الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 -
يقومون بتربية أتباعهم تربية عالية ربانية تليق بإيمانهم بربهم، وتعدهم للشرف العظيم الذي ينتظرهم يوم لقائه وتحيته تعالى لهم وتكريمهم بنعيمه الذي لا ينفذ، كما تعدهم هذه التربية لتحمل الأمانة مع رسولهم وبعده ثم يورثونها من بعدهم جيلا بعد جيل.
وبذلك تدرك مدى أهمية الرسل بالنسبة لصلتهم بالله ولعلمهم في أممهم، ومن أجل هذا رأى العلماء أن الرسل يجب عقلا وشرعا أن يتصفوا بصفات معينة لا يتصور العقل ولا يرضى الشرع انتفاء صفة منها عن أي رسول.
وقد حصروا هذه الصفات في أربع هي: الصدق-الأمانة-التبليغ-الفطانة. فيجب اتصاف الرسل بهذه الصفات الأربع، ويستحيل عليهم أضدادها وهي: الكذب، والخيانة، والكتمان، والبلادة.
وسيأتيك ذكر ما يجوز في حقهم عليهم الصلاة والسلام.
وإليك تفصيل الكلام في ذلك:
النبوات وإرسال الرسل
ما يجب قي حق الرسل من الصفات وما يستحيل
1 - الأمانة أو العصمة
يجب للرسل عليهم الصلاة والسلام الأمانة، وهي العصمة.
ومعناها حفظ ظواهرهم وبواطنهم من التلبس بمعصية. ويستحيل عليهم ضدها- وهي الخيانة.
(1) الجمعة: 2.
فهم محفوظون ظاهرا من الزنا وشرب الخمر، والسرقة، والكذب، وأمثال ذلك من المنهيات والمستقبحات.
كما أنهم محفوظون باطنا من الحسد والكبر والرياء وأمثال ذلك من المنهيات الباطنة. والدليل على وجوب اتصفاهم بالأمانة أنهم لو خانوا بفعل المعصية لكان أتباعهم مأمورين من الله بفعل المعصية التي فعلها الرسول، لأن أتباع الرسل مأمورون من الله باتباع الرسل في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم من غير تفصيل، والله تعالى لا يأمر بالمعصية: قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} (1).
فالأنبياء إذن معصومون من الله تعالى من الوقوع في المعصية سواء أكانت هذه المعصية صغيرة أم كبيرة.
وذلك ما يتفق مع جلال أعمالهم وشرف رسالتهم وصلاحيتهم للقدوة الواجبة على أتباعهم والطاعة المفروضة لهم على هؤلاء الأتباع.
قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (2).
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} (3).
(1) الأعراف: 28.
(2)
آل عمران: 31.
(3)
النساء: 64.
النبوات وإرسال الرسل
شبهات حول عصمة الأنبياء والمرسلين
قد ورد في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما ربما فهم منه وقوع الأنبياء في الذنوب والمعاصي، وهنا يجد المغرضون وأعداء الدين مجالا يحاولون فيه تسميم الأفكار، وبلبلة النفوس بزرع الشك فيها، ويجترئون على رسل الله وصفوة خلقه بوصفهم بأوصاف لو وصفت أنت بها زعيمهم الذي يتبعونه ويؤمنون به لهاجوا وماجوا وآذوا، وتوقحوا، واعتدوا على من يتنقص زعيمهم بكل ما أمكنهم الاعتداء به.
مع أن ما ورد في حق الأنبياء مما يوهم مخالفتهم هو نفسه أكبر دليل على عصمتهم كما أنه أكبر دليل على أن الله تعالى يعامل أنبياءه معاملة خاصة فيها شدة أكثر وتكليف أشق، ليتناسب ذلك مع مكانتهم عند الله.
وللرد على هذه الشبهات نذكر أولا أصولا عامة على المسلم فهمها ووعيها فنقول:
1 -
إن المنطق السليم والتفكير العقلي الواعي يوجب الاعتقاد بأن هذه الطائفة المختارة من الله، والتي تميزت عن جميع البشر باصطفاء الله لها لتلقي وحيه وتبليغ رسالته، والتي تربي الأمم، وتكون قدوة يجب اتباعها ةترسم منهجها. لا بد من أن تكون متصفة بصفات نفسية وخلقية وروحية تتفق مع جلال وعظمة وظيفتها.
