الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: {مُبِينٌ} بمعنى بيّن ظاهر، وذلك؛ لأن
(بان) و (أبان) يأتيان بمعنى واحد
تقول: (بأن الصبحُ) و (أبان الصبح) أبان رباعي وبان ثلاثي، (بأن) يقال: بيِّن، و (أبان) يقال: مبين على أن أبان يأتي متعديًا لا بمعنى بأن مثل أن تقول: أبان الحقّ، وأبان الأمرَ لي، بمعنى أظهره.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: بيان عناد المكذبين للرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، وجه ذلك: أن الله ذكر أنه لو نُزِّل عليه كتاب في قرطاس ولمسوه بأيديهم لقالوا هذا سحر وليس بصحيح، وجه هذا الاستنتاج - مع أنه قد لا يكون من اللائق أن نقول استنتاج فنقول وجه ذكر الله ذلك عنهم -؛ أنه أتاهم من الآيات ما يؤمن على مثله البشر ومع ذلك {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)} [القمر: 2] فعلم الله من حالهم أنهم لو وصلت بهم الحال إلى هذا وأنزل إليهم كتابًا في قرطاس كما عهدوه ولمسوه بأيديهم قالوا: هذا سحر مبين.
الفائدة الثانية: الإشارة إلى أن الكتاب إذا كان في قرطاس فهو أبين وأظهر، وإلا يمكن أن يكتب على غير القرطاس في لوح من خشب، أو في لوح من عظام، أو في لوح من أحجار، أو في لوح من جريد النخل، كما كان في أول الأمر، لكن القرطاس أثبت وألين وأسهل.
الفائدة الثالثة: أن هؤلاء المكذبين لن يؤمنوا ولو جاءتهم كل آية؛ لأن من أعظم الآيات أن ينزل الكتاب يشاهدونه بقرطاس ويلمسونه ثم ينكرونه، ويفسر هذا قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 96، 97] وقوله تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]، وقال عز وجل:{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [القمر: 4 - 6]، وهنا تقف على قوله:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [القمر: 6] ولا تصل؛ لأنك لو وصلت فسد المعنى فصار {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} ، متى؟ {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر: 6] هذه واحدة، وفي الآية التي بعدها {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر: 9] قف ولا تصل؛ لأنك لو وصلت {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر: 9] صار قوله: {وَازْدُجِرَ} من قولهم، وليس كذلك لكن {وَازْدُجِرَ} معطوفة على قالوا، أي: قالوا مجنون وازدجروه.
ومثل هذه الأشياء في الواقع يجب أن ينتبه لها الإنسان؛ لأن القرآن الكريم ليس كالكلام الذي نكتبه نحن أو نقوله، نحن نحاول أن يكون الكلام على نسق واحد، لكن في القرآن - سبحان الله وهو من إعجازه - أنك تري أحيانًا الكلمة ليس بينها وبين الأخرى صلة من أجل أن ينتبه المخاطب أو القارئ ويتأمل ويتفكر، وهذه نقطة لا يحس بها كثير من الناس، تجده يقرأ قراءة مرسلة ولا ينتبه للمواقف، ونحن تعلمنا هذا من شيخنا عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله كان يقوم بنا في رمضان التراويح والقيام، ويقف المواقف اللائقة فتتعجب كيف هذا؟ وكنا قبل ذلك نقرأ القرآن مرسلًا ولا نلتفت للمعنى، حتى إن قوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 4، 5] تقف على {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}
لأن الله جعلها موقفًا فإذا قلت: سبحان الله، كيف نقف على قوله:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} قال الشاعر الملحد:
ما قالَ رَبُّكَ ويلٌ للأُلى سَكِرُوا
…
بَلْ قالَ رَبُّكَ: وَيْلٌ للمُصَلِّينا
نقول قال ذلك لأنه ملحد لم يقرأ الآية الثانية، فالوقف على قوله:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] فيه فائدة، قد لا تظهر لبعض الناس؛ لأنه إذا سمع القارئ يقرأ {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} ووقف تجده يشوش كيف يكون الويل للمصلين؟ ثم تأتي الآية التي بعدها {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 5]، فتكون كأنها الغيث نزل على أرض يابسة، وهذا هو السر في أن الأَوْلَى إذا أمكن أن تقف على كل آية ولو تعلق ما بعدها بها.
لو قال قائل: قوله تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285]، هل نقف على قوله تعالى:{وَأَطَعْنَا} ؟
الجواب: نعم تقف على قوله تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ؛ لأنك لو قلت: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ} صرت سامعًا مطيعًا غفران الله، وليس كذلك.
لو قال قائل: في أثناء قراءة القرآن أو قراءة الحزب بسرعة من غير تأمل وتدبر هل يراعي الإنسان هذه الوقوف؟
الجواب: نعم ينبغي أن يراعي هذا ويقف حتى وإن كان مُدْرجًا.
الفائدتان الرابعة والخامسة: أنه ينبغي الإظهار في موضع الإضمار إذا دعت الحاجة، لقوله:{لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، وهذا يقع كثيرًا في القرآن في آيات متعددة، مثل قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ
لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]، لم يقل (عدو له) مع أن الآية فيها مناسبة أخرى وهي مراعاة فواصل الآيات.
ويتفرع على هذه الفائدة أن هؤلاء كفار؛ لقوله: {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ، وكان مقتضى السياق أن يقول:(لقالوا) لكنه أظهر في موضع الإضمار، والإظهار في موضع الإضمار له فوائد منها:
1 -
الحكم على مرجع الضمير بما يقتضيه الوصف الظاهر، والوصف الظاهر في هذه الآية {الَّذِينَ كَفَرُوا} ومرجع الضمير لو كان ضميرًا أولئك المكذبون.
2 -
القياس، بمعنى أن كل من قال قولهم فهو كافر؛ لأنه لو قال:(لقالوا) لم نستفد أن من قال مثل قولهم يكون كافرًا بالنص، فإذا كان هذا الوصف ظاهرًا قسنا عليه كل ما ماثله، أو كل مَنْ اتصف بهذا الوصف.
الفائدة السادسة: مكابرة أولئك المشركين الذين يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم بصرفهم الحق إلى باطل، الحق أنه قرآن من عند الله وهم يصرفونه إلى السحر، وهذا السحر هل هو في بلاغة القرآن، وفصاحة القرآن، وبيان القرآن، أو في كونه أتي بكتاب نزل من السماء فموّه على أبصارهم؟ الظاهر أنه يشمل الأمرين، يقولون هذا ليس بحقيقة، أي: سحرتنا يا محمد، أو يقولون إنه لِبيانه وفصاحته سَحرهم، وأيًا كان فالجاحد - والعياذ بالله - يتشبث بكل شيء.
الفائدة السابعة: علم الله تبارك وتعالى بما سيكون لو كان؛ لأنه عَلِمَ ماذا سيكون قول هؤلاء لو نُزِّل عليهم الكتاب في قرطاس.