الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما القباب والأضرحة والجبانات فكانت كثيرة. والذي يعبر الطريق من الجزائر إلى وهران يشاهد القباب في كل مكان على جانبي الطريق، القباب البيضاء أو الخضراء للمرابطين والصالحين، وهي قباب ذات حرمة كبيرة، وللناس في أصحابها عقائد مختلفة، وقد اشتهرت بعض المعارك لوقوعها عند قبة أحد الصالحين، مثل معركة سيدي إبراهيم (1846). وقد عد بعضهم تسع قباب وزوايا في ضاحية غريس وحدها من جهة معسكر (1)، وهذا لا يعني أن القباب على العموم كانت دائما محل احترام، عند الفرنسيين، فقد هدموا ضريح وزاوية أولاد سيدي الشيخ في البيض بعد ثورتهم سنة 1864. وفقدت زاوية القيطنة قيمتها وأهملت.
الأوقاف
الوقف أو الحبس نظام إسلامي معروف. وله أهمية اجتماعية واقتصادية وعلمية كبيرة في المجتمع، واستحدثه المسلمون لتوفير المال والسكن وغيرهما من المساعدات للعلماء والطلبة والفقراء والغرباء والأسرى واللاجئين، وصيانة المؤسسات التي أنشئت لهذه الأغراض، كالماء والطرق والمساجد والزوايا والقباب، الخ. وهذا النظام يرمز إلى التكافل الاجتماعي والتضامن بين المسلمين غنيهم وفقيرهم. وكان الوقف هو المصدر الأساسي لنشر التعليم والمحافظة على الدين. وكانت ميزانيته في الواقع تشمل ميزانيات عدة وزارات في الحكومات الحاضرة، ومنها التعليم والشؤون الدينية والشؤون الاجتماعية والشؤون الثقافية والعدل. وقد تناولنا صيغته وأنواعه ومجالاته في جزء آخر من هذا الكتاب.
وأنواع الوقف التي كانت موجودة عند الاحتلال على فرعين، أوقاف
(1) جاء في سجل (طابلو) سنة 1839، ص 265. إن في معسكر اثني عشر قبة (زاوية؟) تسعة داخل المدينة وثلاثة في الضواحي. وقد أكد ابن بكار وجود تسع زوايا في ناحية غريس. انظر كتابه (مجموع النسب).
عامة وأوقاف خاصة (1). أما الأوقاف العامة فهي:
1 -
أوقاف بيت المال، 2 - أوقاف الطرقات، 3 - أوقاف العيون (المياه)، 4 - أوقاف الأندلس، 5 - أوقاف الأشراف، 6 - أوقاف مكة والمدينة، 7 - اوقاف سبل الخيرات.
وأما الأوقاف الخاصة فهي:
1 -
أوقاف الشيخ الثعالبي، 2 - أوقاف الجامع الكبير، 3 - أوقاف مختلف المساجد والزوايا والقباب والجبانات، كل منها على حدة، 4 - أوقاف القينعي (2).
والمقصود بالأوقاف العامة هنا هي ذات الطابع الجماعي والمداخيل المحددة والأشراف على مجموعة من الملحقات والتوابع، ولكن في هذا التعريف يلاحظ بعض القيود والخصوصيات أيضا، فمثلا أوقاف الأشراف كانت خاصة بفئة معينة في المجتمع، وكذلك أوقاف الأندلس، فهي لا تتعدى إلى غيرهم. كما أن أوقاف سبل الخيرات رغم عموميتها فهي خاصة بمباني المذهب الحنفي، وهكذا. فالتعريف بالعمومية غير دقيق أحيانا. وعلينا أن نتذكر ذلك لأننا سنواجه تحليلات قانونية فرنسية حول هذه الأوقاف.
ويقصد بالأوقاف الخاصة تلك التي تستعمل فقط لمسجد بعينه أو زاوية أو قبة. وكان لكل مبنى من هذه المباني أوقافه الخاصة به منصوصا عليها في الوقفية منذ إنشائها، ولكل بناية وكيل يسهر على المبنى وأوقافه
(1) عن أنواع الوقف كما وردت في مذكرة أحمد بوضربة إلى اللجنة الإفريقية سنة 1833، انظر جورج ايفير (مذكرة بوضربة)(المجلة الإفريقية) 1913، ص 240 تعاليق. وهناك دراسة هامة عن أنواع الملكية في الجزائر (عامة وخاصة) ظهرت في مجلة الشرق R. de L'Orient 1844، ص 47 - 55، عن وثائق وزارة الحربية.
(2)
هذا الوقف تأسس سنة 1868، ولكنه خضع أيضا لنفس الشروط والقوانين الفرنسية. انظر لاحقا.
