الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التغيير في المواقف والولاء. وهكذا أوقفت عدة صحف، مثل لاديباش الجزائرية وآخر الأخبار ويقظة عنابة (روفاي دي بون) و (التام) - الجزائر وتونس والمغرب - الأسبوعية. واحتلت الجزائر الجمهورية والحرية (ليبرتي) وكلتاهما شيوعي، مقرات الجرائد الموقوفة. كما ظهرت في الجزائر صحيفة (لاديباش كوتيديان) برئاسة تحرير جان برون، و (جورنال دالجي) برئاسة تحرير إدمون بروا (1) وهناك صحف أخرى لم نذكرها.
ورغم المال الذي كان يوفره أصحاب المصالح السياسية والاقتصادية، فإن الصحف الفرنسية في الجزائر كانت تعيش على الإعلانات والأخبار المحلية الصغيرة. وكذلك كانت تنقل أخبار فرنسا وما يجري في مسارحها وملاهيها وفضائحها من أجل جلب القراء. وقد قلنا إن موضوعات الثقافة الشعبية المشتركة بين الكولون وأدب السخرية من الأهالي واتخاذ أبطال خياليين على حساب المواطن الجزائري، كل ذلك جعل الصحف تبقى. وقد قال بعضهم إنها لكي تعيش كانت بعض الصحف تفتعل أي شيء وتقف ضده، لأن الضدية والتحدي والمهاترات كانت هي سبيل النجاح الصحفي في نظرها.
صحيفة (المبشر) الرسمية
الصحيفة التي نريد أن نتناولها على حدة هي (المبشر)، وهي صحيفة رسمية صدرت سنة 1847 باللغتين العربية والفرنسية، وكانت على العموم موجهة إلى الجزائريين. وكان أحد طلابنا قد تناول هذه الصحيفة بالتفصيل فيما يعلق بنشاتها ومحتواها ودورها والقضايا الجزائرية التي عالجتها ومواقفها (2). ونحن لن نذهب إلى كل ذلك هنا، وإنما سنذكر ما يهمنا في
(1) اعتمدنا في هذه الفقرة بالخصوص على جاكلين بيلي (عندما أصبحت الجزائر فرنسية)، 246 - 247، وكذلك قوانار (الجزائر) مرجع سابق، ص 285 - 286.
(2)
رسالة الباحث إبراهيم الونيسي التي أعدها تحت إشرافي، معهد التاريخ - جامعة الجزائر، 1993. ورغم أن الجريدة استمرت إلى سنة 1927، فإن الونيسي توقف عند سنة 1870.
هذا الفصل، وهو التأريخ لنشأة الصحافة وتأثير ذلك على الرأي العام الجزائري.
ظهرت المبشر فى آخر عهد مملكة جويلية، وبالضبط فى 15 سبتمبر 1847 وقد نسبت إلى الملك لويس فيليب الذي تسميه المبشر (سلطان فرنسا). وكان ابنه الدوق دومال، هو الحاكم العام للجزائر عندئذ بعد رحيل المارشال بوجو عنها. ولكن المبشر لم تعش سوى خمسة أشهر في عهد المملكة المذكورة إذ سقطت المملكة في آخر فبراير 1848 على أيدي الجمهوريين، وهرب الملك ورئيس وزرائه، غيزو، إلى بريطانيا. أما المبشر فقد استمرت في الصدور رغم التغيير في النظام، بل استمرت عبر كل النظم والحكام العامين الذين عرفتهم الجزائر إلى 1927، الذكرى المئوية لضرب الحصار الفرنسي على الجزائر، وعشية الاحتفال المئوي بالاحتلال. إنها مشروع فرنسي تمثل في جريدة رسمية دامت ثمانين سنة. وكانت المبشر صورة للتناقضات التي عرفتها الإدارة الفرنسية نحو الجزائريين. وما رأيك في جريدة تولاها البارون ديسلان أول مرة، ومرت بإشراف آرنو ثلاثين سنة، ثم لا بوتيير، ثم جان ميرانت مرتين (1)!.
