الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك لو أحس إنسان أن كل آثار الصيام هو متصف بها فلا حاجة إلى صيامه رمضان، فإنه لا يجوز له أن يفطر ولو فعل لوجب تعزيره واعتبر فاسقاً ومجرماً، وهكذا قل في الصلاة والحج والذكر والدعاء والجهاد وغيرها.
وهذا بخلاف المعاملات الاجتماعية والمالية والاقتصادية وغيرها فإنها موقوفة على الحاجة إليها فإن وجدت الحاجة كانت وإلا فلا. وهذا غير رقم (2) فإن هذا جانب آخر مختلف عنه في النظر.
والخلاصة أن العبادات سميت بهذا الاسم وخصصت به عرفاً لأنها لم تصلح أن تؤدى إلا على وجه التعبد لله تعالى، ولذلك يوصف الملتزم بها، والمغرق فيها بأنه عابد وبأنه تقي وولي وصالح
…
الخ. بشرط الالتزام بالكتاب والسنة في جميع تصرفاته وأن يكون ذلك كله مبنياً على عقيدة سليمة.
العبادات وصلتها بالعقيدة
مكانة العبادة وصلتها بالعقيدة
1 -
حين تذكر العقيدة في الكتاب والسنة فإنما يراد بها العقيدة الحية المؤثرة التي تحدث تغييراً شاملاً في النفس، وفي الفكر، وفي الثقافة، وفي المبادئ والقيم، وفي السلوك والعمل، وفي تحديد الأهداف والغايات. ولن تكون العقيدة كذلك إلا إذا نشأت عن إعمال الفكر، واقتناع العقل، واطمئنان النفس إلى جميع قضاياها.
أماعقيدة التقليد والوراثة، والمناخ والبيئة، والتبعية وضياع الشخصية، عقيدة المحاكاة للآخرين في غباء، وترديد ما يقوله الكبار في بلاهة وبلادة وصغار، فإنها لا تصلح أن تسمى عقيدة ولا أن يكون لها اعتبار في نظر الإسلام.
وهي لذلك لا تكوِّن، شخصية، ولا تقوم معوجاً، ولا تنير لصاحبها طريقاً، ولا تعطيه عطاء جديداً يحدد له الهدف والغاية، ويرسم له السبيل والوسيلة.
إن العقيدة الحية أصحابها أحياء، في مشاعرهم ووجدانهم، في صدقهم مع الله وثباتهم، في حبهم لله وخوفهم منه، في ذكرهم لله واندفاعهم في
طاعته، في خشيتهم لله ونفورهم من معصيته، فهم لهم شخصية تميزهم عن جميع البشر، ولذلك كانوا غرباء.
إن الذين يدعون الإسلام والإيمان كثيرون، ولكن دعواهم يفضح كذبها سلوكهم المشين، وأخلاقهم السيئة، وانحرافهم عن الصراط المستقيم. وانخراطهم في سلك الغواية والضلالة والسقوط بدون خجل أو حياء.
إن أمتنا الإسلامية اليوم تعيش في تناقض كبير بين الكلمة التي تقولها، وبين الأعمال التي تميزها عن غيرها
…
فهي تنطق بكلمة الإسلام، وتردد شعائر الإيمان، وتكثر من قراءة القرآن .. بينما أعمالها تقليد لأعدائها، وحياتها في أكثريتها تعتبر ترديداً لحياة من غضب الله عليهم ولعنهم في جميع كتبه، وشعورها بشخصيتها شعور ناقص يزري بكرامتها ويحط من قدرها
…
ومكانتها الرائدة قد اهتزت كثيراً حتى في نفوس أبنائها
…
كل ذلك بسبب ضعف العقيدة، أو موتها. ولا أمل في إصلاح إلا على أساس إحيائها وتقويتها.
إن الذي يقول: "لا إله إلا الله والله أكبر" بعمق فكر، وصدق صلة، ولذة معرفة بالله، يشعر بزلزلة كيانه، وانفعال وجدانه وأركانه، وامتلاء قلبه بنور الله، وامتزاج روحه بفيض رحمة الله، وعزة انتمائه إلى حزب الله، ويجد أبواب السماء مفتّحة له، وملائكة الرحمة محيطة به وحملة العرش يستغفرون الله له ويطلبون له ولذريته وأزواجه وآبائه الرحمة والجنة، لذلك يندفع في حب يطلب رضاء الله بطاعته، ويسهر الليل عابداً، أو يقضي النهار صائماً، ويحمل سيفه مجاهداً ويضحي بنفسه وماله في سبيل ربه، لا يبالي بمشقة أو تعب، ولا يشكون من بلاء أو نصب، له في كل خير قدم ثابتة، وفي كل عبادة وفضيلة منزلة سامية.
لو منعته الصلاة لبكى وقال: "كيف تحرمني الركوع والسجود لعظمة الله؟ ".
ولو منعته الصيام أو الذكر لقال: "وكيف أحيا مؤمناً وأنا مقطوع الصلة بالله؟ ".
