الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ورضى كنت في ديوان المغبونين، وإن أحدثت له اعتراضاً عليه وقدحاً في حكمته ومجادلةً في الأقدار، فقد قرعت باب الزندقة، وفتح لك وولجته فاحذر عذاب الله يحل بك، فإنه لمن خالفه بالمرصاد.
وإن أحدثت له صبراً وثباتاً لله كنت في ديوان الصابرين، وإن أحدثت له رضى بالله ورضى عن الله وفرحاً بقضائه كنت في ديوان الراضين، وإن أحدثت له حمداً وشكراً كنت في ديوان الشاكرين الحامدين، وإن أحدثت له حمداً واشتياقاً إلى لقائه كنت في ديوان المحبين المخلصين.
وفي مسند الإمام أحمد والترمذي، من حديث «محمود بن لبيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي الله فله الرضى، ومن سخط فله السخط» زاد الإمام أحمد: ومن جزع فله الجزع.
فأنفع الأدوية للمصاب موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له، وإن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب، فمن ادعى محبة محبوب، ثم سخط ما يحبه، وأحب ما يسخطه، فقد شهد على نفسه بكذبه، وأسخط عليه محبوبه.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن الله إذا قضى قضاءً أحب أن يرضى به.
وكان عمران بن حصين رضي الله عنه يقول في مرضه: أحبه إلي أحبه إليه.
وقال بعده أبو العالية: وهذا دواء المحبين وعلاجهم لأنفسهم.
ولا يمكن كل أحد أن يتعالج به، فانظر هذه الطرائق واختر وفقنا الله وإياك لما يحب.
فصل ـ فيمن طلب المصائب وفرح بها رجاء ثوابها
روى ابن أبي حاتم بإسناده في تفسيره عن خالد بن يزيد، عن عياض، عن عقبة أنه مات له ابن يقال له: يحيى، فلما نزل في قبره قال له رجل: والله إن كان لسيد الجيش، فاحتسبه، فقال والده: وما يمنعني أن أحتسبه وكان من زينة الحياة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات؟! فهذا رجل صابر راض محتسب، ما أحسن فهمه وحسن تعزيته لنفسه، وثقته بما أعطاه الله من ثواب الصابرين.
وعن ثابت قال: مات عبد الله بن مطرف، فخرج أبوه مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادهن، فغضبوا، فقالوا: يموت عبد الله وتخرج في مثل هذه مدهناً؟ قال: أفأستكين لها وقد وعدني ربي تبارك وتعالى عليها خصالاً، كل خصلة منها أحب إلي من الدنيا كلها؟ ! قال تعالى:{الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} ، أفأستكين لها بعد ذلك؟ ! ثم قال ثابت قال مطرف: ما شيء أعطي به في الآخرة قدر كوز من ماء إلا وددت أنه أخذ مني في الدنيا.
رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد.
وعن محمد بن خلف، قال: كان لإبراهيم الحربي ابن كان له إحدى عشرة سنة، حفظ القرآن، ولقنه من الفقه جانباً كبيراً، قال: فمات، فجئت أعزيه، فقال: كنت أشتهي موت ابني هذا، قال: فقلت له: يا أبا إسحاق، أنت عالم الدنيا، تقول مثل هذا، في صبي قد أنجب، ولقنته الحديث والفقه؟ ! قال: نعم رأيت في منامي، كأن القيامة قد قامت، وكأن صبياناً بأيديهم قلال فيها ماء، يستقبلون الناس فيسقونهم، وكان اليوم يوماً حاراً، شديداً حره، قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء، قال: فنظر إلي، وقال: ليس أنت أبي، قلت: فأي شيء أنتم؟ قال: فقال لي: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا وخلفنا آباؤنا، فنستقبلهم فنسقيهم الماء، قال: فلهذا تمنيت موته.