وأقل تطبيق لهذه الصفات ألا يقع الرسل في أمر نهى الله عنه، وألا يتورطوا في ذنب أو معصية. بل لا يليق بهم عقلا أن يقعوا أثناء رسالتهم في أمر مكروه أو الأولى تركه شرعا.
إن وقوعهم في معصية أو ذنب أثناء الرسالة يتناقض مع جلال رسالتهم، ووجوب اتباعهم.
2 -
الله تعالى وصف المرسلين في القرآن بأوصاف تدل على اختياره لهم وتمييزهم عن غيرهم ووضعهم في درجات فوق مستوى غيرهم من البشر، فلو ارتكبوا ذنوبا، أو وقعوا في معصية لكانوا مساوين لأي فرد من عامة البشر، وذلك ما لا يتفق مع الأوصاف التي ذكرهم الله بها في كتابه، والتي يجب الإيمان بها لثبوتها بدليل قطعي، قال تعالى:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (1).
وقال تعالى في جملة من المرسلين: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} (2).
وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (3).
وقال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (4).
وقال تعالى في حق موسى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (5).
(1) الحج: 75.
(2)
ص: 47.
(3)
آل عمران: 33.
(4)
البقرة: 130.
(5)
الأعراف: 144.
وقال تعالى في شأن ثمانية عشر رسولاً: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (1).
وقال تعالى في حق نبينا صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (2).
3 -
إن جميع المرسلين يأمرون بأمر الله وينهون بنهيه، ويعلنون الثورة على الباطل الذي يغشاه قومهم، ويحاربون في وضح النهار العبادات الباطلة، والتقاليد الضارة، والأخلاق الفاسدة، ويقفون وحدهم أمام الجبابرة، والعتاة، وعظماء الناس، ورؤسائهم، وملوكهم، يناقشونهم بالحجة، ويثبتون رسالتهم بالمعجزة، ويسخرون من عقول الكافرين ومن معبوداتهم المقدسة عندهم، ويهددونهم بالويل والهلاك من الله إن لم يستجيبوا لداعي الحق. ولا بد حينئذ من أن يبذل أهل الباطل- وفي يدهم إمكانيات كثيرة، ولهم أتباع يسمعون لهم ويطيعون، وفي يدهم قوة المال والجيش والشعب- لابد من أن يجتهدوا في حرب هؤلاء المرسلين، لإبطال حججهم وصرف الناس عنهم.
وأسهل شيء يفعلونه ضدهم- وهو في نفس الوقت أخطر سلاح- أن يبحثوا في "أرشيف" هؤلاء المرسلين لعلهم يعثرون على سقطة أو زلة، فيكفي لو وجدوها أن يرفعوها في وجه الرسول فينتهي كل شيء.
ولكن أصدق مرجع في تاريخ المرسلين مع أممهم- وهو القرآن الكريم- لم يذكر حادثة واحدة اتهم بها الكفار رسلهم وتصلح أن تكون ثلمة في أخلاقهم ونقصا في حقهم، با إن ما وجه من تهم إلى الرسل لم يكن إلا افتراء اكتشف في حينه، وباء المفتري بالخزي والسخرية بين قومه.
(1) الأنعام: 90.
(2)
القلم: 4.
ولقد نجح المرسلون نجاحا لم ينجح ولن ينجح مثله أي زعيم أو مصلح، أو فيلسوف، وكان نجاحهم شاملا جميع نواحي الحياة.
وقام نجاحهم على الإقناع بالحجة والموعظة الحسنة، والمجادلة النظيفة ولو وجدت في حياتهم لوثة لسقطت معها أقوى حجة.
