء القطر السوسى وغيرهم أن يفوه ضده ببنت شفة، وكثر القيل والقال فيما وراء سوس من القبائل.
ولما شاع أمره وذاع ولم ينفع الخليفة السلطانى بمراكش تغافل، أرسل من طرفه بعض خاصته الذين حنكتهم التجارب يختلطون بأتباعه ويتبعون حركاته وسكناته ويأتون إليه بأخباره، فساروا إليه ولازموه ملازمة الظل، واتصلوا ببعض العقلاء المميزين الملازمين له، واتخذوهم أصدقاء إلى أن صاروا يفضون إليهم
بأسرارهم الخاصة، ودرسوا جميعا حقيقة الرجل المدعى حتى تمحض لديهم أنه أفاك خداع، ماكر يحاول التوصل للملك، ولما قرر أمره للخليفة أصدر أمره لهوارة وهشتوكة أصهاره بقتله وإراحة الأمة من شيطنته ومكره، فنهضوا إليه وقتلوه في خلق عظيم من أتباعه وأنصاره، ولم يكن لديهم بارود ولا سلاح يدافعون به عن أنفسهم اغترارا بقوله، وحزوا رأسه ووجهوا به للخليفة بمراكش، وأراح الله من فتنته البلاد والعباد.
وفى أوائل رمضان هجمت على المغرب أسراب جند الجراد المنتشر وأهلك الأشجار، ولم يترك منها سوى الأعواد مجردة من الورق والقشر، أما الزرع فقد وجده تم نضجه فلم يحصل فيه أدنى ضرر.
وفيه أخرج أهل فارس من كان بها من العبيد لاتهامهم بإفساد ذات البين بينهم وبين الودايا، ونقل الأخبار إليهم على غير وجهها، فلم يسع العبيد لضعف قوتهم غير مغادرة فاس القديمة، ونزل البعض منهم بالمدينة البيضاء، والبعض الآخر بقصبة شراكة.
وفيها كان الزلزال العظيم الذى هد جل بناءات مكناس وزرهون، ومات به بالردم خلائق، وتسمى هذه السنة سنة الثلجية لما تراكم فيها من الثلوج التي لم يتقدم لأحد عهد بمثلها، قال أبو عبد الله الضعيف: في ليلة السبت التاسع من ربيع الثانى نزل عندنا بالرباط بالليل ثلج عظيم ما رأيناه أبداً ولا ذكر لنا أحد من الناس المسنين أنه عقله، ووافق ذلك ليلة الثانى والعشرين من يناير عام أربعة وخمسين وسبعمائة وألف للمسيح.
وفى يوم الاثنين سادس ربيع الأول موافق عشرى دجنبر نزل ثلج كثير بفاس دام يوما وليلة، راد في الدر المنتخب: وملأ السطوح كثر من ذراع ورموه بالأزقة، وبقى بها مدة أيام وليال، ثم نزل مرة أخرى في أول يناير الموالى.
وفى عام ثمانية وستين انكسرت سفينة حملة للحجاج في منقلبها من الديار الحجازية، فيها من المغاربة سكان فاس وغيرها أربعمائة نسمة من جملتهم القائد أحمد الولتيتى الرباطى، وشريفان من أعيان العراقيين سكان فاس، ولم ينج من ركابها غير قليل، وكان ورود هذا الخبر المؤلم لفاس في شعبان.
وفى العام نفسه توفى زعيم آيت يدراسن، وركنهم المشيد محمد وعزيز، وأضرمت نيران الفتن بين قبيله وبين جروان، وكانت الكرة على جروان، حتى إنه لم يسعهم إلا الالتجاء إلى المترجم وهو يومئذ ملازم قعر بيته بدار الدبيبغ، ولما ضاق بهم المتسع وعدموا المرعى أخذوا في بيع ماشيتهم بأبخس الأثمان، ثم إن المترجم لما رأى ما حل بهم رق لهم وآخى بينهم وبين أخواله الودايا، وعقد لهم حلفا معهم فقاموا بنصرتهم والدفاع عنهم والأخذ بثأرهم من آيت يدراسن حتى صيروا بلادهم حصيدا كأن لم تغن بالأمس، وقتلوا منهم نحو الخمسمائة ولجأ جلهم إلى بلاد شراكة.
ومن آثار احتجاب المترجم ونبذه أمر الرعية وراءه ظهريا وعدم التفاته لكل ما يأتى إليه من أخبار الدولة، اضطراب جل بلاد المغرب وفساد النظام وأكل القوى الضعيف وكثرة الثوار، ولما رأى خليفته بمراكش الرتوق لا تزيد إلا انفتاقا، والسيل قد بلغ الزُّبى، وأن والده لا يجيبه عما يصدر إليه من المكاتب بشرح الوقائع والأحوال، فضلا عن أن يبتدئه بكتاب، جَمَعَ أهلَ الحل والعقد وفاوضهم في الدواء الناجع في جبر ما انصدع، فأشاروا عليه بالمسارعة بالنهوض بنفسه لإخماد ما اتقد من نيران الفتن قبل أن يعم البلاء، ويلتهب اللفح الأبرياء، ولات حين مناص، فجند الجنود، وقوم البنود، وفرق الأموال، واتخذ سائر الاحتياطات اللازمة فيما يأتى وما يذر، ولما كان شوال العام نهض لرباط الفتح.
ولما بلغ ضواحيه سدوا الأبواب في وجهه، وركبوا الأنفاض وتحالفوا مع رئيس أهل سَلَا، عبد الحق فنيش على المقاومة والمخالفة والعصيان، ولما رأى ذلك أعرض عنهم وخيم بالدار الحمراء قرب سَلَا، فتسارع أهلها لفتح الأبواب وخرجوا إليه مع رئيسهم المذكور والصبيان حاملون ألواحهم على رءوسهم متشفعين، وفى العفو والأمان راغبين، قال أبو عبد الله الضعيف: والسيف في فم عبد الحق المذكور وأولاده الصغار أمامه ويده وراءه، فعفا عنهم، زاد ابن الحاج وأكرمهم وأعطى الصلة لصبيانهم.
