الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلات العربية
أما المجلات التي ظهرت باللغة العربية فقد كانت قليلة. ولا نريد أن نطيل الحديث عن اختصاصها ما دامت قليلة. ولعل السبب في قلة المجلات عدم توفر المادة والإطار معا. كما أن القادرين على العمل الصحفي كانوا حريصين على إنشاء الجرائد لأنها في نظرهم أسرع إلى توصيل أفكارهم. حتى (الشهاب) التي تعتبر أول مجلة بالعربية (1) قد بدأت حياتها كجريدة سنة 1925. وقد استطاع الشيخ ابن باديس أن يديرها باتقان وحكمة حتى صدر منها حوالي اثني عشر مجلدا قبل أن تتوقف سنة 1939. وجمعت الشهاب في مادتها بين الدين والأدب والقصص التاريخي والديني وأخبار المغرب العربي والعالم الإسلامي، وكانت مبوبة ومتنوعة المادة وكانت مجلة حية غير متزمتة، وتدعو إلى النهضة الوطنية والإصلاح الاجتماعي. وكانت كفاءة الشيخ ابن باديس في تفسير القرآن الكريم والحديث الشريف واختيار القصص وسهولة الأسلوب قد أسهمت جميعها في أن تكون الشهاب مدرسة للأدب الرفيع والأخلاق الفاضلة والوطنية الصادقة والدين الصحيح.
وقد عاصرتها مجلة صغيرة كان يصدرها طلاب الجزائر في المدارس الحكومية الشرعية الثلاث وفي الجامعة، وهي مجلة (التلميذ) وكانت في شكل مجلة مزدوجة اللغة، وتحتوي على موضوعات تصف حياة الطلبة وآمالهم، ولكنها كانت تقتطف من مجلات المشرق العربي، وأخبار الحياة العربة والإسلامية، وتهتم بحياة الأدب والشعر والطرائف والتراث. ولا ندري الآن كم دامت.
(1) لم نتحدث هنا عن مجلة (الاحياء) الصغيرة والتي ظهرت سنة 1906 لأننا اعتبرناها مجلة فرنسية رغم أنها بالعربية. وذكر أحمد توفيق المدني أن عمر بن قدور قد أعاد جريدة الفاروق بعد الحرب العالمية الأولى في شكل مجلة، ويؤكد ذلك صالح خرفي. ولكنهما اختلفا في التاريخ، فخرفي يذكر سنة 1920 والمدني يذكر 1924. ونحن لم نطلع على الفاروق - المجلة.
وحوالي 1919 أصدر طلبة المغرب العربي بالجزائر (كانت جمعيتهم تدعى ودادية طلبة شمال أفريقية المسلمين بالجزائر) حولية ظلت تصدر كل سنة باسم (أنوير/ الحولية Annuaire). وفي 1928 صدر العدد العاشر من هذه الحولية وهو العدد الذي علق عليه ف. بروديل في المجلة الإفريقية ونبه زملاءه الأساتذة الفرنسيين إلى ضرورة الإطلاع على ما يكتبه طلبتهم المسلمون في الحولية، لأنه وجد فيها تفكيرا غير منسجم مع ما يأخذه التلاميذ منهم وما تتوقعه فرنسا من أبناء البلاد عشية مرور قرن على احتلال الجزائر (1).
ويمكن أن نتحدث أيضا- عن نشرات جمعية طلبة شمال افريقية المسلمين التي كان مقرها فرنسا، فقد كانت هذه الجمعية تنتقل كل عام، ابتداء من 1931، إلى إحدى مدن المغرب العربي، وتعقد فيها اجتماعها السنوي، ثم تصدر (نشرة) في شكل مجلة تضم وقائع الاجتماع وبعض الآراء والاقتراحات والقصائد الخ. وقد صدر من هذه النشرة عدة أعداد، ولكنها لم تكن خاصة بالجزائر ولا بأي قطر بعينه، وهي الآن مرجع هام للحركة الفكرية في ذلك العهد.
ومن ذلك ما أصدره طلاب الجزائر في تونس سنة 1937 باسم (الثمرة الأولى). وهي نشرة تمثل حصيلة نشاط الطلبة، وكلماتهم التي يلقونها بالمناسبة ومقالات المتعاطفين معهم ومع الجزائ?. لقد صدرت (الثمرة الأولى) عن جمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين التي كان رئيسها عندئذ الشاذلي المكي. وجمعت، بالإضافة إلى مقالات الطلبة أنفسهم، مقالات من ابن باديس، وأبي يعلى الزواوي والأخضر السائحي ورحومة علي، وكذلك محمد المختار بن محمود ومحمد الصادق بسيس من تونس (2). وفي سنة
(1) عدد ديسمبر، 1927 - 1928. وقد صدرت بالجزائر عن الجمعية الجزائرية للطبع والنشر. انظر المجلة الافريقية 1930، ص 428. والظاهر أن ف. بردويل F.Braudel هو نفسه صاحب كتاب (البحر الأبيض المتوسط) الشهير.
(2)
البصائر، 30 أبريل، و 24 ديسمبر 1937.
1948 صدرت (الثمرة الثانية) في تونس أيضا فكانت كسابقتها مليئة بالخواطر والموضوعات الأدبية والاجتماعية التي تعكس حياة الطالب الجزائري المسؤول والمتطلع إلى بناء وطنه.
ولا ندري كم صدر من مجلة (الفضيلة) التي ظهرت حوالي 1935 وكان قد أنشأها السيد موسى خداوي في تلمسان؟. كما لم يظهر من مجلة (العبقرية) الشهرية سوى ثلاثة أو أربعة أعداد. وكان قد أصدرها في تلمسان عبد الوهاب بن منصور سنة 1948. وهي مجلة جامعة ولكن يغلب عليها الأدب والتاريخ والثقافة العامة.
ومثلها كانت مجلة (أفريقية الشمالية) الشهرية التي أنشأها في العاصمة إسماعيل العربي في نفس السنة (1948). وكانت على صغر حجمها قد اهتمت بالتربية والتاريخ والترجمة عن اللغة الفرنسية وغيرها. ولو طال عمرها واستقر صاحبها لكانت طالعة جيدة في عالم المجلات العربية في الجزائر. غير أنها لم تعمر إلا حوالي ثلاثة أعداد.