ولذلك أوضح القرآن الكريم الآثار السئة المترتبة على الكلوة الطيبة حين تصدر من إنسان لا يمثلها ولو كان مؤمنا عادياً فقال تعالى:
4 -
إن أي رسول مهما علا شأنه، وعظمت مكانته لا يزيد عن كونه عبدا لله تعالى. وعظمة الرسالة أساسها الشعور بذل العبودية وعرفان الرسل أكثر من غيرهم بحق الإلهية. وبذلك جاء وصف كثير منهم في مجال مدحهم وإظهار رضاء الله تعالى عنهم وتكريمه إياهم.
فقال تعالى في شأن محمد صلى الله عليه وسلم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} (2).
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} (3) وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} (4).
(1) الصف: 2 - 3.
(2)
الإسراء: 1.
(3)
ص: 41.
(4)
ص: 45.
وفي القرآن من ذلك كثير. وما دام الشعور بذل العبودية وضعفها واحتياجها إلى ربها الكبير المتعال العظيم ذي الفضل والإنعام- ما دام هذا الشعور هو أصل وسر جلال الرسالة فكلما زاد هذا الشعور بالعبودية وعظمة الربوبية زاد معه الكمال والترقي.
وذلك مبدأ مستقر في النفوس. وتجد له أمثلة في الناس خصوصا بين الرؤساء والملوك وبين المحيطين بهم. فكلما كان المخالط المقرب لهؤلاء الرؤساء خبيرا بواجبه نحو رؤسائه، قالئما بحقهم، مراعيا لمرضاتهم كان ذلك سبب زيادة تكريمه ورفعته ودوام نعمته.
وحين يتغاضى هذا المقرب أي تغاض - ولو كان غير مقصود - عن القيام ببعض ما ينبغي - وقد يكون ما ينبغي أمرا ليس في حساب أحد اعتباره حين يفعل ذلك يعاتب من رئيسه أو يلام فيظن من يسمع اللوم أنه أذنب ذنبا حقيقيا. وليس الأمر كذلك، إنما هي تكاليف المقامات العالية وضريبة القرب ممن بعدت في العظمة مكانته- وهذا مثل ضربته لتقريب المعنى-
إذا كان هذا الأمر مركوزا في الفطر وعهودا عند الناس، فغنك تستطيع أن تنطلق من هذا الفهم إلى ما بين المرسلين وبين ربهم سبحانه وتعالى (ولله المثل الأعلى) فمقام العبودية يوجب على الأنبياء المحاولة الدائمة لطلب الكمال عند الله- والكمال اللائق بجلال الله تعالى غير ممكن للبشر. لأن البشر يعيشون حياتهم في حدود بشريتهم لذلك شعر الأنبياء والمرسلون دائما بأنهم عبيد مقصرون في حق الله تعالى مع أنهم في غاية الكمال الإنساني.
من أجل ذلك تجد هؤلاء المرسلين يكثرون التوبة إلى الله. ويخافون ربهم أكثر من غيرهم. ويبكون البكاء الحار. ويجهدون أنفسهم أضعاف أضعاف ما يجهد أقوى رجل مؤمن من أتباعهم نفسه.
لماذا كل هذا؟ ألأنهم وقعوا في فاحشة؟ ألأنهم بارزوا ربهم بمعصية؟ ألأنهم فعلوا ما نهوا عنه وتركوا ما أمروا به؟ كلا. وألف كلا، وإلا لانهدم كل صرح أقاموه ورفض كل دين جاءوا به.
إنهم يعبدون بقوة الرب الذي رباهم وقربهم وأحبهم. وأعطاهم مقاليد البشر.
. إنهم يخشون التقصير في حق الله وهو مالك أمرهم. وإليه مرجعهم.
. إنهم يبكون على أنفسهم لعجزها عن عبادته تعالى عبادة تليق بجلاله وكماله.
ولا أحد من البشر يستطيع أن يبلغ بعبادته هذا المستوى.
وهم مع ربهم في هذا المقام يشعرون برحمته بهم وعطفه الكبير عليهم وزيادة تكريمه لهم، فبناء على ما بينهم وبين الله تعالى من قرب وود، يصف الله عجزهم بأنه معصية، وقصورهم بأنه ذنب ويشتد عليهم- فيما يبدو للناس- في العتاب ولكنه بأسلوب يفيض حنانا وعطفا ورحمة وعفوا.