ولما رأى ذلك أهل الرباط حلوا أبوب المدينة وخرجوا إليه مع الفقيه أبى العباس أحمد بن عبد الله الغربى، والشريف أبى إسحاق إبراهيم حفيد أبى محمد التهامى الشريف الوزانى، فألقى عليهم القبض وقيدهم بالحديد وأمرهم لإحضار مستفاد المرسى، فأجابوه بأنهم أنفقوه في بناء سور الثغر، ثم عفا عنهم، ونقل البعض من أعيانهم بأهليهم لمراكش كأبى العباس مرينو الأندلسى، والشيخ أبى عبد الله محمد التونسى الأندلسى، والتهامى مرينو، وولى عليهم القائد العربى المستيرى، إذ كان يعلمه بكل شاذة وفاذة، عن أخبار أهل الرباط قبل التعرف به، ويجعل في إمضاء كتبه خديمك كدية، ولما حل بالرباط وقدم عليه أهلها قال: أين فيكم كدية؟ فخرج إليه فعرفه وولاه.
وكان الخليفة الأمير لما سدت في وجهه أبواب الرباط، وجه إليهم صاحبيه الحاج سعيد التامرى الكديرى السرار، والفقيه أبى عبد الله محمد بن زاكور ليؤمنوهم وليأتوا إليه بهم في خفارتهما، فلم يسعهما غير الامتثال وإن تيقنا أن مرسلهم ممتلئ صدره غيظا على أهل الرباط بما صدر منهم وازداد حنقا حيث سدوا الأبواب في وجهه، وأنه إذا ظفر بهم لا يفلتهم. فقال الحاج سعيد: اللهم إن هذا الرجل لا يريد بأهل الرباط خيرًا، اللهم لا تلاقينى بهم ولا معه، وكان رجلا
صالحا فاستجاب الله دعاءه، وانقلب القارب الذى ركبا فيه وغرقا رحمهما الله تعالى.
وقد وجد الخليفة أهل سَلَا، يصنعون سفينة لأنفسهم رئيسها أبو عبد الله محمد عواد السلوى، فأخذها وسفينة أخرى رئيسها أبو عبد الله محمد عواد يدعى قنديل السلوى فأخذها أيضا كما أخذ السفينة التي كانت، شركة بين أهل العدوتين سَلَا والرباط، المصنوعة من خشب جامع حسان المسماة لديهم بالكركجيا. قال الضعيف: وهى أول سفينة طلعت قبل هذه السفن، كانوا يتسببون فيها، وكذلك أخذ سفينة كان صنعها عامله على الرباط العربى المذكور، والذى في تاريخ ابن الحاج أنه لم يأخذ غير السفينة المشتركة وأبقى الغير لأربابه، وما في الضعيف أصح في نظرى.
هذا ولما صفا للخليفة أمر العدوتين سكن الرعب قلوب من سواهم، فرتب العمال على القبائل، ووجه لمدينة شفشاون القائد العياشى عامل رودانة سابقا، ولكنه لما وصل إليهم صدوه وأغلقوا الأبواب في وجهه وحاصروه، وولى الباشا مسرورًا على القصر، وأصدر الأمر للقائد عبد الله السفيانى بترحيل عمه المولى المستضئ مار الترجمة من أصيلا، ثم رجع لمراكش منصرم العام.
وفى هذه السنة كتب والى طرابلس الغرب العثمانى رسالة للمترجم في شأن السكة المغشوشة والحياك المدخولة التي كان يحملها الحجاج المغاربة معهم بقصد التجارة فيها في طريقهم للحجاز، وكانت السكة قد فسدت منذ استقل القائد قاسم ابن الأشهب بالتصرف في دار الضرب بفاس، فإنه نحس دينار الذهب والموزونات وبالغ في تنحيس الموزونات غاية مقصده، فكان في الموزونات عشر فلوس من نحاس وأربعة عشرة فلسا من فضة من غير علم السلطان.
كما أن حالة مناسج الطرازين قد صارت سيئة لما تولى الحسبة الفقيه السيد الطيب الريحانى، وكان المحتسب في فاس هو الذى يلى البحث في مناسج الطرازين والحرارين ويمنع من يحدث دخولا أو فراغا في المنسج أو نقصا في الحائك، فلما ولى الريحانى غفل عن البحث في ذلك، فأحدث الحرارون الفراغ في المناسج وجعلوا مكان الكثيرة النشا من الدقيق.
وأحدث الطرازون الدخول في المناسج، وجعلوا يصنعون الذراعين الذين يليان الطرفين معقودين ومن أنفاس القيام حلاوة وبياضا ورطوبة ويزدون حال النسج على الطرفين لتمكن الصحة فيها، ويجعلون وسط الثوب فارغا والسدا خشينا أحرش أسود، فإذا نسج الحايك تجد طرفه في غاية الحسن حلاوة وصحة ورطوبة وبياضا ووسطه مثل الشبكة.
وكان الحجاج يشترون تلك الثياب ويبيعونها في طرقهم إلى طرابلس وفى أعمالها، ويحملون الدراهم والدنانير ويشترون بها ما يتقوتون به في الطريق، فظهر النحاس في طرابلس في الدنانير والدراهم العام بعد العام، وصارت الثياب تتقطع من وسطها فشكا عامة الناس ما نزل بهم إلى التركى والى طرابلس وأعمالها فأراد القبض على الحجاج، فكلمه في ذلك بعض فقهاء طرابلس وقال له: الحجاج لم يصنعوا الثياب بأيديهم، وإنما اشتروها ممن صنعها والدراهم والدنانير المتنحسة ليس هم الذين ضربوها، وإنما قبضوها في أمتعتهم، فأعلم سلطانهم بذلك، فترك الحجاج وكتب رسالة تضمنت خبر ذلك إلى صاحب الترجمة.
ولما دفع له شيخ الركب الرسالة التي وجه له بها صاحب طرابلس وأعمالها بما وقع للحجاج بطرابلس، قرأ الرسالة وبعث بها إلى أهل مدينة فاس، فاجتمع أهل فاس وقرءوها وقص عليهم الخبر الحجاج، فقال لهم بعض من له الرأى من
الفقهاء: هذا منكر متفق على تحريمه يجب تغييره، وقد ذم الله أمة كانوا لا يتناهون عن المنكر فقال: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ
…
(79)} [المائدة: 79].
