الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم قال: ولعمري إن أصل الانزعاج لا ينكر، إذ الطبع مجبول على الأمن من حلول المنايا، وإنما ينكر الإفراط فيه والتكليف كمن يخرق ثيابه ويلطم وجهه ويعترض على القدر، فإن هذا لا يرد فائتاً، لكنه يدل على خور الجازع، ويوجب العقوبة والسلام.
فصل ـ في أن المصائب والمحن دواء للكبر والعجب
وليعلم أهل المصائب أنه لولا محن الدنيا ومصائبها، لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمة أرحم الراحمين، أن يتفقده في الأحيان، بأنواع من أدوية المصائب، تكون حمية له من هذه الأدواء، وحفظاً لصحة عبوديته، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة، فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه.
كما قيل:
قد ينعم الله بالبلوى، وإن عظمت
…
... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم فلولا أنه سبحانه وتعالى يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء، لطغوا وبغوا وعتوا وتجبروا في الأرض، وعاثوا فيها بالفساد، فإن من شيم النفوس إذا حصل لها أمر ونهي، وصحة وفراغ، وكلمة نافذة من غير زاجر شرعي يزجرها، تمردت وسعت في الأرض فساداً مع علمهم بما فعل بمن قبلهم، فكيف لو حصل لهم مع ذلك إهمال؟ ! ولكن الله سبحانه وتعالى، إذا أراد بعبده خيراً، سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، ويستفرغ منه الأدواء المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه، أهله لأشرف مراتب الدنيا وهي عبوديته، ورقاه أرفع ثواب الآخرة وهي رؤيته.
فصل ـ في اعتراض المصاب على الأقدار ودلالته بعبادته
قد يحصل للعابد الجاهل، مصيبة، من الجزع ما يسوء الناظر إليه، والسامع عنه، من الاعتراض على الأقدار، وما ذاك إلا لإدلاله بعبادته، فإنه قد شوهد أن خلقاً كثيراً من أهل الدين والخير، عند موت أحبابهم، جرى منهم أمور ينكرها العقال من الناس، فمنهم من خرق ثيابه، ومنهم من لطم خده، ومنهم من
اعترض على القضاء والقدر!
قال ابن الجوزي: رأيت رجلاً كبيراً أعرفه قد قارب الثمانين، وهو من أهل الدين المحافظين على الجماعة، فمات ولد لابنته، فقال: ما ينبغي لأحد أن يدعو فإنه ما يستجيب، ثم قال: إن عاندنا فما يترك لنا ولداً، فعلمت أن صلاته وفعله للخيرعادة، لا أنه ينشأ عن معرفة إيمان، وهؤلاء الذين يعبدون الله علىحرف.
ثم قال ابن الجوزي: حدثني خالي لعمي محمد بن عثمان قال: كنت مشداً بقرية التل، فسمعت عن شيخ قد جاوز الثمانين ولا يصلي، وقد كان قبل ذلك كثير الصلاة مع الجماعة وفعل الخير، ثم ترك ذلك، فدعوته وقلت: يا شيخ، لم لا تصلي؟ فقال: وكيف أصلي، وكان لي أولاد فماتوا، وكان لي غنم ففنيت؟ فأنا ما بقيت أصلي له ولا ركعة، فضربته، وطفت به البلد، فكان بعد ذلك يواظب على الجامع.
انتهى ما ذكره.
فلا شيء أنفع من العلم، لأن العالم، لو حصل له هلع شديد في مصيبته، يعلم أنها زلة منه، فيدري كيف يتنفس، والعابد الجاهل، كلما غاص إلى أسفل، يظن أنه صاعد إلى فوق.
فإذا امتحن الشخص، ينبغي له أن يتداوى بالأدوية الشرعية، فإنه يقال: عند الامتحان يكرم الشخص أو يهان، أما علم لابد من الفرقة؟ وقد روى داود، «عن الحسن بن جعفر، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال جبريل: يا محمد عش ما عشت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه» ، فنعوذ بالله من عدم الصبر عند المحنة، ونسأله الثبات في الأمر، فإنه والعياذ بالله يخاف على الشخص من سوء الخاتمة إذا سخط الأقدار.
ونازع القضاء والقدر أهله، فنسأل الله تعالى حسن الخاتمة.