الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومهما كان الأمر، فان زيارة الشيخ محمد عبده على قصرها (حوالي عشرة أيام) قد تركت أثرها الواسع خطرا لمكانة الشيخ وللإعلام الذي رافقها، ولعدد الحضور للدرس والمسامرات، وتغطية مجلة المنار لها ونشر تفسير سورة والعصر وبعض كتب الشيخ الأخرى، ثم وفاته المفاجئة. وقد عرفنا أنه زار أيضا قسنطينة وهاجم فيها الطرق المبتدعة والجهل، وهي الزيارة التي لم يكتب عنها أحد حتى الآن فيما نعلم. ولا نظن أنه قد زار تلمسان ولكن يجب ألا تعطى لهذه الزيارة أهمية أكثر مما تحتمل. فالظروف كانت حرجة، والجواسيس كانوا في كل مكان، والاتصالات بالشيخ كانت محفوفة بالمكاره، فقد كانت زيارته تعتبر فخا منصوبا للبعض وامتحانا لآخرين. ويمكننا القول ان مدرسة الشيخ عبده ورشيد رضا قد أثمرت تمرتها على يد الحركة الإصلاحية بين الحربين، وبالذات على يد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ومن أبرز دعاتها الشيوخ: ابن باديس والعقبي والإبراهيمي.
…
مراسلات وأحداث
تحدثنا حتى الآن عن المراسلات التي دارت بين الشيخ محمد عبده والأمير عبد القادر، وبين الشيخ عبده وابن سماية وبعض العلماء المعاصرين الآخرين في الجزائر. والواقع أن هذه المراسلات كانت كثيرة بعضها نعرف عنه شيئا وبعضها لا نعرف شيئاعنه الآن، وما يزال في بطون الكتب والمذكرات الشخصية. وفي فصل الإجازات سنتناول ما دار في ذلك الموضوع بين علماء الجزائر وعلماء المشارق والمغارب أيضا. كما أننا نوهنا بما بعث به حسن بن بريهمات إلى خير الدين باشا التونسي إثر صدور كتابه (أقوم المسالك) والشعر الذي نظمه ابن بريهمات في ذلك (1). وهناك مراسلة جرت بين أبى القاسم البوجليلى وسليم البشري مفتى
(1) انظر فصل السلك الديني والقضائي.
المالكية في مصر سنة 1278. وكانت المراسلة في شكل استفتاء حول جواز أو عدم جواز بناء جامع جمعة ثان في المدينة الواحدة إذا ضاق الجامع الوحيد فيها بالمصلين. وكانت مسألة خلافية بين الشيخ البوجليلي وأهل بلدة بوجليل، وكان هو يرى جواز بناء المسجد الثاني. وبعد المراسلة وافقه الشيخ البشري على ذلك (1). وما ذكرناه ما هو إلا تأكيد لفتوى الشيخ البوجليلي.
وهذه الظاهرة كانت شائعة بين العلماء، فإذا احتاروا في مسألة أو أرادوا تأكيد أو تصحيح آرائهم من الناحية الشرعية، لجأوا إلى مراسلة العلماء المشاهير أو المؤسسات الإسلامية الكبرى. وكان أهل تلمسان يلجأون إلى علماء القرويين، وأهل قسنطينة يلجأون إلى علماء الزيتونة، بل أن القضاة في وادي سوف كانوا يبعثون إلى علماء الجريد وتونس العاصمة للاستعانة بآرائهم في أحكامهم إذا كانت مما يستوجب ذلك، كمراسلتهم إبراهيم الرياحي وعثمان بن المكي (2).
وقد راسل بعض علماء الجزائر أعيان المشرق أيضا في شؤون أدبية ودنيوية. ومن ذلك ما نشره محمود بن الشيخ علي، الإمام بالمدرسة الفرنسية الرسمية، سنة 1869 في جريدة (الجوائب) ومراسلة صاحبها أحمد فارس الشدياق. والمقالة كانت في شأن موضوع سياسي يعلق بالإدارة الفرنسية والانتخابات البلدية في الجزائر على عهد الحاكم العام المارشال ماكماهون. وقد قارن الكاتب فيها بين الانتخابات في أوروبا، وهي طريقة قديمة عندهم
(1) عمار طالبي (البوجليلي) في الملتقى 15 للفكر الإسلامي (الجزائر)، بحث مرقون.