والمجلة الأخرى التي طال عمرها نسبيا هي (صوت المسجد) التي كان يشرف على تحريرها الشيخ محمد العاصمي، وكان العاصمي في نفس الوقت هو رئيس (الجمعية الودادية لرجال الديانة الإسلامية في القطر الجزائري). فقد ظهرت أيضا سنة 1948 بالعاصمة واستمرت إلى فاتح 1951. وكانت مجلة شهرية أدبية ودينية واجتماعية، وكانت رسالتها جمع كلمة رجال الدين الإسلامي حول الإدارة الفرنسية، ولذلك كانت تصطدم بحركة جمعية العلماء. وقد تولى الشيخ العاصمي نفسه الفتوى والإمامة من قبل الإدارة المذكورة (1). وجاء في شعارها الرسمي أنها (لسان حال رجال الديانة
(1) عن (الفضيلة) و (العبقرية) و (أفريقية الشمالية) و (صوت المسجد) انظر أيضا علي مرحوم، (الثقافة)، مرجع سابق، عدد 42. وقد اطلعنا على أعداد من هذه المجلات، عدا (الفضيلة). انظر أيضا رسالة الباحث أحمد مريوش، وقد جاء فيها أن مجلة (صوت المسجد) قد صدر منها 21 عددا، وتوقفت للعجز المالي، وهو تبرير غير مسلم به.
الإسلامية في القطر الجزائري)، والمقصود بهم من أسميناهم برجال السلك الديني والقضائي، وربما يضاف إليهم رجال الزوايا، وقالت أيضا- إنها مجلة ا (شهرية دينية علمية أدبية اجتماعية تاريخية أخلاقية)، وتتحلى صفحتها الأولى بالآيات القرآنية والأحاديث الدالة على العبادات في المسجد.
واطلعنا أيضا على نسخة من مجلة باسم (الحياة)، يبدو أنها كانت تصدر عن الكشافة الإسلامية. والعدد الذي اطلعنا عليه فيه تقرير عن نشاط الكشافة الإسلامية إلى الحاكم العام، تاريخه 1950، وفيه أيضا نشيد لمحمد العيد آل خليفة ونشيد آخر لمحمد الصالح رمضان (1).
…
ثلاثة من أعيان الصحافة العربية الإسلامية في الجزائر، وهم عمر بن قدور وعمر راسم وأبو اليقظان. وهناك آخرون طبعا وعلى رأسهم ابن باديس، ولكن المذكورين ناضلوا في الميدان الصحفي بوسائلهم إلى أن حفروا اسمهم على تمثال الخلود. ومثل كل مجموعة من الأفراد فهم ليسوا سواء في القيمة، مع ذلك. وقد سبقنا عدد من الباحثين في ترجمة الثلاثة المذكورين، ولذلك سيكون نصيبنا هو إبراز بعض الخصائص والمواقف لكل منهم فقط، مع إضافة ما تمكنا من الإطلاع عليه دون غيرنا أو استنتاج جاء نتيجة ظروف درسناها بالمقارنة والاستنباط (2).
1 -
عمر بن قدور: ولد بالعاصمة حوالي 1886 أثناء مرحلة جدباء من حياة الجزائر، وهي تمثل حكم لويس تيرمان المحابي للمستوطنين والظالم للجزائريين. ولا ندري ما عمل أسرة ابن قدور وما وضعها الاقتصادي
(1) عن مجلة (هنا الجزائر) أنظر سابقا- المجلات الفرنسية -.
(2)
درس كل من الأساتذة: صالح خرفي، ومحمد ناصر، حياة عمر بن قدور وعمر راسم. وتوسع محمد ناصر في حياة أبي اليقظان. كما تناول محمد الصالح الجاوي (تونس)، وعلي العريبي (تونس)، وزهير ايحدادن (الجزائر) حياة هؤلاء أو بعضهم. وكذلك أحمد توفيق المدني، سواء في كتاب الجزائر أو في حياة كفاح.
والعلمي، بل وما أصلها. لأن اسم (عمر بن قدور) لا يدل على أصل الأسرة. وبدأ عمر يتردد على المدرسة القرآنية (الكتاب) مثل معظم أبناء الجزائر منذ سن الخامسة أو السادسة. وكانت العاصمة عندئذ مدينة أوروبية، أما العرب فيعيشون في القصبة وما حولها، حي قديم وحي جديد، وأناس قدماء وأناس جدد، هكذا الصورة التي أنشأها الاستعمار في أذهان وأنظار الجزائريين. ولكي يتخلص العربي المسلم من عالمه القديم كان عليه أن يذهب إلى العالم الأوروبي الجديد وأن ينسلخ من محيطه وعائلته لكي يرقى إلى مستوى المستعمر، وإلا فهو باق على جموده وقدمه. وكان الحديث يدور عندئذ عن تغيير في السياسة الفرنسية بعد زيارة لجنة التحقيق الرسمية سنة 1892، تغيير في سياسة التعليم نحو الجزائريين، وتغيير في النظرة إلى المستعمرة (الجزائر) وطريقة حكمها.
ويبدو أن ابن قدور قد دخل المدرسة الشرعية الفرنسية بعد الكتاب في أول هذا القرن. وقد حصل عندئذ تعديل في برامج هذه المدرسة حوالي 1895، أي عندما كان عمره حوالي تسع سنوات. فقد أصبح التعليم فيها مزدوج اللغة ومتجها نحو تكوين فئة ملمة بالتراث العربي الإسلامي، وبالثقافة الفرنسية معا، إذ من هذه المدرسة كان يتخرج القضاة والأيمة والمعلمون والصحفيون بالعربية، ولا ندري كم بقي ابن قدور في المدرسة التي أصبحت تدعى الثعالبية فيما بعد، ولكن يبدو من الأكيد أنه قرأ فيها على الشيخ عبدالقادر المجاوي بعد نقله من قسنطينة، وعلى الشيخ عبد الحليم بن سماية الذي سيكتب عن مواقفه ضد فرض الخدمة العسكرية على الجزائريين. ولا ندري متى درس عمر في جامع الزيتونة بتونس ولا متى توجه إلى مصر للدراسة والمشاركة في صحافتها. غير أننا نعلم أنه كتب في جريدة (اللواء) المصرية، وهي جريدة الحزب الوطني، منذ كان عمره حوالي عشرين سنة. كما أخذ يتعامل مبكرا مع جريدة (الحاضرة) التونسية و (الحضارة) العثمانية التي تصدر في أسطانبول. ويذهب بعض الباحثين إلى أنه قد رجع إلى الجزائر سنة 1908، تاريخ الانقلاب العثمانى فكم غاب
عنها؟ ربما ثلاث أو أربع سنوات. ومهما كان الأمر فقد وجد الجزائر تتغير وتدخل عهد النهضة الصحفية والثقافية الذي وصفناه في غير هذا المكان، على يد الحاكم العام شارل جونار.
