الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأنه لو نَسَبَ نعيم الدنيا كله إلى نعيم الآخرة لم يكن شيئًا، أما الكافر فهي جنته؛ لأنه في الدنيا كان في أهله مسرورًا، لكن في الآخرة على العكس من ذلك، ويروى عن الحافظ ابن حجر، وكان رئيس القضاة في مصر، أنه مَرَّ بيهودي زيَّات، قد تعب من أذى الزيت والحرارة وغير ذلك، وابن حجر رحمه الله تجره الخيول، أو البغال على العربة؛ لأنه كان قاضي القضاة في مصر، فاستوقفه هذا اليهودي، وقال: كيف تكون أنت في هذه الحال، وأنا في هذه الحال، والحديث عندكم "إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر؟ " فأجابه على البديهة، قال: ما المؤمن فيما فيه من النعيم بالنسبة للآخرة إلا سجن، وما البؤس، أو الشقاء الذي أنت فيه بالنسبة للآخرة إلا جنة، فعلم اليهودي الحقيقة وأسلم
(1)
.
وقد ذكر الله تعالى في
تفضيل الآخرة على الدنيا
ثلاث آيات.
الآية الأولى: تتعلق بشخص معين.
والثانية: بمعين بوصفه.
والثالثة: مطلقة.
أما الآية المقيدة بشخص معين فهي قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)} [الضحى: 4]، وهو الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.
والمعينة بوصف هي قوله تعالى: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ، وقوله: عز وجل: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77].
(1)
ذكرها المناوي في فيض القدير (3/ 546)، والعجلوني في كشف الخطا (1/ 411) طبعة مكتبة القدسي.
والمطلقة: كما في آخر سورة سبح {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16، 17]
* قال الله عز وجل: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33].
قوله: {قَدْ} للتحقيق، وقال النحويون إنها مع الماضي للتحقيق، ومع المضارع للتقليل، لكن نقول: أن هذا هو الغالب، أنِ تكون مع الماضي للتحقيق؛ كقوله تعالى:{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق: 4]، وتكون مع المضارع للتقليل؛ كقولهم: قد يجود البخيل فقد هنا للتقليل.
لكنها وردت في القرآن مقرونة بالمضارع مع دلالتها على التحقيق مثل قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [النور: 64]، ومثل هذه الآية {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} لكن عبر عن الماضي بالمضارع إشارة إلى أن الله عز وجل علم ويعلم ما يكون، فتكون دالة على الاستمرار، بخلاف (عَلِمَ) الماضي فهي دالة على شيء مضى وانتهى، لكن إذا كان الشيء مستمرًا جاءت بلفظ المضارع.
وقوله: {إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} جاءت همزة (إنَّ) مكسورة مع أنها واقعة بعد العِلْم، وإذا وقعت بعد العِلم وجب أن تكون مفتوحة الهمزة، كما في قوله تعالى:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187].
فلماذا كسرت الهمزة هنا؛ ولماذا كسرت في قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} [البقرة: 235]؟
الجواب: أنها كسرت لوجود لام التوكيد، وإذا وجدت لام التوكيد وجب كسر همزة (إنَّ) على كل حال، ولولا اللام لكان سياق الآية (قد نعلم أنه يحزنك).
وقوله: {لَيَحْزُنُكَ} فيها قراءتان: "ليُحْزِنك" و {لَيَحْزُنُكَ} ، "ليُحْزنك" من الرباعي من أحزنه يُحزِنهْ؛ و (ليَحْزُنُكَ) من الثلاثي حَزِنَهُ يَحزُنه، والحزن ضد السرور، وهو معنى قائم بالنفس يستلزم الانكسار والندم.
قوله: {الَّذِي يَقُولُونَ} وما الذي يقولون؟ إنهم يقولون قولًا منكرًا عظيمًا، يقولون: لله البنات، يقولون: نعبد الأصنام؛ لتقربنا إلى الله عز وجل، يقولون للرسول عليه الصلاة والسلام: إنه ساحر، وإنه مجنون، وإنه كاهن، فكل ما يقولونه مما ينافي التوحيد والرسالة لا شك أنه يحزن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.
وهل هذا انتصار لنفسه، أو غضب لله عز وجل، أو حزن لله عز وجل؟
الجواب: أنه غضب لله عز وجل بلا شك.
قوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} وهذا قول: عالم السر وأخفى عز وجل الذي يعلم ما في القلوب فإنهم {لَا يُكَذِّبُونَكَ} ، أي: في قلوبهم، وأما في ألسنتهم فإنهم يقولون إنه ساحر كذاب، لكن في قلوبهم يعلمون أنه صادق، وأنه أمين، وكانوا يسمونه قبل الرسالة: الأمين، ويرضونه ويحكّمونه، ولما جاء بالحق شَرِقوا به وأنكروه - والعياذ بالله -.