وروى البيهيقي بإسناده، عن ابن شوذب: أن رجلاً كان له ابن لم يبلغ الحلم، قال: فأرسل إلى قومه: إن لي حاجة! قالوا: نعم، وما هي؟ قال: إني أريد أن أدعوا على ابني هذا أن يقبضه الله تعالى وتؤمنون على دعائي، فسألوه عن ذلك، فأخبرهم أنه رأى في منامه كأن الناس جمعوا ليوم القيامة، فأصاب الناس عطش شديد، فإذا الولدان قد خرجوا من الجنة، معهم الأباريق، فأبصرت ابن أخ لي، فقلت: يا فلان، اسقني، قال: يا عم، إنا لا نسقي إلا الآباء، قال: فأحببت
أن يجعل الله ولدي هذا فرطاً لي، فدعا، فأمنوا على دعائه، فلم يلبس الغلام إلا يسيراً حتى مات.
وقد روى ابن عساكر بإسناده، عن سهيل بن الحنظلية الأنصاري ـ وكان لا يولد له ـ فقال: لأن يولد لي ولو سقط، فأحتسبه أحب إلي من أن يكون لي الدنيا بأجمعها.
وكان ابن الحنظلية ممن بايع تحت الشجرة.
وذكر ابن عساكر أيضاً، عن الليث بن سعد، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، أن أبناً لعياض بن عقبة، حضرته الوفاة، وكان عياض غائباً، فقالت أم الغلام: لو كان أبو وهب حاضراً لقرت عينه، فلما حضرت وفاة عياض ابن عقبة قال لأخيه أبي عبيد: يهنأك الظفر، قد كنت أرجو أن تكون قبلي فأحتسبك.
وقال أبو مسلم الخولاني رحمه الله: لأن يولد لي مولود يحسن الله نباته، حتى إذا استوى على شبابه، وكان أعجب ما يكون إلي، قبضه الله تعالى مني، أحب إلي من أن تكون الدنيا وما فيها لي.
وروي عن الإمام القفال، قال: كان في جواري رجل يأبى التزويج، فلما كان في بعض الليالي، استيقظ من نومه في الليل ونادى: زوجوني زوجوني، فسئل عن ذلك، فقال: لعل الله يرزقني ولداً يقبضه قبل البلوغ وقبل موتي، قيل وكيف ذلك؟ قال: رأيت في المنام، كأن القيامة قد قامت، والخلق في الموقف، وأنا معهم، وقد كظني العطش، وإذا قد ظهر أطفال بأيديهم أباريق من فضة، مغطاة بمناديل من نور، يتخللون الجمع ويسقون واحداً بعد واحد، فمددت يدي إليهم، وقلت لبعضهم: اسقني، فقد أجهدني العطش، فنظر إلي شزراً وقال ليس لك فينا ولد، وإنما نسقي أباءنا وأمهاتنا، فقلت من أنتم؟ قالوا: أطفال المسلمين.
وقال أبو الحسن المدائني: دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في وجعه، فقال يابني، كيف تجدك؟ قال: تجدني في الحق، قال: يا بني، لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك، فقال: يا أبه، لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن أكون ما أحبه.
وروى ابن أبي شيبة، باسناده عن ثابت البناني: أن صلة بن أشيم، كان في غزاة له ومعه ابن له، فقال له أي بني، تقدم فقاتل حتى أحتسبك، فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم أبوه فقتل، فاجتمعت النساء، فقامت امرأته معاذة العذرية، فقالت للنساء: مرحباً، إن كنتن جئتن لتهنئنني مرحباً بكن، إن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن.
رواه ابن ماجه من حديث طويل.
وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد وابن ماجه في سننه عن «أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولابإضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا، أن تكون بما في يد الله، أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة، إذا أصبت بها، أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك» .
