الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مراسلات وعلاقات مع الطرق الصوفية في المشرق والمغرب كالقادرية والسنوسية والطيبية، وحاربوا ما أسموه دعاية الجامعة الإسلامية، ووقفوا في وجه المهاجرين إلى المشرق، سيما في فترات معينة متل 1875، 1895، 1911. وبنوا مدارس إسلامية على طريقتهم لإخراج القضاة والمعلمين حتى لا يضطر الجزائريون إلى الخروج إلى الأزهر والزيتونة أو يضطر الفرنسيون إلى توظيف مسلمين (أجانب) عن مدرستهم. ولكن الحدود التي أقامها الفرنسيون أو أغلقوها لم تمنع، مع ذلك، من هجرة الجزائريين إلى المغرب والمشرق، ولا من تعلمهم في بعض الجامعات الإسلامية والعربية، ولا من تأثرهم بالأفكار التي كانت تروج داعية المسلمين عامة إلى النهضة والتخلص من الاستعمار.
وفي هذا الفصل سنعرض باختصار لحركة الهجرة الجزائرية نحو بلدان المغرب العربي والمشرق العربي والإسلامي. وسنتعرف على أدوار المهاجرين في الحركة الفكرية في البلدان التي نزلوها دون أن نتوسع في الحياة السياسية والاقتصادية لأن هذا خارج عن نطاق الكتاب. وسنتعرض أيضا إلى الزيارات والمراسلات المتبادلة وإلى تأثير الأفكار الشرقية (الإسلامية والعربية) في الجزائر، ودراسة الطلبة الجزائريين بالمشرق في مختلف المراحل، وكذلك نظرة علماء المشرق إلى العلماء الجزائريين.
الهجرة نحو المغارب والمشارق
غداة الاحتلال خرجت أعداد كبيرة من الجزائريين متجهة نحو البلدان المجاورة مثل تونس والمغرب (1). وكانت الهجرة في البداية من مدينة الجزائر ثم تلتها المدن الأخرى. وكانت الهجرة تشمل عادة أعيان البلاد وأغنياءها وعلماءها. وفي المراحل التالية للاستعمار شملت الهجرة القرى الريفية أيضا والمناطق النائية، كما شملت غير الأعيان. وكل هذه الأنماط من الهجرة كانت اضطرارية، فبعضهم هاجروا هروبا من حكم (النصارى)
(1) انظر فقرة الهجرة وحكمها في فصل مذاهب وتيارات.
الفرنسيين. وبعضهم فعل ذلك طلبا للعيش في كنف الإسلام والحرية الدينية. وجل المهاجرين بعد 1850 فعلوا ذلك لأنهم فقدوا أراضيهم التي استولى عليها الكولون بمساندة الإدارة الاستعمارية. كما هاجر آخرون بعد فشل الانتفاضات وتعرضهم للعقوبات الصارمة ووضعهم تحت طائلة (قانون الأهالي) البغيض. فالقول بأن الهجرة نحو المشرق كانت لأسباب (سيكولوجية) فيه ابتعاد عن الحقيقة أو بالأحرى لا يذكر كل الحقيقة (1). لأن الابتعاد بالدين أو الهروب من العيش تحت حكم الفرنسيين لم يكن هو السبب الوحيد في الهجرة، كما يهم من عبارة (سيكولوجية)، بل هناك أسباب اقتصادية وسياسية وراء ذلك. بقى أن نذكر أن بعض أعيان الجزائريين قد أجبرتهم السلطات الفرنسية نفسها على الهجرة مثل المفتي ابن العنابي والمفتي ابن الكبابطي (2) وقدور بن رويلة. وكان بعضهم قد تعرضوا للنفي فتحولوا إلى المشرق مثل عبد العزيز الحداد ومحمد وعلي السحنوني.
بالإضافة إلى الأسباب الدينية (مصادرة الأوقاف وهدم المساجد والزوايا وتدجين رجال الدين الباقين) والأسباب الاجتماعية والاقتصادية (اغتصاب الأراضي وتدهور الصناعات المحلية، وقانون الأهالي، وتغيير الحالة المدنية والعقوبات بعد الثورات)، هناك عوامل أخرى شجعت على حركة الهجرة نحو المشرق العربي والإسلامي وكذلك نحو تونس والمغرب. من ذلك أن بعض الحضر (أهل المدن) كانوا من أصول مشرقية فلما سقط الحكم العثماني فضلوا الرجوع إلى بلدان أجدادهم طلبا للأمان. ومن ذلك أن الجزائريين الذين سبقوا بالهجرة أخذوا يحثون إخوانهم، سيما من الأعيان، على اللحاق بهم في الشام أو في اسطانول أو في الحجاز، وكانوا يزينون لهم الإقامة هناك ويذكرونهم بمساوئ الحكم الاستعماري. ومن جهة
(1) ج. ج. راجي Rager (المسلمون الجزائريون
…
) في (مجلة البحر الأبيض) عدد 2، م 8، 1950، ص 169.
