الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل ـ في أن هذه الدار رحلة
من بذل وسعه في التفكير التام، علم أن هذه الدار رحلة، فجمع للسفر رحلة ويعلم أن مبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطن الأمهات، ثم إلى الدنيا، ثم إلى القبر، ثم إلى الحشر، ثم إلى دار الإقامة الأبدية، فدار الإقامة هي دار السلام من جميع الآفات، وهي دار الخلود، والعدو سبانا إلى دار الدنيا، فنجتهد في فكاك أسرنا، ثم في حث السير إلى الوصول إلى دارنا الأولى، وفي مثل هذا قيل:
فحي على جنات عدن فإنها
…
... منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى
…
نعود إلى أوطاننا ونسلم
وليعلم أن مقدار السير في الدنيا يسير ويقطع بالأنفاس، ويسير بالإنسان سير السفينة لا يحس بسيرها وهو جالس فيها، كما قيل:
إنما هذه الحياة متاع
…
فالغوي الشقي من يصطفيها
مامضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
ولا بد له في سفره من زاد، ولا زاد إلى الآخرة إلا التقوى، فلا بد من تعب الشخص والتصبر على مرارة التقوى، لئلا يقول وقت السير: ارجعون، فيقال: كلا.
فليتنبه الغافل من كسل مسيره، فإن الله تعالى يريه في قطع مسافة سفره آيات يرسلها تخويفاً لعباده، لئلا يميلوا عن طريقهم المستقيم، ونهجهم القويم، فمن مالت به راحلته عن طريق الاستقامة، فرأى ما يخاف منه، فليرغب إلى الله بالرجوع إليه عما ارتكبه من السبل فيتوب من معصيته، ويبكي من قسوته، فإذا انتبه من رقدة كسله، علم أن الدنيا دار غرور طبعت على كدر.
كما روى ابن أبي الدنيا قال: أنشدني الحسن بن السكن:
حياتك بالهم مقرونة
…
فما تقطع العيش إلا بهم
لذاذات دنياك مسمومة
…
فما تأكل الشهد إلا بسم
إذا تم أمر بدا نقصه
…
توقع زلولاً إذا قيل تم
وكما قيل في المعنى:
حكم المنية في البرية جار
…
ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها مخبراً
…
حتى يرى خبراً من الأخبار
طبعت على كدر وأنت تريدها
…
... صفواً من الأقذاء والأكدار
وقال بعض السلف: احذروا دار الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت، فإنهما يفرقان بين المرء وزوجه، والدنيا تفرق بين العبد وربه.
وذكر ابن أبي الدنيا هذا الأثر مرفوعاً، قال جعفر بن سليمان: سمعت مالكاً يقول: اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء ـ يعني الدنيا ـ.
وذكر ابن أبي الدنيا بإسناده إلى الحسن البصري أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى منها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه فكن كالمداوي جراحته، يحتمي قليلاً، مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء، مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة الحيالة الخداعة، التي ازينت بخدعها وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشرفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلية، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر على الأول مزدجر، ولا العارف بالله عز وجل حين أخبر عنها مدكر، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي المعاد، فشغل فيها لبه حتى زالت عنها قدمه، فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد، فاحذرها يا أمير المؤمنين، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور، أشخصه إلى مكروه، قد وصل
الرخاء منها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب بالحزن، لا يرجع منها ما ولى فأدبر، ولا يدرى ما هو آت فينتظر أما نيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وابن آدم فيها على خطر، ولقد عرضت على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها، فأبى أن يقبلها، كره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه، فزواها عن الصالحين اختياراً، وبسطها لأعدائه اغتراراً.
جاءت الرواية أنه تبارك وتعالى قال لموسى عليه السلام: إذا رأيت الغني مقبلاً فقل: ذنب عجلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقل: مرحباً بشعار الصالحين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وفي آخر المخطوط التي تمت الطباعة وفقاً له ما يأتي بخط المؤلف:
علقها مؤلفاً محمد بن محمد بن محمد المنبجي الحنبلي كان الله له وسامحه بمنه وكرمه من نسخة أصله في رجب الفرد سنة سبع وسبعين وسبعمائة أحسن الله عاقبتها.
[تم]