لذلك لا تستطيع أن تجد في القرآن الكريم نوعا من العتاب إلا وتجد معه ما يقابله من الرحمة والتكريم والرفعة لمكانة المرسلين الذين عاتبهم الله تعالى وإليك أمثلة لذلك تضيء لك جوانب الموضوع:
1 -
فآدم عليه السلام قال الله في شأنه: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (1).
هذا هو الخبر والعتاب. ثم قال تعالى بعد ذلك مباشرة: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (2).
ففي الآية الأولى كلمتا عتاب هما: "عصى وغوى" وفي الآية الثانية كلمات تكريم وتقريب وتلطف جميل
…
كلمات وليس كلمتين- "فعصى" قابلتها كلمة "اجتباه" أي قربه "وآدم" قابلتها كلمة "ربه" وما ألذها من مقابلة، "وغوى" قابلتها كلمة "فتاب عليه" وزيد هنا كلمة
(1) طه: 121.
(2)
طه: 122.
"هدى" فأي معصية هذه التي تجلب ذلك كله؟ وهل هي معصية بالمعنى العام؟ لو كانت كذلك لدخل آدم تحت مثل قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (1).
2 -
وإبراهيم الخليل عليه السلام: أخذوا عليه قوله في الكوكب وفي القمر وفي الشمس "هذا ربي" متوهمين أن هذا لا يليق بمقام إبراهيم، حتى ولو كان المراد منه التدرج مع قومه في إثبات وجود الله تعالى ووحدانيته بطريقة تربوية منطقية
…
وهذا وهم منهم وجهل بالقرآن نفسه فإن الله تعالى اعتمد هذه الطريقة في كتابه القويم وزكاها. وبين أنها مما أنعم به على إبراهيم حتى صار واسع الأفق ثابت اليقين قوي الحجة مرفوع الدرجة عند ربه.
فقبل آيات المناقشة قال تعالى في مدح إبراهيم بسعة العلم وقوة اليقين: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (2).
وفي نهاية مجادلة إبراهيم قومه وانتصاره عليهم قال الله تعالى في شأنه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (3).
فهل يجد متوهم مجالا بعد ذلك لوهمه وغروره وتشككه؟! - إن إبراهيم دعا إل ربه بطريقة معينة، وربه زكى طريقته وبين أنها توفيق من الله له فمن الذي يرى لنفسه بعد ذلك وجها يلقى به الله وهو يعترض على إبراهيم وفي الحقيقة إنه يعترض على الله لا على إبراهيم!!! فتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
(1) النساء: 14.
(2)
الأنعام: 75.
(3)
الأنعام: 83.
3 -
واقرأ عن يوسف عليه السلام قول الله في شأن ما حدث بينه وبين امرأة العزيز التي فتنت به وغلقت الأبواب وراودته عن نفسه بطريقة مكشوفة وبأسلوب صريح. فقد قال تعالى في قمة هذا الموضوع: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (1).
فقد استغلت الإسرائيليات هذه الواقعة كما استغلها أصحاب القلوب المريضة لينسجوا منها قصة عشق متبادل، وهيام عنيف، وتحرك إلى الفاحشة من كلا الطرفين- يوسف وزليخا- مع أن المقام يدفع عن يوسف كل شبهة ويضعه في قمة الطهارة والعفة ورعاية أسمى آيات النبل والوفاء.
فإن الهم المذكور في هذه الآية وضع في غطار من العصمة الإلهية، والتزكية الربانية. بحيث لا يسع أي منصف إلا أن يقف أمام موقف يوسف عليه السلام في إجلال وإكبار وإعظام.
فقبل هذا الهم قال تعالى في يوسف: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (2).
وبعده يأتي قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (3).
أما العبارة التي نسجوا منها الافتراء على نبي الله وهي قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا} فبعدها قوله: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} والمعنى أن يوسف
(1) يوسف: 24.
(2)
يوسف: 22.
(3)
يوسف: 24.
لولا برهان ربه- وهو اليقين والإيمان وشدة مراقبة الله تعالى- لفتن ووقع في الفحشة، وما دام إيمانه هو الذي عصمه فإنه يستحق الثناء العاطر والثواب الجزيل، وذلك ما نطق به القرآن الكريم، فمن أين لهؤلاء المفترين ما ينسجون وما يأفكون؟؟
4 -
وداود عليه السلام قال الله في شأنه: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} (1).
