الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تتحدث عن الأملاك والزواج والبيع والشراء والخلافات. وكل ذلك كان يستغله الفرنسيون لصالحهم دون أن ينسبوه حتى إلى من أخذوه منه.
فإذا قرأت فيرو وبروسلار وبيليسييه وكاريت وهانوتو ورين وغيرهم فإنك ستجدهم يستعملون الوثائق والمخطوطات الأهلية ولا ينسبونها، وربما كانوا يحرفونها عن وجهتها. بل أن معظمهم كانوا يطعنون في المعلومات التي تضمنتها ويشكون في صحة ما جاء فيها، ويرمون الجزائريين - والعرب والمسلمين جميعا- بالجهل والحماقة والتزييف. وقل مثل ذلك في العديد ممن أصبحوا مترجمين عسكريين، وهم الذين أصبحت كل شؤون الجزائريين بأيديهم لفترة طويلة. وكانوا في الإدارة والجيش والقضاء والطب
…
وعندما بدأ المستشرقون أعمالهم جمعوا أيضا ما بقي من الوثائق والمخطوطات وأخذوا يترجمونها، دون أن يذكروا حتى من أين أخذوها إلا القليل منهم. ونشير هنا إلى أعمال أدريان بيربروجر وأوغست شيربونو، ثم زعماء مدرسة الآداب أمثال رينيه باصيه، وفانيان، ثم أمثال ألفريد بيل وموتيلانسكي.
لقد كانت الجزائر تتوفر على مخطوطات كثيرة قبل الاحتلال، كما رأينا في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وكانت مكتباتها العامة في المساجد وفي الزوايا، أما مكتباتها الخاصة فكانت منتشرة عبر الوطن حيث العائلات العلمية وحيث الأعيان الذين لهم غيرة على الكتب ونسخها. وقد رأينا أن العائلة الواحدة قد تتوفر على بضعة آلاف من المخطوطات النادرة والتي كانت في حالة جيدة. وكان الكتاب يتنقل بالبيع والاستنساخ والاستلاف والهدايا. أما كتب المساجد والزوايا والمدارس فقد كانت موقوفة على العلماء والطلبة والزائرين.
نظرة على مصير المخطوطات والوثائق
وبعد الاحتلال مباشرة وضع الفرنسيون أيديهم على المساجد والزوايا في العواصم. وصادروا ما فيها وضموا مداخيل أوقافها إلى الإدارة المالية
(الدومين). وكانت المكتبات الملحقة بهذه المنشآت الدينية من ضحايا هذه المصادرة، فاختفت الكتب، رغم أنها كانت أحباسا، وتبادلتها الأيدي دون حساب أو عقاب. أين هي مكتبة الجامع الكبير بالعاصمة التي تحدث عنها الرحالة والباحثون المسلمون؟ وأين مكتبات مساجد تلمسان وقسنطينة ومعسكر والبليدة والمدية وبجاية وعنابة ومازونة الخ؟ وأين الكتب التي حبسها صالح باي على مدرسته في قسنطينة، ومحمد الكبير على مدرسته في معسكر؟ لقد ضاعت وتبعثرت، ولم تعد تذكر في حوليات التاريخ. فعندما أراد ابن أبي شنب أوائل هذا القرن أن يصف ما بقي في الجامع الكبير بالعاصمة لم يذكر منها سوى بضع عشرات (1).
وماذا نقول عن أثر الحروب على المكتبات؟ كل مقاومة أو ثورة تؤدي إلى دفن العشرات من المخطوطات الثمينة. وهذه الحروب قد قضت على المكتبات الشخصية والعمومية معا. معظم الزعماء الذين شاركوا في المقاومة كانوا من عائلات متعلمة تعتز بماضيها وتراثها. ولكن الابتعاد عن مركز العائلة أو القبيلة، والنفي والاحتشاد بالنسبة لمن أجبروا على الخضوع، قد أدى إلى تلف المكتبات. وعندما أصبح الأمير عبد القادر لاجئا وفقد عواصمه استعمل المدينة الخيمة (الزمالة) وحمل هو وعلماؤه وقواده مكتباتهم معهم. ومنها مكتبة زاوية القيطنة الشهيرة. وكان من بين الذين معه شيوخ علم لا تفارقهم الكتب أمثال محمد الخروبي، ومحمد بن علال، ومحمد البركاني، وابن فريحة، ومصطفى بن التهامي. ولكن حين استولى الفرنسيون على الزمالة في جهة طاقين انتقلت إليهم أيضا تلك المكتبات، ولا ندري إلى الآن مصيرها (2).
(1) المخطوطات الباقية في مكتبة الجامع الكبير، ط. الجزائر.