(2)
عن هذين العالمين انظر دراستنا عنهما: (رائد التجديد الإسلامي) ط. 2، بيروت 1989، وكذلك أبحاث وآراء، ج 2.
أخرى فإن للشرق سحره وجاذبيته في أذهان الجزائريين. فكل دارس لتاريخ الإسلام والحضارة العربية يتذكر الرنين الذي يحدثه في قلبه اسم مكة والمدينة، واسم بغداد ودمشق، والقاهرة والأزهر، وأسطانبول والقدس. كما كان لدعوة الجامعة الإسلامية التي ظهرت على يد جمال الدين الأفغاني ثم تبانها السلطان عبد الحميد الثاني، تأثيرها الخاص على الجزائريين. وكانت بعض الطرق الصوفية، كالسنوسية، قد جعلت من سياستها دعوة الجزائريين إلى الهجرة إلى أرض الإسلام (1). أما تونس والمغرب وليبيا فقد كانت بوابات الأمان بالنسبة للجزائريين المضطهدين، من عهد الأمير عبد القادر إلى عهد ابن باديس. ولكن احتلال الفرنسيين لتونس فالمغرب ثم سورية قد غير من أوضاع الجزائريين في هذه البلدان أيضا (2).
تذكر المصادر الفرنسية تواريخ مختلفة للهجرة نحو المشرق. فهذا أوغسطين بيرك يذكر السنوات التالية كمعالم بارزة في تاريخ الهجرة، وهي: 1830، 1832، 1854، 1860، 1870، 1875، 1888، 1898، 1910، 1911. وهناك تواريخ أخرى ألح عليها كل من آجرون وباردان، وهي: 1837، 1849، 1864. ويذكر باردان أن حركة الهجرة تكثفت بين 1847 - 1854، ثم سنة 1896، ونعرف أن سنة 1911 قد شهدت هجرة غير عادية نتيجة فرض التجنيد الإجباري. ومن ذلك نتبين أن الهجرة لم تنقطع بين 1830 - 1914 نحو المشرق، وكذلك تونس والمغرب، ولكن الفرق في الكثافة وفي موقف السلطات الفرنسية من التغاضي عنها أو منعها.
والمناطق التي شهدت حركة الهجرة تختلف أنباء. في المرحلة الأولى
(1) بيير باردان (الجزائريون والتونسيون في الدولة العثمانة)، فرنسا (؟) 1979 أفكار عامة. انظر كذلك فصل الطرق الصوفية من كتابنا هذا.
(2)
تذكر السيدة ديفرو بامبر PEMBER في (مظاهر الجزائر) لندن 1912، ص 143 أن من أسباب الهجرة المراباة اليهودية وحرص الكولون على شراء الأرض التي يضطر أهلها إلى بيعها، ويجب أن نضيف ذلك إلى حرص السلطات نفسها أيضا .. انظر لاحقا.
كانت الهجرة من المدينة، كما ذكرنا، ابتداء من العاصمة، ثم تلاحقت المدن الأخرى: البليدة، المدية، قسنطينة، وهران، بجاية، تلمسان، الخ. وفي سنة 1847 هاجر الشيخ المهدي السكلاوي من مدينة دلس إلى المشرق مع عدد من أعيان زواوة، ووجه من هناك نداءه إلى أعيان هذه المنطقة طالبا منهم الهجرة فاستجاب له عدد منهم، وكان الشيخ السكلاوي هو زعيم الطريقة الرحمانية ذات النفوذ الواسع (1). ثم شهدت زواوة حركات هجرة متوالية، سيما 1849، 1857، 1871، ثم في نهاية القرن. وقد هاجرت من هناك جماعات مع خليفة الأمير، أحمد الطيب بن سالم، والحاج عمر زعيم زاوية سيدي محمد بن عبد الرحمن بآيت إسماعيل.