هذا موقف داود -استغفار- وركوع، وتوبة إلى الله- فما موقف العناية الربانية منه؟ قال تعالى:{فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} (2).
فداود فقط ظن أنه امتحن وأنه قصر فيما يناسب عظيم مكانته عند ربه. فانفطر قلبه استغفارا، وطأطأ رأسه سجودا، وأعلن التوبة بكاء .. فبماذا قوبل من ربه؟ أفاض عليه مغفرة، وزيادة قرب، وتمام نعمة في الآخرة {وَحُسْنَ مَآبٍ} أي مرجع، وأعطاه زيادة تمكين في الدنيا {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} كل ذلك وخطأ داود غير معروف، وربه لم يذكر أنه أخطأ فكيف افترى الكاذبون قصصا حول هذا الموقف وتنقصوا داود بإفكهم وافترائهم؟ وليس لهم حجة ولا برهان على ما قالوه زورا وبهتانا؟؟
5 -
وسليمان عليه السلام: قال الله تعالى في شأنه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} (3).
(1) ص: 24.
(2)
ص: 25 - 26.
(3)
ص: 34.
ما هي هذه الفتنة وما هذا الامتحان الذي مقع فيه سليمان؟ لم يأت دليل من قرآن أو سنة صحيحة يخبرنا عن نوعه، وكل الذي جاء هو حديث صحيح ذكر أن سليمان ترك قول (إن شاء الله) فعوتب على ذلك ولم يذكر الحديث أن هذا العتاب هو نفسه الفتنة التي وقع فيها سليمان، ولكننا نجد أنفسنا مسوقين إلى القول بأن هذا الحديث هو وحده الذي يصلح تفسيرا وشرحا لنوع هذه الفتنة ونوع الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. ولم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن، فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل (نصف رجل) والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون" فجائز أن يكون الجسد الذي ألقى على كرسيه هو هذا الوليد الشق، وهو أقرب الاحتمالات، وجاءت به الرواية الصحيحة. فلا داعي للتجديف في حق هذا الرسول اتباعا لأهواء المغترين، والدليل على أن هذه الفتنة هي من نوع ما بين الخواص وبين ربهم ما جاء بعد هذه الآية من طلب سليمان عليه السلام مزيدا من نعم الله وإعطاء الله إياه ما طلبه وأكثر منه- اقرأ هذه الآيات يتضح لك ذلك: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً
مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)} (1).
ولم أذكر ما حصل من موسى عليه السلام من قتله القبطي بوكزة، لأن ذلك مع أنه كان قبل النبوة فإن موسى لم يرد بالوكزة قتل القبطي ولم يكن يدري أنه أوتي من القوة فوق ما أوتي غيره من بني عصره. والموقف كله كان موقف دفاع لا أكثر. وأمره واضح.
7 -
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فإن القول في جنابه وساحته يجب أن يكون في غاية الأدب والخشوع والإكبار والاحترام لهذه الشخصية العظيمة الفذة إنه صلى الله عليه وسلم عبد خاضع لربه، أعطى عبوديته كل ذله وخشوعه وخضوعه. وأعطاه ربه من التكريم ما لم يط أحدا غيره.
ولا تجد في القرآن الكريم صورة ظاهرها العتاب من الله لحبيبه إلا وتجد إطار هذه الصورة وظلالها وملامح جوهرها تفيض حبا وتعظيما وتكريما وثناء عاطرا من الله لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم كما تجد الجو الذي وضعت فيه هذه الصورة كله جوا جميللا مزهرا معطرا من الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
وأسوق لك مثلا على ذلك: قصة زواج زيد بن حارثة الذي كان مملوكا للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه النبي ثم تبناه أعني اتخذه ولدا على عادة العرب حينئذ ثم زوجه بأمر الله تعالى زينب بنت جحش ابنة عمته صلى الله عليه وسلم. وكانت كارهة هذا الزواج لأنها حرة وزيد مولى من الموالي. وكان أخوها عبد الله بن جحش كارها أيضا هذه المصاهرة غير المتكافئة في نظره، ولم ينفذها هو وأخته إلا بعد نزول قوله تعالى:
(1) ص: 35 - 36.
