الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بما أننا اندمجنا مع الناس فذهبنا إليهم، وأتوا إلينا، وجد شيء من البدع وأقوال الفرق، وإلا كان الناس لا يعرفون شيئًا من هذا إلا من طالع الكتب، لذلك نقول: إن مطالعة الجدل مع المتكلمين فيه فائدة بلا شك، ولكن انتبه أن تطالع وأنت ضعيف في العلم؛ لأنك لو فعلت لضللت، لا بد أن يكون عندك حماية تحمي بها نفسك.
لو قال قائل: ما هي
الكتب التي ينصح بها لمطالعة كلام المتكلمين
والتي فيها ردود عليهم؟
فالجواب: أنا ما رأيت أحسن من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، لكن كلام ابن القيم رحمه الله أسهل وأقرب إلى الفهم، ولذلك تعتبر كتب ابن القيم رحمه الله سُلَّمًا لكتب شيخ الإسلام، وأما بقية المتكلمين فأكثر ما يكون الجدل بين الأشاعرة والمعتزلة، وهذا لا يكفي فإذا أردت العقيدة السليمة فعليك بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم - رحمهما الله تعالى - هذا أحسن ما رأيت.
لو قال قائل: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء، وإن كان محقًا"
(1)
هل هو على إطلاقه حتى مع أهل البدع؟
فالجواب: ليس على إطلاقه، بل المراد المراء في غير الحق، أما المراء الذي يراد به إحقاق الحق وإبطال الباطل، فهو واجب، لكن مثلًا تَمَارَيْنا في شيء من أمور الدنيا، وأنا أعرف أن الصواب معي لكن لما رأيت صاحبي يريد أن يجادل تركته.
(1)
رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب: في حسن الخلق (4800).
الفائدة الحادية عشرة: أن المجادل بالباطل يلجأ إلى المكابرة، أو إلى التهديد إذا كان له سلطة، المكابرة كما في هذه الآية {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} هذه مكابرة؛ لأن دعواهم {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} مكابرة بلا شك، وكل أحد يعرف أن القرآن الكريم ليس قول البشر، فضلًا أن يكون أساطير الأولين، ولكن هذه نهاية المجادلة والمكابرة؛ مثل ما يوجد الآن بين أهل البدع وأهل السُّنَّة تجد الواحد منهم يقول: نحن ما ثبت عندنا هذا الحديث حتى لو كان في البخاري ومسلم، أو يقول فيما يحتج به لبدعته: هذا عندنا ثابت بنقل الرواة العدول، وهذا أكثر ما يكون في الرافضة، ولهذا يقال: إن بعضهم زاد في القرآن نحو الثلث وحذف من القرآن الكريم، وهذه مكابرة، الإشكال أن المكابر لا تستطيع أن تقنعه أبدًا، لكن قد يهديه الله عز وجل، إذًا هؤلاء المجادلون المكابرون يقولون: إن هذا إلا أساطير الأولين وليس وحيًا.
أما اللجوء إلى القوة فانظر إلى مجادلة فرعون وموسى حيث قال له فرعون: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] فلجأ إلى القوة والإرهاب، وتأمل قوله:{لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]، ولم يقل: لأسجننك، إشارة إلى أنه يريد أن يظهر بمظهر القوي الذي يسجن الناس وعنده مساجين، فيهدد موسى بأنه سيكون منهم.
الفائدة الثانية عشرة: أن من جادل بالباطل لإدحاض الحق فهو كافر؛ لقوله: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، فأظهر في موضع الإضمار، وكان مقتضى السياق أن يقول:(حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقولون إن هذا إلا أساطير الأولين).
والإظهار في موضع الإضمار من فوائده أن هذا المُظهَر إذا كان معنى من المعاني فإنه يكون شاملًا محيطًا بكل ما ينطبق عليه، فمن جادل بالباطل لإدحاض الحق فهو كافر، ثم إما أن يكون كافرًا كفرًا أصغر، أو كفرًا أكبر.
* * *
* قال الله عز وجل {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)} [الأنعام: 26].
قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} (هم) الضمير يعود على الكفار، المجادلين.
قوله: {يَنْهَوْنَ عَنْهُ} ، أي: عمَّا جئت به من الوحي.
قوله: {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} ، أي: يبعدون، وقدم النهي على النأي مع أنه كان المتوقع أن يبدأ بالنأي الذي هو فعلهم بأنفسهم دون فعلهم بغيرهم، إشارة إلى شدة كراهتهم لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إنهم يبدؤون بنهي الناس قبل أن يبتعدوا عنه.
لو قال قائل: ذكر بعض المفسرين أن الآية نزلت في أبي طالب أن معنى (ينهون عنه)، أي: يدافع عنه، (وينئون عنه)، أي: أنه لا يؤمن؟
فالجواب: هذا غلط عظيم؛ لأن الآية في سياق الذم للنهي عنه والنئي عنه، ومعلوم أن الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس ذمًا بل هو محمود، لكنه لما وَجَدَ الصورة تشبه حال أبي طالب ظنها كذلك وهذا من تحريف القرآن، فالذم منصب على الأمرين.
قوله: {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} (إن) هنا بمعنى (ما)، أي: ما يهلكون إلا أنفسهم وكما في آية أخرى {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النساء: 113] فمجادلتهم ونهيهم الناس لا يضر النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - شيئًا، وإنما هو هلاك أنفسهم.
فإن قيل: هل المراد هنا الهلاك الحسي أو المعنوي؟
فالجواب: المراد الهلاك المعنوي؛ لأن هذا الكافر المجادل لا يموت بجداله، بل يبقى، لكنه حقيقة من الناحية المعنوية قد هلك.
قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} ، أي: ما يشعر هؤلاء أنهم بهذا النهي عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والبعد عنه لا يشعرون أنهم بذلك أهلكوا أنفسهم، ولذلك تجدهم يفتخرون بما هم عليه من الكفر، حتى إن أبا سفيان قال في يوم أحد:(اعل هبل، اعل هبل)، يفتخر بالصنم الذي يعبده، ويقول: إنه علا على محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:"أجيبوه"، قالوا بماذا نجيبه؟ قال:"قولوا الله أعلى وأجل"
(1)
، فالشاهد أن هؤلاء الكفار المجادلين لا يشعرون أنهم على ضلال - نسأل الله العافية - وهذا غاية ما يكون من الابتلاء، أن يرى الإنسان أنه على حق مع أنه على باطل، وكان من دعاء النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -:"اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل"
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، رقم (3039).
(2)
رواه البخاري، كتاب المغازي، باب: غزوة أُحد (4043).