الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بالكدر، فكل ما يظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب، وعمارتها وإن أحسنت صورتها خراب، وجمعها فهو للذهاب، ومن خاض الماء الغمر لم يخل من بلل، ومن دخل بين الصفين، لم يخل من وجل.
فالعجب كل العجب، ممن يده في سلة الأفاعي، كيف ينكر اللسع؟ ! وأعجب منه، من يطلب من المطبوع على الضر النفع.
قال بعض الأدباء:
طبعت على كدر وأنت تريدها
…
... صفواً من الأقذاء والأكدار
قال أبو الفرج بن الجوزي: ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تعتور فيها الأمراض والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب بكى حتى ذهب بصره، وموسى يقاسي فرعون ويلقي من قومه المحن، وعيسى بن مريم لا مأوى له إلا البراري في العيش الضنك، ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين يصابر الفقر، وقتل عمه حمزة وهو من أحب أقاربه إليه، ونفور قومه عنه، وغير هؤلاء من الأنبياء والأولياء مما يطول ذكره ولو خلقت الدنيا للذة لم يكن حظ المؤمن منها.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر» ، فإذا بان بأنها دار ابتلاء وسجن ومحن، فلا ينبغي إنكار وقوع المصائب فيها.
فصل ـ في المصائب المختصة بذات الإنسان
ذكر أبو الفرج بن الجوزي: في المصائب المختصة بذات الإنسان.
قال: رأيت جمهور الناس إذا طرقهم المرض أو غيره من المصائب اشتغلوا تارةً بالجزع والشكوى، وتارةً بالتداوي، إلى أن يشتد عليهم، فيشغلهم اشتداده عن الالتفات إلىالمصالح من وصية، أو فعل خير، أو تأهب للموت، فكم ممن له ذنوب لا يتوب منها، أو عنده ودائع لا يردها، أو عليه دين أو زكاة، أو في
ذمته ظلامة لا يخطر له تداركها، وإنما حزنه على فراق الدنيا، إذ لا هم له سواه، وربما أفاق وأوصى بجور.
انتهى كلامه.
وسبب ذلك ضعف الإيمان كما قال تعالى: {فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم} ، وأحدهم لا هم له إلا الدنيا، ولا يتأسف إلا عليها، والعين المتطلعة إلى الآخرة ضعيفة جداً، وقد عم هذا أكثر الخلق في زماننا، نعوذ بالله من الخذلان.
فينبغي للمتيقظ أن لا يتأسف على ما فات، وأن يتأهب في حال صحته قبل هجوم المرض، فربما ضاق الوقت عن عمل، واستدراك فارط، أو وصية، فإن لم تكن له وصية في صحته فليبادر في مرضه، وليحذر الجور في وصيته، فإنه من المحرمات، فإنه يمنع المستحق ويعطي من لا يستحق، فيحتاج أن يحارب نفسه وشيطانه، فقد «روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت» ويعلم أنه مملوك لله وليس له في نفسه شيء.
قال الشاعر:
صرت لهم عبداً وما
…
للعبد أن يتعرضا
ويعلم أيضاً أن هذا الواقع من المصائب في نفسه وماله وولده، وقع برضى مالكه وخالقه، فيجب على العبد أن يرضى بما يرضي به السيد، ويعاقب نفسه إذا جزعت، ويقول لها: أما علمت أن هذا لابد منه؟ ! فما وجه الجزع؟ ! وإنما هي ساعة كأن لم يكن ما كان، ومن تلمح العواقب هان عليه مرارة الدواء، والله تعالى الموفق.
قال بعض السلف: رأيت جمهور الناس ينزعجون لنزول البلاء انزعاجاً يزيد عن الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا
وضعت، وهل ينتظر الصحيح إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود سوى العدم؟!
قال الشاعر:
على ذا مضى الناس: اجتماع، وفرقة
…
وميت، ومولود، وبشر وأحزان