فاتفق رأى أهل الدين والخير على تغيير ذلك وعينوا من يقوم به، فأمروا الأندلسيين أن يقطعوا مناسج النيارين المدخولة، لأن سوق النيارين في جهة الأندلس ويقطعون ما يجدونه في الطرازات من أسداء مدخولا، لأن أكثر الطرازات في جهة الأندلس، وأمروا اللمطيين بأن يبحثوا في الحوانيت التي تباع فيها الحياك فما وجدوه مدخولا مزقوه، وأن يقبضوا على القائد قاسم بن الأشهب الذى أفسد السكة ويأتوا به ليجرى عليه حكم الشرع.
فامتنعت طائفة من اللمطيين من القبض عليه، وتبع أهل فاس في ذلك طائفة منهم، وهم الأندلسيون الساكنون بجهة اللمطيين المحسوبون في عددهم، فقال لهم أعيان أهل فاس: دونكم فلا يهمنكم شأن هؤلاء في رجل واحد لا قبيلة له ولا مال ولا أصول بفاس، يبدل ويغير في سكة السلطان من غير إذنه، فلا ترجعوا عن زجره.
أما الأندلسيون فساروا إلى النيارين وقطعوا ما وجدوه بحوانيتهم مدخولا وغير مدخول، وساروا إلى الطرازات فوجدوا أكثرهم قد حملوا سدواتهم من الطرازات، فقطعوا ما وجدوه في الطرازات مدخولا.
وأما اللمطيون فأقاموا بذلك الحاج أبا جيدة بن سليمان الأندلسى، والحاج عبد الواحد عاشر من عقب سيدى عبد الواحد صاحب المرشد المعين الأنصارى الأندلسى، لأنهما ممن كان قبض عليهم التركى صاحب طرابلس، فلما كلم في ذلك خلى سبيلهم ومعهم من تبعهم على تغيير ذلك المنكر، فساروا إلى سوق الجوطية الذى يباع فيه الحياك فوجدوا الحوانيت فارغة حملها التجار لدورهم.
فساروا إلى دار قاسم بن الأشهب ليقبضوا عليه ويأتوا به لتجرى عليه أحكام الشرع فلم يجدوه خارج الدار، فوثبوا عليه في الدار واقتحموها عليه، فملا دخلوا الدار عليه، وأرادوا البحث فيها، فإذا بطائفة أخرى الذين من تعصبوا عليه قد أقبلت ورموا من بالدار بالحجر، فخرج جميع من كان بالدار، وربما نهب بعضهم من حوائج الدار شيئا، ثم اشتد القتال خارج الدار في الشارع بالحجارة حتى افترقوا، واختفى قاسم بن الأشهب أياما إلى أن هدن الهرج وخرج، قاله ابن الحاج.
ثم كلف صاحب الترجمة كاتبه الأسمى أبا الحسن عليا اليحمدى بجواب والى طرابلس، فكتب في ذلك رسالة من بديع صنعه، قال في الدر المنتخب: إنها اشتملت على أسلوب من البلاغة في المنثور تسحر الألباب، يعجز عن إدراك ذلك أهل العصر ولولا الإطالة لأوردتها الخ.
وفى عام تسعة وستين وقعت زلزلة أعظم من التي كانت في العام قبله، اهتزت بها الأرض وربت وبقيت تضطرب برهة من الزمان، وسمع لها دوى هائل وتغيرت العيون، ووقف الماء في الأودية عن الجرى، وسقطت الدور وتصدعت الجرات العظيمة، وفر الناس من البيوت والأبنية، واتخذوا الأخبية بالضواحى.
ثم وقعت زلزلة أخرى بعد هذه بنحو ستة وعشرين يوما فظع من هذه بعد صلاة العشاء، انهدت فيها غالب دور مكناسة الزيتون، وكثير من مساجدها ومنار جامعها الأعظم إلى الأساس، ومسجد القصبة السلطانية، ومات تحت الردم خلق أحصى منه عشرة آلاف، وعلم من لم يشمله الإحصاء عند الله.
قال الضعيف نقلا عن تاريخ الحاج المسناوى الرباطى: وفى يوم السبت السادس والعشرين من محرم فاتح العام موافق واحد وعشرين من أكتوبر سنة ألف
وخمسمائة وخمسة وخمسين وقعت زلزلة عظيمة ودامت نحو أربعة أدراج، وذلك قبل الزوال بثلاثين درجا.
وفى العام قدم على المترجم كافة قواد عبيد مكناس، ولما مثلوا بين يديه طلبوا من جلالته النهوض معهم لعاصمة ملك والده ليكون توجهه معهم برهانا على صفاء باطنه عنهم، فأجابهم: كيف أسير معكم وفيكم فلان وفلان أناس سماهم لهم؟ فرجعوا لمحلتهم، ولما جن الليل وثبوا على الأشخاص الذين عين لهم المترجم وقتلوهم، ومن الغد أتوه برءوسهم، منهم: القائد سليمان بن العسرى، فقال لهم الآن طاب العيش ووضعت الفتن أوزارها، وواعدهم بالقدوم عليهم ووصلهم بأربعين ألف مثقال، وأمرهم بالرجوع لمكناس ورجعوا مسرورين، وقد كان قال للعبيد قبل ذلك: والله لا زلت أصيح عليكم فوق كل ثنية وعلى رأس كل ربوة وهضبة كالذيب وأنتم كالغنم لا شغل لى سواكم أنا عبد الله بن إسماعيل إن لم تعرفونى.
وفى العام قدم أبو عبد الله الوقاش عامل تطاون على المترجم بهدية تقدر بألف ريال وأثاث ونصارى أسرتهم مراكبه، فأكرم وفادته وأعطاه جاريتين ورده ردًا جميلاً.
وفيه حرق الفحص القائد عبد الله السفيانى، قيل بإشارة من صاحب مراكش، أعنى الخليفة السلطانى أبا عبد الله، وذلك عندى يصح لاستبداد السفيانى المذكور عن صاحب الترجمة، فضلا عن خليفته واستقلاله الاستقلال التام بناحيته، حتى إنه كاد أن يدعو لنفسه لما أُوتيه من اشتداد الشوكة، ولم يكن له من ينازعه في تلك الناحية غير الحبيب المالكى، وقد كان المترجم لما ترك الدفاع والمقاومة ولزم قعر بيته، تارة يقول: إذا رفعت إليه مظلمة وقعت في السابلة إنما أنا ثالث الأمراء، فإن غرم الأميران عبد الله السفيانى والحبيب المالكى أغرم معهما
ثلثى، وتارة يقول، لمن يأتيه من البقية الباقية متمسكة بطاعة السلطان: اذهبوا إلى سيدى وسيدكم، يعنى ولده خليفة مراكش.
