الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لعلها هي جريدة (العرب) التي كان تولى تحريرها. وزار الجزائر سنة 1928. وكان هذا (السائح العراقي) قد انتقد الاحتلال الفرنسي على محو الآثار العربية من الجزائر (1).
وقد اختلط اسم يونس بحري باسم محمد تقي الدين الهلالي المغربي الأصل المشرقي الإقامة. فقد ذكر الهلالي بنفسه في مراسلة مع البصائر سنة 1936 أنه زار الجزائر منذ ستة عشرة سنة (1920؟)، فوجد ما أحزنه على حال العربية، ولكن الأمور قد تبدلت تماما (من الوجهة الدينية والثقافية وحتى الأخلاقية)، وقال لو أن أحدهم أخبره أن الحالة ستتغير بعد عشر سنوات أو حتى خمسين سنة إلى ما آلت إليه الآن (1936) لبادر إلى تكذيبه. فقد أصبح للجزائر صحافتها الراقية، وهي تشهد نهضة أدبية تضاهي نهضة البلدان الإسلامية الراقية (2) وكان الهلالي قد استقر في العراق.
…
زيارة الشيخ محمد عبده
من الزيارات التي تركت أثرا ما يزال يثير الجدل في قيمته وأهميته، زيارة الشيخ محمد عبده، شيخ الأزهر والمجدد الشهير. كان الشيخ عبده قد ازداد معرفة بالجزائر منذ الثمانينات (3)، حين حل ببيروت ودمشق وربط الصلة مع الأمير عبد القادر، وعرف إبنيه محمد ومحيي الدين والجالية
(1) أخبر بذلك يونس بحري نفسه، انظر البصائر 5 مايو 1939. وقال أنه زار الجزائر سنة 1928، انظر البصائر 16 جوان 1939.
(2)
البصائر 24 يوليو، 1936 من مقالة بعنوان تعليقات، قال فيها إن زيارته للجزائر كانت سنة 1339 (1920). وما يزال الأمر مختلطا عندنا حول من هو (السائح العراقي) هل هو الهلالي أو يونس بحري.
(3)
زار الشيخ عبده تونس لأول مرة سنة 1885، ولعله عرف منها شيئا عن أحوال الجزائر.
الجزائرية هناك. ولعل الشيخ عبده قد تحادث مع الأمير أو مع أبنائه عن أحوال الشرق والجامعة الإسلامية وجمعية العروة الوثقى التي قيل إن الأمير كان عضوا فيها. وتدل المراسلات بينهما على وجود علاقة خاصة، ويذكر الشيخ رشيد رضا الذي أرخ لحياة الشيخ محمد عبده أن هذا قد كتب عددا من الرسائل إلى الأمير، وأن مخاطباته له قد كثرت فكانت طورا في رسائل الإصلاح وطورا في رسائل الوداد. وجاء في أحد هذه المخاطبات ما يدل على تكرار المراسلة بينهما بعد اللقاء، وعلى التقدير الكبير الذي يحمله الشيخ عبده للأمير، كما يدل على وجود (أسرار) بينهما يرمز إليها الشيخ رمزا، كقوله (ورجائي ألا يزايل فكرك ما تفارقنا عليه وسبق الكلام فيه مرارا
…
وأن يرد لي من سيادتك ما يبشرني بسلامة حالك، ومجمل الحاصل من سعيك) (1). وعلى اثر وفاة الأمير كتب الشيخ عبده معزيا ولديه محمد ومحيي الدين بعبارات مؤثرة، كقوله (وليس من كلمة أجمع لكلماته ولا قول أوفى بفضائله سوى أنه منتهى وصف الواصفين وغاية مدح المادحين)(2).