(2)
بعض أخبار ذلك عند الشيخ محمد الطاهر التليلي في قمار. وتجدر الإشارة إلى استفتاءات الأمير عبد القادر لعلماء القرويين والأزهر في مواضيع عنت له أثناء المقاومة كفرض ضريبة حربية خاصة، وحكم المسلم الهارب للفرنسيين أو المحتمي بهم، ومسألة الهجرة من البلاد. انظر ذلك في (تحفة الزائر) وفي (أجوبة التسولي). انظر (أجوبة التسولي عن مسائل الأمير عبد القادر في الجهاد) تحقيق ودراسة عبد اللطيف أحمد الشيخ محمد صالح، دار الغرب الإسلامي، 1966.
فينظره ذات نفع كبير (مع ما يسري لسكان الوطن من التطبع، والتأسي بقواعد الأورباويين الفائزين عمن سواهم في طريق الإحسان). وكان هذا الرأي الذي نشر في جريدة والانتخابات عند المسلمين وهي جديدة يقلدون فيها الأوروبيين فقط، وهي عثمانية رسمية تصدر باسطانبول له أكثر من دلالة (1).
وكان أحمد فارس الشدياق معروفا لدى المتعلمين الجزائريين سواء الذين ظلوا في الجزائر أو الذين تنقلوا بينها وبين بلاد الشام مثل عائلة أبي طالب أو عائلة الأمير عبد القادر. فقد كان الشدياق زار فرنسا وأوروبا، ولعله زار الجزائر أيضا.، وكان معروفا، في أوساط المهاجرين الجزائريين في المشرق. وكانت جريدة الجوائب تكتب أحيانا عن الجزائر. كما أن الشدياق كان معروفا لديهم بتأليفه كتابه في اللغة الفرنسية اشترك فيه مع (دوقا) المستشرق الفرنسي سنة 1854. وكان الكتاب موجها (لاستعمال أهل الجزائر). ومن بين تآليف الشدياق التي عرفت في الجزائر أيضا (سر الليال في القلب والإبدال) وهو الكتاب الذي مدحه عليه أبو طالب الغريسي بقصيدة رقيقة أثبتها الشدياق في (كنز الرغائب)، وسنذكر بعضها في فصل الشعر. وطالعها:
سنا (سر الليال) أضاء ليلا
…
فأنساني مسامرتي لليلى (2)
وكان آل طالب (بوطالب) من عائلة الأمير عبد القادر كما أشرنا، وقد تولى عدد منهم القضاء خلال القرن الماضي في إقليم قسنطينة، وكانوا هم صلة الوصل القوية بين الجزائر والمشرق، والمغرب أيضا.
وكان الشيخ عاشور الخنقي صاحب شاعرية قوية وموهبة في اللغة والأدب، ولكنه جاء في عهد ظلام دامس من الثقافة والتعليم، وكان تكوينه الأساسي في الزوايا، ولا سيما زاوية نفطة العزوزية - الرحمانية. ولكن الشيخ الخنقي وظف موهبته الشعرية في أغراض كانت موضع نقاش وجدل بل
(1) جريدة (المبشر) 21 يناير 1869.
(2)
تعريف الخلف، 2/ 93.
وخصومة بينه وبين بعض معاصريه، وعلى رأس هؤلاء الشيخ محمد الصالح بن مهنة ومحمد بن عبد الرحمن الديسي. وكان منطلق التخاصم بينهم هو الموقف من (عصاة الأشراف) هل هم ناجون من العقوبة الإلهية؟ ثم عمت الخصومة مسألة الشرف، وكانت مسألة حساسة عندئذ، صادفت هوى في نفس الإدارة الفرنسية التي ضاقت بالأشراف الثائرين ضدها أو الذين كونوا لأنفسهم سمعة خاصة وامتيازات لدى المواطنين، فكانت الإدارة تريد تكسير هذا الحاجز بينها وبين المواطن البسيط لاستغلاله على أوسع نطاق وإخراجه من تأثير طبقة الأشراف الساخطين علها.