وفيه نهض الخليفة صاحب مراكش للشاوية لما ظهر فيهم من العتو والاستبداد والعيث في الطرقات، فحص منهم كل شئ، وأتى بالقتل على أركان الفساد منهم، ونظم الباقين في قضب السلاسل ووجه بهم يرتاعون في قيود الهوان ليعتبر بهم غيرهم ممن هو على شاكلتهم، وسار هو إلى أن خيم برباط الفتح فاستقبله أهلها بالترحاب وإظهار الفرح والسرور، وقدموا إليه هدايا ذات بال وأطعمة فاخرة، أما عبد الحق فنيش فإنه أعرض عنه ونأى بجانبه، وأغلق أبواب المدينة دونه، ولما كان الغد نهض وسار ووجهته القصر من غير أن يلتفت لما قابله به عامل سَلَا، ولا أن يحرك معه ساكنا في ذلك، إذ كان الأهم لديه أمامه.
وفى عاشر صفر عام 1170 أغار البربر على سرح فاس، ونهبوا عددا من بقرهم، كما نهبوا أزواج الحرث.
وفى ضحوة يوم الاثنين رابع ربيع الثانى وقع تخاصم وتشاجر بين القاضى أبى محمد عبد القادر بوخريص وبين بعض الأندلسيين حتى همَّ قائدهم محمد الصفار بقتله، ولولا أنه استجار باللمطيين لقتل، وقام هرج ومرج سدت لأجله القرويين، وعطلت صلاة العصر بها.
وفى يوم الثلاثاء سادس عشرى الشهر المذكور اتفقت كلمة العامة على هدم سقف البلاط الوسط من القرويين الواقع يسار الثريا الكبرى هنالك واجتمع رأى اللمطيين والأندلسيين وأهل العدوة على حجز حبس المساكين الذى يقبضه الأشراف وغيرهم عمن يستحق وعمن لا يستحق، وبإثر ذلك نجزت فكرة الهدم فعلا.
وفى يوم الجمعة السادس من جمادى الأولى بعث المترجم لأهل فاس بستة مدافع صغار، فاعترضهم الودايا وأخذوهم، فاجتمع رأى أهل فاس على سد باب محروق فسدوه من الغد الذى هو يوم السبت، وأعلنوا النداء بأنهم مسالمون جميع من يوالى المترجم من سائر القبائل، ومحاربون لكل من يعاديه.
وفى يوم الثلاثاء المتصل استقبلهم المترجم واستسمحهم فيما كان صدر منه لهم وأثنى عليهم.
وفى منتصف رمضان نهض الخليفة صاحب مراكش من محل مأموريته، يريد النظر في أمر الثغور، وحسم مادة فتن الوقاش عامل تطاوين، الذى رام الوثوب على الملك وقطع دابر الفتان أبى الصخور الأفاك الذى كان يستغوى قبائل الأخماس بما يدعيه لنفسه من الصلاح، ويوهمهم بأنه صاحب الوقت ويحثهم على قتال صاحب مراكش، ومحاصرة سبتة وتأديب أهل شفشاون المحاصرين للقائد العياشى المشار إليه آنفا.
ولما وصل بلاد الشاوية قاموا في وجهه وقاتلوه إلى أن انهزم لدكالة، ثم استعد لقتالهم ورجع إليهم بجنود ذات قوة وبأس شديد، وتولى مقاتلتهم بنفسه حتى أباد رءوسهم وبدد جموعهم الفاسدة وأذعنوا وهم صاغرون. وسار إلى مدينة سَلَا، وأمر بقطع الأعواد من غابة المعمورة وإنشاء السفن، وأصدر أوامره للباشا الزيانى بالوفود عليه بإخوانه العبيد للقصر، وسار إلى أن وصل القصر.
ولما خيم به وفد عليه المولى الطيب الشريف الوزانى، ثم وفد عليه الباشا الزيانى في جند العبيد، ولما مثل بين يديه قال له: أنت سلطان العبيد وأنا سلطان الأحرار، وقد كانت بندقة الخليفة بيده فأطلق في الباشا رصاصة صادفته بين عينيه فخر ميتا من حينه، وذلك بوادى امكرول تحت بلد بنى كرفط، وأعطى فرسه وسلاحه لابن زاكور التطوانى، ثم قتل يوسف السلاح، وذلك لتأخيرهما العبيد
عن القدوم عليه لمراكش، فعند ذلك دخل العبيد رعب فاستجاروا بالمولى الطيب المذكور ووجه لوالده صاحب الترجمة بنحو ألفى مثقال، وولى على العبيد سعيد ابن العياشى.
ثم نهض لجبال الأخماس حيث مقام أبى الصخور، فألقى عليه القبض ثم بدا له فقتله وأراح الرعية من فتنته، وكان قتله إياه بسبت رهونة من لكس، ثم صعد لقنة جبل سكنا، ثم سار لشفشاون وقطع أشجارها عقوبة لأهلها على ما ارتكبوه مع العامل المولى عليهم، ثم بعث العياشى المذكور عاملا على القصر مع ولده سعيد.
ثم نهض وسار نحو سبتة، ثم ارتحل ونزل بتطاوين فخرج لاستقباله أعيان البلد مع عاملهم الوقاش للتهنئة بسلامة القدوم وقدموا إليه هديتهم طبق المألوف، فطالبهم بمستفاد المرسى الذى ترتب في ذممهم فأجابوه بأنهم كانوا اشتروها من والده بثلاثين قنطارا مسانهة، فنزعها من أيديهم وقال لهم: أنا أولى بشرائها من والدى، ونؤدى له مائة قنطار كل سنة.
وألقى القبض على الوقاش ووجه به لمراكش سجينا، بعد أن هدده بالقتل لسيره في عمالته على غير الطريقة المثلى، وولى مكانه عبد الله بن زاكور المذكور، وقيل: عفا عنه فسرحه وأقره، ثم سار إلى طنجة ومنها للعرائش.
