الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما الذي بقي للجزائريين من أوقافهم الكثيرة بكل أنواعها؟ لا شيء تقريبا. لقد ذهب كل ذلك إلى ميزانية الدولة الفرنسية، وأصبحت هذه الدولة تستعمل المداخيل في مصالحها الدنيوية من بيع العقارات للكولون، وتسليم الأراضي لهم وللشركات الفرنسية والأجنبية، ثم استغلالها في المشاريع العامة دون تعويض أصحابها. وهناك ناحية فقط بقي يظهر فيها أثر الوقف وهي رواتب رجال الدين (1)، وصيانة ما بقي من المساجد، ثم ما يسمى ب
المساعدات الخيرية
، وهذه المساعدات قد سارت في مراحل وعرفت تعرجات كثيرة إلى أن كادت هي أيضا تذوب وتنتهي.
فلندرس الآن تاريخ هذه المساعدات وكيف انتهى أمرها إلى دهاليز الإدارة، وإلى التحايل القانوني من خلال الإجراءات والقنوات التي نشأت بين 1840 و 1900، وكيف انحصرت طرق الوقف في فرع واحد سماه الفرنسيون (المساعدات) أو الإغاثات.
المساعدات الخيرية
إن التسمية في حد ذاتها تخرج الوقف عن حقيقته. فالمسلمون لم يكونوا في حاجة إلى (مساعدة) أو نجدة من أيدي الفرنسيين، وإنما في حاجة إلى مداخيل منصوص عليها في الوقفيات التي كانت لدى وكيل كل بناية وكل مؤسسة دينية. ولكن الإدارة الفرنسية أخرجت جزءا ضئيلا من الوقف لتنفقه في المواسم وغيرها على الفقراء والعجزة، وقد أضيفت إليهم أولاد الشوارع والأيتام، وهم لم يكونوا من قبل داخلين في
= خوفا من أن تسقط المداخيل في يد أهل الطرق الصوفية و (المتعصبين) فيستعملونها للثورات. كما أشارا إلى أن بعض الأوقاف كانت ما تزال موجودة في الدوائر العسكرية بالجنوب، وهي متروكة لأصحابها الشرعيين.
(1)
انظر فصل السلك الديني والقضائي.
الأوقاف. كما أضيفت أصناف أخرى لا يعترف بها الواقفون. ويعترف أوميرا أن ما يسمى بالمساعدات الخارجة من الوقف قد انحصرت في الجزء الخارج من أوقاف مكة والمدينة فقط. أما باقي الأوقاف فلم نعد نسمع عنه شيئا. كما اعترف أن مصلحة أملاك الدولة لم يكن لها ولا لرجالها الذوق ولا الرغبة في أن تكون هي الوكيلة على توزيع المساعدات. فقد كانت هذه المصلحة مهتمة بمصادرة وضم العقارات الدينية وأملاك البايلك (الدولة الجزائرية) ونحوها، و. اعطائها إلى المصالح العامة أو بيعها إلى الخواص الأوروبيين. ولم تكن هذه المصلحة أيضا مهتمة بتوزيع المساعدات العامة على الفقراء والمساكين (1).
وفي 7 مارس 1840، صدر قرار يجعل توزيع المساعدات على فقراء المسلمين من اختصاص إدارة الداخلية، فهي التي أصبحت تشرف على ذلك بدل مصلحة أملاك الدولة. ومعلوم أن مصدر هذه المساعدات هو أوقاف مكة والمدينة، أما الباقي فلا حديث عليه. ويقول السيد أوميرا إن صدور هذا القرار كان بردا وسلاما على قلب إدارة أملاك الدولة رغم أنها هي التي كانت تسيطر على كل مداخيل الوقف بأنواعه.
ولكن تنظيم هذه المساعدات ظل ينتظر قرارا آخر لحصره في الجهة الحقيقية التي تشرف عليها، تحت رعاية إدارة الداخلية. فكان ذلك هو القرار الذي أصدره الحاكم العام بوجو، في 20 أكتوبر ثم 28 نوفمبر 1843، على إثر ضم أوقاف الجامع الكبير، كما أسلفنا. وبناء على هذا القرار الأخير تأسس مكتب خاص بإشراف ورعاية مدير الداخلية، مهمته توزع الصدقات المنجرة عن صندوق مكة والمدينة على فقراء الدين الإسلامي (نعم هكذا الصيغة)(2). وتألف المكتب الذي دعي بالتأسيسي، من سبعة أشخاص، جزائريين وفرنسيين، وحددت لهم رواتبهم، وقد صنفوا كما
(1) أوميرا، (المكتب الخيري ..)، المجلة الإفريقية، 1899، 194.