وقد شاع بين الكتاب أن الذي أنشأها هو الملك لويس فيليب لترشد الجزائريين (إلى سبيل العلم والحضارة والزراعة والتجارة والصناعة أسوة بسائر الدول الإسلامية، سيما السلطنة العثمانية والخديوية المصرية)(2). وهذا كلام طيب لو كان الأمر كذلك، ولكنه كلام مأخوذ فقط من الجريدة نفسها باعتبارها وسيلة للدعاية والتخدير. أين العلم والحضارة
…
خلال الثمانين سنة التي عاشتها المبشر في رعاية حكام من أمثال بيليسييه وماكماهون ودي قيدون وشانزي وتيرمان
…
وفي ظل أشخاص من أمثال
(1) دي سلان كان من المستشرقين (انظر عنه فصل الاستشراق
…
) وكان جان ميرانت من الضباط الخبراء في الشؤون الجزائرية، وقد تولى إدارتها مدة طويلة أوائل هذا القرن. أما آرنو فقد قيل إنه اسم نكرة مستعار.
(2)
فيليب دي طرازي (تاريخ الصحافة العربية)، 1/ 51.
الدكتور وارنييه والكاردينال لا فيجري والأستاذ غوتييه! إن الفرق شاسع بين رسالة الصحافة في الدولة العثمانية والخديوية المصرية وبين رسالة المبشر في الجزائر. ولنستمع إلى البارون ديسلان وهو يصوغ (مقصود المبشر) على لسان سلطان فرنسا - لويس فيليب:
(إعلموا يا مسلمين
…
إن المعظم سلطان فرانصة
…
اتفق له برأيه وقوع هذا مختصر لفائدتكم وخيركم وتواتر النعمة عليكم
…
إنكم بمسكن قلبه كعزيز الرعية عنده. واعلموا أن سلاطين أجناس النصارى مهما أرادوا يعرفون الرعية بالأمور الواقعة، يبعثون لهم رسائل خبرية (جرائد) كما هو معروف عند جميع الدول، كسلطان اسطنبول وصاحب مصر
…
) وتذهب المقدمة التي صدرت في العدد الأول إلى أن ملك فرنسا له علاقات وطيدة مع ملوك وسلاطين الإسلام. ولكنه صاحب سطوة وقوة عندهم، ووعدت المبشر بأنها ستنقل إلى الجزائريين أخبار العالم الإسلامي:(سعادة سلطان فرانصة، له معرفة ومحبة بالغة مع سلاطين الإسلام، وهم صاحب اصطنبول، وصاحب العجم (بلاد فارس)، وصاحب الهند، وصاحب مصر، وصاحب الغرب (فاس)، وصاحب تونس
…
وبينه وبينهم محبة لأنهم يدركون مكانته وإحسانه وعظيم سطوته وقوته. وستخبركم المبشر بما يجري في هذه البلدان).
وبعد أن تحدثت عن الحجاج وما يجدونه من قناصل فرنسا من رعاية، لعظمة فرنسا بين الدول الأخرى وهم تحت حماية هذه (الدولة العظيمة) أضافت المبشر أنها ستعرف الجزائريين أيضا بعلمائهم القدماء، وبعلماء فرنسا الجدد، وستنوه بالكتب التي ألفها هؤلاء وأولئك:(لنا معرفة بالمؤلفين والعلماء من سالف الزمان، وأكثرهم من عندكم، وعلماؤكم الأوائل ألفوا في علم التاريخ والسيرة والأدب والشعر والفلك والفقه والديانة وسائر العلوم. والجريدة ستذكركم بهذه الكتب التي بعضها مفقود الآن عندكم). وأهم من ذلك كله، وهو المقصود بالذات في ظاهر الأمر، أن المبشر ستعرف الجزائريين بواجباتهم نحو فرنسا، وهي السمع والطاعة والابتعاد عن (سائر
الوشايات الشيطانية) التي تسميها الجريدة (الشيطنة- دمرها الله! -) والشيطنة عند المبشر والإدارة الفرنسية عندئذ هي الثورات والفتن المضادة للفرنسيين. ولذلك أوصتهم بعدم الاستماع إلى المشاغبين الذين (يسعون في هلاكهم وجر البلاء إليكم بتخليطهم وكذبهم). ولا ننسى أن المبشر قد صدرت أثناء المرحلة الأخيرة من المقاومة الوطنية بقيادة الأمير عبد القادر. والأوصاف والنعوت المذكورة موجهة بالطبع إلى المقاومة والمقاومين.