ثم تردد الشيخ عبده على تونس فزارها مرتين في الثمانينات. وكانت فرنسا عندئذ حديثة عهد باحتلالها. وكان فيها بعض الجزائريين، في جامع الزيتونة وفي الإدارة وفي الصحافة، فليس غريبا أن يلتقي الشيخ عبده بعدد منهم عندئذ، وأن يعرف منهم القليل أو الكثير من أحوال الجزائر التي كانت وقتها تحت إدارة لويس تيرمان. ولا نظنه إلا قد سمع عن السياسة الفرنسية فيها وعن أحوال التعليم والقضاء والأوقاف والمساجد والحج فأراد أن يقف بنفسه على جليات الأخبار. فالمبادرة بالزيارة فيما يبدو كانت من عنده، رغم أن البعض ربما يذهب إلى أن المبادرة قد تكون فرنسية، الهدف منها جذب الشيخ عبده، الذي عاش في فرنسا فترة إبعاده، عن الفلك البريطاني. ومن يدري فقد تكون لبريطانيا أيضا مصلحة في زيارة الشيخ عبده لمستعمرة
(1) محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام، 2/.
(2)
نفس المصدر، ونص الرسالة موجود فيه.
فرنسية غير عادية، كالجزائر. ذلك أن علاقة هذا الشيخ بالورد كرومر حاكم مصر أصبحت ودية، ولم يكن الاتفاق الودي (1904) بين فرنسا وبريطانيا قد وقع بعد. غير أن صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا استعمل عبارة غامضة حين نسب المبادرة إلى الشيخ عبده نفسه إذ قال ان هدفه كان الإطلاع بنفسه على أحوال المسلمين وتتبع آثار الإسلام.
ومنذ إبريل 1903 كتبت المنار مقالة بعنوان (فرنسا والجزائر) كأنها تمهيد لزيارة الشيخ عبده. وقد جاء فيها بعض (النصائح) للدولة الفرنسية (العظيمة) بأن (تعامل مسلمي مستعمراتها بالحسنى لتملك قلوبهم وتأمن غائلتهم). وفرقت المنار بين معاملة الحكومة الفرنسية وإدارتها في الجزائر، وقالت معتذرة ان فرنسا لم تكن مرتاحة للمعاملة القاسية التي تعامل بها مسلمي الجزائر، ولكنها ترى أنها هي الطريقة الضرورية (؟) إلى أن يأتي ما هو خير منها. وأشارت المنار إلى زيارة رئيس الجمهورية الفرنسية للجزائر (1903) ووعده الأهالي بأن زيارته ستتلوها معاملة أفضل لهم (1). وكانت المنار معتدلة جدا، في معالجة العلاقة بين الجزائر وفرنسا.
كان الشيخ عبده قد زار أوروبا عدة مرات، خصوصا سويسرا وبريطانيا وفرنسا. وكان في أوروبا خلال صيف 1903، فزار الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر في العاشر من شهر غشت، وتحادثا عن حالة الشرق والغرب. ومن بريطانيا حل بفرنسا وقضى في باريس حوالي أسبوعين، ولعله اتصل بالسلطات الفرنسية لتسهيل زيارته للجزائر أو جرى الاتصال به لترتيب هذه الزيارة، إذ لا بد من رخصة خاصة لدخول الجزائر، وهذه الرخصة لا تمنح إلا لمن تعهد بعدم إثارة الشغب والخوض في المسائل الحساسة والسياسية. ومما يدل على (ترتيب) الفرنسيين لهذه الزيارة أن الشيخ عبده قد وجد الشيخ أيا القاسم الحفناوي في انتظاره بمرسيليا لمرافقته إلى الجزائر، دون إعلام مسبق. وكان الحفناوي عندئذ محررا في جريدة المبشر التي تصدر عن
(1) مجلة (المنار) 4 أبريل 1903، ص 79 - 80. انظر لاحقا.
الحكومة العامة. وعند وصول الباخرة في 27 غشت إلى الجزائر فارقه الشيخ الحفناوي الذي انتهت مهمته، ثم تولاه آخرون كانوا يعدون عليه أنفاسه ويتبعون خطواته ونظراته، فيكتبون عنه وعن زواره التقارير للفرنسيين.
