الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[استيلاء الفرنج عَلَى دمياط]
قَالَ ابن الْأثير [1] : لَمَّا ملكت الفرنج برج السّلسلة قطعوا السِّلاسل لتدخل مراكبهم في النّيل ويتحكّموا [2] في البرِّ، فنصبَ الملكُ الكامل عِوض السَّلاسل جسْرًا عَظيمًا، فقاتلوا عَلَيْهِ قتالا شديدا حَتَّى قطعوه، فأخذَ الكامل عدَّة مراكب كِبارٍ، وملأها حجارة وغرَّقَها في النّيل، فمنعت المراكب من سلوك النّيل.
فقصدت الفرنج خَليجًا يُعرف بالْأزْرَق، كَانَ النِّيل يجري قديما عَلَيْهِ، فحفروه وعَمّقوه، وأجروا الماء فيه، وأصعدوا مراكبهم فيه إلى بُورَة، فَلَمَّا صاروا في بورة حاذوا الملك الكامل وقاتلوه في الماء، وزحفوا إِلَيْهِ غير مرّة.
وأما دِمياط فلم يتغير عليها شيء، لأنَّ المِيرة متّصلة بهم، والنّيلُ يحْجز بينهم، وأبوابُها مُفتّحة، فاتّفق موتُ الملك العادل، فضعفت النُّفوس.
وَكَانَ عماد الدّين أَحْمَد بن المشطوب أكبر أمير بمصر، والْأمراء ينقادون لَهُ، فاتّفق مَعَ جماعةٍ، وأرادوا خلع الكامل وتمليك أخيه الفائز، فبلغَ الخبرُ الكاملَ، ففارق المنْزلة ليلا، وسار إلى قرية أشمون، فأصبحَ العَسْكر وقد فقدوا سُلطانهم، فلم يقف الْأخ عَلَى أخيه، وتركوا خيامَهم، وعبرت الفرنج النّيل إلى بَرِّ دِمِياط آمنين في ذي القِعْدَة، وحازوا المُعَسْكر بما فيه، وَكَانَ شيئا عظيما، فَمَلَكهُ الفرنجُ بلا تَعَبٍ.
ثُمَّ لَطَفَ اللَّه ووصل المُعَظَّم بعد هَذَا بيومين، وَالنَّاس في أمرٍ مريج [3] ، فقوّى قلبَ أخيه وثَبَّته، وأخرجوا ابن المشطوب إلى الشَّام. وأمّا العُرْبان فتجمّعت وعاثت، فكانوا أشدَّ عَلَى المُسلمين من الفرنج.
قَالَ [4] : وأحاط الفرنج بدِمياط وقاتلوها برّا وبحرا، وعملوا عليهم خندقا
[1] في الكامل 12/ 324 وما بعدها. (حوادث سنة 614 هـ) .
[2]
في الأصل: «ويتحكمون» .
[3]
أمر مريج: أي: مختلط.
[4]
ابن الأثير في الكامل 12/ 326.
يمْنعهم، وهذه عادتهم، وأداموا القتال، واشتدّ الْأمرُ عَلَى أهلها، وتعذّرت عليهم الْأقوات وغيرها، وسئموا القتال، لأنّ الفرنج كانوا يتناوبون القتال عليهم لكثرتهم، ولم يكن بدمياط من الكثرة ما يجعلون القتال عليهم بالنُّوبة، وَمَعَ هذا فصبروا صبرا لم يُسْمع بِمِثْلِهِ، وكثُر القتْل فيهم والجراح والموتُ، ودام الحصار عليهم إلى السَّابع والعشرين من شعبان من سنة ستّ عشرة، فعجز من بقي بها عن الحِفظ لقلّتهم، وتعذّر القُوت عليهم، فسَلَّموا بالْأمان، وأقام طائفة عَجزوا عن الحركة.