(2)
في مكتبة شانتييه بفرنسا بعض بقايا مكتبة الأمير عبد القادر، أهداها الدوق دومال D'Aumale إلى بلدية هذه المدينة. وكان دومال هو قائد الجيش الذي استولى على الزمالة. ولكن ما (أهداه) دومال ليس سوى جزء ضئيل من مكتبة الأمير. وابن باقي المكتبات؟.
وقل مثل ذلك في المدن التي استولى عليها الفرنسيون. وقد جرت العادة أن الجزائريين يخرجون من المدينة إذا أحسوا بهجوم العدو، وكانوا يحملون معهم كل غال ونفيس، ومن ذلك كتبهم. ولكنها لم تكن دائما عملية ناجحة. فقد يفاجئهم العدو فلا يحملون إلا ما خف، فيستولي العدو على ما وجده ومنه الكتب، كما حدث في معسكر سنة 1835، وفي تلمسان سنة 1836. ويقول بيربروجر إن الفرنسيين وجدوا عقود أملاك عائلة الأمير، وحين أطلع بيربروجر الأمير على ذلك في مقابلة معه سنة 1837 لم يكد الأمير يصدق القصة (1). وأثناء البحث عن الزمالة كان الفرنسيون يستدلون عليها بأوراق الكتب والوثائق التي كانت تذروها الرياح وترمي بها في الأشجار. وكان بيربروجر وغيره صرحاء جدا حين أكدوا، وهم يحسبون أن التاريخ قد طوى تماما ولن يكشف عن أسراره، أن الضباط كانوا يشعلون غلايينهم بأوراق الوثائق في قصبة الجزائر سنة 1830، وأن الجنود كانوا يحسبون كل كتابة عربية قرآنا، فكانوا يحرقون الأوراق وما هي إلا وثائق ثمينة. ومع ذلك يتحدث الفرنسيون طويلا عن حرق العرب المسلمين لمكتبة الاسكندرية وينسون أنفسهم.
أما احتلال مدينة قسنطينة واحتلال معسكر وتلمسان وغيرها فكان له نصيب آخر من نهب الكتب. وقد روى بيربروجر شيئا من التفصيل عن ذلك سنعود إليه بعد قليل.
والحرب التي جرت في الأرياف أدت أيضا إلى إتلاف المكتبات ولا سيما في الزوايا. وكانت هذه الزوايا تتوفر على مكتبات للطلبة وأهل العلم. وهي الأمكنة التي بقيت للطلبة بعد احتلال المدن واختفاء التعليم ومصادرة المساجد والزوايا بها. فإذا بالحرب تمتد إلى هذه المدارس الخلفية (الزوايا)، وتمتد معها يد النهب والسلب لما تملكه من مخطوطات. وكان
(1) انظر مقابلة الأمير في معسكره، بالبويرة، لبيربروجر، ديسمبر، سنة 1837. وقد ترجمنا هذه الرحلة (المقابلة) وقدمناها للنشر.
ذلك هو مصير المكتبات في زوايا منطقة الشلف والبابور وزواوة والأوراس والحضنة والونشريس. ثم أدت ثورات أولاد سيدي الشيخ، وشريف ورقلة واحتلال ميزاب، وثورة بوشوشة، وبو عمامة، إلى بعثرة الكتب. وحكى لنا من عاش انتفاضة 8 مايو 1945، كيف مزقت الكتب ورميت للرياح. وأصبح معروفا عند الجميع أن الجزائريين كانوا أيام ثورة التحرير الكبرى، يحفرون لكتبهم الباقية ووثائقهم العائلية في الأرض ويدفنونها، خوفا منها، لأن الفرنسيين إذا وجدوها عندهم سيتهمونهم بالعمل المعادي ويعتبرونها وثائق سياسية، ثم خوفا عليها، لأن العدو إذا وجدها سيحرقها أمام أعينهم، كما حدث عدة مرات. وكان أولئك الجزائريون يظنون أن الحرب لن تطول أو أن الأرض سترحم الكتب، ولكن الثورة قد طالت والأرض لم ترحمها إذ عندما فتحت المطامير التي وضعت فيها وجدت الكتب وقد تلفت من الرطوبة وأصبحت عجينا عند البعض أو ممحاة لا أثر للكتابة عليها. وكثير من الجزائريين نسوا أين دفنوا كتبهم كما أن بعض الذين دفنوها استشهدوا أو ماتوا موتة طبيعية دون أن يعرف الأحياء ما فعل الأموات.