ثم كتب لوالده يعلمه بما جرى، وأنه حاز المرسى، فأجابه قائلا: هل أنا محجور لك؟ تلك المرسى أتقوت منها، واغتاظ غيظا شديدا حتى قال: اللهم سلط عليه من ذريته من ينزع له ما بيده.
وفى يوم الثلاثاء ثالث شوال ذهب أهل فاس إلى صاحب الترجمة ليقدموا إليه مراسم التهنئة بغرة عيد الفطر وفق المألوف، فسر بمقدمهم وأعطاهم أربعة آلاف مثقال صلة.
وفى آخر شوال رجع صاحب مراكش لمقره محل مأموريته، وذلك بعد تنظيم أمور الدولة وإصلاح ما كان اختل من الشئون.
وفى العام وقعت حرب شعواء بين آيت يدراسن وجروان أعان فيها الودايا جروانا حتى انتصروا على آيت يدراسن بوطا النخيلة من سايس.
وفى يوم الاثنين موفى واحد وعشرين من ذى القعدة قدم حجاج بيت الله الحرام وفى معيتهم رسول أمير مكة بكسوة البيت العتيق، فسر المترجم بها وابتهج، ووجه بها للضريح الإدريسى، وأكرم الرسول بألف مثقال.
وفى صفر كانت منيته على ما سنذكره في محله.
هذا ملخص ما ذكره في ترجمة هذا الأمير الزيانى في كتبه، والضعيف في تاريخه، وابن إبراهيم في تقاييده، وصاحب نشر المثانى، وابن الخياط القادرى، وابن الحاج في دره، وصاحبا الاستقصا والجيش العرمرم، مع مزيد تحرير وضبط وإتقان، إذ تضاربت كثيرا أنقالهم واضطربت أقوالهم وتناقض كلام الكثير منهم.
هذا ولا ريب أن سنة الله في الدول منذ نشأة العالم جرت بتطورها أطواراً طور الشباب فطور الكهولة فطور الشيخوخة فطور الهرم فالموت.
وقد قسم ابن خلدون عمر الدولة أطوارا:
1 -
طور الظفر بالبغية والاستيلاء على الملك وانتزاعه من الدولة السابقة.
2 -
استبداد صاحب الدولة الظافرة على قومه وأهل عصبيته والاستيثار بالملك دونهم.
3 -
طور الفراغ والدعة.
4 -
المسالمة والاقتناع بما حصل.
5 -
الإسراف والتبذير وهو آخر الأطوار وينتهى بالانقراض.
وقد أفاد محررو المباحث السياسية تطرق الضعف إلى الدولة الاستبدادية وهو كثير ينحصر فيما يلى:
1 -
التنافر بين الملك وأهله، والسبب في ذلك أن الملك إذا أتاح له الحظ التربع في دست السلطنة أخذته أبهة الملك فيقوم في اعتقاده أذا خلال الكمال، وصفات الجلال، انحصرت فيه، فإذا توهم ذلك في نفسه شق عليه أن يسمع مخالفة من رجال دولته، لا سيما أهله الذين يجور للواحد منهم أن يخلفه في الرياسة، فيزداد مع الزمان حذرا من أهله، وتختلف طرق تصرفه معهم أو معاملته إياهم باختلاف مزاجه ودرجة تعقله وسائر أحواله، لكنه في كل حال يخاف على منصبه منهم.
2 -
الركون إلى الحضارة. يصح هذا على الدولة ذات القوة والمنعة، فلا تلبث أن تتحضر حتى تضعف قوتها، ويذهب ما كان لها من شدة البأس، ويصير أهلها إلى الرخاء والتمتع بالملذات، وهذا الرخاء إنما يصيب الملك ووزراءه ورجال دولته، لأن الأموال في الحكم الاستبدادى تصير إلى هؤلاء، وقد تكون الرعية في أشد الضنك، إلا من التف حول رجال الدولة وارتزق بالتزلف إليهم ومصانعتهم، والقيام بما يحتاجون إليه من أسباب الملاذ.
3 -
اصطناع الجند، الترف والرخاء، يؤثران في رجال الدولة، فتذهب منهم شدة البأس، فيركنون إلى الملاهى والملذات ويقعدون عن الحرب، وبعد أن تكون قيادة الجند في أيديهم، يعهدون بها إلى بعض صنعائهم من أمراء الجيش، وهم يستولون على أعطيتهم من الملك، فلا غنى لهم عن طاعته والأخذ بناصره، فيزداد بذلك الملك ركونا إلى الرخاء، ويزداد ضعفا ويزداد قواده وصنائعه من الجيش نفوذا في الدولة ودالة على الملك، فيطمعون في المناصب الرفيعة، فتصير إليهم الإمارة أو الوزارة أو قيادة الجيش في الحرب، ويصير الحل والعقد في أيدهم،
يولون الملوك ويعزلونهم أو يقتلونهم أو يحجرون عليهم، كما فعل الترك بالخلفاء العباسيين، والانكشارية بالسلاطين العثمانيين، وجيش العبيد بالسلاطين العلويين.
ويظهر الهرم على الدولة إذا تكاثر المصطنعون، واشتغل السلطان ووزراؤه بأنفسهم عن الدولة وفسدت أمورها، ويزيدها فسادا اضطرار الملك ورجاله إلى النفقات الباهظة على أنفسهم في سبيل الملذات، وبناء القصور، واقتناء الجوارى، والاستكثار من أسباب الترف بأى وسيلة كانت.
ويكثرون الضرائب فتنتشر المظالم، فتغضب الرعية وينقمون، ويتشاورون فيما بينهم عن فساد الدولة، ويتمنون الخلاص منها، ويترقبون فرصة للخروج من سلطانها.