نحن هنا لا تعنينا أبعاد المسألة السياسية والاجتماعية، وإنما تعنينا ناحية واحدة منها وهي تنويه الشيخ عاشور بالشيخ أبي الهدى الصيادي نقيب الأشراف في الدولة العثمانية والمستشار السياسي والديني للسلطان عبد الحميد الثاني. وقد كان الصيادي من أعداء السيد جمال الدين الأفغاني، وهو الذي حجم حركته السياسية المناهضة للحكام، وجعل السلطان يتبنى حركة الأفغاني لصالح الخلافة العثمانية. وكان الصيادي قد نشر كتابا بعنوان (ضوء الشمس)(1)، فأخذ الشيخ عاشور الخنقي ينوه بالكتاب وبالشيخ الصيادي باعتباره نقيبا للأشراف. وكان الخنقي يغتنم الفرصة ليهجو معاصره ابن مهنة على تقليله من أهمية الشرف وقوله ان الأشراف مثل كل الناس يحاسبون على أعمالهم في الخير والشر. وفي القصيدة الطويلة (733 بيتا) التي سماها الخنقي (حسن الأمل في فضل الشرف المجرد عن العمل)، جاء قوله:
لله در (أبي الهدى) فيما زبر
…
بكتاب (ضوء الشمس) في الخمس الكبر
شيخ الشريعة والطريقة والحجا
…
صدر النقابة في بني الزهرا الخير
وقد مدح الشيخ الخنقي السلطان عبد الحميد الثاني أيضا، واعتبره قد
(1) طبع الكتاب مرتين، وهو في جزئين، وموضوعه السيرة النبوية والتصوف والشرف. وقد قرظه عدد من علماء الوقت ليس منهم الشاعر الخنقي.
اشتمل على فضل السير والخصائل الحميدة، كما مدح آل عثمان جميعا واعتبرهم من الأشراف، ومدح عاصمتهم (الآستانة) الغراء. وقارن بين البوازيد وآل عثمان واعتبرهم جميعا من عترة واحدة، من آل البيت. ولعل هذا الموقف (السياسي) هو الذي جعل السلطات الفرنسية لا تغفر للشيخ عاشور جرأته، فزجت به في السجن، ولم يخرج منه إلا بتوسلات وتدخلات. وقد كتب البعض عن ولاء الجزائريين لآل عثمان، ولكن موقف الشيخ عاشور مهم ومن الفرنسيين ما يزال غير مدروس. وسنتعرض في فصل الشعر لشيء من هذا الشعر السياسي، ويكفي أن نذكر هنا قول الشيخ عاشور في السلطان عبد الحميد:
مولى الورى (عبد الحميد) حميد ما
…
شملته سلطنة البرايا من سير
من آل عثمان الذي جمع الخلا
…
فة في الورى فيما تجاهر واستتر (1)
ولا ندري إن كان الشيخ عاشور قد أرسل قصيدته الكبرى هذه إلى أبي الهدى الصيادي أو أنه تلقى من هذا مراسلة. والغالب أن العلاقة كانت موجودة بينهما، وقد نظم قصيدته المذكورة قبل وفاة السيد جمال الدين الأفغاني بسنتين.
لم تنقطع الاتصالات بين الجزائريين وشيوخهم وزملائهم أيضا. فابن باديس الذي درس على الشيخ محمد الخضر حسين بالزيتونة وفي داره بتونس لا نظنه إلا وقد لقيه في المشرق بعد أن هاجر إليه الشيخ الخضر وحج إليه الشيخ ابن باديس (2).
وفي هذا المجال تدخل زيارة ابن باديس لتونس للقاء الشيخ عبد العزيز
(1) عاشور الخنقي (منار الإشراف)، ط. الجزائر، 1914، ص 59 وهنا وهناك. وترجع القصيدة إلى سنة 1895.
(2)
انظر الشهاب، عدد غشت 1930، ص 407 هامش علق فيه ابن باديس على مجلة (نور الإسلام) التي أصدرها الشيخ الخضر حسين في مصر، ورغم أنه ذكر المواد التي درسها عليه في تونس، فإنه لم يقل انه لقيه بالمشرق أثناء حجته.
الثعالبي بعد خمسة عشر عاما من النفي. وربما كانت بين ابن باديس والثعالبي مراسلات سابقة حول وضع المغرب العربي بعد الحرب الأولى. فقد كان الثعالبي مهتما بحركة ابن باديس التي ظهرت في شكل هيئة علمية لإرساء النهضة العربية الإسلامية في الجزائر قبل الانطلاقة السياسية. ولذلك أثارت الصحافة الفرنسية ضجة حول زيارة ابن باديس لتونس سنة 1937، واتفاق الزعيمين، حسب هذه الصحافة، على توحيد حركات المغرب العربي (1).