وقد تحدث محمد رشيد رضا عن ظروف زيارة الشيخ عبده فقال انه أخبرهم بنيته في السفر بعد أوروبا إلى تونس والجزائر (1)، كما كان ينوي زيارة المغرب الأقصى بعد ذلك، وكان هدفه المعلن هو الوقوف على أحوال المسلمين في منطقة المغرب العربي والاطلاع على آثار الإسلام هناك. وقد كتم الشيخ رشيد رضا خبر هذا السفر (لئلا يبادر الأشرار إلى بث الدسائس لمنع فرنسة إياه من دخول البلاد
…
) ومع ذلك فإن الخبر قد تسرب و (بادر أولئك الأشرار إلى ما كان ينتظر منهم) فكتبوا رسالتين إلى الحكومة العامة في الجزائر سعاية بالشيخ عبده، واحدة من القاهرة والأخرى من الأسكندرية، وكلتاهما تحريض الحاكم العام لفرنسي (وهو شارل جونار) بالشيخ عبده وتقول ان الهدف من سفره إلى الجزائر هو (تحريض المسلمين على الثورة والخروج على الحكومة ونبذ طاعتها، وأنه قادر على ذلك).
وفي نظر الشيخ رشيد رضا أن الحكومة الفرنسية لم تكن (خرقاء) فلم تصغ إلى سعاية الساعين وإنما استقبلت الشيخ عبده (بالحفاوة والإجلال لأنها لا تجهل مكانته الدينية والعلمية. وقد سر بهذه المعاملة له مسلمو الجزائر، ورأوا ذلك دليلا على حسن قصد حكومتهم وحسن سياستها). ورغم هذا الاطراء للحكومة الفرنسية على حسن معاملتها للشيخ عبده فإن الشيخ رشيد رضا استدرك قائلا انهم بثوا (حوله من الجواسيس السريين في كل مكان، وهو لم يكن يجهل هذا ولا كان يخشى منه). ونفهم من كلام رشيد رضا أن الشيخ عبده، كان ينوي زيارة تونس أيضا. وقد ذكر الشنوفي (انظر سابقا) أن الشيخ عبده زار تونس بعد الجزائر مباشرة وأنه جاءها بالقطار ومنها سافر إلى لندن عن طريق صقلية. أما المغرب فلم زرها أبدا. فهل كان لمرضه دخل
(1) ومن ثمة نفهم حذر رشيد رضا في كتابته بالعدد 4 أويل 1903، انظر سابقا.
في ذلك؟ أو أن السلطات الفرنسية التي كانت تحتل أيضا تونس وتمهد لاحتلال المغرب هي التي جعلته يلغي زيارته للمغرب (1).
ولكن الشيخ عبده قد حقق هدفه في رأي رشيد رضا، من زيارة الجزائر وهو (إرشاد المسلمين) إلى حقيقة دينهم والطريقة المثلى لإحيائه وإحياء لغته، مع البعد عن السياسة. فقد اجتمع الشيخ عبده، كما ذكرنا، بعدد من العلماء والمعجبين بالحركة الإصلاحية التي يمثلها. وذكر منهم رشيد رضا اثنين وهما محمد بن الخوجة وعبد الحليم بن سماية. وكانا من المعجبين بالمنار، وقد طلبا من الشيخ عبده مع غيرهما، أن يوصي صاحب المنار بأن لا يتعرض في مجلته بسوء للدولة الفرنسية حتى لا تمنع المجلة من دخول الجزائر، وهي في نظرهم (مدد الحياة لنا فإذا انقطع انقطعت الحياة عنا). وهذا الكلام قد يكون موعزا به من السلطات الفرنسية لأنها هي المستفيدة من سكوت (المنار) عن فظائعها في الجزائر. وعن طريق المنار كان في الجزائر وتونس (حزب عبدوي) دون أن يكون الشيخ عبده نفسه عالما بذلك، وقد أكده أحد كتاب جريدة (لوطان) الفرنسية.