أما الملك فلا يهمه يومئذ غير حفظ نفسه واستبقاء نفوذه، فينفق الأموال في التجسس واصطناع الجند لحمايته، وكثيرا ما تنشب الفتن بين رجال النفوذ أو بينهم، وبين الملك ويتنازع الخاصة -وهم طلاب المناصب- في التقرب من السلطان التماسا للكسب لانحصار المال هناك، ويشتد النزاع على أسباب الرزق، فتكثر الأحزاب ويصبح الأمر فوضى، فيعجز الملك عن تدبيره، وهو عاجز عن ذلك بطبيعة الحال لأنه شب محجورا عليه بين النساء والأطفال، على أن الدولة قد توفق في كهولتها أو شيخوختها إلى ملك مقتدر يريد بها خيرا، لكن لا يستطيع ذلك لتمكن الفساد فيها، وتعويل رجالها على الارتزاق من ذلك الفساد، فيعود سعيه وبالاً عليه، كما أصاب عمر بن عبد العزيز في الدولة الأموية، والمهتدى بالله في الدولة العباسية، والسلطان سليم في الدولة العثمانية
…
فإذا اعتبرنا الدولة جسما حيا، كانت هذه الظواهر أمراضا في ذلك الجسم تدل أعراضها عليها، فتكون العلة في الرأس أو الصدر أو الأطراف، فإن كانت في الرأس فهى في الملك من ضعف رأى أو فساد خلق، وإذا كانت في الصدر ففى
رجال الدولة من طمع وانقسام، وإذا كانت في الأطراف فمن ضعف العمال والولاة أو من جائحة أصيبت بها المملكة.
ومعالجة هذه الأمراض أيسر في الحكم الدستورى مما في الاستبدادى، لأن الملوك المستبدين إنما يطلبون النفع الشخصى، فإذا كانت علة الفساد من ضعف أخلاقهم، فإن ذلك الضعف يغريهم على التمسك بالسيادة لو آل أمرها إلى خراب المملكة.
أما إذا كان الرأس سليما فيهون عليه معالجة سائر أسباب الضعف، فالدولة الاستبدادية يتوقف موتها وحياتها بالأكثر على الملك خلافا للدولة الدستورية.
والفرق بين الحكم الاستبدادى والحكم الدستورى، أن الأول هو الشريعة التي يحكم بها الملك رعاياه، والثانى عبارة عن القوانين التي تقيد الرعايا بها أحكامه وأحكام رجال دولته، وبعبارة أخرى: إن الحكومة أو الدولة قد تكون مؤلفة من رجل أو عدة رجال، وبها ثلاثة أعمال: سن القوانين، والفصل في الخصومة، وما هى نسبة أعضائها بعضهم إلى بعض، ويبين الكيفية التي ينبغى أن تجرى بها الأحكام، فهو قيود للقوة المتسلطة، والإنكليز هم أول من أنشأ مجلس النواب وأعطاه هذه السلطة، ولذلك يقولون في أمثال الإفرنج "إن الإنجليز أم المجالس النيابية" والدستور لا يختص بالحكم الملكى ولكنه يتناول الجمهوريات، بل الجمهوريات أولى أن تقيد بإدارة الشعب، وكل أمة فيها مجالس تنوب بأصواتها عن الشعب كانت حكومة دستورية.
ويسوءنى للغاية تغلب الاستبداد على طبيعة ملوك الإسلام، مع علمهم بفائدة التقييد بقوانين الشريعة المتعلقة بالأمور الدينية والدنيوية، التي من أصولها المحفوظة إخراج العبد عن داعية هواه، وحماية حقوق العباد سواء كانوا من أهل الإسلام أو غيرهم، واعتبار المصالح المناسبة للوقت والحال، وتقديم درء المفاسد على جلب المصالح.
ومن أهم أصولها وجوب الشورى، ومن الأصول المجمع عليها وجوب تغيير المنكر على كل مسلم بالغ عالم بالمنكرات، ولولا تغيير المنكر ما استقام للبشر ملك -لأن الوازع ضرورى لبقاء النوع الإنسانى ولو ترك ذلك الوازع يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لم تظهر ثمرة وجوب نصبه على الأمة لبقاء الإهمال بحاله- فلا بد للوازع المذكور من وازع له يقف عنده إما شرع سماوى أو قانون معقول، وكل منهما لا يدافع عن حقوقه إن انتهكت -فلذلك وجب على علماء الأمة وأعيان رجالها تغيير المنكرات، فالمغيرون للمنكر في الأمة الإسلامية تنقيهم الملوك كما تتقى ملوك أوربا المجالس وآراء العامة الناشئة عنها وعن حرية الطابع- ومقصود الفريقين واحد، وهو الاحتساب على الدولة لتكون سيرتها مستقيمة.
قال ابن خلدون في فصل الإمامة من مقدمته: إن الملك لما كان عبارة عن المجتمع الضرورى للبشر ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار القوة الغضبية المركبة في الإنسان، كانت أحكام صاحبه في الغالب على ما ليس في طوقهم، فتعسر طاعته بذلك، وتجئ العصبية المفضية إلى الهرج والقتل، فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم، وإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستقم أمرها ولا يتم استيلاؤها، فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصائرها كانت سياسة عقلية، وإذا كان فرضها من الله تعالى بشرع يقررها كانت سياسة دينية نافعة في الدنيا والآخرة -
…
أجل نفعها لا يتم إلا ببقائها محترمة بصونها، والذب عن حوزتها بمثل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:
فمن ثم وجب أن نجزم أن مشاركة أهل الحل والعقد للملوك في كليات السياسة مع جعل المسئولية في إدارة المملكة على الوزراء المباشرين لها بمقتضى قوانين مضبوطة مراعى فيها حال المملكة، أجلب لخيرها وأحفظ له.
قال ستورد الإنجليزى في تاريخه: "إن رفعة شأن الأمة الإنكليزية بلغت الغاية في مدة الملك جورج الثالث الذى كان مجنونا وما ذلك إلا بمشاركة أهل الحل والعقد ومسئولية الوزراء لهم"
…
فتبين أن المملكة التي لا يكون لها قوانين ضابطة محفوظة برعاية أهل الحل والعقد خيرها وشرها، منحصر في ذات الملك وبحسب اقتداره واستقامته يكون مبلغ نجاحها.
