الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} (نسوا)، بمعنى: تركوا وأعرضوا عما ذكروا به.
قوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} ، يعني: من نعيم الدنيا، فتح الله لهم أبواب كل شيء، من الرزق والأمن والرخاء، وغير ذلك من أنواع الترف.
قوله: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا} ، أي: فرح بطر ومرح، {بِمَا أُوتُوا} ، أي: بما أعطوا مما فتح الله عليهم {أَخَذْنَاهُمْ} بالعذاب {بَغْتَةً} ، أي: شيئاً مباغتاً لم يطرأ لهم على بال؛ لأنهم انغمسوا في الترف، ونسوا العذاب.
قوله: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (إذا) فجائية، والمعنى فاجأهم الإبلاس، وهو اليأس من رحمة الله عز وجل.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدتان الأولى والثانية: إقامة الحجة على الخلق بإرسال الرسل، وهذه كقوله تعالى في سورة النساء:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [النساء: 163] إلى قوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، ومن تمام الحجة في إرسال الرسل أنهم أرسلوا بلسان قومهم، أي: بلغة قومهم الذين أرسلوا إليهم، وذلك من أجل أن يفهموا الحجة، ويتفرع على هذا أنه لا تقوم الحجة بمجرد البلاغ حتى يفهمها المرسل إليهم، وإلا فلا الفائدة، إلا أنه يجب على من بلغه ولم يفهم أن يبحث، وهذه النقطة الأخيرة ربما تكون سداً لعذرهم إذا قالوا: ما فهمنا، نقول: يجب عليكم أن تبحثوا، لكن أحياناً يتعذر البحث لكونهم لا يجدون من يثقون به فيبقون جاهلين.
الفائدة الثالثة: رحمة الله تبارك وتعالى بالخلق، حيث أرسل إليهم الرسل لإقامة الحجة، ولبيان المحجة، يعني: الطريق، فلولا الرسل ما عرفنا الطريق إلى الله عز وجل، فلولا أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بيّن لنا كيف نتوضأ، ما عرفنا كيف نصلي، وما عرفنا كيف نزكي، وكيف نصوم، وكيف نحج، وكيف نتعامل، فإرسال الرسل من رحمة الله عز وجل.
الفائدة الرابعة: حذف السبب وذكر المسبب والنتيجة، ليكون ذلك أشد وقعاً وهيبة في قلوب المخاطبين؛ لقوله:{أَخَذْنَاهُمْ} ، ولم يذكر التكذيب، حتى يكون أشد وأدعى لأن يبحث الذهن لماذا أخذوا؟ فيكون أشد هيبة ووقْعَاً في قلوب المخاطبين.
الفائدة الخامسة: أن الله تعالى يبتلي بالبأساء والضراء لكن لحكمة، لا لمجرد إلحاق الضرر بالخلق.
فإن فيل: وما الحكمة؟ قلنا: بيّنها سبحانه وتعالى في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} ، وإلا فإن الله لا يمكن أن يريد مجرد الإضرار، بل كل ما ضر الناس من تقديرات الله فالمراد به مصلحة الخلق.
الفائدة السادسة: أن الأخذ قد يكون بالبأساء، وقد يكون بالضراء، أي قد يكون بالشدة التي يتأذى بها الإنسان بدون ضرر، وقد يكون بالضرر، فمثلاً: الخوف والجوع وما أشبه ذلك، هذه شدة، أما المرض المباشر للشخص فهذا ضرر، فالأخذ إما بهذا وإما بهذا.
الفائدة السابعة: إثبات الحكمة في أفعال الله تعالى لقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} ، وثبوت الحكمة لله عز وجل في أفعاله وفي شرعه أمر معلوم لكل ذي عقل؛ لأن كون الأفعال والأحكام تصدر عن حكمة يدل على كمال الفاعل والمشرع.
فإن قيل: هل كل فعل أو حكم جاء من عند الله يكون معلوماً لنا حكمته؟
فالجواب: لا؛ لأن عقولنا أقصر من أن تحيط بحكمة الله عز وجل، لكن نعلم علم اليقين أن ذلك لحكمة، ولهذا لما سئلت أم المؤمنين عائشة:"ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ " ما ذهبت تعلل، فتقول: الصوم لا يأتي في السنة إلا مرة وقضاؤه سهل، والصلاة تأتي في اليوم والليلة خمس مرات فقضاؤها صعب، والصوم لا نظير له - في السنة - يقوم مقامه، والصلاة لها نظير، وإذا لم تصلِّ اليوم صلّت غداً، لم تقل هذا، بل قالت:"كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة"
(1)
، فجعلت مجرد الحكم هو الحكمة، وهكذا يجب على كل مؤمن أن يؤمن بأن جميع أفعال الله، وجميع شرائع الله كلها لحكمة، لكن قد تُعلم وقد لا تُعلم.