إن المهاجرين الجزائريين قد حملوا معهم أيضا. بعض كتبهم الثمينة بعد الاحتلال. فأولئك الذين خرجوا من دي رهم مراغمين أو اختاروا الهجرة على العيش تحت وطأة الأجنبي، كان معهم رصيدهم من المخطوطات القليلة أو الكثيرة. وقد حرمت منها العائلات الباقية والمدارس والتلاميذ. ابتداء من ابن العنابي الذي نفاه المارشال كلوزيل سنة 1830، إلى حمدان خوجة الذي هرب بجلده من إرهاب دورفيقو إلى فرنسا نفسها ثم منها إلى اسطانبول سنة 1836، إلى مصطفى الكبابطي الذي نفاه المارشال بوجو سنة 1843 إلى جزيرة سانت مرغريت غير أن السلطات الفرنسية في مرسيليا سمحت له بالمنفى في مصر، ثم إلى القضاة والعلماء والضباط الذين توجهوا إلى المغرب الأقصى وتونس، ثم الحجاز. كل هؤلاء حملوا معهم ذكرياتهم وأدواتهم من الكتب (1).
(1) انظر أيضا فصل الجزائر في المشارق والمغارب.
وقد هاجرت الكتب أيضا إلى فرنسا نفسها في أوقات مختلفة في حقائب الضباط والمترجمين والمستشرقين والعلماء واللصوص أيضا. ولذلك فإن من يبحث في تاريخ الجزائر في العهد الفرنسي سيجد مصادره مبعثرة في مكتبات العالم، ولا سيما مكتبات المشرق والمغرب والمكتبات الفرنسية العمومية والخصوصية. وإذا كانت المكتبات العمومية معروفة أو يمكن معرفة ما فيها لوجود الفهارس، فإن المكتبات الخاصة لا يمكن معرفتها لأن أصحابها كثيرون وأن تراثهم قد انتقل منهم إلى أحفادهم وأصهارهم أو بيع في المزاد العلني، أو لأنه لا يوجد فهرس للمكتبات الخاصة إلا نادرا (1).
والواقع أن عملية اتلاف الوثائق بدأت من لحظة الاحتلال. فقد أباح قائد الحملة بورمون، مدينة الجزائر شهرا كاملا لجنوده يعيثون فيها فسادا وسرقة. وقد لاحظت السيدة روجرز بعد حوالي ثلاثين سنة من الاحتلال: أن الجنود كانوا أحرارا في نهب وتدمير وثائق الدولة الجزائرية، وكانوا منها يشعلون غلايينهم. وكان قائدهم (بورمون) مهموما بموت ابنه. ولم يتوقف التخريب عند المدينة بل شمل المنطقة الواقعة بين سيدي فرج (حيث بدأت عملية الإنزال العسكري) والعاصمة. فقطعت الأشجار، وديست الحدائق، وحطمت قنوات المياه. فكان سلوك الجيش، حسب قولها، هو أنه جاء للعدوان والنهب ثم يتراجع (2). وأمام ذلك كيف تكون معاملة الجنود للمخطوطات والوثائق؟.
وليس هذا رأيا معزولا في وصف ما جرى لحظة الاحتلال فقط. فإلى عقد السبعينات كانت الوثائق العربية محل نهب وإهمال. فقد ذكر (دور Dur) وهو قسيس بروتستنتي في الجزائر، أن مجموعة من الوثائق العربية
(1) نشر أوغست كور محتوى الوثائق التي كانت بججوزة شارل فيرو. انظر المجلة الأفريقية 1914، ص 91 - 117. كما نجد بعض المكتبات الخاصة قد حولت إلى دار الأرشيف الوطني الفرنسي وهي تحمل أسماء مالكيها الأصليين، انظر مقدمة ألبير ديفوكس لكتابه (المؤسسات الدينية في مدينة الجزائر) 1874.
(2)
السيدة روجرز Rogers (شتاء فى الجزائر)، لندن 1865، ص 37.
هربت من مكاتب الحكومة العامة بين 1870 - 1871 وبيعت كأوراق قديمة في ساحة الحكومة (الشهداء حاليا). وحين رآها القسيس (دور) اشتراها ثم أعطاها إلى فيرو الذي كان مترجما رئيسيا في الجيش. ولا شك أن ما عثر عليه (دور) ليس وحده، وإن ما تبقى عند فيرو ليس هو كل الوثائق. ولكي تعرف أهمية هذه الوثائق التي وقع العبث جا شكر أن أوغست كور قد نشر قائمتها المفصلة فكانت ثروة ثمينة تتعلق بالمراسلات بين الأعيان الجزائريين والفرنسيين. ومنها مراسلات إبراهيم باي المعروف بوشناق وعلاقته بالدوائر والزمالة وخدمتهم جميعا للعدو بين 1835 - 1836 (1).