فيعيش منها ويستعمل ريعها في الصيانة ويصرف الفائض على نفسه أو على الفقراء والعلماء الخ، إذا نصت الوقفية على ذلك. فالوكيل هنا مقيد وملتزم بنصوص الوقفية. وقد كان للمباني العمومية وكلاء أو نظار، وجميعهم يعينهم الداي في الجزائر والباي في الأقاليم، وهم مسؤولون لديه، ولهم محاسبون دوريون، تقدم إليهم السجلات والحسابات لمعرفة حالة المداخيل والمصاريف واستعمال حقوق الوقف في مكانها المشروع.
ومنذ اللحظات الأولى للاحتلال وقع الغدر بالمادة الأساسية في اتفاق الجزائر في يوليو 1830، وهي المادة التي تنص على احترام الأملاك واحترام الدين الإسلامي والعادات الخ. فقد استولى المحتلون الفرنسيون على ما اسموه بأملاك البايلك أو الدولة الجزائرية، ثم على أملاك أخرى سموها أملاك الأتراك، وبعد أقل من شهرين أصدروا قرارا نص على وضع جميع الأملاك الدينية وبناياتها في يد أملاك الدولة الفرنسية (الدومين). وهكذا دخلت الجزائر في قبضة الأخطبوط الجائع الذي رأى المال في يد السكان جريمة يعاقبون عليها. ولقد كان على الجزائريين أن يحتجوا على هذه الإجراءات التعسفية ومصادرة أملاك آبائهم وأجدادهم وحرمانهم من حقوقهم الشرعية ومن تراثهم الديني، ولكن كانت الكلمة للقوة.
واستمرت (التشريعات) الفرنسية تسلب الجزائريين حقوقهم مرحلة بعد مرحلة إلى أن اندمجت مداخيل الأوقاف الإسلامية في ميزانية الدولة الفرنسية وضاع حق الجزائريين في التعليم منها وفي المساعدات الاجتماعية لفقرائهم. كما كان مصير عقاراتها وأراضيها هو التوزيع على المهاجرين الفرنسيين (الكولون). وكان حظ المساجد والزوايا والقباب والجبانات في العاصمة بالذات هو الهدم والتصرف الحر فيها والتعطيل عن الغرض، كما عرفنا. والعجب أن الجزائريين قد نسوا كل ذلك اليوم، نسوه كدولة من واجبها أن تطالب به الدولة الفرنسية التي استولت على ما أسمته بأملاك البايلك سنة 1830، ونسوه كشعب عليه أن يكون ذاكرا لكل حقوقه محافظا. على كل تراثه لأنها حقوق وتراث أجيال وليست لجيل بعينه.
بالنسبة لأملاك الدولة، اعتبر قادة الحملة الفرنسية أن كل ما كان بيد الدولة الجزائرية أصبح ملكا للدولة الفرنسية. ولذلك استولوا على القلاع والقصور والثكنات وما شابهها، وكذلك استولوا على الخزينة العامة والأسلحة والثروات والعتاد والأراضي التابعة للبايلك. وكلما استولوا على مدينة أو منطقة طبقوا علها هذا المبدإ وضعوا أملاك الدولة المقهورة إلى أملاك الدولة القاهرة.
وهناك ملكيات فردية أو خاصة استولى عليها الفرنسيون أيضا بمنطق الغزو والجبروت، لأنهم لو حافظوا على معاهدتهم مع الداي حسين لما تعرضت هذه الملكيات لسوء ولبقيت في أيدي أصحابها. يقول السيد أوميرا، إن قائد الحملة (بورمون) لم يجد صعوبة في إسكان الجيش (1). فلم يكتف بالاستيلاء على الثكنات وقلعة ال 24 ساعة (اختفت) وقلعة باب عزون (هدمت). وسكن القائد نفسه في بناية جميلة هي المعروفة بقصر الشتاء، وأسكن قادة الجيش في أجمل منازل الحضر، وهي المنازل (الفيلات) التي وضعت أيضا تحت تصرف الإدارة العسكرية والمدنية. وقد اتخذ قرارا بجعل كل الأملاك تحت إدارة الدولة (الدومين)، بإشراف السيد جيراردان، مترجم جيش الحملة. كما تقرر ضم بيت المال (2) إلى هذه الإدارة وجعلها تحت التصرف المباشر لجيراردان. وبعد ذلك بقليل صدر القرار بمصادرة جميع أملاك (الأتراك) في الجزائر. وهذه المصادرة على نوعين، الأول يخص الأتراك الجنود غير المتزوجين في الجيش الإنكشاري، والثاني يخص الأتراك المتزوجين من جزائريات ولهم ذرية. وليس هناك مبرر قانوني، حسب اتفاق الداي مع بورمون، لانتزاع الملكية من هؤلاء ولا من أولئك. أما بالنسبة
(1) أوميرا، (الأملاك الحضرية في مدينة الجزائر)، المجلة الإفريقية، 1898، 168 - 169.