وأراد الله تعالى من هذا الزواج إبطال تقليد اجتماعي خطير من مبادئ الجاهلية، وهو أن يكون للابن المتبني كل ما للابن الصلب من الحقوق والأحكام سواء في ذلك الميراث وحرمة تزوج الأب من زوجة ابنه المتبني وغير ذلك.
فكان زواج زيد بن حارثة من زينب توطئة لذلك. فقد أخبر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالوحي بأن زيدا سيطلق زينب ثم تتزوجها أنت بعده لإبطال هذه العادة الجاهلية عمليا على يد رسول الله نفسه حتى ينحسم الأمر نهائيا وبصورة قاطعة.
وجاء زيد بن حارثة يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، وأنها تتعالى عليه، وأن العشرة بينهما غير مستطاعة.
والرسول صلى الله عليه وسلم وحده يعلم أن الطلاق سيتم ولكنه قال لزيد: (أمسك عليك زوجك واتق الله).
إنه يريد أن يعالج الأمر على طريقة البشر في مثل هذه الأمور الحرجة بالتدرج، كما أنه مع علمه بالنتيجة لم ينزل عليه من الله توقيت معين للتنفيذ، فله إذن حرية التصرف حتى يبلغ الأمر مداه، وهو مع ذلك ينظر إلى القضية على أنها خطيرة، وسوف تثير حوله الأقاويل والأراجيف إلى أبعد مدى، والمدينة مشحونة بأعدائه من اليهود والمنافقين المتربصين لكل حركة وكل كلمة.
وتزوج إنسان عادي زوجة آخر بعد الموافقة على تطليقها منه كثيرا ما يكون سببا في هدم شخصية الزوج، وتنقيص مكانته بين الناس، فما بالك
(1) الأحزاب: 36.
إذا كان الذي وافق على الطلاق وتزوج المطلقة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت المطلقة قبل طلاقها زوجة من يسميه العرب ابن محمد) لذلك كان لا بد من نزول قرآن يحسم الموقف، ويشرح القضية ويذكر جميع ملابساتها ويدفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السرعة في التنفيذ بأسلوب التهييج والإثارة. وهو أسلوب بلاغي معروف لدى العرب.
وهنا تعلق المغرضون بقوله تعالى لرسوله (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ) وظنوها غلطة لا تليق بمقام الرسالة، وافتروا على الله وعلى رسوله فيما يتوهمون، ولو تذوقوا الأسلوب القرآني لوجدوه يستعمل مثل هذا التعبير في التهييج والدفع إلى الشيء الخطير وتنفيذ أمر ذي شأن كبير وأهمية معينة.
قال تعالى في حض المؤمنين على قتال أعدائهم: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} (2).
(1) الأحزاب: 37.
(2)
التوبة: 13.
والذين يقال لهم هذا هم الصحابة رضوان الله عليهم وشأنهم في التزاحم على جهاد أعداء الله معروف، وقال تعالى في إثارة النفوس لتنفيذ حد الله (حد الزنا):{وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1).
ومثل هذا الأسلوب في القرآن كثير، وهو لا يراد به التنقيص، إنما يراد به الإثارة والتهييج
…
ولكي ترى الصورة على حقيقتها عليك أن ترى الإطار الذي وضعت فيه هذه العبارة (وتخشى الناس). فإنها جزء من آية جاء فيها بعد هذه العبارة (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) ....
فالله تعالى هو الذي تولى تزويج رسوله لإبطال هذه العادة ويكفي رسول الله شرفا أن الله هو الذي زوجه ..
وقبل هذه الآية وبعدها في نفس السورة آيات عديدة كلها تكريم ورفعة لمقام رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. منها قوله تعالى:
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} (2).
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} (3).
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (4).
(1) النور: 2.
(2)
الأحزاب: 6.
(3)
الأحزاب 45 - 46.
(4)
الأحزاب: 56.