(2)
لاحظ أن أوقاف مكة والمدينة فقط هي المعنية، أما الأوقاف الأخرى فمسكوت عنها.
يلي (1):
1 -
كاتب - مترجم الإدارة، وهو من الملكفين بالمالية
…
1، 500 فرنك سنويا
2 -
كاتب فرنسي
…
1، 500 فرنك سنويار
3 -
عضو أول (فرنسي)
…
1، 500 فرنك سنويا
4 -
عضو ثاني (فرنسي)
…
1، 200 فرنك سنويا
5 -
عدل أول (مسلم)
…
1، 200 فرنك سنويا
6 -
عدل ثاني (مسلم)
…
1، 200 فرنك سنويا
7 -
شاوش (مسلم)
…
600 فرنك سنويا (2)
ومن حيث الأهمية فإن الأول والثاني والثالث والرابع يعينهم وزير الحرية، أما الباقون فتعينهم الحكومة العامة بالجزائر باقتراح من مدير الداخلية. ومن الواضح أن هذا المكتب المزدوج دينا ولغة وعرقا كان عبارة عن هيئة تعمل تحت إدارة الداخلية والحكومة العامة. ولكنه من الناحية النظرية كان مكلفا أيضا بصرف المعاشات والمساعدات تحت أي عنوان يشاء، إلى فقراء المتعلمين في الجزائر، وإلى أهل مكة والمدينة، وإلى الأندلسيين. وسنرى أنه كان من صلاحياته منح (العطاءات السياسية).
ثم إن حملة التغيير التي جاءت بها الجمهورية الثانية أدت إلى إصدار قرار أول ماي 1848، من الحاكم العام، كافينياك، بإنشاء مصلحة جديدة فيما يتعلق بالعلاقات مع الجزائريين، وسميت ب (مصلحة الإدارة المدنية الأهلية). وتعين على رأسها السيد دولابورت، الذي يرد ذكره كثيرا في مراسلات رجال الدين في ذلك الحين. وكان دولابورت هذا خبيرا بالشؤون العربية والإسلامية، وتولى الكتابة والترجمة مدة طويلة في مصلحة أملاك الدولة التي تحدثنا عن علاقتها بالأوقاف، ثم عمل في إدارة الداخلية. وأثناء وجوده في الإدارة الأخيرة كان يشرف منذ 1843، على (مكتب مكة
(1) نفس المصدر (أوميرا)، المكتب الخيري، 195.
(2)
لاحظ الفرق في الرواتب والأصناف والقيمة بين الفرنسيين والمسلمين.
والمدينة) المكلف بتوزيع الصدقات على فقراء الدين الإسلامي (كذا). وبهذه المسؤولية الجديدة أصبح دولابورت في مستوى مدير الداخلية بالنظر إلى اختصاصاته كمدير للإدارة المدنية الأهلية. ولكن المكان قد تغير، فقد انتقلت مكاتبه إلى بناية كانت تابعة للجامع الكبير، حيث كان (مكتب مكة والمدينة) يعمل منذ 1843 (1).
ويتألف مكتب الإدارة المدنية الأهلية من رئيس ونائب، ومن لجنة تسمى (اللجنة الخيرية). أما رئيس المكتب فهو دولابورت، وهو الكاتب/ المترجم. وكان رئيسا للمكتب السابق أيضا. وأضيف إليه شارل بروسلار نائبا له، وهو أيضا من المستعربين (2). أما (اللجنة الخيرية) فهو الاسم الجديد لمكتب مكة والمدينة او المكتب الأهلي السابق. ولكن الأسماء غير مهمة هنا، وسنرى أن (المكتب الخيري الإسلامي) سيحل محل هذه اللجنة ابتداء من 1857 كما أن (الجمعية الخيرية) ستحل محل (المكتب الخيري
…
)، وهكذا. ولكن المحتوى واحد، وهو سيطرة الفرنسيين وتبعية الجزائريين لهم، وهضم حقوق هؤلاء عن طريق المكاتب واللجان والجمعيات المدارة من قبل الفرنسيين، وتذويب مداخيل الأوقاف بطرق ملتوية في مشاريع غير داخلة في شروط المحبس.