(2)
يجب ألا يفهم من عبارة (بيت المال) الخزينة أو خزانة الدولة. إن بيت المال هنا تعني المصلحة المديرة لأملاك الغائبين والهالكين أو الذين لا عقب لهم، ونحو ذلك. وكانت ذات مال كثير سنذكر نموذجا لمدخولها.
للمتزوجين فقد نشأت أزمة اجتماعية وإنسانية على المصادرة والطرد من البلاد. فإذا كانت المصادرة بحجة أن المالك زكي، فأين حقوق الزوجات والأبناء في الملكية؟ وقد احتج حمدان خوجة ومن معه على هذا الخرق الصارخ للاتفاق وعلى الظلم الفاحش والحرمان الذي طرأ في حق الزوجات والذرية من تجريد الأتراك من أملاكهم ومصادرتها وضمها لأملاك الدولة الفرنسية. إن الفرنسيين لم يكتفوا بالتفريق بين المالك وملكه بل بين الزوج وزوجه وبين الأب وبنيه أيضا (1).
يذهب الفرنسيون إلى أنه لو لم يستعملوا تلك الطريقة لتأخر إنشاء الملكية الفرنسية في الجزائر سنوات طويلة. فتجريد الأتراك من أملاكهم ومصادرة أملاك مكة والمدينة وغيرها، مثل أملاك الأندلس، قد سهل على الدولة الفرنسية توفير العقارات والمباني لمنحها للأوروبيين المهاجرين للاستيطان والاستقرار. ذلك أن الملكية كانت غير قابلة للتقسيم والبيع، بصفتها جماعية، وكان من بين أصحاب الحقوق فيها أناس غائبون، إلى غير ذلك من العراقيل التي رآها الفرنسيون تحول دون تمتعهم بالسكن السريع. كما أن المضاربات كانت تأخذ طابعا فظيعا حول التملك في العقارات لأن بعضهم وجد نفسه يبيع ما لا يملك والآخر يشتري ما هو غير موجود. لذلك قررت السلطات الفرنسية الاستيلاء بالقوة على الأملاك وبيعها للأوروبيين والتصرف فيها. وكان أول الضحايا لهذه الإجراءات هم الأتراك، كما ذكرنا ثم أملاك الأوقاف الإسلامية، ثم أملاك الحضر أنفسهم. لقد كان الفرنسيون على ما قيل يخشون من ثورة الإنكشارية فحكموا بطردهم، بل اعتبروا حتى الكراغلة خطرا، عليهم في البداية. وعزلوهم من وظائفهم، ولم يكتفوا بذلك بل طردوا كثيرا منهم وصادروا أملاكهم، كما أشرنا، وأظهروا شيئا من
(1) كان حمدان خوجة معنيا شخصيا إذ كانت إحدى بناته متزوجة من تركي. وحين احتج لدى الحاكم الفرنسي قال له: طلقها منه! فقال له خوجة إن الطلاق لا يكون بالإكراه، ولكن الفرنسي أصر على طرد الزوج التركي. انظر عبد الكريم (حمدان بن عثمان خوجة)، مرجع سابق، ص 225.
التسامح مع الحضر واليهود في البداية أيضا. واستعملوا أسلوب التفريق بين السكان، فكان القرار الأول لطرد الأتراك قد صدر عن كلوزيل، قائد جيش الاحتلال، في سبتمبر 1830، أما القرار الثاني فقد صدر عن خلفه، بيرتزين، في جوان 1831.
