الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما مخالفة المعجزة للسنن العادية في إيجاد الممكنات فإن ذلك أمر لا يمتنع على الله، لأنه تعالى قادر على كل شيء.
وقد يكون للخوارق عند الله سنن خاصة لا نعرفها ولكن يظهر أثرها على يد مدعي النبوة.
المعجزة
دلالة المعجزة
ذهب جمهور العلماء إلى أن دلالة المعجزة على صدق الرسول في دعواه يقينية، فالمعجزة تثبت إثباتا لا شك فيه أن الذي جرت على يديه هو رسول من عند الله.
وهذه الدلالة اليقينية تلزم من عاصر الرسول ومن غاب عنه وجاء بعده لأن الذين يشاهدون المعجزة يكونون عددا كثيرا، فإذا نقل العدد الكير أمر المعجزة إلى الغائبين كان ذلك حجة عليهم توجب تصديقهم بها وذلك هو الحاصل في حياة الناس والمركوز في فطرهم، فإن أكثرهم يؤمن بكثير من المدن والقرى ومن الشخصيات التاريخية والأحداث العظيمة وليس من سبب في إيمانهم بها إلا الأخبار المتواترة.
المعجزة
ذكر بعض معجزات الرسل
اعلم أن من حكمة الله تعالى البالغة أنه يؤيد رسله بمعجزات من نوع ما فاق وأبدع فيه القوم المرسل إليهم حتى تنقطع حجتهم عن رسولهم، لأن الرسول لو جاء بمعجزة من نوع يجهلونه وطالبهم أن يأتوا بمثلها لكان لهم أن يقولوا: إن هذا شيء نجهله ولو علمناه لعارضناه، أما إذ تحداهم الرسول بمعجزاته في أمر قد برعوا فيه وأجادوه ثم لم يستطيعوا معارضته فإن ذلك يفحمهم ويلزمهم الحجة، فمثلا عندما أرسل الله تعالى سيدنا موسى عليه السلام كان فن السحر شائعا في القبط قوم فرعون، ولهم فيه المهارة التامة، ويعلمون من شأنه ما هو ممكن للبشر معرفته وصنعه منه وما ليس ممكنا لهم،
فلما سحر السحرة منهم الحبال والعصي بأمر فرعون، وصارت ترى حيات تسعى ألقى سيدنا موسى عليه السلام عصاه بأمر الله تعالى فقلبها الله ثعبانا عظيما فابتلعت تلك الحيات الكثيرة، ثم لما أخذها بيده عادت عصا كما كانت فخر السحرة لله ساجدين، وآمنوا برسالة موسى، وصبروا على تعذيب فرعون لهم، وما ذلك إلا لأنهم بسبب معرفتهم فن السحر وعلمهم بمقدار ما يدخل منه في طوق البشر وما لا يدخل أيقنوا أن تلك الخارقة، وهي انقلاب العصى ثعبانا ابتلع حبالهم وعصيهم المسحورة على صورة الحيات، ثم عودتها كما كانت مع تلاشي حبال السحرة وعصيهم دليل على أن ما حصل على يد موسى ليس سحرا، وإنما هو آية ومعجزة من عند الله تعالى.
ولما بعث الله تعالى سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام كان فن الطب شائعا في بني إسرائيل، فكان من حكمته تعالى أن جعل كثيرا من معجزاته عليه السلام من قبيل أعمال أهل الطب، فأبرأ الله على يديه الأبرص والأكمه (الذي ولد أعمى) وأحيا الموتى، فأهل المعرفة في علم الطب لا يحتاجون في تصديق رسالته إلى أمر صعب، بل من الواضح لديهم أن يقولوا: إننا نعلم في الطب ومقدار ما يمكن الإنسان أن يبلغه فيه من الأعمال وما لا يمكنه- فيدخل في طاقة الأطباء الحذاق أن يشفوا الأبرص، ولكن ذلك يحدث بمعالجة مخصوصة مع مرور زمان مخصوص، وأما شفاؤه في الحال بمجرد لمسه أو الدعاء له فهذا ليس في طوقهم. ويمكنهم أن يشفوا مرضى العمى الذي يكون عرضيا ليس مخلا بجوهر البصر، وأما شفاء الأكمه عديم البصر فهذا ليس في طوقهم، وكذلك إحياء الموتى.