وبَثّت الفرنج سراياهم ينهبون ويقتلون، وشرعوا في تحصين دمياط وبالغوا في ذَلِكَ، وبقي الكامل في أطراف بلاده يحميها. وتسامعَ الفرنجُ بفتح دمياط، فأقبلوا إليها من كُلّ فجٍ عميق، وأضْحت دارَ هجرتهم، وخافَ النَّاس كافة من الفرنج.
وأشرف الإِسْلَام عَلَى خطَّة خسْف، أقبل التّتار من المَشْرق، وأقبل الفرنج من المغرب، وأراد أهلُ مصر الجلاء عَنْهَا فمنعهم الكامل، وتابع كُتبه عَلَى أخويه المُعَظَّم والْأشرف يحثّهما عَلَى الحضور، وَكَانَ الْأشرف مشغولا بما دَهمَهُ من اختلاف الكلمة عَلَيْهِ ببلاده عند موت القاهر صاحب المَوْصِل. وبقيَ الكاملُ مدَّةً طويلة مُرابطًا في مقابلة الفرنج إلى سنة ثمان عشرة، فنجده الْأشرف. وَكَانَ الفرنج قد ساروا من دمياط وقصدوا الكامل، ونزلوا مقابله وبينهما بحر أُشمون [1] ، وَهُوَ خليج من النّيل، وبقوا يرمون بالمنجنيق والجرْخ [2] إلى عسكر المسلمين، وقد تيقّنوا هُم وكلُّ النَّاس أَنَّهُم يملكون الدّيار المصريّة.
وأمّا الكامل فتلقّى الْأشرف وسُرَّ بقدومه، وسار المُعَظَّم فقصدَ دِمياط، واتفقَ الْأشرفُ والكاملُ عَلَى قتال الفرنج، وتقرّبوا، وتقدّمت شواني المسلمين، فقابلت شواني الفرنج، وأخذوا للفرنج ثلاث قِطعٍ بما فيها، فقويت النّفوس،
[1] هكذا في الأصل، وفي كامل ابن الأثير 12/ 328 «أشموم» بالميم. قال ابن دقماق: وهي بضم الألف وسكون الشين المعجمة وفي آخرها ميم، وقيل نون. قاله السمعاني. (الانتصار 68) .
[2]
الجرخ: آلة من آلات الحرب القديمة، وهي قذافة ترمى عنها السهام والنفط (معجم دوزي:
2/ 174) .
وتردّدت الرُّسُل في الصُّلح، وبَذَلَ المسلمون لهم تسليم بيت المَقْدِس، وعَسْقلان، وطبريَّة، وصَيْدا، وجَبَلَة، واللّاذقية، وجميع ما فتحهُ صلاح الدّين- رحمه الله سوى الكرك، فلم يرضوا، وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضا عن تخريب بين المَقْدِس ليعمّروه بها، فلم يتمّ أمر، وقالوا: لا بدّ من الكَرَك.