وتوالت الهجرة إلى المغرب تتم المشرق من الجهات الغربية أشاء المقاومة، عائلات بأكملها وأعيان العلماء والقضاة هاجروا من معسكر وتلمسان ووهران ومازونة ومستغانم وتنس إلى المغرب الأقصى. وقد استقرت منهم عائلات هناك أمثال المشرفي، وسقط، والأعرج، وابن سعد، والمجاوي، وبوطالب. وسكن بعضهم وجدة وفاس وطنجة. وبعد هزيمة الأمير عبدالقادر تكاثر المهاجرون إلى المغرب ثم المشرق، والتحق العديد منهم بالشام، والقليل فقط اتجهوا نحو اسطانبول والحجاز. وعندما حل الأمير بالمشرق إثر إطلاق سراحه سنة 1852، ازدادت حركة الهجرة أيضا من النواحي الغربية. ولم يكن الأمير وحده وإما كان معه رفقاؤه وأصهاره، فكانت المراسلات والاتصالات تشجع على الهجرة من الجزائر.
وشهدت النواحي الشرقية أيضا، تفاوتا في حركة الهجرة. وكان أبرزها هجرة أعيان عنابة وبجاية على إثر الاحتلال 1832، ثم من قسنطينة بعد 1837. واتجهت الهجرة نحو تونس، ومنها إلى المشرق. ولكن بعض المهاجرين قد استقروا في تونس. أما الهجرة الكبيرة من نواحي سطيف وقسنطينة فكانت عقب ثورة 1871. وقصد بعض أهل الجنوب ليبيا وجنوب
(1) انظر لاحقا.
تونس في اتجاه المشرق. وكانت أكبر هجرة شهدتها النواحي الشرقية (سطيف، أم البواقي، العين البيضاء، قسنطينة، الخ) هي التي وقعت في آخر القرن الماضي. ثم سنة 1910. أما نواحي بسكرة وسوف فشهدت موجة من الهجرة سنة 1895 نحو المشرق، (ومنها عائلة الشيخ العقبي) ثم خلال الثلاثينات من هذا القرن.
كان بعض المهاجرين يحملون جواز سفر من السلطات الفرنسية على أساس الذهاب إلى الحج في أغلب الأحيان. ولكن عدم منح الجواز لا يمنع المهاجرين من الخروج بطرق أخرى. غير أن السلطات الفرنسية كانت تدخل وتمنع الحج والهجرة معا. أما منع الحج (وهو ذرية للهجرة) فقد تحدثنا عنه في غير هذا (1). وأما منع الهجرة فقد ثبت تدخل الحكام الفرنسيين فيها عدة مرات. مثلا تدخل الحاكم العام شانزي سنة 1875 ومنع الهجرة. وكان القناصل الفرنسيون أنفسهم في الشام وغيره يطالبون بمنع الهجرة لأنها تضر بسمعة فرنسا في المشرق. وفي 1895 تدخل الحاكم العام جول كامبون ومنع الهجرة أيضا. وكان قد استصدر فتوى من علماء المشرق لا تشجع على الهجرة من الجزائر باسم الخوف على الدين (2). وبعد الهجرة الجماعية سنتي 1910، 1911 منع الحاكم العام شارل جونار الهجرة أيضا، وأغلق الحدود الجزائرية (3).
لا تذكر المصادر الفرنسية تفاصيل بالأرقام عن عدد المهاجرين من كل مدينة أو ناحية في الجزائر، سيما قبل 1870. وما تذكره هذه المصادر هو عادة أرقام يسجلها القناصل عن الواصلين الذين سجلوا أنفسهم. وهي أرقام غير دقيقة، لأنها أحيانا. غير صحيحة أصلا. تقول بعض الوثائق إنه قد وصل
(1) انظر فصل السلك الديني والقضائي.
(2)
انظر ذلك في فصل مذاهب وتيارات - الهجرة. انظر أيضا ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية الإسلامية)، الجزائر 1897، ص 37.
(3)
منذ 1906 بدأت الهجرة نحو فرنسا، وهي هجرة العمال، وضاعفت مع الحرب العالمية (1914 - 1918). وليست هذه الهجرة من شأننا الآن.