وتشهد آثاره التي ظهرت منذ 1909 (عمره حوالي 23 سنة)(1) أن نضجه كان مبكرا وأن موهبته كانت استثنائية، وأنه كان من القلائل الذين رجعوا إلى الجزائر برؤية واضحة عن حالة العالم العربي والإسلامي. وكانت ميوله قومية إسلامية كما يدل موشحه الذي نشره في جريدة (الحاضرة) سنة 1909 والذي عارض به موشح ابن سهل، وتساءل فيه (هل أباد اليأس جيش الأمل؟) وفي نظره أن اليأس لم يقع، لأن الحضارة الإسلامية ما تزال بخير إذا استيقظ أهلها وعلماؤها وعرفوا مكانتهم في التاريخ.
ولم يكد يحل بالجزائر حتى وقعت أحداث خطيرة فيها وفي المغرب العربي والعالم الإسلامي. كان التوتر الذي أحدثه الحديث عن فرض التجنيد الإجباري، وكان ابن قدور مؤمنا بالجامعة الإسلامية والروح الوطنية فلم يرضه ذلك وكتب ضده لأن هذا التشريع لو حصل لكان على المسلم الجزائري أن يحارب المسلمين المضادين لفرنسا. كما قامت فرنسا بإبعاد واضطهاد زعماء تونس منذ 1908، وشردت عددا منهم. وقد انتصر لهم ابن قدور، رغم معارضته لبعض أفكارهم المستغربة (مثل علي باش حانبة). وكانت فرنسا تحضر لاحتلال المغرب الأقصى الذي وقع فعلا سنة 1912 وقد وقف ابن قدور ضد ذلك، كما وقف ضد الغزو الإيطالي لليبيا سنة 1911. ومن الأحداث التي هزت أركان العالم الإسلامي عندئذ الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني.
ولذلك أخذ ابن قدور يبحث في البدائل ويصف الهجمة الاستعمارية على العالم الإسلامي. فانتصر أولا للوطنية باعتبارها وسيلة لجمع شمل أي شعب لمواجهة الأخطار الخارجية، لأن الوطنية في نظره هي القوة الفعالة
(1) إذا تأكدنا من أن ميلاده كان سنة 1886.
في ترقية الأمم) وبها الأمم تبقى خالدة (لن تبيد أبدا)(1). كما دعا إلى الوحدة الإسلامية لأنها طريق الخلاص والقوة. وكذلك دعا إلى النهوض والإصلاح. أما الوسائل إلى ذلك فهي التعارف والتعاون وإنشاء الجمعيات والأحزاب. ولم يدع ابن قدور صراحة إلى الأحزاب عندئذ لأنها فكرة ما تزال غير واردة، ولكنه من الأوائل الذين دعوا إلى الجمعيات والتضامن. ففي سنة 1914 دعا إلى تأسيس (جماعة التعارف الإسلامي) بين مفكري المسلمين في الجزائر وتونس والمغرب الأقصى. ولعله كان أول المبادرين إلى هذه الدعوة بين الأقطار الثلاثة. وكان ريد ربط هذه الجماعة أو الجمعية بمثيلاتها في المشرق الإسلامي. وقد نشر هذه الدعوة في جريدته (الفاروق) 22 يوليو، 1914، وظل يكررها فيها حتى بعد أن توقفت الجريدة ثم أعادها سنة 1920 (2).
برز عمر بن قدور في الميدان الصحفي في تونس ومصر وأسطانبول، أما في الجزائر فقد بدأ نشاطه بتولي القسم العربي من جريدة (الأخبار) الاستعمارية، إذ لم يكن في استطاعته عندئذ (1903) إنشاء جريدة باسمه، ماديا على الأقل. ثم ما لبث أن تمرس وعرف الجو من حوله فأسس سنة 1913 جريدة (الفاروق) ويبدو أنه كان داعية للتجمعات لأن العمل الفردي محكوم عليه بالفشل، ولذلك دعا أيضا إلى تكوين (جامعة الصحافة الإسلامية) منذ 1911. وقد عاشت الفاروق إلى 1915 حين اضطرت إلى التوقف تحت قوانين الحرب. والمعروف أن الدولة العثمانية دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا، وكان ابن قدور مع الدولة العثمانية وضد التجنيد الإجباري للجزائريين، ولذلك قادته السلطات الفرنسية راجلا من العاصمة إلى الأغواط ثم إلى عين ماضي حيث بقي منفيا إلى نهاية الحرب. وبعد
(1) من مقالة له نشرها في جريدة (التقدم) التونسية، بعنوان (التقدم بقوة الوطنية) نقل ذلك محمد الصالح الجابري (من تاريخ التواصل
…
) في مجلة (الحياة الثقافية) تونس، عدد خاص 32 (1984)، ص 21.
(2)
صالح خرفي (عمر بن قدور) في مجلة (الحياة الثقافية)، مرجع سابق، ص 41.
الحرب رجع إلى العاصمة سنة 1919، وحاول إعادة الفاروق في شكل مجلة، ولعله غلب على أمره ماديا، فأوقفها وانضم إلى هيئة تحرير جريدة (الصديق) التي كان يحررها محمد بن بكير والمولود الزريبي.
تعاون عمر بن قدور مع الصحف التونسية قبل إنشاء الفاروق، كما تعاون معه الصحفيون والكتاب التونسيون بعد إنشائها. كتب كما قلنا في جريدة التقدم التونسية، وجريدة الحاضرة التي كان يديرها علي بوشوشة وكانت تهتم بشؤون الجزائر. أما الذين تعاونوا معه من تونس فعددهم كثير، نذكر منهم معتمده هناك السيد الطيب بن عيسى، وأحمد توفيق المدني، وحسين الجزيري، وصالح السويسي، وإبراهيم بن شعبان، وصالح النجار. ويلمح علال الفاسي إلى أن اعتقال المدني والجزيري في تونس وعمر بن قدور في الجزائر كان متزامنا تقريبا، وأن ذلك يرجع في نظره إلى ما وجدته السلطات الفرنسية من مراسلات بينهم عند تفتيش منازلهم. وعد علال الفاسي عمر بن قدور من (المصلحين السلفيين في الجزائر)(1). ولكن بعضهم يذهب إلى أن ابن قدور قد غيرته ظروف الاعتقال منذ 1915، فهل ذلك صحيح؟.