فاضطُرَّ المسلمون إلى قتالهم، وَكَانَ الفرنج لاقتدارهم في نفوسهم لم يستصحبوا [1] معهم ما يقوتهم عِدَّة أيّام، ظَنًّا منهم أَنَّ العساكر الإسلاميّة لَا تقوم لهم، وَأَنَّ القرى تبقى بأيديهم وتكفيهم. فعبرَ طائفةٌ من المسلمين إلى الْأرض الّتي عليها الفرنج فَفَجّروا النّيل، فركب أكثر تلكَ الْأرض، ولم يبقَ للفرنج جهةٌ يسلكونها غير جهةٍ واحدة ضيّقة، فنصب الكاملُ الجسور عَلَى النِّيل، وعبرت العساكر، فملكوا الطّريق الّتي يسلكها الفرنج إلى دِمْيَاط، ولم يبق لهم خلاص، ووصل إليهم مركب كبير وحوله عِدَّة حَرّاقات، فوقع عليها شواني المسلمين، وظفَرَ المسلمون بذلك كلِّه، فسُقِط في أيدي الفرنج، وأحاطت بهم عساكر المسلمين، واشتدّ عليهم الْأمرُ، فأحرقوا خيامهم ومجانيقهم وأثْقالهم، وأرادوا الزَّحف إلى المسلمين فعجزوا وذَلوا. فراسلوا الكامل يطلبون الْأمان ليسلّموا دِمْيَاط بلا عِوض، فبينما المراسلات متردّدة، إِذْ أقبل جمعٌ كبير لهم رهَجٌ [2] شديدٌ وجلبة عظيمةٌ من جهة دِمْيَاط، فظنّه المسلمون نجدة للفرنج، فَإِذَا بِهِ الملك المُعَظَّم، فخُذِل الفرنج، لعنهم اللَّه، وسلَّموا دِمْيَاط، واستقرّت القاعدة في سابع رجب سنة ثمان عشرة، وتسلّمها المسلمون بعد يومين، وَكَانَ يوما مشهودا فدخلها العسكر، فرأوها حَصينة قد بالغَ الفرنج في تحصينها بحيثُ بقيت لَا تُرام، فلله الحمد عَلَى ما أنعم بِهِ. وَهَذَا كلّه ساقه ابن الْأثير [3]رحمه الله متتابعا في سنة أربع عشرة.
وَقَالَ غيره- وَهُوَ سعد الدّين مسعود بن حمّويه فيما أَنْبَأَنَا-: لَمَّا تقرر الصُّلح جلس السّلطان في خَيْمَته، وحضر عنده الملوك، فَكَانَ على يمين السّلطان
[1] في المطبوع ص 26 من الطبقة الثانية والستين: «يستصبحوا» ، وهو غلط.
[2]
الرهج: الغبار.
[3]
في الكامل 12/ 324- 331.
صاحبَ حمص الملكُ المُجاهد، ودونه الملك الْأشرف شاه أرمن، ودونه الملك المُعَظَّم عيسى، ودونه صاحب حماة، ودونه الحَافِظ صاحب جَعْبَر، ومُقَدَّم نجدة حلب، ومُقدّم نجدة المَوْصِل، ومقدّم نجدة ماردين، ومقدَّم نجدة إربل، ومقدَّم نجدة ميّافارقين، وَكَانَ عَلَى يساره نائب الباب، وصاحب عَكّا، وصاحب قبرص، وصاحب طرابلس، وصاحب صَيْدا، وعشرون من الكُنود لهم قلاع في المغرب، ومقدَّم الدَّاوية، ومُقدَّم الإسبتار. وَكَانَ يوما مشهودا. فرسَم السّلطان بمبايعتهم وَكَانَ يحمل إليهم في كلّ يوم خمسين ألف رغيف، ومائتي إردبّ شعير، وكانوا يبيعون عُدَدَهم بالخُبْز ممّا نالهم من الْجُوع. فَلَمَّا سَلَّموا دِمْيَاط أطلقَ السّلطان رهائنهم، وبقي صاحب عكّا حتّى يطلقوا رهائن السّلطان. فأبطئوا، فركب السّلطان ومعه صاحب عكّا، وَكَانَ خلقة هائلة، فأخرجَ السّلطان من صَدْر قبائه صليبَ الصَّلبوت، الَّذِي كَانَ صلاحُ الدّين أخذَه من خزائن خُلفاء مصر، فَلَمَّا رآه صاحب عكّا رمى بنفسه إلى الْأرض، وشكر السّلطان، وَقَالَ: هَذَا عندنا أعظم من دمياط. وقال له السّلطان: خذ هَذَا تذكارا من عندي، واركب في مركب، ورُح نفِّذ رهائننا، فلم يفعل، وبعث الصّليب مَعَ قِسّيس.
