الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجواب: من أجل أن يذهب الذهن كلَّ مذهب؛ لأنه لو ذكر الجواب تحدد بما ذكر، لكن إذا حذف صار الإنسان يتصور هذا الشيء المحذوف شيئًا عظيمًا أكثر مما يوصف، فيكون حذفُ مثلِ هذا الشيء من باب البلاغة؛ لأنه مطابق لمقتضى الحال.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: إثبات ربوبية الله عز وجل لهؤلاء الكفار؛ لقوله: {عَلَى رَبِّهِمْ} .
الفائدة الثانية: أن لله ملائكة يأتون بالناس إليه عز وجل، بدليل قوله:{إِذْ وُقِفُوا} ، ولم يقل (إذ وَقَفُوْا) فهم يؤتى بهم ويقفون.
الفائدة الثالثة: إثبات القول لله عز وجل لقوله: {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} .
الفائدة الرابعة: أن قول الله بالحرف وبالصوت؛ الحرف في قوله: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} هذه حروف، وبالصوت؛ لأنهم سمعوا وأجابوا:{قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا}
الفائدة الخامسة: أن هذا القَسَم منهم يشعر بشدة الندم على إنكارهم الأول، فكأنهم كذبوا أنفسهم تكذيبًا مقرونًا بالقسم، ولا يخفى أن مثل هذا لا يخرج إلا من قلب متحسر، ولكن فات الأوان.
الفائدة السادسة: إثبات الأسباب؛ لقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ، وإثبات الأسباب هو المطابق للواقع، واعلم أن الناس من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في إثبات الأسباب انقسموا ثلاثة أقسام:
الأول: من أنكر الأسباب نهائيًا، وقال: إن الأشياء تأتي بمجرد الصدفة، وبمجرد أن الله خلقها.
الثاني: من أثبت الأسباب على أنها مؤثرة بذاتها، وهؤلاء هم الماديون، الذين يعتقدون أن الكون يتفاعل بنفسه، وإن انتسبوا للأمة، مثل بعض الفلاسفة أو المتفلسفة.
الثالث: من أثبت الأسباب لكنها تؤثر بما أودع الله فيها من القوة لا بنفسها، وهذا القول هو الوسط المتعين، ولذلك نجد أن الأشياء تتغير مسبباتها بتقدير الله عز وجل، فالنار التي أوقدت لإبراهيم كانت بردًا وسلامًا، مع أننا لو رجعنا إلى السبب نفسه لكانت محرقة، لكن هي لا تكون محرقة إلا بإرادة الله عز وجل، ونجد أن الله تبارك وتعالى يحدث أشياء لا نعلم أسبابها، مما يدل على أن السبب ليس هو الفاعل، ولكن الفاعل هو الله عز وجل، ولكنه لحكمته جعل لكل شيء سببًا.
الفائدة السابعة: حذف ما كان معلومًا؛ كما سبق في الآيات السابقة.
* قال الله عز وجل: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)} [الأنعام: 31].
قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} هذه الجملة مؤكَّدة بمؤكد واحد وهو (قد)، والحروف المؤكِّدة كثيرة، منها ما يسبق، ومنها ما يتأخر، فـ (اللام) في قولك: إن زيدًا لقائم، هذه مؤكدة
لكنها متأخرة، وقد ذكرها علماء أهل البلاغة حينما تكلموا على الخبر وأقسامه، وأنه ابتدائي وطلبي وإنكاري، وتكلموا على حروف التوكيد، فمن أراد استيعابها فليرجع إليها.
قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} أطلق الله عز وجل الخسارة، ولم يقل (خسروا أنفسهم)، ولا أهليهم، ولا شيء، فيكون ذلك خسرانًا مطلقًا، وصدق الله عز وجل، فما أخسر الذين كذبوا بلقاء الله! لأن هؤلاء لن يعملوا للقاء الله، فيكون وجودهم في الدنيا خسرانًا لا فائدة منه، بل فيه مضرة؛ لأن وجود الإنسان في الدنيا مع كفره بالله عز وجل شرٌّ من كونه لم يوجد أصلًا، وشرٌّ من وجود البهائم؛ لأن البهائم توجد في الدنيا ثم تفنى، ثم تبعث يوم القيامة ولا حساب عليها، وهذا عليه حساب، ولهذا تمنى بعض الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم عمر بن الخطاب أنه شجرة تعضد، أي: تقطع، وقال:"وددت أن أخرج منها - أي: من الدنيا - كفافًا لا عليَّ ولا لي "
(1)
، هذا وهو عمر رضي الله عنه، فما بالك بمن دونه؟ فكل من لم يعمر أوقاته بطاعة الله عز وجل ونعوذ بالله أن يجعلنا منهم - فإنه خاسر، فاته الربح.