يقول صالح خرفي إن ابن قدور قد نفي إلى عين ماضي، وتساءل، بغموض، ما إذا كان معتقله في مقر الطريقة التجانية قد تكفل بترويضه حيث (تروض النفوس الأبية) التي استعصت على الاستعمار (2). ويذهب آخرون إلى أن ابن قدور قد تحول إلى التصوف، ودخل في الطريقة التجانية وألف تأليفا حول هذا الموضوع سماه (الإبداء والإعادة في مسلك طريق السعادة)(3) دافع فيه عن الطريقة المذكورة التي دخلها على يد المقدم محمد بن التواتي
(1) علال الفاسي (الحركات الاستقلالية)، معهد البحوث والدراسات العربية، مصر، 1948، ص 48.
(2)
خرفي، مجلة الحياة الثقافية (تونس)، مرجع سابق، ص 41.
(3)
عبد الباقي مفتاح (أضواء) مخطوط. وقد طبع كتاب (الإبداء والإعادة) في الجزائر سنة 1344.
الأغواطي. وقد مر بنا أن معظم شيوخ الجزائر كانوا ينخرطون في الطرق الصوفية لحماية أنفسهم، لأن من لا شيخ له لا حماية له من سوط الإرهاب الاستعماري. ولم يكن انضمام بعضهم لها عن عقيدة راسخة فيها وإنما عن تقية. والله هو علام الغيوب!.
توفي عمر بن قدور مبكرا- عن 44 أو 46 سنة فقط (1). وكان ذلك في وقت وجدت الجزائر فيه نفسها على يد الأمير خالد وابن باديس وأنصارهما. وكان يمكن لابن قدور أن يلعب دوره ضمن المدرسة الإصلاحية التي دعا إليها من قبل، وأن يؤلف الجماعة التي كان يحلم بها - جماعة التعاون الإسلامي على مستوى مفكري المغرب العربي - ولكن شيئا ما أصاب الرجل. هل هو خيبة الأمال؟ هل خضع لترويض خاص، على حد تعبير صالح خرفي؟ أو هل هناك عوامل أخرى جعلته يخمد بعد نشاط ويعود إلى الحرم الذي عاد إليه محمد العيد أيضا بعد عقدين؟ إن وراء مصير كل واحد قدرا يسيره. ويبدو أن مصير عمر بن قدور في الإصلاح والاهتمام بالنهضة ورفض الصهيونية والاستعمار قد توقف سنة 1915 ليبدأ مصير آخر، وهو ليس بدعا في ذلك. ولنعتبر بمصير الأمير خالد نفسه والطيب العقبي ومصالي الحاج
…
والعبرة بما كان يتلجلج في الصدور وليس بما تبوح به الألسنة والأقلام.
ونريد أن نضيف هامشا لحياة عمر بن قدور لم نر أحدا قد أشار إليه، وهو أنه، حسب أحمد الأكحل، المعاصر له وزميله في الدراسة ربما كان قد تولى مدرسة (الشبيبة الإسلامية) بالعاصمة، التي تأسست في أول العشرينات، كما عرفنا. وهي مدرسة كونها المحسنون ورضيت عنها الإدارة الفرنسية واعترفت بها وكانت مهمتها هي تعليم اللغة العربية والدين الإسلامي للأطفال الجزائريين. والغريب أن الذي تولاها بعده هو الشاعر محمد العيد المنتمي أيضا للطريقة التجانية. فهل كانت هذه المدرسة توليفة فرنسية -
(1) توفي سنة 1930 عند محمد الصالح الجابري، و 1932 عند صالح خرفي. مجلة (الحياة الثقافية)، مرجع سابق، ص 16.
تجانية طالما دعا إليها لويس رين وأضرابه من خبراء التصوف والدين في الجزائر لكبح جماح التعلق بالمشرق والحركات الإسلامية هناك، ولكبح جماح التعلق بالتيار الإصلاحي والسلفية في وقت ابن قدور ومحمد العيد؟ إن هذا مجرد تساؤل وليس لنا منه إلا الاستنتاج من التشابكات التاريخية والسياسية والدينية للوجود الاستعماري في الجزائر. ومهما كان الأمر فإن أحمد الأكحل يذهب إلى أن عمر بن قدور قد استقال من مدرسة الشبيبة الإسلامية (وأسس مدرسة قرآنية ذات نظام عصري)، وأن مدير المدرسة هو السيد مصطفى حافظ (1). والغريب أن أحمد توفيق المدني الذي كتب (كتاب الجزائر) في هذه السنوات (1929 - 1930) لم يتحدث عن حياة عمر بن قدور بعد الحرب سوى بعبارة موجزة عن إعادته الفاروق الجديدة وعمله في جريدة الصديق وإبعاده إلى الأغواط خلال الحرب (2).
يكفي عمر بن قدور أنه عرف بالقضية الجزائرية في الصحافة العربية والإسلامية، وأنه وقف ضد الاضطهاد الاستعماري أثناء فورانه، وكتب عن قضايا المغرب العربي والعالم الإسلامي برؤية نهضة شاملة، ودعا إلى الوحدة الإسلامية، والفكرة القومية، والتضامن الوطني في وقت مبكر كان فيه جيله ما يزال جاهلا بها أو داعيا إلى الاندماج مع المحتل. ثم أسس ابن قدور جريدة كانت رائدة في بابها. وقد استحق على أفكاره الوطنية ومواقفه المتحدية الاعتقال والإبعاد وإيقاف جريدته. وظلت روحه الصحفية مشتعلة حتى بعد رجوعه من المنفى، ولعله عاش حالة نفسية مثبطة أقوى مما كان يحتمل أو وجد عراقيل لم يستطع تجاوزها.
2 -
عمر راسم: حياة عمر راسم انفرد بها (تقويم الأخلاق) لمحمد العابد الجلالي، الذي ظهر سنة 7 192. ويبدو أن الجلالي كان يعرف عمر راسم شخصيا، ولذلك كتب عنه عن كثب ومعرفة دقيقة، سيما عن صحافته،
(1) الشهاب الأسبوعية، عدد 29 نوفمبر 1928، ص 11 - 12. التوقيع هو (أ. الأكحل). وقد قرأناه أحمد الأكحل.
(2)
أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر)، مرجع سابق، ص 345.
وتنقلاته، وسجنه وآرائه. ولكن هناك ثغرتان في ترجمة الجلالي لعمر راسم، الأولى أنها ترجمة مبكرة لحياته تقع في منتصف عمره تقريبا، ولذلك فهي لا تغطي الجزء الثاني من هذا العمر. والثغرة الثانية أن هناك جوانب خفية لا يمكن للمعاصر أن يطلع عليها في حياة كل إنسان تقريبا، وذلك هو ما تتكفل به الوثائق والتجارب الأخرى والتي لا تظهر عادة إلا بعد وفاة الشخص وانقضاء فترة من الزمن.