وقد عانى الأرشيف الجزائري الذي يرجع إلى العهد العثماني من الإهمال والتلف في العهد الفرنسي ما عانى أيضا. فقد تولاه ألبير ديفوكس الذي لم يكن يعرف التركية، فاستخدم بعض المترجمين الجزائريين واستفاد منه بعض الفائدة فيما يتعلق بالحياة الإدارية والعسكرية والأسطول والارقاء والمداخيل. ثم اشتغل بالأوقاف والحياة الدينية وبعض الآثار كالقلاع. وظلت الوثائق مهملة وعرضة للتلف. وإلى وقت الثورة لم يهتم الفرنسيون بتلك الوثائق مثل ما اهتموا برصيدهم القنصلي والتجاري في الجزائر خلال العهد العثماني. ومع ذلك ظل كتابهم يكيلون الشتم وعبارات التحقير والاستهزاء بكل ما ترك العثمانيون (الترك)، متجاهلين أن تلك الثروة من الوثائق ما هي إلا ثروة جزائرية قبل كل شيء. ومن مئات السجلات والآلاف من الوثائق لم يبق سوى بضع صناديق حملت عشية الاستقلال إلى فرنسا ثم أعيد بعضها، وقيل كلها، إلى الجزائر سنة 1975. وقد بقيت غير مصنفة طيلة العهد الفرنسي، وهي ما تزال كذلك إلى الآن، عدا بعض الجوانب منها، قام بها جان ديني J. Deny ثم بعض المحاولات التي قام بها جزائريون خلال السبعينات.
ولم يحمل الفرنسيون معهم عند رحيلهم، وثائق الجزائر العثمانية فقط
(1) اوغست كور (الاحتلال المغربي لتلمسان) في (المجلة الأفريقية) 1908 ص 66 - 73.
ولكن حملوا معهم كل الوثائق (الإرشيف) الذي جمعوه خلال حكمهم في الجزائر. وهو على ما قيل أطنان من الوثائق، والكثير منها مصنف، ولكن بقي أيضا الكثير غير مصنف ولا مفهرس. وهكذا حرموا الجزائريين إلى الآن من تراثهم الوطني، فالجزائري الذي يريد أن يبحث في حادثة أو شخصية أو ظاهرة اقتصادية أو مدينة من المدن
…
عليه أن يحج إلى فرنسا وأن يقطع البحر لعله يحصل على معلومات عن أمر يتعلق ببلاده وجرى في بلاده، وربما قيل له ماذا تريد منه، وقد لا يبيحون له الاطلاع عليه أصلا رغم مرور الأجل الشرعي عليه.
…
وفي حديثنا عن المكتبات والمخطوطات سنقسم الموضوع إلى مكتبات فرنسية عمومية، مثل المكتبة التي صارت اليوم وطنية، ومكتبة الجامعة، والمكتبات البلدية وغيرها. أما المكتبات الفرنسية الخاصة فلا نتحدث عنها أكثر مما أشرنا إليه. ومن جهة أخرى سنتحدث عن المكتبات الجزائرية العامة منها والخاصة، ونقصد بالعامة هنا ما بقي أو ما أنشئ من مكتبات الزوايا. أما المكتبات الخاصة عند الجيل الجديد الذي نشأ تحت الاحتلال فسترى أنها كانت موجودة رغم أنها لم تلغ مبلغ المكتبات الخاصة في العهد العثماني. ولنبدأ بأول مكتبة عمومية أسسها الفرنسيون وهي مكتبة الجزائر التي كانت تسمى لفترة طويلة المكتبة - المتحف.
من حق الفرنسيين أن ينشئوا مكتبة عمومية لهم في الجزائر بعد الاحتلال، ولكن ليس من حقهم أن ينهبوا ويسلبوا الجزائريين من مخطوطاتهم ليكونوا بها هذه المكتبة. لقد اعتبر الفرنسيون الكتب المحبسة على المدارس والمساجد وكذلك المكتبات الخاصة لدى العائلات الجزائرية غنيمة حرب يأخذونها عن طريق الغلبة والنهب والاختلاس. وكان الضباط والجنود والعلماء والمرافقون لهم كلهم سواء في هذه الفعلة. حرموا المدارس والعلماء من مصادر حياتهم العلمية والفكرية، وحرموا الورثة
الشرعيين من حقوقهم فيما ترك الآباء والأجداد، كان الجنود ينهبون المخطوطات فيعبثون بها أو يبيعونها بأبخس الأثمان، والضباط يأخذونها لأنفسهم أو يسلمونها لعلمائهم في شكل (هدايا)، وكان هؤلاء يجمعونها حيث يسيطر الفرنسيون على أنها غنائم حرب، ثم أخذوا ينقلونها إلى المكتبة الفرنسية في باريس بدعوى تبادلها مع كتب مطبوعة!.