ولو دفعته إلى منكر لقال لك: "قتلي أهون من إقدامي على معصية الله".
وهكذا لا تجد مؤمناً صادقاً إلا وهو عابد صالح، ولا تجد عابداً صالحاً إلا وهو مؤمن صادق.
فالعقيدة الحية هي: اندفاع في العبادة الحقة، والعبادة الحقة ناشئة عن عقيدة حية.
العقيدة شجرة، والعبادة ثمرتها والعقيدة أصل والعبادة فروعه:
{ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون} [إبراهيم: 24 - 25].
فمن لا عبادة له فلا عقيدة له، ولذا جاء في حديث صحيح:
"من ترك الصلاة فقد كفر".
وأنت حين تقرأ القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف لا تجد العمل التعبدي إلا جُزءاً من العقيدة، وفرعاً قائماً على أصولها، وذلك في مثل قوله تعالى:
{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم
يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجاتٌ عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} [الأنفال: 02 - 04].
وقوله تعالى:
{إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون} [الحجرات: 15].
وجاء في حديث رواه البخاري وغيره:
"الإيمان بضعٌ وستون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق".
وجاء في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس:
"آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم".
وانظر قوة الربط بين الإيمان بالله وتحكيم آياته وسنة رسوله في حياة المؤمنين وما يعرض لهم من قضايا في قوله تعالى:
{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: 65].
وليس أصرح في نفي الإيمان عمن ادعاه وهو لم يعمل بمقتضاه من قوله تعالى:
{ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين} [النور: 47].
"ولهذا ذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهوية وسائر أهل الحديث وأهل المدينة وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين إلى أن اسم الإيمان يراد منه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، بمعنى أن من آمن بقلبه ونطق بالشهادتين ولكنه لم يعمل بمقتضى الإيمان فإنه يسمى كافراً، بمعنى أنه كافر بنعمة الله تعالى، ولم يقم بواجب شكره، وليس المراد أنه كافر كفر التخليد في النار، فإن أحداً من المذكورين لم يقل بذلك". أ. هـ. ملخصاً من شرح الطحاوية ص 236.
وبناء على ما تقدم ندرك أن فيض العقيدة الصادقة الحية، ونور الإيمان الغامر المؤثر والشعور بالقرب من الله ومراقبته في كل لحظة وخطوة، كل ذلك يجعل العبادة أمراً مطلوباً للنفس، وضرورياً لها بحيث لو لم يفرضه الشرع لطالبت النفس بالإذن به لأن فيه متعتها وسعادتها وقوام حياتها، ولذا كان صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في البخاري وغيره:
"وجعلت قرة عيني في الصلاة" رواه البخاري وغيره.
2 -
كل صاحب عقيدة يضبط سلوكه وجميع أقواله وأفعاله على مبادئ عقيدته، ويستمد قوة ارتفاعه أو هبوطه من الأصول التي اعتنقها وآمن بها. تجد ذلك واضحاً في حياة وتصرفات وسلوك الشيوعي والوجودي والانحلالي، كما تجده في سلوك الشيعي والسني والدرزي والقادياني والبهائي، كما تجده في سلوك اليهودي والنصراني والبوذي وغيرهم.
فما لم يظهر على المسلم أثر عقيدته فمعنى ذلك أنه إنسان غير عقائدي، وبالتالي فهو لا شخصية له
…
وأهم شيء يظهر ملامح عقيدته عباداته الممثلة في أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج وذكر ودعاء وقراءة قرآن، وحب الله وخوف منه وتوكل عليه
…
الخ.
3 -
للعبادات في الإسلام وظائف تقوم بها، وآثار تتفرع عنها وتترتب عليها، ولا يحيط علماً بهذه الوظائف والآثار أحد غير الله تعالى، ونحن يظهر لنا منها قدر ما تطيق عقولنا، فمن أقام هذه العبادات فقد أقام كل ما تفرع منها، ومن أضاعها فقد أضاع كل آثارها .. فكيف يسمى نفسه بعد ذلك مسلماً أو مؤمناً على وجه الحقيقة من أضاع أهم ما في هذا الدين وحطم أعظم أركانه التي ما خلق إلا لأجلها؟ قال تعالى:
{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56].
فالصلاة صلة مستمرة بين العبد وربه، تظهر فيها عبوديته لخالقه، وخضوعه لجلال الله وجماله وكماله
…
فمن قطع هذه الصلة فقد قطع عن نفسه موارد الرحمة، وحرم مناجاة ربه، وعاش مبتوراً ضائعاً تلعب به الشياطين كيف تشاء.
والصيام فترة تربية وتهذيب للنفس ومراجعة بين العبد وخالقه، تكشف للإنسان جوانب ضعفه، وتنمي فيه أسباب قوته، وتأخذه مما ألف واعتاد وهوى إلى ما يحب الله ورسوله، وفيه تربيته ونجاته وشفافية روحه.