والواقع أن الذين ترجموا لعمر راسم بعد ذلك، مثل محمد ناصر ومحمد علي دبوز وأحمد توفيق المدني، لم يضيفوا جديدا عما قدمه عنه زميله الجلالي منذ 1927. فما يزال النصف الثاني من حياته غير معروف إلا ما أضافه عنه الشيخ المدني في المذكرات (حياة كفاح)، وهي إضافة تلحق راسم بعمر بن قدور والأمير خالد وغيرهما من الرجال الذين كانت بدايتهم ونهايتهم مختلفتين. كذلك ما زال الجانب الوثائقي لحياته غير معروف. ولا شملت أن لدى مصالح الأمن الفرنسي معلومات غزوة عنه سما وقد عاش فترة حربين عالميتين، وكان شخصا مرموقا خلال ذلك.
وهناك تشابه أيضا في حياة عمر راسم وحياة عمر بن قدور. كلاهما من العاصمة وإن كان ميلاد راسم أكبر بسنتين على ميلاد زميله (ولد عمر راسم سنة 1883 أو 1884)(1)، وهو أصيل بجاية حسب النسبة الملصقة باسمه، وحسيب صنهاجة لأنه كان يوقع اسمه أبو منصور الصنهاجي أحيانا، (2) ويختلف عن عمر بن قدور في أننا نعرف أيضا نسبة عائلته ونعرف أنه هو عمر راسم بن علي بن سعيد بن محمد. ومنذ وقت مبكر أدخله والده الكتاب
(1) يذكر الجلالي التاريخ الهجري، وهو 1302.
(2)
يذهب محمد شريفي إلى أن أصول عائلة راسم تركية. وأن اسم (راسم) موجود في تراجم الخطاطين الأتراك، كما ذهب إلى أن والده، علي راسم المتوفى سنة 1917 بالجزائر كان من كبار الرسامين والخطاطين. انظر محمد شريفي (اللوحات الخطية في الفن العربي)، أطروحة دكتوراه، معهد التاريخ، جامعة الجزائر. وإذا كان اسم (راسم) له ما يبرره في التراجم التركية فإن كلمة (الصنهاجي) ما تزال في حاجة إلى دليل.
لحفظ القرآن الكريم، فحفظه وهو ابن سبع سنوات على ما قيل، ويبدو أن والده كان مسموع الكلمة إذ استطاع أن يجد لابنه وظيفة (حزاب)، وهو ابن اثني عشر سنة، وهي وظيفة لم يبق منها الكثير في نهاية القرن الماضي بعد أن انحصرت الوظائف الدينية في عدد من العائلات وهدمت أغلب المساجد أو عطلت. كان راسم إذن حزابا في جامع سفير، وفي هذا الجامع تلقى أيضا، درسا في النحو على الشيخ محمد بن مصطفى خوجة الذي امتدحه عمر راسم واعتبره شاعر العصر والخبير بأحوال المشرق (1). وقد دخل عمر راسم مدرسة الجزائر الشرعية الفرنسية (الثعالبية فيما بعد)، ولكنه لم يقض فيها سوى سنة واحدة. نم أخرج منها في ظروف غامضة.
ذلك كل ما تلقاه عمر راسم من ثقافة رسمية: القرآن الكريم، ودرس في النحو، وسنة في مدرسة وتعلم مبادئ العلوم العربية والإسلامية وبعض اللغة الفرنسية. ولكنه كان طموحا موهوبا فعزم على تثقيف نفسه، سيما وقد ذاق حلاوة العلوم والآداب والتاريخ والأخبار، وعاصر بداية الصحافة وانتشار مدرسة التجديد الإسلامي وحركة الجامعة الإسلامية. وكان قد تجاوز العشرين عندما زار الشيخ محمد عبده الجزائر سنة 1903. كما عاش الأحداث التي جرت بين اليهود والفرنسيين أواخر القرن عندما كان ماكس ريجس شيخا لبلدية العاصمة. ولعل ذلك هو ما لفت نظره إلى وضع اليهود في الجزائر الذين جنسهم الوزير اليهودي كريميو سنة 1870. وقد كتب عمر راسم مبكرا عن الخطر الصهيوني في العالم العربي، وكان مطلعا على ما تنشره الصحف الفرنسية حول الموضوع. وكان من الطبيعي أن يعارض عمر راسم فرض التجنيد الإجباري على الجزائريين، وأن يقف في ذلك، مثل زميله عمر بن قدور، ضد الفئة الإندماجية التي قبلت بالتجنيد بشرط كسب الحقوق السياسية غير ناظرين إلى مسألة الدين والرابطة الإسلامية والعلاقة مع الخلافة.
وكان اهتمامه بالحياة السياسية والثقافية هو الذي دفعه إلى أن يجرب
(1) انظر الترجمة محمد بن مصطفى خوجة المعروف بالكمال في فصل السلك الديني والقضائي.
الصحافة لأنها وسيلة لنشر الأفكار وتعليم الشعب. بدأ في الكتابة بالجرائد التونسية، مثل (التقدم) و (مرشد الأمة) و (المرشد). واعتبره محمد الصالح الجابري أول الكتاب الجزائريين الذين شاركوا في تحرير الصحف التونسية في أوائل هذا القرن. وترجع مقالته التي بعث بها إلى جريدة التقدم إلى سنة 1907، وهي في الواقع ليست مقالة وإنما كانت رسالة مفتوحة إلى رئيس الحكومة الفرنسية وإلى الحاكم العام بالجزائر (1). وواصل راسم نشره في جريدة التقدم حيث هاجم سنة 1908 منح النياشين إلى الجزائريين من يد السلطات الفرنسية مقابل الخدمات والولاء على حساب الشعب والمصلحة الوطنية، كما هاجم مساوئ الحضارة الغربية، وانتقد الفئة المندمجة لأنهم (ولوا وجوههم شطر المتسلط علينا). واتبعوا سياسة الفرنسيين المتغلبين على الوطن (2). ولعل عمر راسم قد نشر في (المرشد) وغيره بتونس قبل 1907 أيضا.
ومنذ 1908 أنشأ عمر راسم صحيفة باسمه، وهي (الجزائر)، وقد وصفتها مجلة العالم الإسلامي بأنها جريدة بالعربية علمية أدبية وتربوية. وقالت إن (جماعة) قامت بإنشائها لتثقيف وتهذيب الجزائريين، وإنها جريدة دينية بالدرجة الأولى. ومن جهة أخرى قالت إن (الجزائر) تختار من الأخبار كل ما يهم المسلمين الجزائريين أو الذين يزورون الجزائر منهم. وكان الحديث عنها نوعا من الإعلان. لأن الجريدة طلبت من كل ذوي النوايا الحسنة بالمجلات، الإعلان عنها والتبادل معها والتعريف بها (3). ورغم ذلك
(1) نشرها في عدد 26 ديسمبر 1907 من التقدم التونسية. انظر الجابري مجلة (الحياة الثقافية)، تونس، مرجع سابق، ص 21.