هذا عن الهدف المعلن من جانب الشيخين عبده ورضا من الزيارة. ولكن ما رأي الفرنسيين في ذلك؟ لماذا سمحوا له بزيارة الجزائر والالتقاء بعلمائها وإلقاء درس عام أو محاضرة كما نقول اليوم؟ رغم أننا لم نقرأ بعد
(1) قال آجرون ان الشيخ عبده كان يخطط لزيارة المغرب سنة 1905، ولكن المرض أودى به، وكان اللورد كرومر قد أخبر بول كامبون بالداء الخبيث الذي كان يعاني منه الشيخ عبده والذي توفى به في 27 يوليو 1905. انظر آجرون 2/ 917. وبول كامبون هو المقيم العام الفرنسي عندئذ في تونس، وهو أخ جول كامبون الذي سبق له أن حكم الجزائر. وعن علاقة الشيخ عبده بالمغرب نذكر أن الوزير محمد الجباس (الغباس) الذي رأس وفد المغرب وحضر إلى الجزائر سنة 1903 لم يتمكن من لقاء الشيخ محمد عبده فيها. ويبدو أن الوزير غادر ورجع إلى بلاده، فسمع، وهو في مدينة وجدة، بوجود الشيخ عبده بالجزائر، فدخلها لعله يصادفه فوجده قد غادرها إلى تونس. ولكن الذي التقى بالشيخ في الجزائر فعلا هو نجل الوزير الجباس، انظر مجلة (المنار) عدد 3 مارس 1904، ص 927.
عن ذلك في الوثائق الفرنسية فانه يبدو لنا أن الحكومة الفرنسية كانت على الأقل تريد تحقيق أمرين من زيارة الشيخ عبده للجزائر، الأول دولي والثاني محلي. أما الكسب الدولي فهو أنها كانت تخشى حركة الجامعة الإسلامية بقيادة السلطان عبد الحميد. وقد فتح علماؤها ملف هذه الحركة وأخذوا يدرسونه ورقة ورقة ويكتبون عنه التقارير والمؤلفات، ويضعون أمام الحكومة الفرنسية عدة بدائل. كما أن فرنسا كانت تريد الاستفادة من اسم ونفوذ الشيخ عبده في العالم الإسلامي على حساب بريطانيا.
أما الكسب المحلي فإن الاتجاه الجديد للسياسة الفرنسية في الجزائر والذي ظهر منذ التسعينات من القرن الماضي هو تحقيق الاندماج عن طريق توسيع التعليم الفرنسي وتكوين نخبة مرتبطة بالثقافة الفرنسية لتحل محل الطرق الصوفية و (الإسلام الجزائري) الذي عبر عنه أدمون دوتيه بأنه إسلام الدروشة والسحر وتوريث البركات. وكان ترويج المنار أولا ثم ترويج أفكار الشيخ عبده ثانيا وحضوره الشخصي، كل ذلك يخدم الاتجاه الفرنسي الجديد ضد الزوايا والمرابطين. ولعله من الملفت للنظر أن الشيخ علي بن عبد الرحمن مفتي وهران وأحد أعضاء الطريقة التجانية لم يحضر درس الشيخ عبده وأعلن أنه كان مريضا. وكثيرا ما كان لوسياني (الذي على يديه رتبت زيارة الشيخ عبده)(ينصح)(أي يأمر) هذا الموظف أو ذاك بكيت وكيت حتى يجعله يتفادى الإحراج. وقد فعل ذلك مع الشيخ محمد السعيد بن زكري يوم مناقشة فرض التجنيد على الجزائريين، فقد نصحه لوسياني بالسفر. ولا نستبعد أن يكون مرض الشيخ ابن عبد الرحمن بإيعاز من لوسياني أيضا (1).
(1) يذهب آجرون، 2/ 916 - 917 إلى أن محمد بن أبي شنب ومحمد السعيد بن زكري ومحمد بن الخوجة (الكمال) ربما لم يلتقوا بالشيخ عبده، بينما قال رشيد بن شنب ان والده قد سجل في زمامه بعض أخبار الشيخ عبده. فهل حضر شخصيا أو استقاها ممن حضروا؟. كما ذهب آجرون إلى أن الأمير خالد قد دعي ولم يحضر. ونحن نستغرب عدم حضور شخص مثل محمد بن الخوجة. ولعل آجرون غير متأكد من معلوماته.
