الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آثاره: له رسائل عدة على نمط رسائل مولاى العربى بعث بها لبعض مريديه والمحبين له، ورسائل في كراريس بعث بها إلى العلامة الناصرى، أخبرنى من وقف على بعضها، وأشعار ملحونة ومتزنة كما أُخبرت من طريق البعض ولست على يقين، كما أن له رسالة بعث بها إلى أبي عبد الله الحجوى.
وفاته: توفى في رابع ربيع الأول عام أربعة وأربعين وثلاثمائة وألف.
288 - محمد الوزير أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله غريط
.
يدعى الفقيه بوغنبور الأندلسى الأصل المكناسى النشأة والدار، الفاسى النقلة والإقبار.
حاله: قال حفيده صديقنا الفقيه الأديب الكاتب أبو عبد الله محمد بن الوزير الصدر المفضل غريط فيما ترجمه به ومن خطه نقلت: رجل الوقار والجد، أصيل السؤدد والمجد، شاعر تنبع الحكم من لسانه، وتمد أكف التسليم لإحسانه، كاتب حسن الشمائل، ذو رأى لا متأود ولا فائل، وحال عن العرض الزائل مائل، وخط تحسده الخمائل، ويحفه القبول عن اليمين والشمائل، وتبتهج العيون برونقه، وتنعطف النفوس لنسقه، كما قال المتنبى وأبلغ به من قائل:
من خطه في كل قلب شهوة
…
حتَّى كأن مداده الأهواء
وله يد في الرباعيات والأرجال، وحظوة لدى بلغاء صلحاء الرجال، كالولى الصالح السمى، سيدى عبد القادر العلمي، والولى المجذوب الَّذي لا زالت كراماته تبدو، سيدى حفيد بن عدو، وذى الأحوال الباهرة والمدد العرفانى، مولاى الطيب الكتانى، قدم من مكناسة مسقط رأسه، ومنبت غرسه، إلى فاس مطلع شمسه، بعد أن حصل من العلم قدرًا كافيًا، وورد من الآداب منهلًا صافيًا، فاستكتب لعاملها الودينى مدة ولايته، اقتصر على صروف الدهر براية رعايته، إلى أن عزل العامل لسيئة اجترحها، وفتنة اقتدحها.
قيل: إنه عبث بنسوة بعض الأعيان، وأطاع فيهن داعى العصيان، فاستجار أزواجهن بمن لهم كلمة مسموعة، وأسرة مجموعة، من الشرفاء الطاهرين أهل العدوة، وأثاروا ما لهم من نجدة ونخوة، فخرجوا عن طاعته وتمالئوا على الفتك به، وأعلنوا بعد صلاة الجمعة بحرم مولانا إدريس نور الله مضجعه بلعن القائد وسبه.
وخشى السلطان مولانا عبد الرحمن أن يتسع الخرق بسببه، فأطفأ النار بحبسه، وسد ثلمة الهيعة برأسه، وحمل إلى سجن المدينة، بهيئة مهينة، وولى على أهل فاس القائد الأحمر، فأذاقهم البلاء الأكبر والوبال الأمر، ونفى بعض أولئك الشرفاء إلى مرسى الصويرة جزاء على فعلتهم الخطيرة، ونقل الوزير المذكور لأعتابه، مؤمنًا من ملامته وعتابه، وأدرجه في خاصة كتابه، وأغناه الله بالبحر على النهر، ومكث على ذلك حينا من الدهر، ولما كان فذ أهل أهل طبقته في الاختصار، والتجافى عن الإسهاب والإكثار.
كان الإمام المذكور يؤثره لذلك بتنقيح واختصار ما استطوله، وتوضيح ما أشكله، فيرتب فصوله، ويلغى فضوله، ويبقى محصوله، ويغص به من يجر في مقام التشمير ذيوله، ثم ولاه الصدارة فأوسع لها درعه، واستفرغ في إدارتها وسعه، ولما رأى أن هذا المنصب محك القول ومحط الأهواء، وهدف سهام الوشاة والأعداء، صاحبه على غرر. وإن استخرج منه الدرر. ومعتقده في هم وتعب، وإن افترش السندس ومشى على الذهب، فهو كراكب الأسد، يخافه الناس وخوفه منه أشد:
قرب الملوك يا أخا البدر السنى
…
حظ جزيل بين شدقى ضيغم
قدم للسلطان طلب إعفائه. واعتذر بأنه ليس أهلًا لهذا الأمر ولا من أكفائه. لكبره وضعفه عن تحمل أعبائه. فقال الملك ما معناه: مالك أيها الرجل كلما أردنا لك رفعا ونفعا. أظهرت إباء ودفعًا؟ أما الكبر والضعف. فكلنا بذلك الوصف. فاصبر واحتسب. في مصالح الأمة على ما لا تحب، فأجابه بما معناه: يا مولانا إنى لا أصلح أن أكون رئيسًا معلمًا، بل يجب أن أكون مرؤوسا مسلما، ثم أعفى بعد مراجعة، وعتاب في طيه منازعة.