لقد أصبح الأتراك خارج الجزائر، فمن يسمع احتجاجهم ضد الظلم الذي وقع عليهم؟. وكانت لهم حقوق كغيرهم من المسلمين في أوقاف مكة والمدينة وغيرها ولكن جميعها قد صودرت (1) منذ سبتمبر 1830، كما سنرى. والكتاب الفرنسيون يعترفون أن لكل المسلمين الحق في الأوقاف بمن فيهم الأتراك، الذين أصبحوا خارج الجزائر. ولكن الاحتجاجات أسكتت بالردع، فاستعمل كلوزيل العصا الغليظة وكذلك روفيقو، الذي جاء سنة 1832. كما حرش الفرنسيون بعض الجزائريين ضد الأتراك، بينما عاش الفرنسيون المرحلة الأولى يمتصون دم هذا وذاك على السواء، ويستنزفون خيرات الأوقاف العامة والخاصة. وقد حاول العلماء والوكلاء أن يفهموا الفرنسيين أن الأملاك الدينية لا تخص فريقا واحدا من المسلمين. فأملاك مكة والمدية والأندلس والأشراف كانت كلها فردي خدمات عامة لجمع المسلمين مثلها في ذلك مثل المساجد والزوايا وعيون الماء والطرقات، وأن مؤسسات الوقف تقوم بخدمات تعليمية واجتماعية كبيرة، لأن مداخيلها كانت تستعمل لأغراض محددة و. اجبارية مثل المساعدات العامة، والتعليم وأجور العلماء والطلبة والعناية بالمقابر ودفن الموتى، وتوفير الماء والمحافظة على الطرقات (2).
وقد لخص بعضهم الأوجه الاجتماعية والدينية لخدمات مؤسسات
(1) يذهب الكتاب الفرنسيون إلى أن كلمة (المصادرة) لم ترد في قرار 1830 وإنما وردت كلمة الضم. أما عبارة المصادرة الصريحة نقد وردت في نظرهم في القرار الصادر سنة 1848. ونحن هنا لا نفرق بين العبارتين ما دام الهدف واحدا وهو الاستيلاء والتحكم في مداخيل ومصاريف أملاك الدولة والأوقاف.
(2)
أوميرا، ص 171.
الوقف العامة على النحو التالي:
1 -
ما يذهب ريعه للتخفيف على الفقراء بتوزيع النقود والمواد الغذائية، يوم الخميس وعشية الجمعة.
2 -
ما يستعمل ريعه لصيانة المؤسسات الدينية، في مكة والمدينة بالذات، وهو الريع الذي يصل إلى شيخ الإسلام في مكة سنويا.
3 -
الريع الذي يستعمل لافتداء الأسرى المسلمين عند النصارى. (وهذا طبعا كان قبل الاحتلال الفرنسي، وأسقطه الفرنسيون بعد الاحتلال).
4 -
ما يعود ريعه إلى صيانة المساجد والمباني الدينية على العموم (1).
5 -
مصارف وأجور القائمين على المساجد وغيرها كالأيمة والعلماء والطلبة والحزابين والوكلاء.
إن الأطروحة التي انطلق منها الفرنسيون في مصادرة أملاك الوقف قد ذكرناها، ولكن بعض الكتاب المتأخرين يدورون حول أسباب أخرى تبدو أحيانا بعيدة عن هدف الفرنسيين الأولين. إن الدافع الرئيسي من الاستيلاء على الأوقاف العامة كان يتمثل في نظرنا في الرغبة في الاستحواذ على الأموال لتضخيم ودعم ميزانية الدولة الفرنسية، وهو أمر واضح من مبدإ الاستعمار نفسه، إذ هو الاستثراء على حساب الشعب المستعمر. ويفتخر الفرنسيون بأنهم قد وجدوا في خزينة الدولة الجزائرية من المال ما عوضهم عن حملتهم بل فاض عليه، واعتبروا ذلك من نوادر حملاتهم، بل الحملات جميعا. ولكنهم لم يكتفوا بالخزينة الرسمية، بل مدوا أيديهم وعيونهم للأوقاف العامة أيضا، وهي كما نقول اليوم (مال الشعب). فأضافوا مداخيلها
(1) أشيل روبير (الدين الإسلامي في مدينة الجزائر)، في (روكاي)، 1918، 237. لاحظ أن السيد روبير قد اعتمد على مذكرة هامة كتبها ش. مانقي Mangay سنة 1836، وهو (مانقي) ضابط في الهندسة العسكرية، وعنوان هذه المذكرة (ملاحظات على الملكية في مدينة الجزائر قبل الاحتلال).
إلى مداخيل أملاك الدولة الفرنسية، وحرموا منها المسلمين أصحاب الحقوق فيها.
