الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: في تسلية المصاب
ومما ينبغي أن يعلم أن العبد، إذا نظر أو سمع ما تقدم في هذا الباب من تنوع الشهادة، وذكر تعدادها، حصل له تسلية بموت محبوبه، فإنه في الغالب لا بد أن يكون ناله نصيب منها، مع أني لم أحط بكل ما «ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسمية الشهداء، وقد روي مرفوعاً: موت الغريب شهادة» .
وقد استقصينا في عد الشهداء في كتاب أحكام الطاعون.
ويكفي في البشارة ما تقدم قريباً، «من رواية الإمام أحمد مرفوعاً: إن أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش» ، وتقدم ما أعد الله للشهداء من حين الموت، وما لهم عند الله، وأن أرواحهم في حواصل طير خضر تأكل وتشرب في الجنة، وتسرح حيث شاءت، وكل هذا في دار البرزخ، فإذا دخلوا الجنة يوم القيامة بأجسادهم انتقلوا إلى نعيم أعلى من ذلك وأكثر منه.
قال أبو بكر القطيعي: «حدثنا بشر بن موسى، حدثنا ابن خليفة، حدثنا عوف، عن خنساء، قالت: حدثتني عمتي، قالت: قلت يا رسول الله، من في الجنة؟ قال: النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والموؤودة في الجنة» وكذلك رواه بندار، عن غندر، عن عوف، فذكر مثله.
فانتقال العبد إلى الله وما عند الله، هو خير لعباده من هذه الدنيا التي خلقهم فيها، فينظر كيف يعملون، ويبتليهم بالمحن والمصائب، والشهادات، حتى يعلم الصابر منهم والجازع، ليجازي كل شخص بحسبه، فمنهم من يجازيه بالحنان، ومنهم من يجازيه بالنيران، وكل ذلك عدل منه سبحانه وتعالى، لا يظلم مثقال ذرة، بل إن أدخل العبد الجنة فبرحمته وفضله، وإن أدخله النار، فبعدله وسلطانه:{لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} .
فله الحمد دائماً على كل حال.
فصل: في الشهادة المطلوبة: شهادة المعركة
والشهادة المطلوبة، شهادة المعركة على ما تقدم وكذلك شهادة الطاعون، فإنه قد رود في أحاديث وآثار في تمني الطاعون، ما وقع في قصة المغيرة ين شعبة أنه قال: اللهم ارفع عنا الرجز ـ يعني الطاعون ـ، فقال أبو موسى الأشعري ـ رضي
الله عنه ـ: أما أنا، فلا أقول هذا، ولكن أقول كما قال العبد الصالح أبو بكر الصديق رضي الله عنه اللهم طعناً وطاعوناً في مرضاتك.
وقام أبو عبيدة خطيباً فقال: يا أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم: ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله العظيم أن يقسم له من حظه.
قال: فطعن، فمات.
وثبت في مسند الإمام أحمد، «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون» .
وغير ذلك من الأحاديث والآثار، التي لا تحضرني، وقد قررت ذلك في كتابنا المعروف ب أحكام الطاعون.
ولكنه لم يكن عندي حين ألفت هذا الكتاب، فإن قيل: الشهادة المطلوبة شهادة المعركة، وكذلك شهادة الطاعون، كما تقدم.
وقد ورد في بعض الأحاديث، «أن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من بعض ما عده شهادة، ففي مسند الإمام أحمد مرفوعاً: استعاذ من سبع موتات: من موت الفجأة، ومن لدغ الحية ومن السبع، ومن الغرق، ومن الحرق، ومن أن يخر على شيء، أو يخر عليه شيء، ومن الفرار من الزحف» .
وغير ذلك من الأحاديث.
يقال: لم يقل أحد من العلماء: إن كل شهادة مطلوبة، بل من وقع له أو لمحبوبه أو لغيره شيء، مما عده النبي صلى الله عليه وسلم شهادة،، والشهيد ثلاثة أقسام:
أحدها: شهيد في الدنيا والآخرة، وهو المنقول في المعركة مخلصاً.
والثاني: شهيد في الدنيا والآخرة فقط، وهو المقتول في المعركة مرائياً.
والثالث: الشهيد في الآخرة فقط، وهو من أثبت له الشارع الشهادة، ولم يجر عليها أحكامها في الدنيا، كالغريق والحريق ومن به ذات الجنب، ونحوه، كما تقدم.
فإن قيل: لم سمي الشهيد شهيداً؟
قيل: قد اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
أحدها: لأنه حي كما فصل تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون} .
الثاني: لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة.
الثالث: لأن الملائكة تشهده.
الرابع: لقيامه بشهادة الحق حتى قتل.
الخامس: لأنه يشهد ما أعد الله له من الكرامة بالقتل.
السادس: لأنه شهد لله بالوجود والإلهية بالفعل لما شهد غيره بالقول.
السابع: لسقوطه بالأرض وهي الشاهد له.
الثامن: لأنه شهد له بوجوب الجنة.
التاسع: من أجل شاهده وهو دمه.
العاشر: لأنه شهد له بالإيمان وحسن الخاتمة.
فهذه عشر أقوال، من أماكن متفرقة، جمعت إليك رخيصة الأثمان، فهذه الأقوال في المخلص الذي قصد بجهاده وجه الله تعالى، والدار الآخرة، فإنه سبحانه وتعالى، إذا علم قصد العبد وإخلاصه، أعانه وأغاثه، قال تعالى:{إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي، في جزء الثبات عند الممات، في هذا المعنى، عن علي بن الموفق، قال: سمعت حاتم الأصم يقول: لقينا الترك وكان بيننا جولة، فرماني تركي بسهم فقلبني عن فرسي، فنزل عن دابته، فقعدعلى صدري، وأخذ بلحيتي، وأخرج من خفه سكيناً ليذبحني، فوحق سيدي، ما كان قلبي عنده، ولا عند سكينه، وإنما كان قلبي عند سيدي، أنظر ماذا ينزل القضاء منه، فقلت: سيدي، قضيت علي أن يذبحني هذا؟ فعلى الرأس والعين، إنما أنا لك وملكك، فبينما أنا كذلك، وهو قاعد على صدري، إذا رماه بعض المسلمين بسهم،
فما أخطأ حلقه، فسقط عني، فقمت إليه، وأخذت السكين من يده، فذبحته بها.
فما هو إلا أن تكون قلوبكم عند مليككم، حتى تروا عجائب لطفه.
ما لا ترون من الآباء والأمهات.