واستشاره السلطان فيمن يولى هذا المحل بعده، ويطوقه عقده، فأشار بجماعة كلهم للتقديم طامح، وللانتخاب لامح، ولسمك تلك المرتبة بسنان أمله رامح، حتَّى وقع الاختيار، على الفقيه الكاتب أبي عبد الله الصفار، وهو إذ ذاك متعلق من المسكنة بسبب، عاطل إلا من العلم والكتابة والأدب، فأتته الوزارة على قدر، تقود البدور والبدر، وبقى المترجم له محفوظ الحرمة، كاتبا مستشارًا في كل مهمة.
ثم استوزر لأمير المؤمنين سيدى محمد زمن استخلافه عن أبيه ولخليفته بفاس إلى أن خبت ريحه، واشتمل عليه ضريحه.
ومن مناقبه المحمودة. ومآثره التي هي على هامة الاعتبار معقودة، أن السلطان مولانا عبد الرحمن قدسه الله لما جرى عليه من الجيش ما جرى، واعترى عبيده من التشريد ما اعترى، بعد أن تفانوا على حماية جنابه، وتباروا في التزام ركابه، حتَّى تغير شكل موكبه، ونهب ما عدا علمه المقدم ومركبه، واشتد عليه الظمأ، حتَّى لا ساقى ولا ماء. التفت فلم ير سواه، فاستدناه وآواه، فأسقاه بخفه حتَّى أرواه. ودخل صحبته إلى مكناسة الزيتون، فأحله حيث تجله العيون، واستنجد بأفكاره على استنتاج أطواره، حتَّى أدبر جيش الفتنة بسنان قلمه وفيصل رأيه، فاعترف بمزيد فضله وحميد سعيه.
ولم تزل تلك اليد محفوظة له ندية، متلوا حديثها في جميع الأندية، وحضر مع أمير المؤمنين سيدى محمد زمن خلافته، بوصف القيام بوزارته، في الليلة التي أسفر عن وجه النصر صبحها، وكسر سورة الخسر ربحها، ليلة أجلب الحاج عبد القادر بن محيى الدين على ملحته بخيله ورجله، وألقي بكيده وحيله.
أخبرنى من سمعه أنَّه قال: لما انسدلت جلابيب الظلام، وتكافأ الساهرون والنيام، وابتسم ثغر البسيط لبكاء الغمام، جاء المذكور بمن اقتفاه من صحبه، المستميتين لإعلاء كعبه، فأطلقوا على سمت المحلة من الرصاص شؤبوبا، وعبابا مشبوبا، بعد أن أوقدوا نارًا على متون الركاب، وشردوها بين الأخبية والأطناب، فامتلأت القلوب والجوانح قرحا، والجوانب قتلى وجرحى، وصارت الجيوش السلطانية ترمى بعضها، وتهم أن توسع في الفلاة ركضها، حيث لم تدر للعدو ناحية، ولا شعرت بالداهية، ولسان حال الزعيم يقول رب حيلة، أنفع من قبيلة.
ثم نودى بالنهى عن الركوب، والصبر على الأمر المكتوب، فتراجع الطبجية إلى المدافع ففجروا منها بحارًا ذات أمواج، اهتزت لها الجبال والفجاج، وتلتها شهب منقضة من أفواه المكاحل، كحلت بميل الردى كل مدبر وواحل، فشرق الزعيم، لا يلوى على حميم، وأصبح جمعه كسيرًا، ووزيره البوحمدى أسيرًا، في جماعة من تلك الفئة، التي كانت نحو الألفين وخمسمائة، ووجد على أصحابه أقبية الحرير، والعمائم الموسومة بالتذهب والتحبير، إغياء منه في الترفيه، وزيادة في الأثرة والتنويه، وكان ذلك في المحرم فاتح عام أربعة وستين ومائتين وألف. هـ بمعناه.