قال المؤرخ الشهير تيراس الفرنسى عند ذكره عواقب الاستبداد وأن العمل بالرأى الواحد مذموم ولو بلغ صاحبه ما بلغ من الكمالات والمعارف -بعد ما ترجم لنابليون الأول بأوصافه الخاصة وألحقه في السياسة بأفراد الرجال الذين جَادَ بهم الدهرُ في القرون الماضية- إلى أن قال مخاطبا للفرنسيين: تعالوا نمعن النظر في أحوال هذا الملك التي هى في الحقيقة أفعالنا، فيستفيد منها من كان جنديا كيف ينبغى أن تقاد الجيوش، ومن كان من رجال الدولة معروفة كيف ينبغى أن تكون إدارة المملكة وكيف ينبغى أن يرتفع شأنها بدون خروج عن دائرة التواضع والرفق، إذ المعاملة متى لم تكن مصحوبة برفق وقناعة لا تتحمل، وربما يفضى ذلك إلى أسباب الاضمحلال كما أفضت إليها سيرة المذكور الذى هو أقل البشر قناعة، فبالجملة نعتبر بغلطته فنتجنبها ثم نستفيد معاشر أبناء الوطن تربية أخيرة لا يسع نسيانها، وهى أنه لا يسوغ أبدا أن يسلم أمر المملكة لإنسان واحد، بحيث تكون سعادتها وشقاوتها بيده، ولو كان كمل الناس وأرجحهم عقلا وأوسعهم علما ..
إن الذى له القدرة بحيث يستطيع أن يفعل كل ما يريد معه داء لا دواء له، وهو الشهوة الداعية لفعل كل مستطاع ولو كان قبيحا، وإذا تقرر هذا فعلى أبناء الوطن أن يتأملوا في سيرة المذكور ويستخرج منها كل فريق ما يناسب خطته
والأهم أمر واحد وهو أن لا يطلق أمر الوطن لإنسان واحد كائنا من كان وعلى أى حالة كان.
وقد ختمت هذا التاريخ المطول المستوعب لأحوال نصرنا وانهزامنا بهذه النصيحة بل الصيحة الصادرة عن صميم فؤادى غير مشوبة برياء راجيا بلوغها إلى قلب كل فرنسى ليتيقن جميعهم أنه لا يليق بهم بذل حرمتهم إلى أحد -كما لا ينبغى لهم الإفراط فيها حتى لا تنتهك حرمتها هـ.
وفى حكمة أرسطو أن من الغلط الفادح أن تعود الشريعة بشخص يتصرف بمقتضى إرادته.
هذا ومن تأمل هذه الترجمة ودرسها كما يجب تبين له جليا كيف كانت الرعية تعامل المترجم وهو من خيرة ملوك هذه الدولة التي لا يزال شأنها ممتدا ونفوذها مستمرا وظلها وريفا، ولست متنكبا ولا مغضيا إذا قلت -ملكا من خيرة ملوك هذه الدولة- فقد مر بك كيف انزوى وتورع عن الانتصاب لهذا الأمر مدة يبالغ في الإلحاح عليه فيه ويخاطب بكل رغبة من أجله، ثم مرّ بك كيف كان يعطي العطاء الوافر، وكيف يحسن وفادة القادم المطيع، ويحتفى بالنزيل المخلص، وكيف كان يفزع لكل من يتوسم فيه مقدرة للعمل وأصالة في الرأى وقوة في الحق، فيوليه الأمر ويسند إليه النظر ويشركه السلطان.
فهل كان فاعلا ذلك ومبالغا في الغضب إذ ينتقم من أجل إخلال بالأمور أو سير للشئون على طريقة غير منتظمة أو غير عادلة، إلا خدمة لمبدأ العدالة المنشود، ورغبة في استتباب الأمن المرغوب، وحبا لنشر ألوية السكينة في كل مكان، وتعميم المساواة والحق بين جميع أفراد الإنسان.
فهل كان وهو كما مر بك يأمر بعزل أبناء الروسى واحدًا فآخر مثلا أو آمرًا بولاية أفراد من غيرهم وآخرين من عشيرتهم إلا قاصدًا أن يجد في هذا ما ساء
الظن به في ذاك، وهل كان يتغير ويستبد ويعمل بصرامة وشدة ما فوقها من شدة ما لم تكن دسيسة تؤثر أو مكيدة تدبر أو مؤامرة تنقل
…
إلا إن أمكن أن تفرض له من غاية غير معروفة أو قصد غير مطرد وهذا ألا أراه كما لا يراه الجمهور العاقل من غيرى.
لنرجع إلى التاريخ نفسه. فهل له أن يرشدنا إلى وقت سادت فيه السكينة وعم فيه الأمن أو وقف فيه فقط دولاب الحركات والثورات وإيفاد نيران الفتن من زعمائها وأحزابها، ثم نسائله هل كان من صاحب الترجمة أن عمد إلى شئ من استبداد برأى أو سوء صنيع برعية؟ وهل كان إن انتهك حرمة أو أساء صنيعا أو تعمد قتلا وأسرف فيه ما لم يكن قد ضاق صدره واشتعلت أطراف الفتن والمؤامرات من كل ناحية؟
بل هذا ملك البلاد وهو على رأس السلطنة يضطر لتحمل إهانات شنيعة من زعانيف صعاليك بعد تجرع أنواع المضض من سوء السيرة وأنباء الفتن وحوادث الاضطرابات وآفات التفرق، ثم تزوج عليه نساؤه بدون موجب، ويؤخذ منه حريمه غصبا، ثم يوقف موقف السوقة مؤاخذا معاتبا من أنذال لا خلاق لهم كنت لا تجد بينهم لو اطلعت عليهم من لا تفرق بين دماغه وبين أرض البادية الخلاء البلقع محلا وجدبا، ثم ندعوه أمام التاريخ لحسابه على ما فرط، ولمؤاخذته على ما جنت يداه.
ومع ذلك فلست أنكر أن كانت للرجل مندوحة في كثير من الأحيان وفى نظائر وأشباه من المناسبات والظروف عن تحمل مسئولية كثير من الوقائع والأخطار، وتجنب غير قليل من الحروب والمشاغبات، فقد كان يمكن أن يفض الكثير منها بحسن السياسة المستعمل في غيرها، وجميل التدبير المتخذ في نظائرها، وبذلك كانت تصان دماء وتحفظ حقوق وتقف اضطرابات عند حد.