رقم كذا من المهاجرين وأغلبهم من ناحية كذا. ثم أن بعض المهاجرين قدموا من الجزائر وآخرين أقاموا في المغرب أو تونس فترة ثم بدا لهم أن يتوجهوا إلى المشرق، ولا سيما بعد احتلال تونس. كما أن الأرقام القنصلية غير دقيقة من ناحية أخرى، لأنها تذكر من لهم جوازات سفر رسمية فقط. كما أن تقارير القناصل الفرنسية متضاربة حول جاذبية الهجرة. فهي تارة تذكر دعاية أبناء الأمير عبدالقادر الذين تعثمنوا (أخذوا الجنسية العثمانية)، وتارة تذكر تأثير الجامعة الإسلامية. ومن جهة أخرى شكر أن الأراضي التي تمنح للمهاجرين كانت غير صالحة وأن بعضهم كانوا يرغبون في الرجوع، بينما تقول في تقارير أخرى إن المهاجرين كانوا يكتبون لإخوانهم ثم يحثونهم على الهجرة ويصفون لهم الحياة السعيدة التي هم فيها. ومن ذلك ذكرها للحاج الطاهر بن أحمد بن عبد الله، وهو من الأعيان، فقد كان يرسل الرسائل إلى معارفه في أم البواقي ويشجعهم على الهجرة واعدا إياهم بأنهم سيجدون عند الدولة العثمانية استقبالا، حسنا (1).
وفي آخر القرن (1898) كانت حالة الهجرة تدل على تذمر وسخط الجزائريين، ومع ذلك حاول الفرنسيون إعطاءها طابعا آخر. وهو أنها من تأثيرات الجامعة الإسلامية والطريقة الرحمانية. فقد عبر كامبون قبل ذلك بأن تصوير الحياة في سورية على أنها رغدة هو الذين قاد المهاجرين إلى التوجه هناك، وأن العاطفة الدينية كانت تشجع على الهجرة. وروى أن إحدى المراسلات جاء فيها (تعالوا والتحقوا بنا في بلاد يحكمها سلطان الإسلام وفي بلاد مسلمة
…
تعالوا واقضوا بقية حياتكم في بلاد غنية بالخيرات والصلوات والاحترام، وقد وعد الله المهاجرين مكانا أفضل في الآخرة). وأضاف كامبون أن بعض الذين هاجروا إلى سورية من زواوة رجعوا إلى دواويرهم الأصلية ليناشدوا إخوانهم في الدين الالتحاق بهم في تلك الأرض المباركة، وقال إن الطريقة الرحمانية تشارك في هذه الحملة
(1) باردان (المهاجرون
…
)، مرجع سابق، ص 128. وشخصية الحاج الطاهر غير معروفة لنا الآن.
الدعائية (1). ويبدو أن كامبون قد تناسى البؤس الذي كان يعانيه الجزائريون والاحتقار وتعسف قانون الأهالي.
من الناحية الجغرافية اتجهت الهجرة من الشرق الجزائري نحو تونس، ومن غربه نحو المغرب الأقصى، ومن وسطه وجنوبه في اتجاهات مختلفة. وبعد 1847 أخذت الهجرة تتجه نحو بلاد الشام: سورية، وفلسطين، ثم بيروت. أما الحجاز واسطانبول ومصر فقد كانت الهجرة إليها أقل من سورية وفلسطين (والمغرب وتونس). ومعظم الذين هاجروا إلى مصر كانوا إما من الأوائل الذين طردتهم سلطات الاحتلال وإما من بقايا الحجاج الذين فضلوا البقاء هناك أثناء عودتهم. أما الحجاز فقد قصده الجزائريون للحج أولا، ثم قصده بعضهم بعد استقرارهم في سورية وفلسطين. وكانت اسطانبول مقصدا لبعض المهاجرين الأولين مثل حمدان خوجة وأبنائه أو من المهاجرين الذين استقروا في سورية وفلسطين مثل بعض أبناء الأمير عبدالقادر وإخوته وأحفاده.
وكان بعض الحكام الفرنسيين يرخصون بالهجرة من الجزائر أحيانا لأسباب مختلفة، من ذلك الكثافة السكانية وفقر السكان بعد انتزاع أراضيهم. ويقول باردان إن الحاكم العام كان لا يمانع في هجرة بعض العائلات من زواوة، حيث القرى المعزولة وكثرة السكان. كما كان الحاكم العام يشترط على رؤساء العائلات الذين يطلبون الرخصة أن يكون لديهم المال اللازم للسفر (2). وفي سنة 1895 رخصت السلطات الفرنسية لحوالي مائة شخص بالهجرة من سيدي عقبة إلى مكة والمدينة. وحوالي 1912 رخصت لحوالي 21 شخصا من عين مليلة بالهجرة إلى سورية بعد دفع عربون من المال (لإعادتهم إلى الجزائر) مما جعلهم يكتبون شكوى للبرلمان الفرنسي عن ذلك. وقبيل بداية الحرب (1914) طلبت عائلات من بسكرة وقسنطينة الهجرة إلى مكة والمدينة. ويذهب الفرنسيون إلى أن الحجاز قد أصبح مركزا
(1) نفس المصدر، ص 132. وعن الرحمانية انظر فصل الطرق الصوفية.