ومهما كان الأمر فان الشيخ رشيد رضا لخص الأفكار التي بها الشيخ عبده في الجزائريين فيما يلي: الحرص على تحصيل العلوم الدينية والدنيوية، والحث على العمل وعمران البلاد، كما نصحهم بمسالمة الحكومة (الفرنسية) وترك الاشتغال بالسياسة لكي تساعدهم هذه الحكومة على تحقيق الغرضين السابقين وهما تحصيل العلوم وتوفير شروط الكسب والعمران. وقد شرح الشيخ رشيد رضا معنى ترك الاشتغال بالسياسة بأنه لا يعني عدم مخاطبة الحكومة في المظالم التي تضر بهم كالقوانين الجائرة والمعاملات التعسفية. وكأني به يريد أن يقول ان السياسة هي التحزب والمضادة للحكومة والتآمر ضدها وعصيان أوامرها والثورة عليها. وقد كتب الكتاب وفسر المفسرون هذا الرأي دون طائل. ونظن أن المسألة عند الشيخ عبده كانت مسألة أولوية: هل الأولى للمسلمين أن يتسيسوا ويعملوا على التغيير بطرق مباشرة كالعصيان والثورة، أو الأولى لهم أن يدرسوا ويكونوا وينافسوا الفرنسيين في العلوم الدنيوية ما دام هؤلاء قد سمحوا بها؟ ولعل جوهر الموضوع هو ما العمل إذا كانت العلوم المسموح بها لا تكفي أو لا تحقق المطمح السياسي بل تعارضه أحيانا؟ وقد أجاب الشيخ رشيد رضا صراحة على ذلك في قوله: فإذا لم تكشف الحكومة ظلامتهم، بعد الالتجاء إليها في كشفها، فانهم يكونون معذورين في سخطهم عليها وتربصهم بها الدوائر كالعصيان.
ويبدو لنا أن الشيخ رشيد رضا قد توقع أكثر مما كان ممكنا من حكومة فرنسا عندئذ. ولكن سياسة شارل جونا على ما فيها من ظلم وتعسف، قد أغرت الجزائريين والمسلمين عامة، وفيهم رشيد رضا والشيخ عبده نفسه، ان هناك سياسة جديدة لفرنسا في الجزائر. يقول رشيد رضا ان فرنسا كانت (تبحث دائما عن طريقة يطمئن بها أهل الجزائر لحكومتهم وتطمئن هي لرضاهم عنها). وهذا قول فيه تفاؤل كبير أو فلنقل مجاملة مكشوفة. لأن فرنسا كانت لا تسأل عن رضى الجزائريين ولا تأخذهم في الاعتبار، وكانت سياستها نحوهم تقوم على القمع والإرهاب في كل قانون الأهالي المعروف. ولعل مجيء الحاكم العام جونار هو الذي جعل الأهالي والشيخ عبده وتلميذه الوفي رشيد رضا
يأملون الأمل الحسن في السياسة الفرنسية نحو الجزائريين (1).
في باب عزون تعرف الشيخ عبده على شيخ جزائري كان يتاجر في محل للدخان اسمه محمد بن عمر بن سماية (2)، وهو ابن أخ الشيخ عبد الحليم بن سماية الذي كان من المعجبين بالمنار، وبأفكار الشيخ عبده عن طريق السماع. وقد عرفه التاجر على عمه المذكور فارتبطت بينهما صلة العلم والإعجاب. وربما كانت هذه المعرفة أيضا مرنة من قبل السلطات الفرنسية. إذ لا يمكن أن تكون عفوية إلى الحد الذي يذكره بعض الباحثين. ومهما كان الأمر فان الشيخ عبد الحليم كان يسكن ضاحية الحامة (بلكور) عند جامع صغير بناه أحد التجار اسمه مصطفى الأكحل، قرب سكناه. وكان السيد الأكحل من أصحاب الثروة والجاه ومن المتعلمين، وكانت داره مفتوحة للجزائريين المثقفين والأجانب. وكان الشيخ عبده، لا يكاد يغادر دار السيد الأكحل إلا قليلا (3). وقد تهاطل عليه الزوار من مختلف الفئات المتعلمة والمتسيسة، معظمهم من الموظفين لدى الإدارة. وقد قسمهم رشيد بن أبي شنب إلى ثلاثة أصناف، صنف المحافظين وصنف العصريين وصنف المتفرنسين. كما ذكر نماذج من كل صنف (4). وكان عمر راسم والإخوان
(1) انظر مجلة المنار، أعداد 7 و 22 أكتوبر، و 22 سبتمبر، 1903.