ثم كان ذا نظر ثاقب في الأمور، ومعرفة واسعة بأحوال شعب يتقلب في مجالات ممتدة من الاضطراب وفقدان الثقافة وجمع الكلمة أن يحالف في الأغلب الأكثر من وقائع الدولة وشئون الأمة، ولكن الوقت القليل كان لا ينقضى أحيانا إلا والأمر قد تجدد، والشر قد عاد وبوادر الفتنة قد أمست تجهر بأعلى صوت مولية وجهها نحو مقر لم تغادره إلا من أمد قريب، فما ظنك بمن يئول إليه أمر هذه المسئولية كُلا، ومن يخاطب عن هذه الوقائع طُرّا، فهل كان يجد له من غالبها مخرجا إلا ضربا بشدة، وقمعا بجميع ما أوتيه من صرامة ممكنة؟
لعل مراجع التاريخ المغربى والمتصفح بدقة وإمعان لا شأن للقصور أو الغرض فيه، يرى من ضرورة هذه الأحوال وقضاء الظروف بها ما يخفف من غلواء النقد ويبيض صحيفة من حسن القصد في تاريخ ملكنا المترجم، مهما أملت علينا ترجمته من وقائع كلها محزن، وحوادث كلها أليم.
ثم هنالك ما لا يسع التاريخ إهماله أو غض النظر عنه من بحث لأحوال حاشية السلطان ونظر لبطانة الملك، فهل كانت هذه البطانة أو الوزارة التي لا غنى عن صلاحها وإصلاحها موفية بالغرض من وجودها في جوار صاحب الترجمة وإعانته على خدمة أغراض الدولة ومهام الأمة؟
كلّا وألف مرة كلا فقد مر بك متكررا معادا ما كان يحاول من انتقاء المساعد والمعين ومبالغة في اجتناب من لا خير ولا صلاح للرعية فيه وفى ولايته، ثم ما كان يلاقى منهم من جفاء في الطبع ولؤم في العشرة وكفران للنعمة، وجحد للواجب وتصرف شائن خائن، كله أغراض ومطامع ذاتية لا شأن للشرف والذمة وصدق الخدمة فيها.
ومتى بربك تصلح حال أُمة أو تصلح أحوال ملك وحاشيته وأعوانه ومعينوه على تدبير الأمور كلهم عابث متمرد أو حقود مستبد أو متصرف لنفسه وغاياته،
يحسب الناس منهم صنيعا شريفا أو يرقبون عملا مفيدا، وما هو في ذلك من المعدودين.
فكم كان يكون صلاح الرعية والملك لو استقام المشاور وأخلص الوزير، وكرم عنصر المساعد والمعين، فما إن يولى الولاية كما تقدم في كل موضع أو يمنح الأمر أو يشرك الحكم إلا والعبث مستحكم والاستبداد منتشر، وحبل الأغراض والمطامع ممتد مجالا بعيدا.
ثم ليت شعرى وهذه حال أمة تصادف من متبوعها ما صادفت من صرامة وشدة وطأة وقمع بمختلف وسائل القوة، ثم لا يزيدها الورد إلا عطشا، ولم يكن العلاج لها إلا مثيرا ومحرضا، فهلا كان من الضرورى أن تعامل كما عاملت وتقابل بالنظير مما فعلت؟
وهل يبقى حال شعب هكذا وربك من وقت للنظر في أحوال صلاح أو تمهيد إصلاح فأحرى نظر أحوال خارجية أو أمور تقضى بها ضرورات المدنية، وهذه السبل متقطعة والمواصلات منعدمة، والدماء تسيل، والفتن تتوالى من كل حدب وحبل، إلا من ينصدع من بين أمس الدابر والغد المنتظر.
فلعل التاريخ كان يصارحنا بما يقلل من عظيم مسئولية هذه النكبات والخطوب أن لو كنا لجريانها في وقتها من الحاضرين أو لدراستها بأسبابها ووقائعها المحلية من المستوعبين، وهكذا التاريخ لا يسوغ أن نكتبه أو ننقله، فأحرى أن ننقده ما لم نكن لحوادثه ودقائقه قَلَّت أو جلت من المتعللين، ولأحكامه وشواهده المأثورة من الجالبين.
وما القصد من ذلك إلا خدمة علم التاريخ وإحكام وضع مبانيه على ما تأسس من قواعد محكمة، وأصول مرتبة، وإلا ففيم التاريخ وقد حاد كاتبه عن
الحق وجانب الصواب أو أغضى عن تحقيق الحقائق وإعلان الواقع، وإن كان يهم أقرب الناس إليه وأكثرهم اتصالا به، والتصاقا بسببه.
وما أشد ما يذكرنى هذا بصنيع ذلك الفريق الجاهل المتورط الذى ظن أن التاريخ وقائع تسرد لإرضاء زيد أو عمرو، وحكايات تنقل لمجرد سواد عيون (بصرى) معجب أو كوفى فخور كلا، فالتاريخ الحكم العدل على الأشياء والأعمال، ومصادر الرجل إن خيرا كانت لهم صحفا بيضاء تبيض وجوههم ووجوه عثرتهم يجب أن يقتفى أثرهم فيها، وإلا فخزيا وسبة تكون لهم ولمن بعدهم ممن قلدهم فيها مثلا في سوء الصنيع وشر الأحدوثة إلى الأبد.
ولقد كان جزاء عدلا أن يلقى المتعنت على التاريخ خسة، وينال حطة، ويصادف ضعة، وإلا فالحقيقة لا تحارب، وقول الواقع لا ينجى من وخزه إلا التنكب عن طريق الضلال، والإنابة إلى المثوبة وحسن الحال.
هذا وقد كانت مدة مقام المترجم بدار دبيبغ عشرة أعوام، وقيل سبعة، وقيل أربعة، قالوا: وقد قتل مدة سلطنته صبرا ما يزيد على سبعين ألف نسمة، قتل منها في يوم واحد خمسمائة وخمسين، قالوا: وقد كان يعطى عطاء من لا يخشى الفقر من النقود الذهبية والفضية والكراع والضياع والأثاث والثياب الفاخرة وغير ذلك مما أشرنا لبعضه.
مشيخته: منهم أبو محمد عبد الله المنجرة، عن والده أبى العلاء إدريس بأسانيده المتصلة في فهرسته.
الآخذون عنه: منهم ولده أبو عبد الله محمد المتبوئ عرش الملك من بعده، أخذ عنه دلائل الخيرات.