وعلى الإجمال ففضل هذا الوزير عند أهل الفضل معلوم، وأثره في صحف المفاخر مرسوم، ولولا تمسكه بذيل العفاف، وقناعته من الدنيا بالكفاف، وانقباضه عن غير من ترجى بركته، وتحض على السكون حركته، لسار صيته مسير
الشمس، وأشير إلى محله بالخمس، وتغنت طيور الطمع بمدحه، ونما نتاج النفاق بسرحه. وما أحسن قول ابن الحسين:
وإذا خفيت عن العيون فعاذر
…
أن لا ترانى مقلة عمياء
مشيخته: أخذ عن السيد اليمنى بو عشرين أصول الخط، أخذ إحكام وضبط، وعن العارفين الجليلين الشريف سيدى عبد القادر العلمي وسيدى حفيد بن عدو وغيرهم ممن يقتدى به علما وعملا:
شعره: من ذلك قوله مجيبًا أبا عبد الله أكنسوس وقد أبدع في ترصيع نفائس الحكم، وأتقن وأحكم:
من أوتى الدين عالى القدر مغبوط
…
وغيره معلوماته أغاليط
والنقط ليس يزيد الحرف تكرمة
…
كم مهمل دونه ما هو منقوط
والجد ليس بمجد من مقاصده
…
يلفى بها عند الانتقاد تخليط
وأحمق الناس من قد غره عرض
…
به الذهاب والاضمحلال مربوط
وليس يسلم في حال القيام به
…
من ذى قلى قوله بالزور مخلوط
ومن عجائب ما أبداه ذا الوقت أن
…
يعز شرط ولا يعز مشروط
ومن تحقق فيه ثمة لم
…
يفز بمشروطه لا شك مغموط
يا فاضلا فوق هام المجد أخمصه
…
ماذا يكافى به ثناك غريط
ألبستنى منه أبهى حلة فغدا
…
بها لنفسى تفريج وتنشيط
كأننى قد شربت في معتقة
…
ما أن يمس بها الأعضاء تثبيط
لله من قطعة عنى قطعت بها
…
موصول هم به الفؤاد مضغوط
ما حاك نجل الحسين مثل بردتها
…
ولا ابن حجر إذا ما كان تمليط
كل المسامع تهوى أن تكون لها
…
من حلى شعرك حر الشعر تقريط
وكل جيد مجيد قد تشوق أن
…
يرى وهو بعقد منك معلوط
تنشيه ثم توشيه الأنامل من
…
يمناك من كلفها بالخير مبسوط
بمثلكم دولة الأشراف تفخر لا
…
بمثل من فيه إفراط وتفريط
وأنت غرة هذا العصر دمت وما
…
للدهر يومًا على علياك تسليط
وقوله:
عبيد العصا فاضرب منهم كل من عصى
…
ولا تغترر منهم بمن لك بصبصا
وإن كنت في شك فجرب تجدهم
…
كماكمه فيما نص عنه وأبرصا
وفاته: توفى بفاس عام ثمانين ومائتين وألف ودفن بالمسجد المجاور لضريح الولى الأشهر سيدى على أبي غالب وكتب على قبره هذا البيت (1) المضمن تاريخ وفاته:
فرش السعادة في ذا القبر تاريخ
…
ووزر صاحبه بالعفو منسوخ
هـ من فصول الجمان، في أبناء وزراء وكتاب الزمان، لأبي عبد الله بن المفضل غريط المذكور.
قلت: وقد كان المترجم زاهدًا ناسكًا، حدثني ولده الفقيه الكاتب السيد المهدى وزير الشكايات في العهد العزيزى سابقًا ووزير الخليفة السلطانى بمراكش حينه، أن فريقًا من قبيلة عبدة وردوا عليه ذات ليلة بأمة وحمل سكر وجرابًا من الريال الدور وهدية إليه مدة وزارته، فرد ذلك عليهم وعنفهم وأقسم لهم بالله أنَّه لا يسمع منهم كلامًا إلا إذا حملوا هديتهم، فلم يسعهم إلا الامتثال، ولما حملوا
(1) في هامش المطبوع: "البيت لولده السيد محمد".