الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعد: فقد سألنى من لا أستطيع رده الإجازة لسيدينا الشيخين الإمامين العلمين الأوحدين، العلامتين الأمجدين، أبى العباس أحمد وأبى عبد الله محمد ابنى الشيخ الفقيه العلامة المقرئ أبى عبد الله محمد بن غازى المكناسى ثم الفاسى أمتع الله بحياتهما ونفعنا ببركاتهما، فبادرت لإجابته فأقول مستعينا بالقادر الوهاب: قد أجزت سيدينا الشيخين المذكورين جميع ما يجوز لى وعنى روايته متلفظا بذلك، وكذا لأولادهما وإخوانهما وأقربائهما وخدمهما ومن يلوذ بهما، ولجميع أهل بلدهما، بل ولجميع المسلمين على مذهب من يرى ذلك من المسلمين، قاله وكتبه المفتقر إلى لطف الله وعونه، محمد عبد العزيز بن عمر بن محمد بن فهد الهاشمى المكى الشافعى خادم الحديث النبوى بالحرم الشريف المطهر المنيف هو وأسلافه، وهو يسأل الشيخين المذكورين نفع الله بهما أن لا ينسياه من دعائهما الصالح، خصوصا بخاتمة الخير وقضاء الدين، وكفاية مهمات الدنيا والآخرة والحمد لله وصلى على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا حسبنا الله ونعم الوكيل" انتهى من خطه.
وفاته: توفى سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة.
212 - محمد بن حسين العبدلى السهلى، وقيل اسمه أحمد، شهر بأبى الرَّوَايَن
.
حاله: مجذوب سالك ملامتى، أحد عجائب الدهر، ذو أحوال خارقة للعادة جليل القدر، شهير الذكر، جمالى الحال، واسع النظر، عالى الهمة، حسن السمت، رفيع اللباس، يمسى غنيا ويصبح فقيرا، يدفع كل موجود له للضعفاء والمساكين، وكان أعجوبة الدهر في التوكل والثقة بالله.
قال صاحب ابتهاج القلوب: حدثنا الشيخ الوالد رضى الله عنه، قال: مر
212 - من مصادر ترجمته: دوحة الناشر في الموسوعة 2/ 887.
الشيخ المجذوب عليه -يعنى المترجم- يوما بباب داره فقال ايت فاكنس ما تحت هذه الدابة لدابة كانت له بالاروى، فدخل أبو الرواين يخرج له ما يحمل فيه الزبل، وقد كان على الشيخ المجذوب برنس جيد فطرحه في الأرض وأخذ يحمل فيه الزبل، فما خرج أبو الرواين حتى وجده قد فعل، فقال متعجبا منه: ما رأيت مثل هذا قط! وقد غلبنى لأنه أراد أن يختبر مكانه من النظر إلى نفسه والرضا عنها، فوجده فوق ما يظن من خفض النفس وعدم المبالاة بها.
وشأن المشائخ أن يحملوا المريدين على إذلالها وما يوجب إخمادها وقضاياهم في ذلك مشهورة، لأنه كلما خمدت النفس وانخفضت قوى معناه وتنور باطنه، إذ لا حجاب له إلا رؤيتها، وقد ورد في الأحاديث الربانية عاد نفسك فليس لى في المملكة عدو غيرها، وورد أيضًا في مناجاة موسى أنه قال: كيف أجدك يا رب؟ قال له عاد نفسك وتعالَ. قال وقد أخبر الشيخ المجذوب أن ذلك البرنس الذى حمل فيه الزبل لم تزل رائحة المسك تفوح منه من ذلك الوقت، وكان عند أهله في الصندوق مع الثياب يتبركون به انتهى.
