الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اجتماع الأمرين، ولم يتسع باطنه لشهودهما والقيام بهما، فشغلته عبودية الرضا عن عبودية الرحمة والرقة، والله تعالى أعلم.
انتهى.
قلت وما يؤيد ما ذكره الشيخ رحمه الله قصة نبي الله يعقوب إسرائيل عليه السلام، إذ حكى الله تعالى عنه أنه ابيضت عيناه من الحزن، وقال:{فصبر جميل} و {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} فمشهده أوسع من مشهد هذا العارف، بل نبي الله يعقوب أبلغ من هذا العارف، فإن يعقوب كان له عدة من الولد، ومع هذا فهذه الرقة والرحمة التي عنده، مع الرضا الكامل، واستعمل الرضا والتفويض في قوله:{إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} واستعمل الرقة والرحمة عند {وابيضت عيناه من الحزن} فطريقة يعقوب عليه السلام أفضل من طريقة هذا العارف، مع كثرة أولاد يعقوب، وهذه رحمته ورقته، وأما هذا العارف ـ على ما قيل ـ لم يكن له ولد سواه.
وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده، عن ثابت البناني: أن صلة بن أشيم، كان في مغزى له، ومعه ابنه، فقال له: أي بني، تقدم فقاتل، حتى أحتسبك، فجاء فقاتل حتى قتل، ثم تقدم أبوه فقتل، فاجتمعت النساء عند أمه معاذة العدوية، فقالت: مرحباً، إن كنتن جئتن لتهنئنني مرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن.
وذكر أبو الفرج بن الجوزي: قال أبو جحيفة: إنا لمتوجهون إلى همذان، ومعنا رجل من الأزد، فجعل يبكي، فقلت: أجزع هذا؟ قال: لا، ولكن تركت ابني في الرحل، فلوددت أنه كان معي، فدخلنا الجنة جميعاً.
فصل ـ في تحقيق الرضا وأنه من عمل القلب
الرضا من أعمال القلوب، لكن وإن كان من أعمال القلوب، فكماله هو الحمد، حتى إن بعضهم فسر الحمد بالرضا، ولهذا جاء في الكتاب والسنة: حمد لله على كل حال، وذلك يتضمن الرضا بقضائه.
«وفي الحديث: أول من يدعى إلى الجنة الحمادون، الذين يحمدون الله في السراء والضراء» .
«وفي الحديث مرفوعاً، أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره، قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أتاه أمر يسوؤه قال: الحمد لله على كل حال» .
وقد تقدم في مسند الإمام أحمد «من حديث أبي موسى الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قبض الله ولد العبد، يقول الله لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال؟ فيقولون حمدك واسترجع، فيقول الله عز وجل: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد» .
ومحمد نبينا صلى الله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد، وأمته هم الحمادون، الذين يحمدون الله في السراء والضراء، والرضا.
والحمد على الرضا له مشهدان:
أحدهما ـ علم العبد، بأن الله سبحانه مستوجب لذلك، مستحق له لنفسه، أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء، وهو العليم الحكيم.
الثاني ـ أن يعلم أن اختيار الله لعبده المؤمن خير من اختياره لنفسه، كما روى مسلم في صحيحه، «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاءً، إلا كان خيراً، وليس ذلك إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له» ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن كل قضاء يقضيه الله للمؤمن الذي يصبر على البلاء ويشكر على الرخاء فهو خير له، كما قال تعالى:{إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} .
فمن لا يصبر على البلاء، ولا يشكر على الرخاء، فلا يلزم أن يكون القضاء خيراً له، ولهذا أجيب من أورد على هذا، بما يقضى على المؤمن من المعاصي، بجوابين:
أحدهما: أن هذا إنما يتناول ما أصاب العبد لا ما يفعله، كما في قوله تعالى:{ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وكقوله تعالى أيضاً: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} أي السراء والضراء.
الثاني ـ أن هذا في حق المؤمن الصابر
الشاكر، والذنوب تنقص الإيمان، فإذا تاب العبد أحبه الله، وقد ترتفع درجته بالتوبة.
قال بعض السلف: كان داود عليه السلام، بعد التوبة، خيراً منه قبل الخطيئة، فمن قضي له بالتوبة كان كما قال سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة، فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة، فيدخل بها الجنة، وذلك أنه يعمل الحسنة، فتكون نصب عينيه ويعجب بها، ويعمل السيئة، فتكون نصب عينيه، فيستغفر الله ويتوب إليه منها.
وثبت في الصحيح «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأعمال بالخواتيم» .
والمؤمن، إذا فعل سيئة، فإن عقوبتها تندفع بعشرة أسباب:
أحدهما: أن يتوب توبة نصوحاً ليتوب الله عليه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الثاني: أن يستغفر الله فيغفر الله تعالى له.
الثالث: أن يعمل حسنات يمحوها لقوله: {إن الحسنات يذهبن السيئات} .
الرابع: أن يدعو له إخوانه المؤمنون ويشفعون له حياً وميتاً.
الخامس: أن يهدي له إخوانه المؤمنون من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به.
السادس: أن يشفع فيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
السابع: أن يبتليه الله في الدنيا بمصائب، في نفسه وماله، وأولاده وأقاربه، ومن يحب، ونحو ذلك.
الثامن: أن يبتليه في البرزخ بالفتنة والضغطة، وهي عصر القبر، فيكفر بها عنه.
التاسع: أن يبتليه الله في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه.
العاشر: أن يرحمه أرحم الراحمين.
فمن أخطأته هذه العشرة، فلا يلومن إلا نفسه، «كما قال تعالى في الأحاديث الإلهيات: إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم ـ ثم أوفيكم إياها ـ، فمن وجد خيراً، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه» ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية.
والمقصود أن المؤمن إذا كان يعلم أن القضاء خير له، فيرضى عن الله بما قسم له، كان قد رضي بما هو خير له.