أما الجوانب الإخبارية فالمبشر لخصتها فيما يلي: إعلام الجزائريين بكل ما هو موجه إليهم من الدولة الفرنسية لكي يعرفوا كيف يسيرون مع الولاة الفرنسيين ويعرف الولاة كيف يتصرفون مع الرعية. وتعريف الجزائريين بالزراعة والإنتاج الحيواني والمعادن والصناعات اليدوية، لأن جميع الصنائع والعلوم لا يدركها الإنسان إلا بمعرفة أنواعها. وكل ما تنتجه الجزائر يباع في الأسواق الفرنسية وما تنتجه فرنسا يباع في الجزائر (بأبخس الأثمان). والهدف من كل ذلك هو أن (نصل الألفة ويجري بدل البيع والشراء (المبادلات) بيننا). وأخيرا فإن المبشر ادعت أنها ستشتمل على فوائد جمة من جميع أنحاء العالم لفائدة الجزائريين (1).
في أول الأمر كانت المبشر تصدر مرتين في الشهر، وكانت بحجم صغير، وكل صفحة فيها بأربعة أعمدة، واعتبرها فيليب دي طرازي ثالث جريدة عربية في العالم، رغم أنها تصدر - كما قلنا باللغتين - وكانت تحرر أولا بالفرنسية ثم تترجم مادتها إلى العربية. وبقيت تصدر مرتين في الشهر إلى سنة 1861. ومنذئذ بدأت تظهر كل عشرة أيام. ثم منذ 1866 أخذت تظهر كل خميس (2). وكانت المبشر قد توقفت بعض الوقت (سبتمبر 1858
(1) دي طرازي، مرجع سابق، 1/ 51 - 53.
(2)
استعملت المبشر عبارات (الرسائل الخبرية) و (الورقة الخبرية) قبل أن تستقر على لفظ الجريدة. ولعل سرعة نشرها ترجع إلى زيارة نابليون وإلى سياسته المعروفة (بالمملكة العربية) ففي 1860، ثم (1865 زار الجزائر وشجع الحكام (بيليسييه) وماكماهون خصوصا) على سلوك سياسة منصفة نحو (الرعايا) الجزائريين.
إلى يونيو 1859) بد إنشاء وزارة الجزائر والمستعمرات، لأن إدارة الشؤون الأهلية التي كانت تتولاها قد ألغيت. ولكنها عادت إلى الظهور قبل عودة الحكومة العامة سنة 1860، وربما كان ذلك لملء الفراغ الذي تركته بالنسبة للأهالي وانقطاع الصلة الدعائية بين الإدارة الفرنسية والموظفين الجزائريين عندها، وهم الذين كان عليهم أن يشتركوا في المبشر إجباريا. لقد كانت الجريدة تباع وتقرأ في الأسواق بإشراف أعوان المكاتب العربية. وترمي المبشر إلى التأثير على الجزائريين وإبعادهم عن الثورات وحثهم على الولاء لفرنسا، وتخويفهم من عواقب العصيان، وتمجيد فرنسا وعلومها وقوتها. ولذلك كانت المبشر تتفادى الخوض في المسائل الخلافية بين الفرنسيين كأنواع الاستعمار والخلاف بين المدنيين والعسكريين، وبين الحكام ورجال الكنيسة وسياسة التنصير. ولكن باعتبارها جريدة الإدارة العسكرية فإن المستوطنين كانوا لا يطيقونها. وكانت جريدة (الأخبار) التي أصبحت لسان حال السياسة الرسمية - الاستيطانية في الجزائر، قد رحبت بالمبشر عند صدورها، في عددها الصادر يوم 19 سبتمبر 1847 ونوهت بها وذكرت برنامجها وتمنت لها النجاح.
