الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أكون مثلهم، وأدخل في جملتهم.
ثم يستقبل القبلة حتى طلوع الفجر.
وقال عمر بن عبد العزيز ـ رحمة الله عليه ـ لبعض جلسائه: يا فلان، لقد أرقت البارحة تفكيراً بالقبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثلاث ليال في قبره، لاستوحشت منه بعد طول الأنس به، ولرأيت بيتاً تجول الهوام فيه، ويجري فيه الصديد، وتخرقه الديدان، مع تغير الريح وتقطع الأكفان، وكان ذلك بعد حسن الهيئة وطيب الريح، ونقاء الثوب.
ثم شهق شهقة خر مغشياً عليه.
وقال بعض الحكماء: أربعة أبحر لأربع: الموت بحر الحياة، والنفس بحر الشهوات، والقبر بحر الندامات، وعفو الله بحر الخطيئات، فنسأل الله العظيم أن يجعل الله القبر خير بيت نعمره ونسكنه!
فصل ـ في عدم استطاعة التمييز بين السعيد والشقي في القبر
واعلم، أنه لو دخل شخص إلى المقابر المزخرفة، ليميز السعيد من الشقي، ما علم هذا من هذا، وما يعلمه إلا علام الغيوب، بل قد يكون قبراً من القبور قد درست أعلامه، وقد بقي ممشى للدولاب، وصاحبه في أعلى الجنان، وقد يكون قبراً مزخرفاً، وقد عليت عليه القباب والبشخانات الحرير، وصاحبه في نار جهنم، بل نقول: لو دخل الشيخ المقابر، لم يميز قبر الذكر من الأنثى، ولا الشيخ من الشاب، ولا الحر من العبد، فإذا كان هذا التمييز الذي يمكن الشخص العاقل أن يميز بين هؤلاء في الحياة الدنيا، قد أبهم علينا بعد الموت، فكيف نميز السعيد من الشقي؟ ويشبه هذا ما روي، أن الإسكندر مر بمدينة قد ملكها عدة ملوك، وبادوا، فقال الإسكندر: هل بقي من نسل أولئك الملوك، أحد؟ فقيل: ما بقي منهم إلا رجل واحد يأوي المقابر، فدعا به، فلما أحضره قال له: ما حملك على لزوم المقابر؟ قال: أردت أن أميز عظام الملوك من عظام عبيدهم، فوجدت الكل سواء.
قال له الإسكندر: هل لك أن تتبعني، فأجيز لك بشرف آبائك، إن كانت
لك همة عظيمة؟ فقال: إن لي همة عظيمة بشرط: إن كانت بغيتي عندك تبعتك.
قال: وما بغيتك؟ قال: حياة لا موت فيها، وشباب ليس معه هرم، وغنى ليس معه فقر، وسرور ليس معه حزن.
قال الإسكندر: ليس ذلك عندي ولا بيدي، فقال: أي خير أرجوه عندك، إن لم يكن عندك هذه الأشياء؟ فامض لشأنك، ودعني أطلب ذلك ممن يملكه، وهو عنده.
ثم عاد إلى مكانه، ولم يلتف إلى الإسكندر.
كان عطاء السليمي رحمه الله إذا جن الليل خرج إلى المقابر، فيقول: يا أهل القبور، متم، فوا موتاه، وعانيتم أعمالكم، فوا عملاه، ثم يقول: غداً يكون عطاء في القبور، فلا يزال ذلك دأبه حتى يصبح.
وقال سفيان الثوري: من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة، ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار.
ومر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمقابر، فوقف عليها قليلاً، فقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف، ونحن لكم تبع، وبكم عما قليل لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز عنا وعنهم، طوبى لمن ذكر المعاد، للحساب، وقنع بالكفاف، ورضي في جميع أحواله عن الله تعالى.
ثم قال: يا أهل القبور، أما الزوجات فقد نكحت، وأما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندك، فما خبر ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما إنهم لو تكلموا لقالوا: وجدنا خير الزاد التقوى.
ويروى، أن رجلاً دخل على عمر بن عبد العزيز ـ رحهم الله ـ فرآه قد تغير من كثرة العبادة، فجعل يتعجب من تغير لونه واستحالة صفته، فقال: له عمر: يا ابن أخي، وما تعجبك مني؟ ! فكيف لو رأيتني بعد دخول قبري بثلاث؟ وقد خرجت الحدقتان فسالتا على الخدين، وتقطعت الشفتان، وتقلصت عن الأسنان، وخرج الصديد والدود من المنخرين والفم، وانتفخ البطن فعلا على الصدر، لو رأيت ذاك مني فهو أعجب مما رأيته الآن.
واعلم ـ رحمك الله ـ أنه من علم مصيره إلى هذه الحفرة المظلمة الموحشة، لم يبالغ في تحسين ظاهرها، مع علمه بما يؤول صاحبها، إليه، مع ترافةجسمه وحسن منظره، ولين بدنه، فإنه عن قريب سيطرح في حفرة تتقطع فيها أوصاله، وتتغير فيها أحواله، ثم ينتن بعد ذلك، ويفر من رائحته من كان عنده من أحب الناس إليه إذا اطلع عليها.
فإذا نظر العبد بعين بصره وبصيرته، إلى قبور المترفين من أهل الدنيا، رأى كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا أبداً في لذاتهم وطيب عيشهم، هم والله صرعى، قد حلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصابت الهوام، في أجسادهم، فأطيبهم وأنعهم من قد أمن من عذاب الله عز وجل.
قال ثابت البناني: دخلت المقابر، فلما أردت الخروج منها، إذا أنا بصوت يقول: يا ثابت، لا يغرنك صموت أهلها، فكم من نفس معذبة فيها! !