روى بيربروجر (1) الذي رافق حملة كلوزيل على معسكر وتلمسان سنة 1835 كيف استولى على المخطوطات والوثائق وكيف نقلها إلى الجزائر على ظهور الحيوانات. وقد روى بيربروجر ذلك بشيء من الأسف. والغريب أنه ادعى بالنسبة لمدينة معسكر أن العرب قد مزقوا المخطوطات قبل مغادرتهم المدينة ونشروا أوراقها. وكيف يحدث ذلك منهم وهي ثروتهم الثمينة؟ وقال إنه وأمثاله لم يستطيعوا سوى جمع أربعين مخطوطا كاملة وحملوها إلى العاصمة لتكون نواة المكتبة العمومية. ونوه بيربروجر بالضباط: لامورسيير وكوفيه وابراهيشا على فهمهم لدور المكتبة العمومية، وتوفير المخطوطات العربية لها. غير أنه لام الآخرين الذين وقعت المخطوطات الهامة بأيديهم ولكنهم فضلوا أن يبقوها في ملكهم الشخصي، ومن ثمة حكموا عليها بعدم النفع تقريبا. وهذا اعتراف صريح منه أن هناك فرنسيين اغتصبوا المخطوطات وأبقوها عندهم فحرموا منها مالكيها كما حرموا منها المكتبة العمومية.
ومن بين المخطوطات التي (عثروا) عليها في معسكر (سنة 1835): (كريستوماتيا عربية) بخط جميل، ومعجم عربي، ومؤلفات في الفقه الإسلامي تتضمن أحكام البيع والشراء، وشرح عن الأحاديث النبوية (فتح الباري؟)، وغير ذلك من الكتب الدينية. بالإضافة إلى شروح في النحو العربي وتقاييد في التاريخ الطبيعي، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومصحفين. وذكر بيربروجر في شيء من التبجح أنهم عثروا في الفتحات التي تدخل منها
(1) عن حياته انظر فصل الاستشراق. وقد جاء به كلوزيل كموظف مدني وعهد إليه بالمكتبة والمتحف. فكتب عن الأثار وقام برحلات سرية وعلنية. حملته إلى مختلف مناطق الجزائر وتونس. وكان يعرف قليلا من العربية.
الشمس والضوء للغرف، على زمامات (سجلات) المحاسبة للأمير عبد القادر، وعلى عدد كبير من الوثائق والعقود الخاصة بأملاك الأمير. واعترف بيربروجر أن ظروف الحرب جعلتهم ينقذون جزءا من هذه الثروة من الكتب. فكيف ضاعت؟.
لقد حمل جزءا من المخطوطات على ظهر بعير وجزءا، على ظهر حصان. وفي الطريق من معسكر إلى مستغانم سقط البعير من عل إلى هوة سحيقة. وكان على ظهره أربعون مخطوطا، فضاعت كلها معه. أما تلك التي حملت على ظهر الحصان فقد نجت ورجعت مع بيربروجر إلى العاصمة (1).
وفي تقريره إلى المتصرف المدني عن مهمته في قسنطينة سنة 1837 روى بيربروجر كيف حصل هو وأمثاله على المخطوطات من ديار ومدارس ومساجد وحتى أضرحة هذه المدينة المباحة. وبعد أن تحدث عن المعالم العربية الإسلامية في المدينة والآثار الموجودة في الشرق الجزائري عموما.، قال إن العقيد لامورسيير قد سلمه مخطوطين في الدين وجدهما في ضريح أحد المرابطين. وأكد أن آخرين من أعضاء الجيش قدموا له مخطوطات، وأنه اشترى من جنود فرقة الزواف مخطوطات ثمينة كانوا قد نهبوها من المدينة، منها (تاريخ قسنطينة) منذ أقدم العصور الذي لم يذكر مؤلفه، و (تاريخ الجامع الكبير)(2) في نفس المدينة، وأن (ليوتي) المتصرف العسكري عندئذ قد قدم إليه ثلاثة وستين مخطوطا وأعانه على نقلها إلى الجزائر.
ومأساة مكتبة القاضي العربي بن عيسى، أخ علي بن عيسى، قائد الحاج أحمد والمدافع عن قسنطينة، كانت مضرب المثل في هذه الظروف. وكانت مكتبة العربي بن عيسى المذكور غنية، وقد جمعها عبر عقود من
(1) بيربروجر (وصف حملة معسكر)، باريس 1836، ص 76 - 77، 87.
