الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا عبرة بقول من قال من الفلاسفة: إن النبوة يمكن اكتسابها بمباشرة أسباب مخصوصة كملازمة الخلوة والعبادة، وأكل الحلال
…
الخ، لأنه لم يقم على ذلك دليل عقلي ولا شرعي. وهم في ذلك خلطوا بين النبوة والولاية التي سيأتي الكلام عنها.
وإرسال الرسل من الأمور الجائزة، في حق الله تعالى، فهو تعالى يجوز في حقه أن يرسل إلى الناس رسلا، ويجوز ألا يرسل، لكنه تعالى أخبر من جهة الشرع أنه لا يؤاخذ أحدا على خطأ ارتكبه إلا إذا أرسل إليه رسولا يعلمه ويرشده، ويبشره وينذره كما سبق، وأخبر تعالى أنه أراد وقرر إرسال الرسل إلى عباده رحمة بهم، لأن عقلهم وحده غير كاف في هدايتهم وإسعادهم، وما دام قد أراد الله ذلك وقرره فلا بد من وقوعه شأن كل شيء أراده الله تعالى وقرره من الأمور الجائزة في حقه تعالى:
النبوات وإرسال الرسل
الفرق بين الرسل والفلاسفة وأشباههم
1 -
قال المرحوم محمد رشيد رضا:
إن حكمة الحكماء، وعلوم الفلاسفة آراء بشرية ناقصة، وظنون لا تبلغ من عالم الغيب إلا أنه موجود ومجهول، وهي عرضة للتخطئة والخلاف، ولا يفهمها إلا فئة مخصوصة من الناس- وما كل من يفهمها يقبلها، ولا كل من يقبلها ويعتقد صحتها يرجحها على هواه وشهواته، إذ لا سلطان لها على وجدان العالم بها، فلا يكون لها تأثير الإيمان وإسلام الإذعان والتعبد، لأن النوع البشري يأبى طبعه وغريزته أن يدين ويخضع خضوع التعبد لمن يعتقد أن له سلطانا غيبيا عليه بما يملكه من القدرة على النفع والضر بذاته دون الأسباب الطبيعية المبذولة لجميع الناس حسب سنة الكون.
وأضيف إلى ما قاله الأستاذ ما يأتي:
2 -
إن الرسل يتلقون عن الله تعالى دينه ويبلغونه للناس بأمانة وليس
لهم رأي في الدين إلا في الحدود التي أذن الله لهم فيها، وليس ذلك شأن الفلاسفة الذين يعتمدون على العقل فقط، والعقل وحده ثبت عدم كفايته.
3 -
الرسل طائفة ممتازة من البشر يختارهم الله تعالى بنفسه، ويصنعهم لرسالته، ويربيهم بحكمته، ويعصمهم من الزلل والإثم والفواحش حتى يصلحوا للقيادة بعد نزول الرسالة عليهم.
قال تعالى: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (1).
وقال لموسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (2).
وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (3).
4 -
رسالات الرسل تنزل من عند الله تعالى- وهو أعلم بخلقه- لتصنع لهم الحياة الطيبة في جميع النواحي سواء أكانت شخصية أم اجتماعية أم اقتصادية أم ساسية، وسواء اتصلت بالفرد أم بالجماعة أم بالأمة أم بالإنسانية.
والرسالات في ذلك تعالج الأمور بما يتفق مع الغرائز والعواطف والاحتياجات المختلفة، وكل متطلبات الإنسان.
(1) آل عمران: 33.
(2)
طه: 41.
(3)
القلم: 4.
والرسالات ترعى مع ذلك التواؤم بين الإنسان وبين ما يحيط به من جميع المخلوقات سواء منها الحيوانات والحشرات والنباتات والبحار والجبال وغيرها، وهذا الشمول الناجح المؤتلف مع جميع الأشياء المعالج لجميع الأمراض، المدرك لخفيات الأمور، الذي يتحسس نبضات القلوب فيرعاها، وخلجات النفوس فيحنو عليها لم يوجد لأي فيلسوف ظهر على وجه الأرض.
5 -
من التاريخ الإنساني ندرك أن الفلاسفة لم ينجحوا في إقامة دولة أو أمة على فلسفتهم ومبادئهم، وذلك بسبب عجز الفلاسفة عن سد حاجة البشرية، ومن قيل عنه: إن أمة من الأمم قامت على فلسفته فإنك بالبحث ترى أن الفلسفة التي جاء بها الفيلسوف ليست هي التي جمعت عليها الأمة، وإنما هناك مؤثر آخر هو القوة والضغط، والتعذيب، والتنكيل، فهي ليست أمة قائمة على فلسفة اقتنعت بها، وإنما هي فلسفة ضيقة عذبت في سبيلها أمة، وحطمت نفوسا بشرية، وجعلت الحياة على سعتها سجنا لأهلها. فأين هذا من قول الله لرسوله:{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (1).
وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)} (2).
ولذلك نجح الأنبياء نجاحا منقطع النظير في تكوين الأمم التي آمنت برسالتهم، ونجحوا في إسعادهم وإعزازهم، وفي توفير حياة الحرية والكرامة والسيادة والقوة لهم، ما دام المؤمنين ملتزمين بتعاليم هؤلاء الأنبياء. وذلك أمر لا يشك فيه عاقل.
(1) الكهف: 29.
(2)
الغاشية 21 - 22.