كانت المبشر تطبع في المطبعة الحكومية خلال 1847 - 1864، وهي مطبعة كانت تابعة للحكومة العامة منذ عهد جانتي دي بوسيه. فقد جاء دي بوسيه بمطبعة فرنسية - عربية لطبع المنشورات الرسمية. وتولاها شخص بنفس اللقب وهو رولاند دي بوسيه، صاحب القاموس العربي - الفرنسي والفرنسي - العربي، الذي أصدره سنة 1847. ومع بداية 1864 طبعت المبشر في مطبعة جول برك. ولكننا وجدناها بعد ثلاث سنوات تطبع في مطبعة بويير بالجزائر، ثم وجدناها سنة 1894 تطبع في مطبعة فونتانة. والظاهر أنها قد استقرت مدة طويلة مع مطبعة فونتانة لأن إدارة الشؤون الأهلية قد وقعت عقدا على ذلك مع هذه المطبعة.
وعنوان (المبشر) كان داخل دائرة شمسية مشعة. ومن أسفلها نسر وحوله هذه العبارة: (لشروق الشمس يجلى الظلام، ومطالعة الأخبار تنفي
الأوهام). وتحت رجلي النسر عبارة: (الصحيفة السلطانية في الجزائر) مع هلال مفتوح إلى أعلى، يتوسطه رقم الجريدة. ولعل هذا الشعار قد استمر طيلة عهد الامبراطورية، ويظهر أن الشعار فيه تبسيط يتناسب مع نوع القراء، ثم أن اسم الجريدة نفسه يوحي بذلك، فالشمس والنسر والهلال والمبشر والسجع في العبارة المذكورة وكونها صحيفة سلطانية - كل ذلك يتناسب مع عقلية القراء الجزائريين عندئذ.
وبعد أن كان الاشتراك محصورا في فئة الموظفين الرسميين: وهم القضاة والقياد والأيمة، الخ
…
أصبح أيضا مفتوحا لكل راغب. ولعل الجريدة، شعرت أن الجزائريين قد تفطنوا إلى دعايتها التسكينية، فلم يكونوا يطالعونها حتى بعد أن تأتي إليهم جبرا. وقد أشيع عندئذ أن الجزائريين لا يقدسون الحروف المطبعية كما يقدسون الخطوط اليدوية. ولم يكن سحبها في المرحلة الأولى يتجاوز الألف نسخة، وهو ربما عدد الموظفين الرسميين تقريبا، وكانت ترسل حوالي ثلاثمائة نسخة من كل عدد إلى كل إقليم من الأقاليم الثلاثة، وفي الخمسينات ارتفع العدد المسحوب إلى حوالي 1500 نسخة. وكان المارشال بيليسييه قد جعلها سنة 1861 جريدة تجارية يشتريها كل راغب في قراءتها (1).
اهتمت المبشر، بالإضافة إلى ما ذكرنا، بأخبار الدول الإسلامية، مثل بلاد فارس والهند والدولة العثمانية ومصر. وكانت تنشر الأخبار عن حروب كوريا والصين، وروسيا القيصرية، والتجارة مع أفريقيا، وأخبار الاختراعات العلمية مثل تربية النحل، وعلم الفلك، والتجارة، والتلغراف، والسينما، والتصوير. ولذلك فإنها كانت من هذه الزاوية مرآة ينظر منها القراء إلى أحوال العصر. وكانت بالتالي مفيدة للجزائريين الذين لم يكونوا يقرأون الفرنسية أو ليسوا على صلة بالمستوطنين الفرنسيين، مثل الموظفين الرسميين في الأرياف والمناطق المعزولة. ولكن أسلوب الجريدة كان
(1) رسالة الونيسي. وكذلك أعداد اطلعنا عليها ترجع إلى سنوات التسعين.
منفرا، رغم أنها تدعي أنها مبشر.
يقول دي طرازي إنها مرت في تحريرها بثلاث مراحل: من 1847 إلى 1884، ومن هذا التاريخ إلى 1905، ثم من هذا التاريخ إلى زمن تحرير كتابه هو، وإذا شئت فقل إلى زمن توقفها سنة 1927. ولكن دي طرازي لم يوضح بأي شيء تميزت كل مرحلة في نظره. فهل هذه المراحل كانت حسب المادة وتوجيهها أو حسب المحررين وأسلوبهم في الجريدة؟ إننا نعرف أن توجهات الجريدة لم تتغير في الأساس، وإنما الذي تغير من مرحلة إلى أخرى هو أسلوب التحرير ومادة الجريدة. فبعد أن كان يشرف عليها مستشرق مثل ديسلان ويصوغ عباراتها بأسلوب الجرائد الشرقية المتأثرة بالعبارات العثمانية، أصبحت في مراحل أخرى وقد تخلصت نوعا ما من ذلك الأسلوب المصطنع وتطورت مع الصحافة العربية في مصر وسورية وتونس. ولذلك قال دي طرازي إنها كانت ركيكة العبارة في البداية ثم تحسنت حتى صارت صحيحة الإنشاء.