(2)
عن عمر بن سماية انظر فصل الفنون.
(3)
كان الشيخ عبده قد زار قسنطينة زيارة خاطفة ثم رجع إلى الجزائر. ولم يكتب أحد حتى الآن، حسب علمنا، عن زيارته لقسنطينة، ونظن أن أحد مستقبليه هناك قد يكون الشيخ المولود بن الموهوب وحمدان الونيسي. وكان ابن الموهوب من المعجبين بالشيخ عبده. انظر خطبة توليه الفتوى سنة 1908، في كتابنا أبحاث وآراء، ج 2.
(4)
عد من الصف الأول ابن زكري والمجاوي وابن سماية، وبوقندورة وابن زاكور وابن الحاج موسى. وعد من الصنف الثاني مصطفى الكمال (محمد بن الخوجة) ومحمود كحول ومصطفى الشرشالي وعبد الرزاق الأشرف ومحمد بن ابي شنب، ومن الصنف الثالث ابن التهامي وابن بريهمات (أحمد) ووضربة (أحمد؟) - وهم متجنسون بالجنسية الفرنسية - ثم حمو أبو علام وحمدان بوركايب - من الأعيان.
رودوسي من الذين حضروا مجالس الشيخ عبده.
كانت تعاليم الشيخ عبده تقوم على أن الدين الإسلامي دين علم وعمل وتسامح. وأن كثيرا من الخرافات والبدع قد علقت به، وأنه حاول إصلاح الأزهر ونظام القضاء في مصر، ونحى باللائمة على تخلف تعليم الزوايا وعلى بعض الطرق التي تعلم التصوف الكاذب. وقال ان الدين الإسلامي غير منغلق، بل هو دين مفتوح ومتحرك نحو المستقبل، وأخبر الحاضرين أن الإسلام قادر على التأقلم مع الحياة العصرية، وعلى المسلمين أن يأخذوا من الغرب ما لا يناهض دينهم، وأن ينافسوا الأوروبيين ساقا بساق وذراعا بذراع. وكان يتفادى الموضوعات السياسية ولا يجيب عنها إذا ما سئل، ولعل ذلك كان باتفاق مسبق مع الفرنسيين، ولكنه استنكر الاندماج (التجنس؟)، كما صوره له أحمد بن بريهمات والنخبة المستغربة، حتى لا يتخلى المسلم عن أحواله الشخصية. واعتبر البعض أن هذا الموقف جعله يتدخل في السياسة.
قام الشيخ عبده بتفسير سورة (والعصر) في جامع السيد الأكحل بالحامة. كان عدد الحاضرين حوالي 200 شخص، من مختلف أنحاء القطر. ودام الدرس حوالي ساعتين، وكان الحاضرون من مختلف فئات المتعلمين. وحضر بالصدفة أيضا وفد مغربي رسمي كان يزور الجزائر. وكان الشيخ عبده قد فسر هذه السورة من قبل وهو في الأزهر. وجاء الآن فحث على الصبر والصلاة والتعلق بالله وفعل الصالحات وتطبيق الشرع والالتزام بالأخلاق الفاضلة والتمسك بالإيمان الصحيح. وقد فهم البعض أن اختياره لهذه السورة يدل على التزامه بعدم التدخل في السياسة لأن السورة تحث على الاستسلام لله والصبر في سبيله، ولا تدعو إلى الجهاد أو الانتفاضة. لقد كان الشيخ يقارب بين الدين والعلم والتقليد والتجديد ويحث على الأخلاق والتعلم والصلاح.