وقال ابن الجوزي: ثنا ابن ناصر، أنبأ جعفر بن أحمد، ثنا أبي، ثنا هاشم، عن ابن المبارك، عن الحسن، ثنا أبو الأحوص، قال: دخلنا على ابن مسعود رضي الله عنه وعنده بنون له ثلاثة، غلمان كأنهم الدنانير فجعلنا نتعجب من حسنهم، فقال: كأنهم يغبطونني؟ قلنا: إي والله، لبمثل هؤلاء يغبط المسلم، فرفع رأسه إلى سقف البيت، وقد عشش فيه خطاف وباض، فقال: والذي نفسي بيده، لأن أكون قد نفضت يدي من تراب قبورهم، أحب إلي من أن يسقط عش هذا الخطاف وينكسر بيضه، ثم قال: ما أصبحت على حال، فتمنيت أني على سواها.
وروى هناد بن السري في الزهد، عن كثير بن تميم الداري، قال: كنت جالساً مع سعيد بن جبير فطلع عليه ابنه عبد الله بن سعيد، وكان به من الفقه، فقال: إني لأعلم خير حالاته، فقالوا: وما هو؟ قال: أن يموت فأحتسبه.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن سفيان، قال: سمعت سفيان يقول: ما في الأرض أحب إلي من سعيد، وما في الأرض أحد يموت أحب إلي منه، فمات، فرأيته يبكي، قلت: قد كنت تمنى موته! قال: أذكر قوله: آه جنبي.
وفي تاريخ الرقة للحراني: ثنا أحمد بن بديع، ثنا أبي، قال: سمعت عمر بن ميمون بن مهران يقول: كنت مع أبي ونحن نطوف بالكعبة، فلقي أبي شيخاً فعانقه أبي، ومع الشيخ فتى قريباً مني، فقال له أبي: من هذا؟ قال: ابني فقال: كيف رضاك عنه؟ قال ما بقيت خصلة يا أبا أيوب من خصال الخير إلا وقد رأيتها فيه إلا واحدة، قال: وما هي؟ قال: كنت أحب أن يموت وأوجر فيه! قال: ثم فارقه أبي، قال: فقلت لأبي: من هذا الشيخ؟ قال: هذا مكحول.
والمقصود أن هذا المقام مقام عظيم شريف لمن يطلب المصيبة ويفرح بها نظراً إلى ثوابها، وما يفعل ذلك أحد حتى يعلم من نفسه القوة والصبر والجلد والركون إلى دعوى النفس، وما أكثر ما تخلف الوعد وتنقد العهد فإن الغالب متى ما أظهرت الدعوى وكلت إليها، وطولبت بتصحيح دعواها فتقصر عند الحقيقة وتميل عن تقويم الطريقة.
وكان سحنون رحمه الله يقول: قد رضيت ما تقضيه، فابتلني بما شئت، فابتلاه الله بحصار البول، فما صبر، فكان يدور على الصبيان، ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب.
فالطريقة الكاملة، قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية» .
واعلم أن النية في طلب الولد وفقده وقصد بقائه، إذا صحت النية حصل الثواب الجزيل على النيتين جميعاً، لأن الأعمال بالنيات، فإنه ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ما من أهل ولا مال ولا ولد إلا وأنا أحب أن أقول عليه: {إنا لله وإنا إليه راجعون} ، إلا عبد الله بن عمر فإني أحب أن يبقى في الناس.
يأيد ذلك ما ثبت «في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» .
وفي حديث أنس مرفوعاً: سيع يجري أجرها للعبد بعد موته،
فذكر منها: أو ترك ولد يستغفر له بعد موته.
وهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الصالح أو العبد الصالح، ولا شك أن العبد، إذا حصل له أجر مستمر بعد موته، هو أولى من حصول أجر في حياته ثم ينقطع بالموت، فإن العبد من أحوج الناس بعد موته إلى الحسنات وبموته قد انقطع عمله إلا ما أخبر به الصادق المصدوق في هذا الحديث المتقدم، فطلب الولد وبقاؤه أنفع للعبد فيما فهمت، ولكن أولئك لما خالط قلوبهم قوة الإيمان والتصديق بالقضاء والقدر، والرضى به، برزوا بالقول، وقل من يصبر على تحمل البلوى عند الحقيقة، والله أعلم.