وخلافا لما ذهب إليه دي طرازي فإن أول من تولى الإشراف على المبشر هو ديسلان وليس آرنو. ونحن نعرف أن هناك قرابة بين المارشال بوجو والمستشرق ديسلان (زوجة ديسلان هي ابنة أخت بوجو)، وهذا هو ما جعل ديسلان يتعين في الجزائر، باعتباره المترجم الأول فيها، مع كفاءته وخبرته التي لم ينكرها حتى خصومه. وقد ذكرنا في ترجمتنا لأحمد البدوي أن بوجو قد وضعه تحت تصرف ديسلان لمعرفة البدوي بأسلوب التحرير الجيد، إذ كان كاتبا عند الأمير وخليفته أحمد الطيب بن سالم مدة طويلة (1). وكان البدوي قد ظل يعمل في جريدة المبشر إلى سنة 1886 (2). وقد لاحظ الباحث إبراهيم الونيسي أن اسم ديسلان لم يظهر، مع ذلك، على صفحات
(1) أحمد الطيب بن سالم هو خليفة الأمير علي حمزة (البويرة) الحد كانت قاعدة منطقة زواوة كلها. وقد استسلم أحمد الطيب في ربيع 1847 وسافر إلى الحجاز، ثم التحق بالأمير في دمشق.
(2)
ربما يكون ذلك هو تاريخ تقاعد أحمد البدوي أو وفاته.
المبشر إلا مرة واحدة، وهو في عدد 30 أكتوبر 1847 حين كتب افتتاحية لمقالة عنوانها (الأملية الثانية في خزانة الكتب السلطانية بباريس)(1). وكان ديسلان قد انتقل إلى باريس سنة 1863 ليتولى تدريس اللهجة العامية الجزائرية في مدرسة اللغات الشرقية. وحينئذ فإن إشراف آرنو على المبشر قد يكون بدأ على إثر ذلك.
ومهما كان الأمر، فإنه بالرغم من وجود الإشراف الفرنسي على الجريدة: إدارة وسياسة وتوجيها وماليا، فإن مادتها الخبرية كانت مشتركة بين الجزائريين والفرنسيين، أما الأسلوب في المرحلة الثانية والثالثة فيمكننا أن نقول إنه كان جزائريا محضا فيما يتعلق بالقسم العربي. كانت المادة الخبرية في القسم الفرنسي تترجم في أغلبها إلى القسم العربي بأسلوب جزائري، متأثرا أيضا بضعف اللغة العربية وعزلتها عن الغذاء والتطور الذي عرفته الصحافة في المشرق وفي تونس. ولكن الجزائريين كانوا يوفرون مادة خبرية أخرى، سواء بتوجيه الفرنسيين أو بدون توجيههم، مثل الرجوع إلى كتب الأدب والأخبار وتاريخ العلم والحوادث والنصوص والطرائف القديمة والحديثة. وبالإضافة إلى اسم أحمد البدوي نجد اسم أبي القاسم الحفناوي (الحفناوي بن الشيخ) الذي لازم آرنو أكثر من أربعين سنة. وكان الحفناوي عالما بالمعنى التقليدي للكلمة، وله أسلوب جيد بمستوى ذلك الوقت. وقد نشر في المبشر مقالات بعضها كان مترجما والبعض الآخر من إنشائه (2).