وحكى بعضهم [1] قَالَ: وفي شعبان أخذت الفرنج دِمْيَاط، وَكَانَ المُعَظَّم قد جهّز إليها ناهض الدّين ابن الجرخي [2] في خمسمائة راجل، فهجموا عَلَى الخندق، فقُتِلَ الناهضَ ومن كَانَ معه، وضَعُفَ أهلُ دِمْيَاط المساكين، ووقع فيهم الوَباء والغَلاء، وعَجَزَ الملكُ الكامل عن نُصرتهم، فسلّموها بالْأمان، وفتحوا للفرنج، فغدروا، لعنهم اللَّه، وقتلوا وأسَروا، وجعلوا الجامعَ كنيسة، وبعثوا بالمصاحف ورءوس القتلى إلى الجزائر.
وَكَانَ بدمياط الشَّيْخ أَبُو الحَسَن بن قُفْل [3] الزّاهد صاحب زاوية، فما تعرّضوا له.
[1] هو سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان ج 8 ق 2/ 603.
[2]
تحرّف في المرآة إلى «الحرجي» . والمثبت يتفق مع: ذيل الروضتين 116.
[3]
هكذا في ذيل الروضتين 117، وفي المرآة 603 «أبو الحسن بن الفضل» .
قَالَ أَبُو شامة [1] : أَنَا رأيته بدمياط سنة ثمانٍ وعشرين.
وبلغَ الكاملَ والمُعظم فبكيا بكاء شديدا، وَقَالَ الكامل للمُعظم: ما في مقامك فائدة، فانزل إلى الشَّام وشوّش خواطر الفرنج، واجمع العساكر من الشَّرْق.
قَالَ ابن واصل [2] في أخْذ دِمْيَاط: وحين جرى هَذَا الْأمر الفظيع، ابتنى الملك الكامل مدينة، وسمّاها المنصورة عند مفرق البَحْرين الآخذ أحدهما إلى دِمْيَاط، والآخر إلى أُشمون، ومَصَبُّهُ في بحيرة تِنّيس، ثُمَّ نزلها بجيشه، وبنى عليها سورا.
وذكر ابن واصل: أَنَّ تملّك الفرنج دِمْيَاط كَانَ في عاشر رمضان.
قَالَ أَبُو المُظَفَّر [3] : فكتب إليَّ المُعَظَّم وَأَنَا بدمشق بتحريض النَّاس عَلَى الجهاد ويقول: إنّي كشفت ضياع الشَّام فوجدتها ألفي قرية، منها ألف وستّمائة قرية أملاك لأهلها، وأربعمائة سلطانيّة، وكم مقدار ما يقيم هذه الأربعمائة من العساكر؟ فأريد أن تُخْرِج الدَّمَاشِقة ليذبّوا عن أملاكِهم. فقرأتُ عليهم كتابَهُ في الميِعاد، فتقاعَدوا، فَكَانَ تقاعدهم سببا لأخذ الخُمْس والثُّمن من أموالهم.
وكتب إليَّ: إِذَا لم يخرجوا فسِرْ أَنْتَ إليَّ. فخرجتُ إلى السّاحل، وقد نزَلَ عَلَى قَيْسارية، فأقمنا حَتَّى افتتحها عَنْوةً، ثُمَّ نزل عَلَى حِصْن البَقَر فافتتحه وهَدَمه، وقدم دمشق [4] .
[1] في الذيل 117.
[2]
في مفرّج الكروب 4/ 33.
[3]
في المرآة 8/ 604.
[4]
انظر عن (أخذ دمياط) أيضا في: تاريخ الزمان 253، وزبدة الحلب 3/ 188، والمختصر في أخبار البشر 3/ 122، والدرّ المطلوب 203، وتاريخ المسلمين لابن العميد 133، ودول الإسلام 2/ 119، والعبر 5/ 59، ومرآة الجنان 4/ 31، 32، وتاريخ ابن الوردي 2/ 137، والبداية والنهاية 13/ 83، 84، والإعلام والتبيين 53، وتاريخ ابن خلدون 5/ 344، 345، والسلوك ج 1 ق 1/ 201، والنجوم الزاهرة 6/ 238، وتاريخ ابن سباط 1/ 268، 269، وشذرات الذهب 5/ 66، وتاريخ الخلفاء 456.