الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقبل نصب الحماية على المغرب - ابتداء من فاتح القرن تقريبا - كانت فرنسا ترسل (عيونا) من الجزائريين إلى المغرب يقومون بدراسة عينات اجتماعية ولغوية وتجارية ونحو ذلك مما تحتاجه الإدارة الاستعمارية التي كانت تخطط لاحتلال المغرب والانقضاض عليه. ودعا بعضهم صراحة مثل اسماعيل حامد، إلى احتلال المغرب من قبل فرنسا. وقد تعرضنا إلى هؤلاء الجزائريين في فصل آخر. ومنذ انتصاب الحماية دخل الجزائريون، عن طريق التبعية لفرنسا، في الحياة المدنية المغربية، في الإدارة والتعليم والقضاء والترجمة والجيش ونحو ذلك. ولعل بعضهم كان جاهلا إلى الحد الذي أضر بإخوانه المغاربة لإرضاء سادته الفرنسيين (1). ومن العهد الأخير برزت أسماء كان أصحابها أصلا من الجزائر مثل محمد المعمري الذي لازم قصر السلطان طيلة عقود. وكان دبلوماسيا ومترجما وأديبا.
ولا بد من الإشارة إلى الهجرة إلى المغرب من أجل العلم، ونعني بذلك الطلبة الذين قصدوا جامعة القرويين وغيرها لتلقي العلم على مشائخها والاكتراع من مكتباتها الغنية. ومن أبرز العلماء الذين أنجبتهم المغرب للجزائر هو عبد القادر المجاوي الذي يعتبره البعض شيخ الجماعة. وظلت القرويين تستقبل الطلبة الجزائريين أفرادا وجماعات طيلة العهد الاستعماري، ومع فتح مجال التعليم في آخر القرن الماضي اتجه الطلبة الجزائريون بأعداد أكبر إلى المغرب ولا سيما أولئك الذين باشروا تعليمهم في الزوايا.
…
إلى تونس:
كانت تونس مقصد المهاجرين الجزائريين، مستوطنين وعابرين، وهي
(1) عند احتلال الجزائر استعان الفرنسيون بتراجمة من المشرق، من العرب المسيحيين، ولكنهم استعانوا في احتلال تونس والمغرب وسورية وحتى في أفريقية، بالجزائريين المسلمين. ولا نقصد (الاستعانة) العسكرية فقط، وذلك من وساوس وخطط الاستعمار!.
بوابة الشرق لهم. وإذا كانت الهجرة نحو المغرب معظمها من النواحي الغربية فإن الهجرة نحو تونس كانت في معظمها من النواحي الشرقية، بما في ذلك قسنطينة وبجاية ووادي سوف، وعنابة وخنشلة والخنقة وسطيف وبسكرة وتبسة والحضنة، إضافة إلى المدن الأخرى القريبة من الحدود مثل سوق أهراس والقالة. وكذلك قصد تونس أهل ميزاب للعلم والتجارة، وقصد أهل الوسط وأهل الصحراء في المناطق الأخرى تونس أيضا للإقامة بها أو مرورا منها إلى الحج والعمرة والهجرة إلى المشرق. ولا يتسع المقام لوصف استقبال تونس للجزائريين الذين قصدوها أيام المحن وبعد فشل الثورات، فقد توجهت أفواجهم إليها بعد احتلال قسنطينة، وقلب الفرنسيين على الأمير في بسكرة والأوراس، وبعد ثورة 1857 في زواوة، وقصدها المقرانيون وأنصارهم سنة 1872 كما هرب إليها زعماء ثورة ورقلة والأغواط، وأنصار بوشوشة في متليلي وتوات.
من أبرز علماء الجزائر ومجاهديها الذين هاجروا إلى تونس أو مروا بها نذكر: قدور بن رويلة من العاصمة، ومحمد بن الحاج من سيدي عقبة، وكلاهما كان من قادة الأمير وحلفائه. ومصطفى بن عزوز الذي هاجر من برج طولقة بعد احتلال بسكرة، وأسس زاوية نفطة الشهيرة - وهي زاوية رحمانية. ومن أكبر الوجوه التي ظهرت في هذه الأسرة (ابن عزوز) نذكر المكي بن عزوز الذي تعلم في تونس وأصبح من علماء الزيتونة وكان من أعلام عصره. ثم الشيخ محمد الخضر حسين الذي وصل إلى مشيخة الأزهر. وقد أخرجت زاوية نفطة علماء أفذاذأ منهم الشيخ عاشور الخنقي والشيخ العربي التبسي والشيخ عبد القادر الياجوري ومحمد بن عبد السلام. كما حل بتونس ناصر بن شهرة، الفارس المغوار الذي شارك في مختلف الثورات من سنة 10 إلى سنة 1875. وهناك عائلات أخرى نفتها السلطات الفرنسية أو اختارت الهجرة إلى تونس مثل عائلة المدني وبوشوشة (وهو غير الثائر المعروف) والسنوسي والثعالبي والقلاتي واللقاني (1).
(1) هاجر الكثير من زواوة إلى تونس، لذلك نجد بينهم أسماء مثل الدلسي والجنادي.