ورغم كل عيوب المبشر كجريدة سياسية رسمية للدعاية الفرنسية، فإنها كانت (مدرسة صحفية) لجيلين أو ثلاثة من الجزائريين. تعلموا منها فن الصحافة وجمع المادة الخبرية وتحريرها وتوجيهها وصياغتها واختيارها. كما عرفوا مراحل فن الطبع والنشر، وأنواع الترجمة. ومن جهة أخرى فإن المبشر
(1) يقصد (بالأملية) القائمة التي تضمنت أسماء المخطوطات والكتب في خزانة المكتبة الملكية (الوطنية اليوم) في فرنسا. انظر رسالة إبراهيم الونيسي. وكان ديسلان هو الذي وضع كاتلوغ المخطوطات العربية في المكتبة الوطنية الفرنسية.
(2)
ترجمنا له في فصل التاريخ، وانظر عنه أيضا فصل السلك الديني والقضائي.
كانت هي النافذة الوحيدة ولفترة طويلة، للترجمة من الفرنسية إلى العربية، ومعظم ذلك كان على يد فئة قليلة من المتعلمين الجزائريين مزدوجي اللغة. ومنهم، بالإضافة إلى البدوي والحفناوي، وعلي بن عمر، وعلي بن سماية، ومحمود وليد الشيخ علي، وقدور باحوم، وعلي ولد الفكاي، ومحمد بن مصطفى خوجة، ومصطفى بن أحمد الشرشالي، ومحمد بوزار، ومحمود كحول، ومحمد بن بلقاسم (1). وهناك كتاب آخرون ساهموا بتحريراتهم في المبشر ولكنهم لم يتوظفوا فيها كصحفيين محترفين. ومنهم سليمان بن صيام ومحمد السعيد بن علي الشريف، اللذان نشرا فيها رحلتهما إلى فرنسا، وحسن بن بريهمات الذي نشر في المبشر، أو نشرت له عددا من الخطب والمقالات التأبينية، ومقالات أخرى بمناسبة زيارة نابليون الثالث للجزائر. كما نشر فيها أحمد بن الفقون بعض الأعمال الأدبية المترجمة عن الفرنسية، وتأليفه المسمى (التاريخ المتدارك في أخبار جان دارك) كما نشر فيها مصطفى بن السادات ومحمد الزقاي بعض المقالات.
لم تكتف المبشر بنشر المادة الخبرية عن الجهات الرسمية الفرنسية، وأخبار العالم الإسلامي، والمبتكرات العلمية والحضارية، بل كانت تسلسل نشر المؤلفات ذات الطابع المفيد أو تلك التي يتوافق موضوعها مع مشرب الجريدة. ويمكننا أن نتحدث هنا عن (منشورات المبشر) فقد توفر لقرائها ما يعجزون عن قراءته اقتناء بنقودهم. ففي سنة 1868 سلسلت المبشر كتاب (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) لخير الدين باشا التونسي الذي طبع قبل ذلك بسنة واحدة، ولعل إعجاب خير الدين باشا بالحضارة الأوربية
(1) لم نتصل بإنتاج الفكاي، وبوزار، وابن بلقاسم، وباحوم. وقد أتينا بمعلومات عن ابن عمر، وابن سماية. وأما محمد بن مصطفى خوجة فهو المعروف أيضا بالمضربة أو مصطفى الكمال، وكان محمود بن الشيخ علي هو الناسخ والكاتب وابن المفتي علي بن عبد القادر بن الأمين. وقد اشتهر اسم الشرشالي في الصحافة الأخرى أوائل هذا القرن، كما تردد اسمه في موضوع تدوين الفقه الإسلامي وفي البعثة الفرنسية إلى الشريف حسين زعيم الثورة العربية سنة 1916.
والنظم الغربية، ومنها الفرنسية هو الذي جعل المبشر تقبل على نشره في حلقات متواصلة ابتداء من أول أكتوبر 1868. وقبل ذلك نشرت كتابا في الجغرافية للشيخ رفاعة الطهطاوي، ابتداء من 15 يناير 1857، وقد استمرت حلقاته مدة طويلة. وهو كتاب كان يتحدث بالخصوص عن جغرافية فرنسا التي عاش فيها الطهطاوي إماما للبعثة العلمية المصرية. ومن منشوراتها أيضا كتاب (تاريخ دولة العرب في إفريقية) الذي ترجمه أحمد بن الفقون، ابتداء من 26 نوفمبر 1868. وهناك (مروج الذهب) للمسعودي، وسقوط غرناطة، وحكاية غونزالف القرطبي، وقصصا من كليلة ودمنة ومن ألف ليلة وليلة (1). وكذلك نشرت بعض الأشعار لأحمد بو طالب قريب الأمير عبد القادر، في مدح نابليون الثالث (2). وبين يناير 1880 وأبريل 1881 نشرت المبشر كتاب (عجائب الأسفار ولطائف الأخبار) لأبي راس الناصر المعسكري، ولا ندري إن كانت قد استكملت نشره.