وهؤلاء هم أعضاء اللجنة الخيرية عند تأسيسها، وجميعهم من الجزائريين:
1 -
علي القزادري، 2 - أحمد الشريف، 3 - مصطفى بن أحمد قهواجي، 4 - محمد بن مصطفى الحرار؛ ويظهر من أسمائهم أنهم من رجال الدين والعلم في العاصمة، الذين بقوا خائفين أو موالين للفرنسيين. وهؤلاء
(1) من بين البنايات التي كانت تابعة للجامع الكبير زاوية كبيرة للغرباء والعلماء، ومدرسة قرآنية. والغالب أن المقصود هنا هو المدرسة، وهي التي رفض المفتي الكبابطي تسليمها من قبل. انظر فصل السلك الديني.
(2)
وهو الذي تولى الإدارة في تلمسان فيما بعد ثم في وهران. وقد كتب عن مساجد تلمسان وكتاباتها الأثرية، انظر فقرة المساجد.
الأعضاء كانوا موجودين أيضا في مكتب مكة والمدينة السابق. ومن ثمة لم تتغير تركيبة المكتب الجديدة في الواقع، كما لم يتغير الأمر بالنسبة للصلاحيات. فقد بقيت اللجنة نظريا مكلفة بتوزيع. الإغاثات على الفقراء والعجزة والموظفين القدماء من الأهالي. وكان يمكنها منح مساعدات إلى الوكلاء الذين تعطلت بناياتهم، وتعيين رواتب رجال الدين الموظفين، وتخصيص الإعانات لفقراء مكة والمدينة.
ولم يستمر وجود هذا المكتب طويلا. فبعد سنة واحدة أصبح غير مركزي، وتوزع على ثلاثة مكاتب ولائية أو إقليمية. فأصبح في كل عاصمة إقليم مكتب يقوم بدور المكتب القديم في العاصمة. وكان ذلك في 19 مارس 1849 حين صدر مرسوم يجعل المكتب المذكور ثلاث وحدات، وكل وحدة منها تحت سلطة الوالي. ونذكر هنا بأن تنظيمات الجمهورية الثانية المتحمسة للاستعمار والاندماج والحكم المدني هي التي عينت النظام الولائي وأعطت للمدنيين صلاحيات هامة على حساب العسكريين. ولكن الاسم الجديد لكل وحدة هو (المكتب العربي الولائي)، وكان له رئيس. أما الاختصاصات فقد بقيت هي هي (1).
وقبل أن نصل إلى مرسوم 1857 الذي أنشأ (المكتب الخيري الإسلامي) نقول إنه قد صدرت عدة تنظيمات أخرى قبل ذلك شملت الأوقاف أيضا. ومن ذلك قانون 16 جوان 1851 حول تأسيس الملكية في الجزائر، فهذا القانون أكد مبدأ مصادرة الأوقاف الذي عمل به منذ سنة 1830. فقد نص البند الرابع من قانون 1851 على أن أملاك الدولة تتكون من الأملاك والحقوق المنقولة والعقارية التي ترجع إلى البايلك (الدولة الجزائرية العثمانية). وهذا واضح من مبدأ الغزو والاحتلال، (وكل ما عداها
(1) أوميرا، (المكتب الخيري الإسلامي)، المجلة الإفريقية، 1899، 196. يذكر هذا المصدر أيضا أن وقع إعادة تنظيم هذا المكتب سنة 1858 (8 أوت) فرفع من مستوى موظفيه، ولكن اختصاصاتهم لم تتغير.
من الأملاك المضمومة إلى أملاك الدولة بقرارات أو مراسيم سابقة عن هذا القانون). (تأكيد أوميرا)(1). وقد استنتج أوميرا أن العبارات الأخيرة البارزة، تعني الأملاك القديمة للأوقاف. ورأى أن هذه الأوقاف التي ضمت سنة 1839 إلى ما سمي (بالدومين الكولونيالي) قد رجعت بمقتضى قانون 1851 إلى الدولة التي أصبحت تمنح حق إعطاء ما تراه مفيدا من هذه الأوقاف (الأملاك) إلى إدارة أملاك الدولة الولائية أو إلى إدارة أملاك الدولة البلدية، أو إلى مؤسسات دينية أو خيرية.