(2)
نشرها في عدد 27 فبراير 1908 في نفس الجريدة (التقدم). انظر الجابري، مجلة (الحياة الثقافية)، مرجع سابق، ص 17.
(3)
كان ذلك على إثر تلقي مجلة العالم الإسلامي للعدد التجريبي من (الجزائر). وكانت (الجزائر) تصدر أول و 15 من كل شهر. والمراسلات معها باسم عمر راسم، ومقرها شارع موقادور رقم 2 بالعاصمة، وثمن الاشتراك فيها بفرنسا والمغرب العربي 7 فرنكات. انظر (مجلة العالم الإسلامي)، اكتوبر 1908، ص 341.
فإن (الجزائر) لم تنس إلا ثلاثة أو أربعة أعداد، ويرجع اختفاؤها إلى أسباب مالية حسب الجلالي والمدني.
ولماذا ذهب عمر راسم إلى مصر سنة 1912؟ إن هذا التاريخ ملفت للنظر، ذلك أن قانون فرض التجنيد الإجباري قد صدر فيه، وكانت السلطات قد منعت الهجرة إلى المشرق بالقوة على الجزائريين الساخطين، وكان لوسياني، مدير الشؤون الأهلية، قد ذهب أيضا إلى مصر وسورية وتونس، ربما في تاريخ قبل هذا، كما كان يرسل هنا وهناك من يكتب له التقارير عن أوضاع معينة كالمدارس والمحاكم والمرأة. ومهما كان الأمر، فإن (التأويلات) قد أعقبت مهمة عمر راسم في مصر. ولا أحد يستطيع أن يمنع الخيال من أن يحلق. فالبعض قال إن رحلته كانت لغرض سياسي حكومي، وقال آخرون إنها كانت لطلب العلم والاطلاع (1). ويرى محمد العابد الجلالي أن عمر راسم قد ذهب إلى مصر للتعرف على أحوال المسلمين لأنه بطبعه كان يهتم بذلك. ولكن من أدراه؟ على أننا لا نعرف كم دامت هذه الزيارة لمصر، وهل تواصلت إلى غيرها أيضا. ولا نعرف أن عمر راسم كتب شيئا عن رحلته المشرقية.
كما يذهب الجلالي إلى أن عمر راسم قد تعاون مع عمر بن قدور على إصدار (الفاروق) سنة 1913. ثم قرر أن يصدر جريدة خاصة به سماها (ذو الفقار) أوائل 1914. ولو سافرت جهودهما لكان أفضل للبلاد. ولم يصدر من (ذو الفقار) سوى أربعة أعداد، وقد أجاب أصدقاءه الذين نصحوه بالتخفيف من حدة لهجته بأنه اتقى الشر بجعل الجريدة تحت اسم عالمين أحدهما فرنسي وهو هنري الروشفور، والثاني مسلم وهو الشيخ محمد عبده. وكان عمر راسم حسن الخط ونساخا، فاستدعته جريدة (المبشر) للعمل فيها والاستفادة من خطه، وربما كان للسلطات خطة في القضاء عليه
(1) في هذه الأثناء (1912) كان الشيخ أبو يعلي الزواوي يعمل في القنصلية الفرنسية بدمشق.
أو تدجينه، كما دجنت عمر بن قدور بعد ذلك. وبدأ راسم العمل في المبشر، ثم لم يتم أن اتهم بالتورط في التعامل مع العدو، وقبض عليه وزج به في السجن يوم 13 غشت 1915، في نفس الفترة التي اعتقل فيها زميله ابن قدور. وكانت الدولة العثمانية عندئذ قد دخلت الحرب ضد فرنسا. ثم حكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، نوفمبر 1915 ولم يفرج عنه إلا سنة 1921، بعد مراجعة القضية وتدخل بعض الفرنسيين والجزائريين لصالحه.
نحن لا نستغرب أن يحدث ذلك لرجل مثل عمر راسم (وعمر بن قدور)، لأن الحرب فرضت على الجميع الصمت أو العمل (المخلص) مع فرنسا، أو السجن. لم نسمع باعتقال رجال الدين والزوايا الساكتين أو المؤيدين، ولا بصوالح وتامزالي وابن التهامي الاندماجيين، ولكننا سمعنا بسجن ونفي العمرين (راسم وابن قدور). وهذا شرف لهما في ذلك الوقت لأنهما فيما يبدو ناصرا القضية الإسلامية على القضية الفرنسية. ومن سوء حظ عمر راسم أن بريده إلى جريدة. (الشعب) المصرية قد سقط في أيدي المخابرات الإنكليزية. وكان البريد عبارة عن رسالة بتوقيعات عديدة من الجزائريين لنشرها، وهي رسالة تدعو المسلمين إلى الاقتداء بالسلطان العثماني، خليفة المسلمين والتوقف عن مساعدة أعداء المسلمين. وبعد تبادل الوثائق بين الحليفتين (بريطانيا وفرنسا) وجهت هذه (فرنسا) التهمة لعمر راسم على أنه محرر تلك الرسالة. وقد حدث ذلك في الوقت الذي كانت فيه (وصايا) علماء الجزائر ورجال الدين والطرق الصوفية تنعي على تركيا دخول الحرب، وتناصر فرنسا ضدها، وتدعو مسلمي الجزائر إلى الوقوف في صف (أم الوطن) الحنينة على الجزائريين وفاعلة الخير معهم - فرنسا (1).
(1) انظر عن ذلك فصل الطرق الصوفية. ويقول الشيخ المدني (كتاب الجزائر) ص 345، إن عمر راسم قد حوكم عسكريا، بتهمة التفاهم مع العدو. وحكم عليه بالأشغال الشاقة، ثم صدر العفو عنه بعد الحرب.
تراث عمر راسم يتمثل في مجموعة من مقالات نشرها في الصحف التونسية والجزائرية، وفي خطب قيل إنه كان يلقيها بالعربية والفرنسية. وفي مجموعة من التراجم لأعيان علماء الجزائر، ما تزال مخطوطة ولعلها ضاعت. ومن تراثه أيضا بعض اللوحات الفنية القائمة على توظيف الخط العربي الذي كان يجيده. ونحن نعتقد أن رجلا في مثل ثقافته السياسية واطلاعه وطول عمره لا يمكن أن يترك فقط هذا التراث الضئيل الذي يرجع معظمه إلى منتصف عمره. حقيقة أن عهدا من اليأس قد طغى عليه، وأن إهمالا قد أحس به، وقد وصفه أحمد توفيق المدني في المذكرات بعبارات مؤثرة (1). ولكننا لا نصدق أن عمر راسم قد توقف تماما عن العطاء الأدبي والفني والقلمي. فأين تراثه الكامل؟.