وقد تعرضنا في دراستنا عن الأمير شكيب ارسلان إلى المراسلات التي دارت بينه وبين أعيان العلماء الجزائريين بين الحربين. وذكرنا منهم أحمد توفيق المدني، وعبد الحميد بن باديس، والطيب العقبي، وأبا يعلي الزواوي، وإبراهيم أبا اليقظان. وكان شكيب أرسلان يراسل هؤلاء ويراسل أيضا الحاج أحمد مصالي زعيم حزب النجم (ثم الشعب). وهذه المراسلات تشكل فصلا خاصا في العلاقات السياسية والعلمية بين الجزائريين والمشارقة (2).
ومن أبرز زعماء المشرق الذين اهتموا بالجزائر وتراسلوا مع أعيانها محب الدين الخطيب، وهو من الشخصيات التي ما تزال في حاجة إلى دراسة معمقة من هذا الجانب. وقد عثر بعض الباحثين في أوراقه على (مجموعة كبيرة) من الرسائل التي دارت بينه وبين بعض الجزائريين دون ذكر أسمائهم. ويغلب على الظن أن من بينهم رجالا كالعقي وابن باديس والإبراهيمي والزاهري. وكان العقبي يعرفه منذ كان بالمدينة بل ربما تعامل معه في جريدة (القبلة) الحجازية سنوات 1916 - 1920. وكان الزواوي قد طبع أحد كتبه في مطبعة محب الدين الخطيب، وكانت مجلة (الفتح) التي يشرف عليها الخطيب تصل إلى بعض القراء في الجزائر. ومن الذين وجدت أسماؤهم في أوراق الخطيب الشاعر مفدي زكريا الذي راسله سنة 1937 عندما كان عضوا
(1) البصائر 16 يوليو 1937، وكذلك 13 غشت 1937. انظر الحركة الوطنية ج 3.
(2)
نشرنا البحث في الكتاب التذكاري (أوراق في الأدب والتاريخ) الذي يحمل اسم الدكتور نقولا زيادة، لندن 1990. انظر أيضا كتابنا أبحاث وآراء ج 4.
في حزب الشعب، والشاذلي المكي بعد أن أصبح ممثلا لحزب الشعب (حركة الانتصار) في مصر، سنة 1946.
وقد وجد الباحثون في أوراق محب الدين الخطيب قصاصات من الجرائد في موضوعات تهم الجزائر كالاحتفال المئوي الفرنسي باحتلالها، ومنع فرنسا للحج في مراسلة من بسكرة كتبها محمد الشريف جوكلاري (وهو فرنسي اعتنق الإسلام)، وغرداية في نظر الأجانب، وقطعة من جريدة المغرب للشيخ أبي اليقظان، ونداء من الأمير شكيب أرسلان إلى الإباضية والمالكية في الجزائر، وبيان من مدير الشؤون الأهلية، جان ميرانت، حول جمعية العلماء وتعليق محب الدين الخطيب على البيان، وبيان صادر عن المجلس الإداري لجمعية العلماء، موجها إلى الأمة بتاريخ 22 يناير 1934، وبلاغ من مصالي الحاج إلى الأمة في 12 نوفمبر (؟ 19)، ورسالة من اللجنة العليا لنجم شمال أفريقية بتاريخ 25 رمضان 1350 تطلب من محب الدين الخطيب أن يدافع عن سياسة الحزب الوطنية وأن يقف ضد سياسة الاندماج وتذويب الهوية الجزائرية، وهي مراسلة مفدي زكريا المذكورة. ومع هذه المراسلة صورة لزعيم الحزب أحمد مصالي.
ومن الأوراق أيضا دعوة موجهة إلى محب الدين الخطيب لحضور اجتماع (اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر) بدار جمعية الشباب المسلمين بتاريخ 23 مارس 1944. وقد وجد الباحثون نسخة من خطاب يبدو أن محب الدين الخطيب كان قد ألقاه بالمناسبة، وكانت نسخة الخطاب ملصقة بالدعوة. أما المذكرة التي تحمل إمضاء الشاذلي المكي فكانت موجهة منه إلى الجامعة العربية وأمينها العام عبد الرحمن عزام (20 أكتوبر 1946)(1).
(1) سهيلة الريماوي (أوراق محب الدين الخطيب) ضمن أبحاث كتاب التقدير والعرفان المقدم إلى المرحوم أحمد عزت عبد الكريم، القاهرة 1976، ص 123. ويجب أن نذكر هنا أن من بين الأوراق عددا خاصا بالجزائر من مجلة (الإخوان المسلمون) بتاريخ أول يوليو 1944.