ومن جهة أخرى كانت المبشر تعلن عن الكتب المترجمة والموضوعة والقواميس المطبوعة مما جعلها وسيلة للإطلاع على ما تخرجه المطابع سواء في الجزائر أو في غيرها. ومنذ 1848 أعلنت المبشر أن وزير الحربية أمر بترجمة مختصر الشيخ خليل وشروحه حتى يفهم القضاة الفرنسيون الفقه المالكي وأصول الشريعة الإسلامية السائدة في الجزائر. وقد قام الدكتور بيرون بهذه الترجمة، كما ذكرنا في غير هذا المكان ولم تنتظر المبشر صدور الترجمة بل أنها نشرت تعريفا بالشيخ خليل وكتابه في آخر سنة 1861. وأعلنت الجريدة أيضا أن الوزير نفسه أمر بترجمة تاريخ ابن خلدون، سيما ما يتصل منه بالجزائر. وهو العمل الذي قام به ديسلان نفسه، وصدر في عدة أجزاء على نفقة الحكومة الفرنسية. وقد أهدت منه (أي الحكومة) نسخا إلى أعيان الجزائر (3).
(1) للمزيد انظر ترجمة علي بن عمر، وأحمد بن الفقون.
(2)
انظر بحث إبراهيم الونيسي.
(3)
انظر ترجمتنا لمحمد الشاذلي القسنطيني (القاضي الأديب)، ط. 2، 1985. فقد كان =
وبين سنة 1889 و 1896 نجد إعلانات متكررة في المبشر عن كتب صدرت حول الشريعة الإسلامية، والمعاجم، والقصص، ونحو ذلك. مع ذكر أثمان المؤلفات وأحيانا توضيح الغرض منها وأهميتها. من ذلك (الشرع الإسلامي) الذي قالت عنه إنه تقرير قدم إلى رئيس الجمهورية الفرنسية، وهو يتعلق بتنظيم القضاء الإسلامي فيما يظهر. ثم (فهرس خليل) كما رتبه على الحروف المستشرق ادمون فانيان، حسب نسخة باريس وأضافت المبشر أنه كتاب يحتاج إليه الحكام ووكلاء الشرع (القضاة) والمترجمون وكل مشتغل بالشريعة الإسلامية. و (اللسان يكمل الإنسان) من تأليف الضابط لويس رين والمترجم العسكري أحمد بن بريهمات، لتسهيل تعلم اللغة الفرنسية. وقصة علي الزئبق المصري التي استخرجها المترجم آرنو من ألف ليلة وليلة ونقلها إلى الفرنسية (لكي يتمتع بها المطالع). ثم الإعلان عن صدور كتاب صغرى السنوسي في التوحيد الذي ترجمه لوسياني مع شرح السنوسي نفسه، وشرح الباجوري على الصغرى.
ومع ذلك فإن المبشر لم تكن جريدة تنشر لكل من تقدم إليها. فالجزائري الذي كان يرغب في كتابة مقالة حرة لا يجد سبيلا لنشرها لا في المبشر ولا في غيرها. وكان على الجزائريين أن ينتظروا طويلا لكي يتاح لهم التعبير عن طريق الصحافة العربية (1). غير أن هناك فلتة - إذا صح التعبير - تمثلت في جريدة فرنسية أيضا، ولكنها بالعربية أو مزدوجة، ولم تكن جريدة رسمية وإنما كانت عامة أو مستقلة. ونعني بها جريدة (المنتخب).
= محمد الشاذلي من الذين تلقوا نسخة هدية من تاريخ ابن خلدون، رغم أنه لا يعرف الفرنسية أولا يعرف منها إلا الدارج.
(1)
نشر بعضهم في جرائد المشرق (كالجوائب) لأحمد فارس الشدياق، قبل النشر في الجزائر.