ذكر له محمد العابد الجلالي بعض المقالات منها: (اليقظة الجزائرية) التي نشرها في جريدة (مرشد الأمة) ورد فيها على من كتب في جريدة (المشير) حول الحركة الفكرية في الجزائر. قال هذا الكاتب إن أحوال الجزائر تتحسن، ولكن راسم في رده ذهب إلى غير ذلك، وقال إنها تسوء بل في (أسوإ حال) رغم أن الجزائريين يفرحون بما يحدث في العالم الإسلامي من تغيير، وقال إن (قرننا هذا هو قرن الظلمات). واعتبر ما حدث من جديد في الجزائر إنما هو الفساد الأخلاقي والاجتماعي حتى أرغمنا على (بيع ما نملك بالثمن البخس إلى المغتصبين). وانتقد في مقالته الخطباء (السياسيين؟) والجرائد التي تكذب بالحديث عن سعادة الجزائريين، وإنما هي تدس السم في العسل. وفي نظره أن الجزائري تحت الاستعمار الفرنسي، هو (آخر الآدميين درجة) فقرا وجهاز. وكانت نظرة راسم إلى المستقبل أيضا نظرة سوداء (2).
(1) حياة كفاح، ج 2. مع صورته.
(2)
هذا الرد نشره في جريدة المشير، 21 ربيع الأول، عام 1329 (1911). انظر (تقويم الأخلاق) للجلالي، ص 53.
وجاءت في افتتاحية العدد الثالث من جريدته (ذو الفقار) التي عنونها (بالإسلام والمسلمين) عبارات مفعمة بالثورة على الوضع العام الذي عليه المسلمون الجزائريون وغيرهم. وفي لهجة خطابية ساخنة تساءل كيف يكون المسلم مسلما في بلاد مساجدها خالية من المصلين، بينما شوارعها مملوءة باللصوص والسفلة، بلاد انتشر فيها الربى والسلب والجفاء بين أهلها، وانعدم فيها الإحسان، وكثر فيها تقليد الكافرين (الفرنسيين). ودعا راسم إلى نبذ الكسل والخمول والتوكل على الغير، وإلى التخلق بالفضيلة. وقال إننا إذا لم نعرف الأسباب التي أدت بالأمة العربية إلى القوة والسؤدد، اندثرنا. وفي نظره أن تلك الأسباب لا تخرج عن مكارم الأخلاق وأحاسن الصفات. ثم طلب من الله أن يجري في عروقنا دم السلف (1).
أما مخطوط (تراجم علماء الجزائر) فلم نطلع عليه، ولكن اطلع عليه غيرنا (2)، وعرفنا منه أنه ترجم فيه تراجم مختصرة وغير عميقة لعدد من معاصريه وسلفهم، مثل محمد بن مصطفى خوجة، وحمدان خوجة، ولعله تناول أيضا شيخيه المجاوي وابن سماية. ونظن أنه يقصد (بالجزائر) العاصمة، ومن ثمة لا نتوقع أنه ترجم فيه لآخرين من علماء القطر. ولو اطلعنا عليه لعلمنا إحاطته وطريقته فيه. ولكنه عمل مفيد على كل حال، سيما إذا قورن بتراجم الحفناوي في تعريف الخلف التي تزامنت مع ظهور عمر راسم.
وقبل أن يتحقق حلم عمر راسم في استقلال وطنه الذي طالما استنهضه بقلمه وخطابه، انطفأت شمعته بالعاصمة عن 75 سنة، كان ذلك عام 1379 (1959). وقد كانت البلاد في ثورة عارمة ضد المحتل، وكانت تباشير النصر قد أخذت تلوح في الأفق.
(1) الجلالي، (تقويم الأخلاق)، مرجع سابق، ص 54 - 56 من جريدة ذو الفقار عدد 20 رجب 1332 (14 جوان، 1914).
(2)
اطلع عليه واستفاد منه الشيخ محمد علي دبوز.
3 -
أبو اليقظان: بالمقارنة إلى زميليه عمر راسم وعمر بن قدور، كان أبو اليقظان معروفا وله شخصية محددة وآثار متنوعة وخط فكري مستقيم، وقد كدنا لا نترجم له هنا لولا غلبة الصحافة عليه سيما في النصف الأول من عمره. فخلال حوالي اثنتي عشرة سنة كان كو اليقظان يصارع الإدارة من أجل تثبيت حق الصحف العربية في الوجود والبقاء. وعندما يتكلم الناس اليوم عن حقوق الصحفيين وضحايا الصحافة يجب أن يكون أبو اليقظان من أصحاب الحق الأوائل ومن أئمة الضحايا. ولا حاجة إلى التذكير بأن حق الصحافة العربية كان يختلف عن حق الصحافة الفرنسية في الجزائر.
وأبو اليقظان متعدد الجوانب، فقد كان من كتاب التراجم ومن الشعراء ومن المناضلين في السياسة ومن الباحثين في الفقه، وفوق ذلك كله فإنه كان من كتاب المقالة الصحفية ومن الذين تركوا أيضا، تأليفا في تاريخ الصحافة التي أنشأها. وسوف لا نهتم هنا إلا بنشأته ونشاطه الصحفي.
ولد أبو اليقظان (إبراهيم بن عيسى) سنة 1888 في القرارة إحدى بلدات ميزاب وإحدى دوائر ولاية غرداية حاليا. وقد اشتهرت القرارة بعلمائها ومساهمتها الثقافية. ومن أبرز رجالها الشيخ إبراهيم بيوض الذي أسس معهد الحياة سنة 1925 والذي انتهى إلى ختم تفسير القرآن الكريم. وإذا كانت حياة الشيخ بيوض لا تعنينا هنا فإن حياة أبي اليقظان بدأت في القرارة حيث جفاف الصحراء وروعة الواحات وحيث يسود المذهب الإباضي، وحياة التقشف التي تكاد تصل إلى الزهد والابتعاد عن البذخ والأبهة مع الجد في العمل والقسوة على النفس.