ووجد الجزائريون في جامع الزيتونة موردا عذبا في الوقت الذي ضاقت فيه بلادهم عن معلم حضاري مثله. وكانت السلطات الفرنسية تتوجس من الذين درسوا في الزيتونة، وكانت لا تفسح المجال لتوظيفهم، لأنهم لم يتخرجوا من المدارس الفرنسية الرسمية، وكانت تعتبرهم من المتمردين عليها. ولا ندري إلى أي مدى كان الطلبة الجزائريون يقصدون الزيتونة قبل احتلال تونس سنة 1881. والظاهر أن دراستهم فيه كانت محدودة قبل 1900. ويعتبر ابن باديس الذي توجه إلى تونس سنة 1908 من أوائل من فتح هذا العهد الجديد مع جامع الزيتونة. ويكفي تونس أنها أخرجت هذا الرجل الفذ. ولقد توالى الطلبة الجزائريون على تونس في العقود التالية (1). وتكفي الإشارة إلى البعثات الميزابية التي قادها الشيخ أبو اليقظان وإبراهيم بيوض، ثم بعثات ابن باديس وجمعية العلماء وحتى بعض الزوايا والأحزاب السياسية منذ الحرب العالمية الأولى. ومن إنتاج الزيتونة أيضا الشاعران: محمد العيد ومفدي زكريا والمؤرخ مبارك الميلي الهلالي.
وقد توظف الجزائريون في تونس حتى قبل الحماية الفرنسية، وأصبح بعضهم معلما خاصا لأبناء الوزراء، مثل الشيخ الطاهر الجنادي الذي كان قبل هجرته شيخا في زاوية سيدي عبد الرحمن اليلولي. ثم تولى الجنادي وظائف أخرى، وتوفي بتونس. وكان محمد بلعربي أحد الأطباء الجزائريين الذين توظفوا في تونس أيضا، وتوظف آخرون في الصحافة، وبعضهم في التدريس بالزيتونة مثل الشيخ محمد اللقاني، ومحمد بن عبد السلام، وسلطاني. ودخل بعضهم الحياة السياسية أمثال صالح بن يحيى وإبراهيم أطفيش وأحمد توفيق المدني وحسن القلاتي.
وذكر علال الفاسي من الجزائريين في تونس مجموعة تولت مناصب
(1) للتوسع انظر دراسة محمد الصالح الجاري (الطلبة الجزائريون في تونس)، ومحمد علي دبوز (أعلام الاصلاح) و (نهضة الجزائر)
…
عن البعثات العلمية الميزابية بالخصوص.
قيادية في الحركة الوطنية التونسية من جهة وكذلك في الحركة الإسلامية السلفية، منهم محمد السنوسي محرر (الرائد التونسي) الذي اعتبره الناس (زعيم أول حركة وطنية) بعد الحماية، وكان السنوسي من علماء الزيتونة. ومنهم المكي بن عزوز الذي تزعم حركة سلفية، وكان أيضا من علماء الزيتونة، ويقول الفاسي ان الفضل يرجع إلى المكي بن عزوز في تكوين عبد العزيز الثعالبي زعيم الحزب الدستوري. وبعد هجرة ابن عزوز إلى المشرق اجتمع تلاميذه المتنورون وأسسوا جريدة (المستقبل التونسي) بالفرنسية، و (حبيب الأمة)، و (سبيل الرشاد) بالعربية. كانت من إنشاءات الثعالبي. وكان الثعالبي قد زار الجزائر سنة 1895 كما سنذكر. ومنهم علي بوشوشة الذي أسس جريدة (الحاضرة) التي أصبحت لسان حال كتلة قوية من المثقفين والمدرسين من الزيتونة والصادقية وعملت على ربط الحركة في تونس بتيار الجامعة الإسلامية (1)، وكان عمر بن قدور وعمر راسم من الذين يكتبون فيها.
أما من حيث الإحصاءات فلا نملك الآن إلا إحصاء يرجع إلى سنة 1936 وآخر إلى سنة 1950، ويذكر الأول أن عدد المهاجرين الجزائريين في تونس بلغ واحدا وأربعين ألفا. كما يذكر الإحصاء الثاني 50 ألفا (2). وكانت جالية أهل سوف من أكبر الجاليات الجزائرية بتونس وربما هي أكبرها. وكانت لبني ميزاب جالية مهمة أيضا، وكذلك الحال بالنسبة لأهل توات، بالإضافة إلى جالية أهل زواوة وسطيف الذين شكلوا في الغالب جيل المهاجرين بعد ثورة 1871. وكان يطلق عليهم (المقرانيون)، ولا يعني ذلك أنهم جميعا من أسرة المقراني، وإنما يعني أنهم أنصاره الذين هاجروا بعد فشل ثورته. وكان الأمير عبد القادر كثيرا ما تدخل لصالح هؤلاء (المقرانيين) لدى رجال الدولة التونسية لتسهيل إقامتهم في تونس.
…
(1) علال الفاسي (الحركات الاستقلالية)، ط 1، 1948، ص 41 - 45.
(2)
(فرنسا المتوسطية والافريقية) ج 1، 1938، ص 33، وكذلك راجي (المسلمون الجزائريون) فى مجلة البحر الأبيض، مرجع سابق، ص 169.