(2)
لا نعرف الآن أي شيء عن هذين المخطوطين. وسيكتب فايسات وشيربونو وفيرو وميرسييه عن قسنطينة دون الكشف عن الكتابين، فيما نعلم. وسيذكر بعضهم، مثل شيربونو كتاب (النبذة المحتاجة في أخبار صنهاجة) الذي استفاد منه، ثم اختفى الكتاب منذئذ.
الزمن باعتبار صاحبها من الشخصيات العلمية في المدية وربما توارثها عن أجداده. وكان الأخوان ابن عيسى (العربي وعلي) من ضحايا الاحتلال. وقد قال قايد فرقة الزواف لبيربروجر المرافق المدني للحملة والذي كان يقوم بدور المتجسس على الأوضاع الداخلية وهدم نفسه على أنه من العلماء وليس من المحاربين، قال له: إن إحدى الدور (دار العربي بن عيسى) كانت تحتوي على كمية من المخطوطات الجميلة. فذهب بيربروجر إليها بينما كانت الراية الخضراء مرفوعة على صومعة الجامع الكبير علامة على الاستسلام، فتأكد أنها دار الأخوين ابن عيسى، ولاحظ أن الكتب المخطوطة كانت مرمية وسط الدار في فوضى، وحتى لا يلصق التهمة مباشرة بالجنود الفرنسيين قال بيربروجر إن المدافعين الجزائريين عن الدار حطموا الصناديق التي كانت بها الكتب لعلهم يجدون فيها أشياء أثمن منها، ولكنه اعترف أن الجنود الفرنسيين قد أكملوا تحطيم الصناديق لنفس الغرض. وكان عليه أن يبحث عن الكتب ويجمعها وهي وسط مواد مضرة بها كالزيت والدقيق والزرابي
…
وبعد أن جمع ما استطاع وما شاء من المخطوطات وضعها في غرفة صغيرة في نفس الدار وعين عليها جنديا لحراستها. واعترف أن ما جمعه أو اغتصبه من دار ابن عيسى قد بلغ حوالي مائة مخطوط، قال إنه ذو قيمة كبيرة إما لموضوعه وإما لجماله الخارجي كالتذهيب والتجليد وإما لحسن خطه. وذكر من ذلك كتاب دلائل الخيرات ونسخة من المصحف الشريف كانتا على غاية من الجمال. وكانت بعض المخطوطات في الفقه، وبعضها دفاتر أو أزمة (سجلات) يعود بعضها إلى عهد صالح باي (الذي قال عنه خطأ إنه عاش إلى نهاية القرن العاشر). ومن المخطوطات عدد في الأدب والدين، ومجموعة من الرسائل الصادرة عن الحاج أحمد باي، وعلي بن عيسى، وغيرهم من الأعيان والمسؤولين. ومجموعة أخرى من الرسائل ترجع إلى قائد الدار أو حاكم المدينة، وشخصيات أخرى هامة في قسنطينة.
وفي دار أخرى تقع بالقصبة (لم يذكر صاحبها) قال إنه عثر على سجلات تتعلق بأملاك الدولة (البايليك). فأشار بها على المكلف بالإدارة
المالية المدعو بيرنار، فقام بيرنار بجمع السجلات (الزمامات)، ولم يتحدث بيربروجر بعد ذلك على أنه حمل هذه معه إلى الجزائر لأنه لا يعتبرها من المخطوطات وإنما من وثائق الدولة، بل تركها في يد بيرنار ممثل الدومين. ولكن المتجسس بيربروجر عثر، كما قال، على ثلاثة وثلاثين سجلا آخر (لم ينتبه إليها) بيرنار، لأنها كانت مخبأة في كيس من الشعير. وهذه السجلات هي التي جاء بها بيربروجر إلى الجزائر وقدمها إلى المتصرف المدني ليقدمها بدوره إلى من يهمه الأمر، وهو بالطبع إدارة أملاك الدولة (الدومين). ومن ثمة نتبين أن الدار التي لم يذكر بيربروجر صاحبها كانت لأحد المسؤولين الإداريين الكبار في حكومة الحاج أحمد.