وقوله: {كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} ، أي: باللقاء معه، والله سبحانه وتعالى يقول:{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)} [الانشقاق: 6] لا بد أن هذا الذي أمرك، ونهاك
(1)
رواه البخاري، كتاب المناقب، باب: قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان (3700)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب: الاستخلاف وتركه (1823).
وأرسل إليك الرسل وأعطاك العقل، لا بد أن تلاقيه، فيحاسبك، والمراد أنهم كذبوا بالبعث الذي يكون فيه لقاء الله.
قوله: {حَتَّى} ابتدائية، تفيد فصل ما بعدها عما قبلها. {إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ} هي ساعة القيامة، وقد يراد بالساعة ساعة فراقهم للدنيا؛ لأن من مات فقد قامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء.
وقوله: {بَغْتَةً} ، أي: من غير احتساب لها، والساعة الكبرى تكون بغتة، تأتي الناس والإنسان قد جهز حوض إبله ليسقيها فلا يتمكن
(1)
، وقد رفع اللقمة إلى فمه فلا يتمكن، والرجلان قد نشرا الثوب بينهما ليبيعه أحدهما على الآخر، فلا يتمكن من إتمام العقد
(2)
.
قوله: {قَالُوا} جواب (إذا).
{يَاحَسْرَتَنَا} (يا) ليست للنداء؛ لأن الحسرة لا تُنادى، والحسرة هي الندم والتحسر على الشيء الذي فات، وعليه تكون
(1)
قال صلى الله عليه وسلم: "ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد الا أصغى ليتا ورفع ليتًا، وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، فيصعق ويصعق الناس" والليت هو صفحة العنق، أخرجه مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: في خروج الدجال ومكثه في الأرض، رقم (2940).
(2)
قال صلى الله عليه وسلم: "ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعان ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه. ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها"، أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب (40)، رقم (6506)، ومسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: قرب الساعة، رقم (2954).
(يا) للتنبيه، كأنهم قالوا: ما أعظم حسرتنا، وقيل: إن (يا) للنداء، وأن الحسرة تُخِيَّل كأنها شيء عاقل يتوجه إليه النداء، وعلى هذا القول يكون المعنى يا حسرتنا احضري، فهذا أوانك، والمعنى لا يختلف بين هذا وهذا، غاية ما هنالك التقدير، وعدم التقدير.
قوله: {عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} التفريط: هو التقصير، و (فيها) الضمير يعود على الساعة، أي: فرطنا في الاستعداد لها؛ لأنهم أضاعوا أعمارهم بما لا فائدة فيه بل بما فيه مضرة أحيانًا.
قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} ، يعني: يوم القيامة يحملون أوزارهم على ظهورهم، أي: جزاء أعمالهم على ظهورهم، والله تعالى يعبر دائمًا عن الجزاء بالعمل، لفائدتين:
الفائدة الأولى: أن يصلح الإنسان عمله.
والفائدة الثانية: أن يُعْلَمَ أن الجزاء من جنس العمل؛ لأن الجزاء على العمل دائر بين أمرين لا ثالث لهما، الأول: الفضل، والثاني: العدل، ولا ظلم؛ فإن كان العمل حسناتٍ فبالفضل، وإن كان سيئاتٍ فبالعدل؛ وربما يكون بالفضل حيث يعفو الله عنهم عز وجل.
وقوله: {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} ، أي: يحملون جزاء الأعمال على ظهورهم حملًا حقيقيًا، فالواجب أن نحمل الآيات على ظاهرها.
ولا يقول قائل: كيف يحمل الجزاء على الظهر؟، فيوم القيامة لا يُقاس بأيام الدنيا؛ لأن الحال تختلف اختلافًا عظيمًا، فمن الجائز الممكن أن الله تعالى يخلق هذه الجزاءات حتى تكون