ولكن الإدارة الجزائرية لم تنتظر هذا القانون حتى تمنح للبلديات الأملاك العقارية من الأوقاف والتي يرجع أغلبها، كما قال أوميرا، إلى المساجد والزوايا والقباب .. لقد تنازلت الدولة للبلديات عن أملاك الوقف الإسلامية دون تعويض أهلها، رغم قانون 3/ 12/ 1853 الذي نظم التنازلات التي وقعت قبل صدوره. ومن النماذج على التنازلات من الدولة للبلدية، ان بلدية مدينة الجزائر قد حصلت على خمس عشرة بناية حضرية من بينها فندق المدينة الذي بنته الدولة على أرض كانت مسجدا وزاوية (2). كما تنازلت الدولة لهذه البلدية على حديقة مرنقو التي كانت جبانة إسلامية، والمساحة الشاسعة التي أنشئت عليها الجبانة الأوروبية سنة 1836، والجبانة الإسرائيلية سنة 1844 (3). فهذه وتلك أقيمتا على أراض كانت تابعة للأوقاف الإسلامية. وبالإضافة إلى ذلك تنازلت الدولة للبلدية عن تسعة منازل حصرية (موريسكية)، انتزعت من بين أوقاف مكة والمدينة. ومع كل هذه التنازلات فإن البلديات لم تقدم أي نصيب من المداخيل في إطار التخفيف على فقراء المسلمين، بل كانت تنظر للأمر على أن المساعدات من شأن الدولة وليس من شأن البلدية.
(1) نفس المصدر، 191. وأكدنا عليها نحن بالحروف البارزة.
(2)
لم يذكر أوميرا اسم هذا الجامع والزاوية، ولكنه قال إنه كان يقع في شارع بروس.
(3)
أوميرا، مرجع سابق (المكتب)، 191. لم يوضح أوميرا على أي وقف إسلامي أقيمت الجباتان الأوروبية والإسرائيلية.
إن العلاقة بين الدولة وإدارة أملاكها (الدومين) لم تتغير بتغير القوانين. فبين 1830 - 1851 كانت إدارة أملاك الدولة هي التي تسير الأوقاف لحساب الدولة. وفي كلا الحالين كانت إدارة (الدومين) تحتفظ عندها بحساب خاص لأوقاف بيت المال والأندلس ومكة والمدينة. ولكن هذا الحساب لم يبق إلا اسما فقط. ومن جهة أخرى استمرت الإدارة المذكورة (الدومين) ترسل تقرم اسنويا إلى وزير الحربية، توضح فيه وضع أملاك الأوقاف التي تديرها، والمداخيل والمصاريف التي قام بها المسيرون خلال السنة المنتهية. وعند التأمل يلاحظ على هذه التقارير التناقص السنوي في المداخيل لأن أملاك الوقف منها ما بيع أو هدم أو استخدم في مصالح أخرى، ومن ثمة انعدم ريعها.
وإلى سنة 1844 كان هناك أقسام وموظفون يسهرون على هذه الأملاك، ولكن منذ 1854 لم يبق إلا مكتب واحد. ففي 1844 كانت المصلحة المسماة مصلحة أملاك الوقف الإسلامية تتكون من مكتب للرقابة يشرف عليه فرنسيان برئاسة سوزيد Souzede ونيابة دولسي Doulset . وكان المكتب يضم أيضا أربعة أقسام، حسب مؤسسات الوقف المعروفة، وهي: 1 - مكة والمدينة، 2 - سبل الخيرات، 3 - الأندلس، 4 - بيت المال. وكان المكتب يضم أيضا ثمانية من الجزائريين، لكنهم لم يكونوا وكلاء مستقلين كما كان الحال في الماضي، وإنما كانوا فقط موظفين مأجورين (1). وكان دور المكتب هو (تصفية) أملاك الوقف الإسلامية. وهو الدور الذي انتهى سنة 1854 حين لم يبق سوى قسم واحد من الأقسام الأربعة المذكورة، وهو قسم بيت المال الذي كلف بتصفية تركات المسلمين فقط. وهكذا أسدل الستار، بعد ربع قرن من الاحتلال، على أملاك الوقف العامة بطرق متعددة، وانحصرت في تصفية التركات كما انحصرت بالنسبة للأوقاف الأخرى في بعض الإغاثات الخيرية التي تجود بها الإدارة على الفقراء
(1) أوميرا، (المكتب)، المجلة الإفريقية، 1899، 192.