هذه هي رسالة الشيخ محمد عبده سنة 1903. وقد أخذ المعجبون به
يبثونها من صحفهم وخطبهم الجمعية وأحاديثهم ورسائلهم. فقرأ مصطفى الكمال (ابن الخوجة) على الملإ تفسيره لسورة والعصر، وهو التفسير الذي نشرته (المنار) في صورته النهائية بعد رجوع الشيخ إلى مصر ومراجعة النص. وظل تأثير الشيخ عبده بعد وفاته أيضا. وقد تبنت بعض الجرائد الجزائرية كالفاروق وذو الفقار، أفكار الشيخ، وكانتا تنشران أخباره الدينية، مما يفهم منه أنهما ضد الطرق الصوفية والوضع الديني الرسمي في الجزائر والخرافات، فأوقفتهما الإدارة الفرنسية، وكان ذلك عشية الحرب العالمية التي أدت إلى اختفاء القادة والجرائد إلى 1919 (1).
من الذين ارتبطوا بالشيخ محمد عبده محمد بن الخوجة (الكمال)، وعبد الحليم بن سماية، والمولود بن الموهوب، وعمر بن قدور، وعمر راسم. وكان ابن الخوجة من المعجبين بالشيخ عبده عن طريق المنار، قبل زيارته للجزائر. ولذلك استغربنا من قول آجرون ان ابن الخوجة لم يكن من بين الذين حضروا درس الشيخ عبده. وإذا صح ذلك فقد يكون لأسباب قاهرة كالمرض أو الخوف من السلطات الفرنسية. وقد عرفنا أن ابن الخوجة قد كرر إلقاء تفسير (والعصر) على منبر خطابته في جامع صفر بعد نشر التفسير في كتيب خاص. وكذلك قرظ ابن الخوجة هذا التفسير ونشر تقريظه في المنار (2). وفي نفس العدد من المجلة تقريظ طويل نظمه الشيخ عبد الحليم بن سماية في الشيخ عبده عندما كان في الجزائر. ولم نطلع على هذا
(1) رجعنا في الفقرات السابقة إلى دراسة رشيد بن أبي شنب (زيارة الشيخ عبده للجزائر 1903) في مجلة الدراسات الإسلامية Studia Islamica، عدد 53، 1981 ص 121 - 135، انظر أيضا فرحات عباس (تشريح حرب)، ص 203 - 205، وكذلك محمد رشيد رضا (تاريخ الأستاذ الإمام) 1/ 787، 871 - 873. وفي ج 1/ 787 جاء أن الشيخ عبده كتب بنفسه في تفسير جزء عم أنه فصل تفسير سورة (والعصر) في الجزائر ونشر ذلك منفصلا عن المختصر الذي تضمنه تفسير جزء عم.
(2)
قال رشيد رضا انه نشر التقريظ في المنار المجلد 7 ص 917. وقد وعد بنشره في ذيل تاريخ الأستاذ الإمام، ولكنا لم نعثر عليه. 1/ 872. ولا نعرف ما إذا كان التقريظ شعرا أو نثرا.
الشعر في الذيل، كما وعد الشيخ رشيد رضا.
وتواصلت المراسلة بين الشيخ عبده وابن سماية بعد الزيارة أضا. فمن جزيرة صقلية كتب الشيخ عبده إلى تلميذه ابن سماية رسالة تعتبر من رسائل البيان بين الإخوان. فقد مدحه بالفضل والعلم والأدب والأخلاق، وتنبأ له بأنه سيكون إمام قومه في الهداية إلى سبيل الرشاد. وحثه على الاستعداد لهذه المهمة (بالاستمرار في مزاولة كلام البلغاء من أهل اللسان العربي) ومواصلة ما بدأ به من اللغة الفرنسية، ودراسة أخلاق الناس، والتعمق في تاريخ الأمة الإسلامية، والتطور الديني وعلل ذلك وأسبابه. وأوصاه بالاستعانة وبإخوانه ابن الخوجة ومفتي الحنفية (بوقندورة)، وحذره من (النظر في سياسة الحكومة أو غيرها من الحكومات ومن الكلام في ذلك. فان هذا الموضوع كبير الخطر قريب الضرر). وفي نظر الشيخ عبده أن الناس محتاجون إلى العلم والإخلاص في العمل.