ويعترف بيربروجر أن الجيش كان ينهب ما يعثر عليه وكان الجنود يجمعون الأشياء الثمينة التي يريدون. أما الكتب فلم تكن في نظرهم ذات أهمية مالية، ولذلك كانوا يجمعونها ويا. تون بها إليه أو إلى قيادتهم دون انتظار المقابل المالي، لأنهم كانوا (يتحصلون على أشياء أخرى)، ولكن بعد أن نفدت الغنائم أصبح (لكل جندي قرآنه)، وأصبح الجنود يبيعون له المخطوطات للحصول منه على الدراهم. (وكل كتاب بالعربية أصبح قرآنا بالنسبة للبائع والمشتري)، وأخذ الجنود يتنافسون على جمع المخطوطات وبيعها إليه، كما قال. وأخبر أن المخطوط الواحد قد وصل إلى خمسين فرنكا لمجرد أن فيه حروفا مذهبة أو بعض الرسومات. واعتبر بيربروجر أنه من حسن حظه أن الهواة في جمع المخطوطات وبيعها لم يهتموا بالكتب الفاخرة التي كان أغلبها دينيا، وهي غير ذات أهمية كبيرة عنده، وغالبا ما كانت الكتب المتواضعة هي ذات الموضوع الهام الذي يبحث عنه. وكانت هذه المخطوطات المتواضعة في مظهرها والثمينة في محتواها تباع بأبخس الأثمان. وبذلك ازدادت قيمة المجموعة التي انتهبها بيربروجر من قسنطينة سواء بالأخذ المباشر أو بالشراء من الجنود المتنافسين على اغتصابها.
والغريب أن بيربروجر قد اعترف بأن معظم الكتب التي حملها من
قسنطينة كانت من المؤسسات العامة، وكانت كتبا، موقوفة على الطلبة والعلماء والدارسين في تلك المؤسسات. فهو يقول إن أغلب الكتب التي اشتراها من الجنود قد جاءت من المدارس والزوايا والمساجد. وكان أغلبها مختوما بختم صالح باي في أوائلها على أساس أنها وقف، ومن ذلك وقف الجامع الكبير. ومع ذلك اعتبر بيربروجر نفسه حامل لواء الرسالة الحضارية للجزائريين بينما كان هو وجيشه يجردونهم من مصادر حضارتهم ويرمون بها في غياهب الجهل والأمية باغتصاب مكتباتهم.
وقد بلغ ما جمعه بيربروجر بالطريق المذكورة، حوالي ألف مخطوط - يقول إنه حوالي 800 مخطوط - لكننا نعرف أن كل مجموع يضم عددا من المخطوطات الموضوعة مع بعضها داخل سفر واحد. وكان نقل هذه المخطوطات إلى الجزائر مشكلة بالنسبة إليه. فقد وضعها في صناديق وأعدها لتنقل عن طريق عنابة. فخاطب بذلك الجنرال زيقو، رئيس اللجنة العلمية، فوجده مريضا ولم يهتم بالمخطوطات، ثم خاطب رئيس الحملة (المارشال فاليه؟) فأجابه أنه لا يمكن نقل الكتب لأن حياة البشر أولى من حياة العلم. ويخبرنا بيربروجر أنه جمع من قسنطينة وحدها ثلاثة عشر صندوقا لم يصل منها إلى الجزائر سوى ثمانية فقط، وكانت تضم 500 مخطوط. وهكذا ضاع الباقي، ولكنه لم يقل كيف ضاع (1).
وعلق أحد الفرنسيين على عملية نهب المخطوطات من قسنطينة بقوله: إن احتلال هذه المدينة (1837) قد أدى إلى لجوء أهلها المتحضرين إلى أهل البداوة في الصحراء. وبذلك قاد الاحتلال إلى تحويل أناس متحضرين إلى همج (باربار). فقد حرم الفرنسيون بغيرتهم العلمية (؟) سكان المدينة (قسنطينة) من آخر ما عندهم من مصادر ثقافية، وهي كتبهم التي كانت ثروة حقيقية للسكان جميعا. إن كتابا واحدا يعتبر ملكا مشاعا لكل العائلة
(1) من تقرير بيربروجر في 30 نوفمبر 1837، الأرشيف الفرنسي، رقم 1733 - 80 F، يحتوي التقرير على سبع صفحات. وفي أعلاه عبارة (وزارة الحربية، مكتبة الجزائر، تقرير أولي عن مهمة أ. بيربروجر، في قسنطينة).
الحضرية. وهكذا فإن ال 800 كتاب (ضاع أكثرها) التي حملت من قسنطينة إلى العاصمة قد أدت إلى الإضرار بحركة التعليم للسكان وحرمان عدد من الآباء في العائلات من المتعة الشريفة وهي إقراء أولادهم كل مساء حسب عادتهم، حين يتحلقون حولهم (1).