أما الدافع الثاني في نظرنا في الاستيلاء على الأوقاف العامة، فهو ما أشار إليه البعض أحيانا، وهو الخوف من أن يستعمل المسلمون المال الذي عندهم لاسترداد سيادتهم على بلادهم والتحكم في مصيرها وطرد الفرنسيين منها. فالمال قوام الأعمال، كما يقولون، والفرنسيون الأولون كانت لا تغيب عنهم هذه الفكرة، وقد تجسسوا على المفتي ابن العنابي وحصلوا منه على تصريح بأنه مستعد لجمع جيش وإعلان الجهاد ضد جيش الاحتلال. وكانت للداي حسين مراسلات بالشفرة مع علماء وشيوخ وأعيان الجزائر يعدهم فيه بالرجوع ويحثهم على الصبر ومواصلة العمل على تحرير البلاد. وقد وقعت هذه المراسلات في أيدي المخابرات الفرنسية فعرقلوا المخطط. وكان حمدان خوجة يتراسل بالشفرة أيضا مع عدد من زعماء البلاد، وسافر إلى قسنطينة مرتين للاتصال بالحاج أحمد، إلى غير ذلك من المحاولات التي تجعل الفرنسيين يتوجسون خيفة من عملية مضادة يكون المال الذي في أيدي أملاك الأوقاف وسيلة كبيرة لها. فبادروا بوضع أيديهم على هذه الأملاك منذ أول وهلة، دون مراعاة المعاهدة ولا ذوي الحقوق ولا حرمة الدين.
لكن ما يذكره البعض كسبب لمصادرة أملاك الأوقاف لا يخلو أيضا من عبرة وتأمل. إن السيد ديفوكس المعاصر لعمليات المصادرة وردود الفعل، يرى أن وراء ذلك أفكارا معادية للدين عموما جاء بها الفرنسيون المتأثرون بثورتهم سنة 1789، وهي أفكار مضادة لرجال الدين من جهة ومضادة للتعصب الإسلامي من جهة أخرى. وقد أيد ديفوكس هذه الأطروحة، فقال: إن وضع الأوقاف في الجزائر يشبه وضع أملاك رجال الدين في فرنسا قبل الثورة. لذلك كانت الإدارة الفرنسية في الجزائر حريصة على أن لا يكون لرجال الدين دخل خاص، بل يجب أن يكون كل شيء تحت يد الإدارة نفسها، وهي التي تتولى نفسها الصيانة والتسيير مباشرة. ويبدو أن السيد ديفوكس قد نسي أن الأوقاف ليست مالا خاصا لرجال الدين، بل هم أمناء
عليها فقط. ومع ذلك فهو يرفض النقاش حول الاعتراضات التي وردت على مصادرة الأوقاف، وجاء بمبررات لهذه المصادرة لا تخلو من عبرة للجزائريين اليوم. فقد قال عن الشعب الجزائري إنه شعب متعصب غارق في الروتين والتقاليد، بعيد كل البعد عن الأفكار الفرنسية، وهو شعب خصم للمحتلين، ولا يرى في الإصلاحات الفرنسية (؟)، إلا وسيلة للتدخل والإهانة، ونقضا للمعاهدات، والاستغلال. واعترف ديفوكس، بأن الحكومة الفرنسية قد (ضربت ضربة قوية) في الجزائر سنة 1830 حين أنشأت نظاما لإدارة أوقاف المسلمين شبيها بما كان عند الفرنسيين. ثم أيد قرار كلوزيل الذي سنتحدث عنه (07 ديسمبر 1830)(1).
وهناك أطروحة أخرى جاءت في سجل الإحصاءات (طابلو) لسنة 1839، كما رددها بعض الكتاب منذ ذلك الحين. وهي تقوم على أن الوكلاء كانوا غير أمناء ولا نزهاء، فهم يدخلون فقراء ويخرجون أغنياء، ومعنى ذلك أن منصب الوكيل على الأوقاف عموما هو منصب جالب للمال والثروة، وأن مال الأوقاف كان يذهب إلى جيوب الخواص فيستفيدون منه هم قبل غيرهم من أصحاب الحقوق. ويتهم صاحب هذا الرأي نزاهة الوكلاء ويظهر حرص الإدارة الفرنسية على المصلحة العامة أكثر من حرص الوكلاء عليها. ويذهب إلى أن هذه الإدارة قد أبقت على نظام الوكلاء بعض الوقت فظهر فيهم الفساد والتعفن كما كان الحال في العهد (التركي)، ولكن هذه الأطروحة مردودة، لأن السلطات الفرنسية لم (تجرب) هؤلاء الوكلاء ثم تتخذ قرارها بل إن قرارها قد صدر في سبتمبر 1830، بعد شهرين فقط من الاحتلال، ولو أنها انتظرت عاما أو عامين أو أكثر وحصلت على حسابات غير نزيهة لصدقنا الأطروحة المذكورة. وقد ضرب البعض مثلا على الفساد وسوء التسيير لدى الوكلاء فقال إن أوقاف مكة والمدينة وحدها كانت سنة 1835 توفر ما قدره 90، 000 فرنك (بعد المصادرة)، غير أن الفرنسيين لم
(1) ديفوكس (البنايات الدينية
…
)، مرجع سابق 44 - 45.