(2)
باردان (المهاجرون
…
)، مرجع سابق، ص 131.
لدعاية الجامعة الإسلامية وأن اندلاع الحرب قد جعلهم يضعون حدا لحركة الهجرة نحو الشرق (1). وهكذا نرى أن الرخصة بالهجرة وعدمها كانت تخضع لأسباب سياسية واقتصادية تمليها على الفرنسيين الرغبة في المحافظة على مصالحهم في الجزائر وسمعتهم في الخارج.
ومن ذلك ما ذكره العقيد روبان أن عائلات من أعيان زواوة كانت تستعد للهجرة سنة 1849 ولكن السلطات الفرنسية ثبطتها أو فلنقل منعتها. وكان زعماء زواوة يتلقون الرسائل التي تحثهم على الهجرة نحو سورية تارة ونحو مكة تارة أخرى، وأخذوا يستعدون لذلك. ومنهم بلقاسم أوقاسي حاكم ناحية عمراوة. فقد جاء إلى العاصمة وأخبر الفرنسيين أن أحمد الطيب بن سالم والشيخ المهدي السكلاوي كتبا إليه يحثانه هو وغيره على الهجرة إلى المشرق. وذكر أوقاسي أن عائلته أخذت تبيع أملاكها، وأنه سيهاجر مع بعض الأعيان الذين منهم سي محمد بوشارب، وابن كانون القائد السابق لناحية يسر، وسي الحاج عمر شيخ زاوية سيدي محمد بن عبد الرحمن، وبوزيد الآغا السابق لعسكر الأمير عبد القادر، وكذلك وليد الشيخ اعراب اليراثني (من بني راثن) وسي الطيب وأحمد بو سبسي كلاهما من بني واقنون. وجملتهم نحو 300 شخص كلهم طلبوا التوجه إلى مكة (2).
ومن قصص الهجرة أن السلطات كانت ترخص بها للبعض للاستفادة من الأرض التي كان يتركها المهاجرون. وتروي هذه السلطات أن ناصر بن شهرة وعمر بن حميدوش (3) كانا سنة 1860 يعيشان داخل الحدود التونسية
(1) باردان، (المهاجرون
…
)، مرجع سابق، ص 165. بعد شكوى واحتجاج الجزائريين للبرلمان الفرنسي أصدر إجراءات تحد من حق الحاكم العام في معاقبة الحجاج غير المرخص لهم. عن هذه الظروف انظر كريستلو، مقالة مرقونة عن البعثة الفرنسية إلى الشريف حسين 1916.
(2)
روبان (مذكرة تاريخية عن القبائل الكبرى)، المجلة الأفريقية، 1904، ص 130.
(3)
ابن شهرة كان من قادة الأرباع (الأغواط)، وهو الفارس والمقاوم الشهير، وابن حميدوش كان من ناحية سباو (زواوة).
ومن هناك كانا يدعوان السكان إلى الهجرة نحو المشرق. وحين تقدم الناس جماعيا للهجرة بناحية سور الغزلان رفضت السلطات أغلب المطالب وقبلت فقط طلب قبيلة أولاد خالد التي كانت تقطن على ضفة واد البردى. وذهبت القبيلة فعلا إلى سورية جماعيا وتخلت عن 2600 هكتار من الأرض. وتقول المصادر الفرنسية إن السلطات عوضت بهذه الأرض قبيلة (عريب) التي كانت مخزنية قبل الاحتلال والتي استولت الإدارة الفرنسية على أراضيها لاستعمارها (أي أعطتها للكولون). وقد شعر الفرنسيون أن الهجرة الجماعية تدل على تذمر سياسي وعدم الثقة في المستقبل تحت إدارتهم. ولذلك رفضت المطالب المذكورة. وتتهم بعض المراجع المرابين اليهود الذين استغلوا سوء المحصول الزراعي للسكان وأخذوا يربحون منهم أموالا طائلة عن طريق القروض (1).