وحيث أن عيسى قد أتى بهذه الخوارق التي لا يستطيعها حذاق الأطباء فإن ذلك دليل على صدق دعواه الرسالة.
ولما بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم - وكان أميا لا يعرف القراءة والكتابة- ولم يجتمع مع أهل القراءة والكتابة اجتماعا يمكنه من التعلم منهم ويؤهله لاكتساب جملة معارف الأمم وشرائع الأقدمين، وقوانين الممالك،
ولم يعلم عنه في تلك المدة أنه كان يدرس شيئا مما ذكر، وكذلك لم يحصل له في تلك المدة- مدة حياته قبل البعثة - أن مارس صناعة الفصاحة والبلاغة، فلم يكن له عناية بالأشعار والخطب والرسائل العربية، لا قولا ولا رواية، ولم يكن مولعا بمحاورة الفصحاء، ومغالبة البلغاء حتى تقوى فيه ملكة الفصاحة والبلاغة، وحتى يصبح أهلا لبلوغ الدرجة القصوى فيها (مع العلم بأنه مع عدم التعلم والممارسة كان أفصح العرب، وأوتي جوامع الكلم بما وهبه الله وعلمه)، فلما أرسل بين جماهير العالم من عرب وعجم فقر في المال، وفقد للناصر والمعين، فادعى أن الله تعالى أرسله إلى الناس كافة ليبلغهم شرعه ودينه. وليبشر من اتبعه بالفلاح في الدنيا والآخرة، ولينذر من تولى وأعرض بالخزي والشقاء فيهما، وأعلن فيهم الدعوة إلى توحيد الله تعالى، وهدم كل ما ورثوه من شرك وكفر، وأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
عندما فعل ذلك وسمعت منه الجماهير هذه الدعوى العظيمة نفروا منه، وعادوه أشد المعاداة، وهجره الأهل والخلان، وكذبه الشيوخ والشبان، ثم أخذوا في مجادلته ومخاصمته وطلبوا الحجة على صدق دعواه الرسالة، فجاءهم صلى الله عليه وسلم بمعجزات كثيرة سنذكر بعضها فيما يأتي، غير أن المعجزة الخالدة التي استند إليها في إثبات رسالته وجعلها الأساس في ذلك، وتحداهم بها ثلاثة وعشرين عاما هي المعجزة العقلية المعنوية العظمى (القرآن الكريم) فقد تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا ثم تحدهم أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه فعجزوا، ثم أعلمهم بأنه لو اجتمع البشر كلهم، وتظاهرت الجن معهم على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ما استطاعوا، أن يأتوا بسورة مثله ولو كأقصر سورة منه.
قال تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} (1).
(1) الطور: 34.
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (1).
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (2).
وإنما كان القرآن هو المعجزة الأساسية التي تحدى بها النبي صلى الله عليه وسلم قومه، لأنه كان في الأمة العربية أمراء الفصاحة والبلاغة وكان العرب أكثر الناس شاعرا وخطيبا، وفيهم العالمون بأساليب الفصاحة والبلاغة، والمحيطون بأسرارها، وبما هو في طوق البشر من مراتبها وبما ليس في طوقهم.
لذلك لما عرض عليهم القرآن وأخذ يتحداهم كما سبق- وهو يسفه أحلامهم ويعيب أخلاقهم، ويندد بآثامهم- نظر فيه علماء البلاغة والفصاحة منهم ثم أيقنوا بعد المكابرة أنهم أعجز من أن يأتوا بآية واحدة مثل آياته.
ولا يزال القرآن وسيظل يتحدى العالم كله في كل زمان ومكان، ولن يستطيع العالم مهما أوتي من علوم الفصاحة والبلاغة وغيرهما أن يعارض آية من كتاب الله تعالى وصدق الله إذ يقول:{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (3).
(1) هود: 13.
(2)
يونس: 38.
(3)
الإسراء: 88.