وهذا الحرمان قد استمر في عدة أشكال بعد ذلك في مختلف المدن. وقد استولى شيربونو على مخطوطات ووثائق استلفها من أعيان قسنطينة أثناء إقامته بها، والغالب أنه لم يردها إلى أصحابها. وقد يستعمل شيربونو مكانته ونفوذه كأستاذ حلقة الدراسات العربية ليطمع أولئك الأعيان والعلماء والقياد بتقديم خدمات لهم إذا جاؤوه بالوثائق والمخطوطات التي يطلبها. ومن ذلك كتاب (الدرة الثمينة) لأحمد المبارك العطار الذي طلبه شيربونو من محمد البابوري بواسطة الشيخ محمد بن أحمد العباسي (إمام زاوية سيدي التلمساني) سنة 1270 هـ، وبواسطة القايد أيضا. والكتاب المذكور ضاع خبره منذئذ وإنما أشار إليه شيربونو نفسه في كتابه (تعليم القاري في الخط العربي)(2).
وفي مكان آخر ذكر شيربونو نفسه أنه استعار نستختين من مخطوط (تكملة الديباج) تأليف أحمد بابا، إحداهما من الشيخ حمودة بن الفكون والثانية من الشيخ مصطفى بن جلول. وقد استفاد شيربونو منهما في ترجمة مقالته عن (الأدب العربي في السودان)، كما التجأ إلى المترجمين الجزائريين أمثال الطاهر بن النقاد في الذي قدم إليه نسخة وشرحا للكتابة الموجودة في الجامع الكبير بتقرت والتي تثبت تاريخ تجديده (3). حقيقة أن شيربونو وأمثاله
(1)(مجموعة وثائق حول حملة واحتلال قسنطينة من قبل الفرنسيين سنة 1837)، باريس 1838، ص 132.
(2)
ط. باريس 1850. ومحمد العباسي هو ابن الشيخ أحمد العباسي قاضي وعالم قسنطينة أثناء حكم الحاج أحمد باي. وكان فايسيت قد أشار إلى اسم محمد البابوري (وليس الباقوري) واستعار منه أيضاد وثائق.
(3)
أنوير Annuaire، الحولية عدد 1854 - 1855، ص 1 - 48، 131.
من المستشرقين قد ألفوا وكتبوا عن المخطوطات واستفادوا منها، ولكنها عادة لا ترجع إلى أصحابها، ويكون مصيرها هو حرمان أهلها وذريتهم منها.
وكانت محافظة المكتبة العمومية (انظر لاحقا) تتلقى (الهدايا) من الكتب المخطوطة التي استولى عليها الضباط أثناء الحملات ضد الجزائريين. وذلك قليل من كثير، لأن معظم المخطوطات في الواقع كانت تبقى عند مغتصبيها أو كانت ترسل إلى مكتبات محلية في فرنسا أو إلى بعض المستشرقين المهتمين. ومما أخبرت المكتبة العمومية أنها تلقته في شكل هدية من المحامي شاطرون ما يلي: الجزء الرابع والأخير من كتاب في الفقه المالكي وموضوعه الإجارة. والجزء الثالث والأخير من كتاب عنوانه (إعراب القرآن) لأبي حيان يرجع نسخه إلى سنة 1026 هـ (1617). ثم الجزء الثالث والأخير من كتاب الشفا للقاضي عياض وهو في شمائل الرسولو (1).
وادعى عدد آخر أنهم (عثروا) على مخطوطات فاستفادوا منها أو نشروها، ومن ثمة حرموا أصحابها منها. ونجد ذلك الإدعاء عند مستشرقين وباحثين أمثال ماسكري وموتلانسكي اللذين اهتما بالمخطوطات الإباضية. فمنذ 1880 ادعى ماسكري أنه حصل على نسخة - بعد هب وجهد كما قال - من تاريخ أبي زكريا في المذهب الأباضي. ونفس الشيء قاله موتيلانسكي عن كتاب في تاريخ زواغة. وفي سنة 1879 قال ت. فرومان Froment إنه (عثر) في المدية سنة 1839 على نسخة من (اللآلئ الفريدة) وهو الجزء الثاني من شرح الشاطبية في القراءات السبع. فما كان منه (فرومان) إلا أن قدمه إلى الجمعية الآسيوية بباريس (2).
وكان فانيان صريحا عندما ذكر أن فهرس (كاتلوق) مخطوطات مكتبة بوردو بفرنسا كان يضم حوالي عشرين مخطوطا عربيا، معظمها قدمها لها
(1) انظر المجلة الافريقية ديسمبر 1859، ص 150.
(2)
انظر المجلة الآسيوية. J. A، سلسلة 7، رقم 14، سنة 1879، ص 541. وعن دعوى ماسكري انظر نفس المصدر، رقم 15.