وفي القرارة درس أبو اليقظان على الطريقة التقليدية فحفظ القرآن الكريم ومبادئ الدين واللغة العربية، وربما تعلم مبادئ التجارة شأن
أهل ميزاب، وعندما حلت سنة 1912 توجه إلى تونس للدراسة في جامع الزيتونة. ولعله عاصر بعض الوقت هناك نده الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي سبقه إلى الزيتونة ببضع سنوات، كما درس أبو اليقظان في المدرسة الخلدونية التي تردد عليها ابن باديس أيضا، وفي سنة 1914 ترأس أبو اليقظان أول بعثة ميزابية زيتونية إلى تونس، وهو تقليد سار عليه الميزابيون عدة عقود بعد ذلك، إذ تتوجه مجموعة من الطلبة إلى تونس طلبا للعلم، وتكون البعثة عادة بإشراف أقدم الطلبة وأكثرهم تجربة ونزاهة وشعورا بالمسؤولية وحرصا على مصلحة الطلبة والبلاد، وربما تأثرت البعثة بالحرب العالمية، ولكنها استأنفت نشاطها العلمي بعد 1920.
وفي هذه السنة (1920) كان أبو اليقظان قد تثقف دينيا وصحفيا وسياسيا، وأصبح له رأي في شؤون الحياة. وكانت تونس تتحرك في عدة اتجاهات، ومنها الاتجاه الوطني بزعامة عبد العزيز الثعالبي، وقد سبق للثعالبي أن زار الجزائر آخر القرن الماضي، وشارك أوائل هذا القرن في حركة الشباب التونسي إلى جانب علي باشا حانبه، وكان يشتغل عندئذ بالصحافة. وأما بعد الحرب فقد نشط الثعالبي - بعد نفي الزعيم الأول من زعماء الشباب التونسي - من أجل القضية التونسية، فأسس الحزب الدستوري وسافر إلى مؤتمر فرساي لتقديم القضية التونسية، ونشر مع زملائه كتاب تونس الشهيدة. وكان الحزب الدستوري يضم عددا من الجزائريين أيضا. ومنهم بعض الميزابيين، وكان أبو اليقظان من هؤلاء، وكان الحزب (مدرسة) تعلم فيها أبو اليقظان النشاط السياسي والتوجه الوطني والنضال الصحفي.
وقد رجع أبو اليقظان إلى الجزائر سنة 1925 فوجدها تمور بالنشاط الجديد والأفكار الغريبة التي تولدت عن فشل حركة الأمير
خالد، وإعلان ما سمي بالإصلاحات الإدارية والسياسية، وظهور حركة ابن باديس، والصراع بين الشيوعيين والإدارة، ومحاولات الاندماجيين ملء الفراغ الذي نشأ من نفي الأمير خالد، ومن هذا النشاط ظهور صحف جديدة في الساحة. ومنها (المنتقد) لابن باديس و (صدى الصحراء) للعقبي وزملانه، و (التقدم) للاندماجيين، و (الصديق) لابن قدور والزريبي وبكير، ولم تكد تحل سنة 1926 حتى أنشأ أبو اليقظان (وادي ميزاب) التي كانت باكورة جرائده والتي كانت تطبع في تونس وتوزع في الجزائر.
ولم تكن الصحافة هي باكورة أبي اليقظان في الإنتاج، فقد سبق له أن نشر بتونس سنة 1923 كتابا بعنوان (إرشاد الحائرين) ويبدو أن هذا الكتاب يتضمن موضوعات اجتماعية ودينية. ونحن لم نجد من تعرض له بالتعريف أو النقد. ولعله هو أول كتاب ألفه، كما سبق لأبي اليقظان أن راسل الأمير خالد عندما كان الأمير في قمة شعبيته سنة 1922.
ثم توالت أنشطة أبي اليقظان في الجزائر، فبالإضافة إلى الكتابة في صحفه العديدة، أسس المطبعة العربية سنة 1931، وهي المطبعة التي كانت تطبع الكتب ذات الاتجاه الوطني والإصلاحي، ولا ندري إلى الآن صلتها بالمطبعة التي أسسها محمد بكير صاحب جريدة الصديق، وشارك أبو اليقظان في تأسيس جمعية العلماء سنة 1931 ثم انتخب عضوا في مجلسها الإداري سنة 1934، وبذلك ارتبط نشاطه بالاتجاه الوطني الإصلاحي الداعي إلى النهضة ونحرير الجزائر بالإسلام والعربية.
وفي هذا الإطار كان يتراسل مع زعماء الإصلاح والوطنية بالمشرق أمثال الأمير شكيب ارسلان وسليمان الباروني. وفتح صحفه
للاراء المتنوعة التي تعالج هذه الموضوعات، وتبني مبدأ تحرير المغرب العربي، فكان ينشر أخبار الكفاح الوطني في الأقطار المغاربية ونشاط زعمائها. وخص سليمان الباروني بترجمة وافية وموثقة في جزئين ط. 1965. وأصدر ديوان شعر (1931)، وكان شعره صورة لنشاطه وتوجهه الفكري، فهو شعر إخواني وإصلاحي ووصفي واجتماعي.
أما دوره الصحفي وعدد صحفه وصراعه مع الإدارة فقد تناوله أكثر من واحد وهو الظاهرة الفريدة التي تميز بها أبو اليقظان، سيما الفترة الممتدة من 1926 إلى 1938. فقد كان يصدر صحيفته تحت عنوان جديد كلما منعته الإدارة من إصدار الجريدة. فكانت الأحداث تكيفه ولكنها لا تكسره، على حد تعبير أحد المعاصرين. ويبدو أن سنة 1938 كانت حداد فاصلا في هذه المعركة. وقد كانت فعلا حدا فاصلا بالنسبة لغيره أيضا، فقد فشل المؤتمر الإسلامي الجزائري (انعقد 1936) في تحقيق أهدافه، وكان على الأحزاب والجمعيات أن تعلن عن مواقفها من الإدارة الفرنسية، معها أو ضدها، بالنسبة للتحالف الدولي. وقد امتنع ابن باديس باسم جمعية العلماء من إرسال برقية تأييد لفرنسا مما أدى إلى استقالة بعض الأعضاء من المجلس الإداري للجمعية، ومنهم الطيب العقبي والأمين العمودي، فهل كان أبو اليقظان من بينهم؟ كما أن سنة 1939 قد جعلت الصحف النزيهة والوطنية تتوقف عن الصدور خشية أن يفرض عليها نشر ما لا ترغب فيه، فهل فضل أبو اليقظان السكوت، وأغلق جرائده أسوة بإبن باديس؟.
ومهما كان الأمر فإن أي اليقظان قد توقف عن نشر الصحف وتفرغ للتأليف، ولا ندري متى انتقل نهائيا إلى القرارة، فهل كان ذلك عند الحرب العالمية الثانية، أو بعد ثورة 1954؟ لقد ألف أبو اليقظان