سبق أن أشرنا إلى رأي لوشاتلييه في الحدود الجزائرية المغلقة سنة 1907. فهو يرى أن منع الهجرة ومنع الحج وعدم استفادة فرنسا من حوالي خمسين ألف جزائري يعيشون في العالم الإسلامي، كلها من علامات الضغط، وأنها سياسة لن تمنع الجزائريين من تنفس الهواء الخارجي كما لم يمنع الباستيل فرنسا من تحطيمه وتنفس هواء الحرية (2). ولكن هذه السياسة لم تعمر طويلا فقد هاجر الجزائريون مع ذلك هجرات جماعية أصابت الفرنسيين بالذعر. ونقصد بالخصوص هجرة الشرق الجزائري حوالي 1909 - 1910، وهجرة تلمسان سنة 1911. وبالنسبة للهجرة الأولى نذكر أن البلديات والنواحي المتأثرة هي أم البواقي، ومرسط، ومسكيانة وشملت طلبات الرخصة بلديات قسنطينة وباتنة وبجاية وفج مزالة وسطيف. وكانت بلدية عين تاغروت هي الأكثر كثافة في الطلبات. وكانت الصحف المشرقية
(1) بورجاد (ملاحظات
…
الاحتلال الفرنسي لسور الغزلان) 1845 - 1887، المجلة الإفريقية 1889، ص 291. انظر أيضا السيدة ديفرو بامبر، (مظاهر
…
)، مرجع سابق، ص 143. وقد عاشت هذه السيدة ظروف هجرة 1911 الشهيرة.
(2)
لوشاتلييه (مجلة العالم الإسلامي). R.M.M، (1907)، ص 512.
مثل (المفيد) و (المقتبيس) تكتب عن وصول الأعداد الكبيرة من المهاجرين الجزائريين إلى ميناء بيروت. وقد وصفهم بعض القناصل الفرنسيين (بالمتمر دين). وكان العدد يتراوح بين العشرين والثلاثين يوميا. وقالت بعض الجرائد الدمشقية في غشت 1910 إن العدد وصل إلى 1200 في الشهور الأخيرة (1).
أما هجرة تلمسان سنة 1911 فقد كتب عنها الكثير، ولا نريد أن نتوسع هنا فيها، ولكن نلاحظ أنها كانت هجرة سرية وجماعية. فقد اتجه المهاجرون بأعداد كبيرة إلى المغرب الأقصى ومنه ركبوا إلى سورية (2). وقد شملت الهجرة غير تلمسان أيضا من النواحي الغربية. كما لحقت بهم موجة جديدة من نواحي قسنطينة ومن زواوة. وفي أكتوبر 1913 وصل ثمانون شخصا إلى الاسكندرية في طريقهم إلى بيروت. وقدرت السلطات الفرنسية أن حوالي 700 عائلة غادرت الجزائر بين 1910 - 1912، أي بين 3 و 4 آلاف شخص.
قلنا إن لوشاتلييه قدر عدد الجزائريين في المشرق العربي - الإسلامي بين 40 و 50 ألف نسمة، سنة 1907. ولكن الأرقام المذكورة عنهم في بلاد الشام تختلف من عهد إلى آخر. وتكاد المصادر الإحصائية تنحصر في وثائق القنصليات الفرنسية فقط. ذلك إننا لا نملك الآن إحصائيات الدولة العثمانية ولا غيرها. وتفيد الإحصاءات الفرنسية أنه كان في دمشق وحدها سنة 1883 (سنة وفاة الأمير عبد القادر) حوالي 4000 جزائري. وفي إحصاء يرجع إلى سنة 1910 قدرت القنصلية الفرنسية عدد المهاجرين بولاية دمشق بحوالي عشرة آلاف مهاجر. وقدرهم الأمير عمر (3)
(1) باردان (المهاجرون
…
) مرجع سابق، ص 164. لوحظ أن حركة الهجرة لم تشمل عنابة وسكيكدة وقالمة.
(2)
عن هجرة تلمسان انظر الحركة الوطنية ج 2، وآجرون (الجزائريون
…
) 2/ 1085، و (هجرة تلمسان) وهو عمل من وضع الحكومة العامة بالجزائر سنة 1914، وفي المصدر الأخير تقارير وخطب ورسائل ومقالات الخ.
(3)
سنتحدث بعد قليل عن أعيان المهاجرين وأوضاعهم فى العالم العربي الإسلامي.