ومعلوم أن العز في مخالفة النفس والذل في طاعتها واتباع هواها ولله در القائل:
إذا شئت إتيان المحامد كلها
…
ونيل الذى ترجوه من رحمت الرب
فخالف هوى النفس الخبيثة إنها
…
لأعدى وأردى صفقة من هوى الحب
ولقد أجاد من قال:
إذا شئت أن تحظى وأن تبلغ المنى
…
فلا تسعد النفس المطيعة للهوى
وخالف بها عن مقتضى شهواتها
…
وإياك لا تحفل لمن ضل أو غوى
ودعها وما تدعو إليه فإنها
…
لأمارة بالسوء من هم أو نوى
لعلك أن تنجو من النار إنها
…
لقطاعة الأمعاء نزاعة الشوى
وقد تحدث عن المترجم بكرامات، وخوارق عادات، من ذلك ما حكاه في ابتهاج القلوب قائلا: حدثنى شيخنا الإمام محمد بن الشيخ أبي العباس الفاسى، عن الشيخ المعمر سيدى أحمد السفاج، أن الشيخ أبا الرواين، مرّ يوما مع الشيخ المجذوب على حلة، فقال: لا أذهب حتى أعمر هذه الخيمة أو أخليها، وكانت خيمة جليلة لذى مال من تلك الحلة، فصاح بربها فطلب منه فرسه فقال: يا سيدى عندى من أشاوره في ذلك، فذهب إلى زوجته فقال لها: إن أبا الرواين والمجذوب هنا، وقد قال كذا وكذا، فقالت: وما يكون منك إذا بقيت بلا فرس، فجاء واعتذر بذلك، فقال أبو الرواين: من يشترى منى الخيمة وصاحبتها؟ فلم يجبه إلا خماس كان هنالك، قال له: إن عندى عجلا إن قبلته فخذه، فقبله وسار، ثم إن صاحب الخيمة كان له أندر مجوف فدخله يوما ففقد حتى قيل بعد مدة إن آخر العهد به مكان الأندر، ففتش فوجد ميتا هنالك واعتدت المرأة بعده فأخذها الخماس وركب الفرس وأحاط بالخيمة وما فيها.
قال: ومما يحكى عن أبى الرواين أيضًا أن بعض أهل مكناسة لما رأوه على ما هو عليه من الثياب الرفيعة النقية من الدنس وكان عليه كساء مصبوغ الأطراف باللك (1)، وصادف أن كان في الطريق طين مطر فأخذ ذلك الرجل يقدم له الله أن يتمرغ في ذلك الطين هزؤا ولعبا وسخرية منه، فأخذ أبو الرواين يتمرغ فيه لما سأله بالله، فلما قام قال: اليوم أنا وغدا أنت، فمن الغد قتل هنالك.
وأظن الحكاية مع ولد الفقيه أبى على حرزوز، فإنه كان أخبر بما وقع له وقد سمى لى صاحبها من أخبرنى، إلا أنه طال عهدى هل هو المذكور أو غيره.
(1) في هامش المطبوع: "عروق نبات تستعمل للصباغة".
قال: ولما تغلب السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ على مكناسة ألح بالمطالبة لأخذ فاس فجاء الشيخ أبو الرواين وقال له: اشتر منى فاسا بخمسمائة دينار، فقال السلطان: ما أنزل الله بهذا من سلطان، هذا شئ لم تأت به الشريعة فقال: والله لا دخلتها هذه السنة، فبقى شهرًا والأمر لا يزداد عليه إلا تصعبا (1)، ففال الأمير أبو محمد عبد القادر لأبيه السلطان المذكور، يا أبت افعل ما قال لك الشيخ أبو الرواين، فإنه رجل مبارك من أولياء الله، وما زال به كذلك حتى أذن له في الكلام معه، فكلمه الأمير عبد القادر فقال: ادفع المال! فدفعه له، فقال: عند تمام السنة إن شاء الله يقضى الله الحاجة وأمري بأمره سبحانه، ثم إن الشيخ فرق المال من يومه ولم يمسك منه لنفسه حبة واحدة، ومن ذلك اليوم والسلطان المذكور في ظهور إلى أن تمت السنة فدخل فاسا كما قال (2) انتهى.
قلت: قول السلطان محمد الشيخ السابق: إن الشريعة لم تأت بمثل هذه الأفعال التي كان يتظاهر بها المترجم وأمثاله، لعله يعنى من حيث كون الإقدام على أمثال ذلك لم تأذن فيه الشريعة للعموم ومدعى التخصيص عليه البيان، وإقامة البرهان، وإلا فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على الربيع بأن تكسر ثنيتها قصاصا لها على ما فعلته بغيرها من مثل ذلك، فقال له سيدنا النضر: والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فأجابه صلى الله عليه وسلم بأن كتاب الله القصاص، وإثر هذا بادر المجنى عليهم إلى العفو عن الربيع، فحينئذ قال صلى الله عليه وسلم: إن لله (3) رجالا لو أقسموا على الله لأبرهم أو كما قال.
(1) في دوحة الناشر: "تعصبا".
(2)
الخبر بنصه في دوحة الناشر من الموسوعة 2/ 887.
(3)
في هامش المطبوع: "لفظ الصحاح إلا الترمذى: إن من عباد الله مكان لو أقسم على الله لأبره".