والفقهاء رحمهم الله يعبرون عن الشيء الذي لا تعلم حكمته بأنه تعبدي، بمعنى أنه ليس علينا إلا أن نتعبد به، لا أن نعلم حكمته، وأحياناً يقولون: عن شيء أنه تعبدي، وهو معلوم الحكمة، وأحياناً يكون قولهم صواباً.
(1)
رواه البخاري، كتاب الحيض، باب: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (335).
ومن هذه الأمة من أنكر الحكمة، وقالوا: إن الله عز وجل يفعل ما يشاء لمجرد المشيئة، ويحكم بما شاء لمجرد المشيئة، وهذا غلط ونقص قالوا: لأنه لو فعل لحكمة لكان ذلك لغرض، وكونه يفعل الشيء لغرض نقص، ومن عباراتهم الفاسدةِ في المعنى الحسنةِ منظراً أو مسمعاً، (أن الله منزه عن الأعراض والأبعاض والأغراض)، أما الأعراض فمرادهم بذلك ما يعرض للفاعل من فعل، أو ترك، أو نحو ذلك، ولهذا ينكرون الاستواء على العرش، وينكرون النزول إلى السماء الدنيا، والأبعاض يقصدون بها الوجه واليدين وما أشبهها، والأغراض يريدون بها الحكمة، فيقولون: لو كانت أفعاله لحكمة وشرائعه لحكمة لكان له غرض، والله تعالى منزه عن الأغراض.
فنقول في الرد عليهم: هل الغرض الذي تتضمنه الحكمة لمصلحة الله، أو لمصلحة الخلق؛ ولا شك أنها في مصلحة الخلق، وإلا فإن الله يقول:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] فهذه الحكمة التي يتضمنها الفعل، أو الشرع، أو الحكم إنما هي لمصلحة الخلق، وحينئذٍ تكون كمالاً.
الفائدة الثامنة: وجوب التضرع إلى الله عز وجل، والتضرع بمعنى اللجوء والإنابة إلى الله تعالى، والقيام بما يجب له من عقيدة أو قول أو عمل.
الفائدة التاسعة: بيان شدة قسوة هؤلاء المعذبين، وذلك أنه لما جاءهم العذاب ليتضرعوا صار الأمر بالعكس، بل زاد ذلك قسوة في قلوبهم نسأل الله العافية، وكان ينبغي عليهم أن يتضرعوا
إلى الله عز وجل، وهذا قد يقع من الإنسان، أن لا تزيده البأساء والضراء إلا قسوة في القلب وسخطاً على الله عز وجل والعياذ بالله، وشعوراً بما لا ينبغي، فإن بعض الناس إذا ابتلي ببلاء قال: ما هذا؟ لماذا يظلمني؟ لماذا يصيبني بما لم يصب به غيري؛ ثم يقسو قلبه والعياذ بالله.
ومن ثَمَّ وجب الصبر على من أصيب بالمصيبة، حتى لا يقسو قلبه، فيقال: أنت عبد الله والعبد خاضع لفعل السيد، والله تعالى يفعل بعبده ما يشاء، كما أنه يفعل في السماء ما يشاء، ويفعل في الأرض ما يشاء، ويفعل في الرياح ما يشاء، كذلك أنت، فأنت خلق من المخلوقات يفعل بك ما يشاء، لكن عليك الصبر عند الضراء، والشكر عند السراء، ومع ذلك - والحمد لله - الضراء التي تصيب الإنسان تكون تكفيراً لسيئاته، وما أكثر السيئات! فأي شيء يصيبك - حتى الشوكة إذا أصابتك - فإنها تكفر السيئات، فإن احتسبت أُثْبِتَ ثواب الصابرين، فلم يفرط الله تبارك وتعالى بشيء فيما ينفع الخلق.
الفائدة العاشرة: إثبات قسوة القلب بعد لينه، لقوله:{وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} ، وكما في آية البقرة:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 74] فقسوة القلب تحدث، ولين القلب يحدث أيضاً فكلاهما حدثان، والواجب على الإنسان أن يلاحظ دائماً قلبه أَلَيِّنٌ هو أم لا، أمخبت لله أم لا، أمخلص لله أم لا؟ فكلٌّ يستطيع أن يأتي بالأعمال الظاهرة على أحسن وجه، المنافق يمكنه أن يأتي بالصلاة على أحسن وجه، ويمكن أن يتصدق، لكن أعمالَ القلوب هي والله الصعبة، فحرِّر قلبك من رق المعاصي حتى تتحرر.