وكانت هذه الرسالة درسا آخر له ولغيره في موقف العلماء من الحكام. إذ أن الشيخ عبده أصبح الآن خارج الجزائر، وكان بإمكانه أن يكتب ما لم يكن يستطيع قوله وهو فيها. ولكنه ظل متمسكا بمبدئه، وهو أن الناس في حاجة إلى أن (يعيشوا في سلام وراحة مع من يجاورهم (الفرنسيين؟) من الأمم الأخرى، ولا يتعلقوا من الوهم بحبال تنقطع في أيديهم متى جذبوها، فيسقطوا
…
فيما لا منجاة منه) (1). ونكاد نجزم أن الشيخ عبده هنا يعني
(1) تاريخ الأستاذ الإمام، 2/ 617 - 618، والرسالة مكتوبة في بليرم 30 جمادي الآخرة سنة 1321. ويفهم من تقديم هذه الرسالة أن رشيد رضا متأكد أن الشيخ عبده قد زار الجزائر وتونس وأنه كان في صقلية عائدا إلى مصر. عن زيارتي الشيخ عبده لتونس انظر المنصف الشنوفي (زيارتا الشيخ محمد عبده لتونس) في الكراسات التونسية، 12 (1968)، ص 57 - 97، بالفرنسية. وبناء على هذه الدراسة فان الشيخ عبده قد زار تونس بعد الجزائر، وأنه ذهب إليها بالقطار، وظل فيها إلى 24 سبتمبر 1903. ومن تونس ذهب الشيخ إلى لندن عبر مالطة ونابلي، ولا تذكر المصادر من كان معه من المرافقين.
المعارضة السياسية للحكومة الفرنسية في الجزائر وغيرها من الحكومات الاستعمارية. ويرى أن ذلك مدعاة للسقوط قبل نيل المرغوب.
وعلى إثر وفاة الشيخ محمد عبده بادر بعض الجزائريين برثائه، فكتب الشيخ محمد بن القائد علي، الإمام بالجامع الجديد بالعاصمة، قصيدة نوه فيها بالشيخ ووصف مصيبة المسلمين بفقده، وذكر مؤلفاته، ومنها تفسيره، ورسالة التوحيد، ودوره في الإصلاح وزيارته للجزائر. ونفهم أن القصيدة كانت طويلة لأن الشيخ رشيد رضا اختصرها في كتابه. ولها بداية مؤثرة. وسنعرض إليها في فصل الشعر. ومن التعازي النثرية ما أرسل به أحدهم من الجزائر، مكتفيا باختصار اسمه في حرفين (ع. ز.). وقد نشر هذه التعزية رشيد رضا مختصرة. وفيها تحدث كاتبها عن مكانة الشيخ عبده وزيارته للجزائر والدرس الذي ألقاه ومسامراته (وخاطبنا بخطاب أشهى من طعم الضرب، بأفصح كلام العرب،
…
وكشف لنا عن دقائق المسائل. والناس حوله بين مصغ وسائل). وطالب المعزي بنشر آثار الشيخ عبده لتعميم فائدتها.
ويبدو أن الشيخ محمد عبده قد كتب مذكرات عن زيارته للجزائر وتونس وغيرهما. ولكن هذه المذكرات قد ضاعت أو لم تكمل. فقد أخبر الشيخ رشيد رضا أنه علم منه أنه كتب مذكرات بشأن البلدين المذكورين وأنه يريد إيداعهما في فصول يتناول فيها الإصلاح بالأسلوب القصصي (المفرغ في قالب الفكاهة). ولكن الشيخ عبده، توفي قبل أن ينشر ذلك، ثم أن أوراقه الباقية ليس فيها تلك المذكرات (1). ومن يدري فقد تكون وقعت في أيدي الحريصين عليها دون أن يخرجوها للناس. وقد كانت ضاعت منا مذكرات (يوميات) عن بلدان كثيرة زرناها وأشخاص قابلناهم وحوادث عشناها، ولم يظهر عنها خبر إلى الآن بعد مرور تسع سنوات على فقدها. وأين مذكرات الشيخ محمد عبده من مذكراتنا؟.
(1) تاريخ الأستاذ الإمام، 2/ 504.